:التحليل
محنة اوباما
استنزاف وتهديد العراق بالتقسيم ووقف تمدد داعش
ادعت بعض الدوائر الاميركية بالمفاجأة من سرعة تمدد تنظيم “داعش” مما حفز الدعوات المطالبة بما يتعين القيام به اميركيا، وحسم الرئيس اوباما الجدل سريعا بقطع الطريق على دعاة الانخراط الواسع بالحرب، اذ اكتفى بارسال معونات استخبارية معززة بنحو 300 عنصر من القوات الخاصة ومشاة البحرية، المارينز، لاحكام طوق الحماية الأمنية حول السفارة الاميركية – الاضخم في العالم؛ والعمل “خلف خطوط” الاشتباك بمهام تدريبية واستشارية تقدم للقوات العراقية
واضح اوباما ان بلاده على استعداد لانشاء غرف عمليات مشتركة مع العراق في بغداد وشمالي العراق؛ وارسل وزير خارجيته للمنطقة للتشاور مع “الحلفاء” الاقليميين والاوروبيين. سبق الاعلان نشر قطع بحرية في مياه الخليج العربي، من بينها حاملة طائرات تعمل بالطاقة النووية جورج اتش دبليو بوش (الاب)، وسفينة قتال برمائية تتأهب للتدخل واخلاء الرعايا وحماية المصالح الاميركية عند الحاجة
لم ينتهي الجدل في واشنطن واستعراض سبل التدخل، واعرب عدد من اقطاب معسكر الحرب عن خيبة أمله لضعف التواجد العسكري الاميركي، مجددا مطالبه النظر في خيارات عسكرية اخرى؛ بينما تتجه بعض دول الخليج العربي الى البحث عن حلول سياسية وديبلوماسية للأزمة. قبل الدخول في هذا المسعى، من المفيد استعراض “استراتيجية داعش” في الاقليم
يجمع الخبراء العسكريون ان تنظيم داعش يطبق قوانين حرب العصابات بحذافيرها، ويبدو انه اليوم في المرحلة الاخيرة من مخططه للاطباق على مراكز الدولة المركزية والاشتباك مع قوات الجيش العراقي التقليدية بمجموعات ووحدات عسكرية صغيرة لتحقيق ذلك. التقديرات المتداولة حول حجم الجسم العسكري لداعش تتراوح بين 5،000 الى 20،000 عنصر، مدربين جيدا رغم ضآلة حجمه مقارنة مع تعداد الجيش العراقي الذي اشرفت القوات الاميركية على تدريبه وتجهيزه
تفكك وانحلال وحدات الجيش العراقي في بداية هجوم داعش شهدت تراجعا في الايام القليلة الماضية مما استدعى “داعش” للتريث وتعزيز انجازاته الميدانية. وسارعت وحدات الجيش العراقي لملء الفراغ السابق وتوطيد خططها الدفاعية. في هذا الصدد، يزعم البعض ان ايران ارسلت نحو 2،000 مقاتل من قوات فيلق القدس لحماية بغداد، الأمر الذي فندته التصريحات الاميركية الرسمية
“داعش” ماضٍ بتصريحاته المهددة للاستيلاء على بغداد، مما يتعذر لحينه امتلاك القدرة لتحقيقه مع استمرار القتال في المناطق الاخرى شمالي العاصمة؛ بل لم يستطع الاستيلاء على مصفاة بيجي، اكبر مصافي النفط العراقية، الواقعة على مسافة قريبة الى الشمال من بغداد، على الرغم من الحشود الكبيرة التي خصصها لتلك المهمة
الاوضاع الميدانية في محيط بغداد غير مستتبة بالنسبة لتنظيم داعش مما اضطره للدفاع عن مواقعه السابقة عوضا عن دخول العاصمة كما أعلن، واضطراره تحريك بعض وحداته لشن هجمات على الطريق الرئيس بين بغداد وسامراء؛ ويزهو بسيطرته الراهنة على مدن تقع غربي العاصمة، كرمة والفلوجة، وما توفره له من فرص لنصب الكمائن او شن هجوم وهجوم مضاد انطلاقا من تلك المواقع
استراتيجية تنظيم “داعش” وحلفاؤه، من واقع تجربته السابقة في العراق، تستند الى تفادي الاشتباكات الدموية في شوارع العاصمة واستنزاف القوى المدافعة عبر شن هجمات خاطفة عليها. وقعت تفاصيل تلك الاستراتيجية بأيدي القوات الاميركية عقب اغتيالها ابو مصعب الزرقاوي عام 2006، وكان يحمل خريطة بدائية لمسرح العمليات؛ ونشرت القوات الاميركية تفاصيل خطة “احزمة بغداد” ابان ذروة اشتباكها مع تنظيم القاعدة والدولة الاسلامية في العراق عامي 2007 و 2008. اقتضت خطة الزرقاوي الاستيلاء والتحكم في المحافظات البعيدة واحزمة بغداد، او المناطق الاساسية المحيطة بالعاصمة. ومن ثم تستخدم الدولة الاسلامية في العراق مواقعها الجديدة للتحكم بطرق الوصول الى بغداد، وتوزيع الاموال والاسلحة وتجهيز السيارات المفخخة وادخال المقاتلين للمدينة. كما تشير الخطة الى نشر قواذف وصواريخ محمولة مضادة للطائرات تستهدف اسقاط الطائرات المروحية الاميركية المحلقة في سماء بغداد
خيارات اميركا
توالت الاتهامات تباعا ضد الرئيس اوباما والريبة في امتلاكه العزيمة السياسية المطلوبة لاتخاذ قرار بالتدخل؛ بينما يدرك وطاقمه الاستشاري تنامي معارضة الشارع الاميركي للتدخل مرة اخرى في العراق وهو ما كان يعارضه اوباما سابقا ايضا. اما حقيقة الأمر فتدل على مديات عالية من المراهنات امام صناع القرار والخشية من ارتداد الغضب العام ضد الرئيس وتحميله مسؤولية تدهور الاوضاع
تشير المعطيات المتوفرة الى ان “الدولة الاسلامية في العراق والشام” تتأهب لخوض صراع كبير، ربما يشبه الاوضاع السائدة عام 2007 التي استدعت الرئيس السابق جورج بوش الابن الى ارسال وحدات قتالية اضافية للعراق لاخماد شعلة المقاومة. للتذكير، تطلب الأمر انخراط ما ينوف عن 130،000 جندي اميركي يعززهم بضع مئات الالاف من قوى الأمن العراقية التي بالكاد استعادت السيطرة على محافظات الانبار وصلاح الدين وديالى ونينوى وبغداد وما اصطلح على تسميته بـ “مثلث الموت.” استغرقت المواجهة الجديدة ما ينوف عن السنة بدعم مباشر من سلاح الجو الاميركي والطائرات المقاتلة في سلاح البر وشن غارات مداهمة استهدفت مواقع القيادة والتحكم ومراكز التدريب والقواعد التابعة للدولة الاسلامية في العراق
الاحتواء كان آنئذ، اما الآن فالعراق يخلو من تواجد قوات اميركية هامة، بل لو توفر قرار نشرها فان تموضعها سيستغرق وقتا ربما يطول. تستطيع الولايات المتحدة الاعتماد على نحو 500 عنصر من قوات مشاة سلاح البحرية، المارينز، المرابطة على متن السفن الحربية في مياه الخليج العربي، بيد ان تلك القوة مهما بلغت درجات تعزيزها لن يكون بوسعها تحقيق اي تقدم في عراق مترامي الاطراف، او توفير الحماية لبغداد، فما بالك بالتصدي لداعش وفرض تراجع عليه
كما باستطاعة الولايات المتحدة حشد قوات محمولة جوا على عجل من الفرقتين 82 و 101 والتي باستطاعتها الانتشار خلال ايام معدودة. بيد ان تلك القوات تعتمد على تسليح خفيف للمشاة اما معداتها الثقيلة ستستغرق مدة اطول للوصول الى العراق، فضلا عن التحديات والمعوقات اللوجستية. الأهم ان ارسال قوات للعراق سيتطلب موافقة الكونغرس على المهمة، الأمر الذي تجنبه الرئيس اوباما بحنكة خشية تكرار اخطاء قرار الانخراط في السابق
الخيار الآخر المتداول هو قيام الولايات المتحدة بشن غارات جوية مكثفة بالطائرات القاذفة العملاقة ب-52 و ب-2، تستهدف التشكيلات القتالية لداعش ومقراته الرئيسة وخطوط امداده. نظريا، بامكان القدرة النارية المدمرة والهائلة وقف تقدم تجمعات داعش على بغداد؛ بيد ان حقيقة الأمر تشير الى ان استخدام السلاح المذكور لن يؤتي ثماره الا مع تشكيلات قتالية كلاسيكية واهداف تقليدية ثابتة. وعليه، عند افتراض دخول القاذفات المعركة فان اقصى ما تستطيع تحقيقه هو ابطاء تقدم داعش وليس الحاق الهزيمة به
كما باستطاعة القوات الاميركية شن غارات جوية استئصالية واستخدام صواريخ كروز وطائرات دون طيار – درونز، والتي من شأنها تخفيف التداعيات والاحتجاجات الداخلية وايضا تقليص الكلفة العسكرية. تدرك القيادة العسكرية الاميركية ان تجاربها السابقة في باكستان وافغانستان واليمن والصومال ومناطق اخرى ان استخدام سلاح الطيران لا يجوز الاعتماد عليه كبديل عن ادخال قوات برية لتحديد ادق للاهداف ترسل احداثياتها للطيران. الصواريخ المحمولة المضادة للطائرات التي استولت عليها داعش من مخازن الجيش العراقي ستشكل عقبة امام استخدام الطيران والمروحي بشكل خاص
تواجه الولايات المتحدة ايضا عقبات سياسية في المنطقة ان لجأت الى ادخال بعض مواردها العسكرية دون القوات البرية الى الساحة الملتهبة مما سيضاعف اعتمادها على ايران ونفوذها في العراق كقوة اساسية هامة لاعادة الاستقرار هناك. وعبر وزير الخارجية الاميركي جون كيري عن رغبة الادارة بذلك قائلا ان واشنطن “منفتحة على اجراء محادثات” مع طهران ان رغبت ايران بالمساهمة لانهاء موجة العنف واستعادة ثقة الحكومة العراقية. وترك كيري الباب مفتوحاً امام نشر قوات عسكرية او اجراء مشاورات مع ايران قائلا انه “لا يستثني اي من الخيارات البناءة”
بالمقابل، اعرب السيناتور جون ماكين عن عميق شكوكه من مجرد امكانية الحديث مع طهران قائلا “انه النظام الايراني ذاته الذي درّب وسلّح اشد المجموعات الشيعية خطورة، واستمر بحض رئيس الوزراء المالكي تبني اجندة طائفية على حساب جهود المصالحة الوطنية، ووفر الصواريخ التي اطلقت على السفارة الاميركية في بغداد، ورعى اعمالا ارهابية في عموم منطقة الشرق الاوسط والعالم قاطبة، ويستمر في استخدام الاراضي والاجواء العراقية لايصال اسلحة ومقاتلين لدعم (الرئيس) بشار الاسد في سورية “
وحث ماكين الادارة الاميركية على “تقليص حجم التدخل الايراني في العراق على الفور، بدل تشجيعها، وهذا يستدعي فعلا اميركيا حازما للحط من الدولة الاسلامية في العراق والشام ووقف هجومها في العراق”
يخشى صقور الحرب في اميركا ان تؤدي الغارات الجوية الاميركية، دون مرافقتها بقوات خاصة على الارض، الى ان يصبح سلاح الجو جزءاً من القوات العسكرية لايران، كما يزعمون
الحل الوسط بالنسبة لبعض القادة العسكريين الاميركيين يكمن في تعزيز العمليات الجوية وادخال اعداد محدودة من وحدات القوات الخاصة في العراق لتنسيق الغارات الجوية وتدريب القوات العراقية والقيام بعمليات سرية. ويصر هؤلاء على ان تخضع تلك القوات للقيادة العسكرية وليس لوزارة الخارجية، عبر السفارة، التي تشرف حاليا على ادارة المصالح الاميركية هناك، وتوسيع نطاق مهامها وعدم حصرها بمهمة دعم الحكومة العراقية بل سيجري استخدامها لدعم الاكراد، تعبيرا عن الوفاء لما قدموه للقوات الخاصة الاميركية من تسهيلات في العدوان الاميركي على العراق عام 2003. تطبيق هذا التصور يفرض على قيادة داعش تحويل بعض قواته من نطاق عمليات بغداد الى حماية الجبهة مع الاكراد
يناشد بعض ضباط الاستخبارات الاميركية المتقاعدين الادارة شن غارات هجومية على الفور تستهدف تدمير الآليات والعربات المدرعة الاميركية التي غنمها داعش من القوات العراقية “مما يعود بالفائدة على جبهتي سورية والعراق”
ويستطرد هؤلاء بالقول انه يتعين على الادارة الاميركية تغيير سياستها نحو سورية والتوجه للتصدي لداعش الذي ينمو بسرعة وباستطاعته السيطرة على مساحة كبيرة ممتدة من بغداد الى الحدود مع السعودية وشاطيء المتوسط ايضا
الاردن والسعودية قلقين من امكانية تمدد داعش ووصوله الى حدودهما المشتركة وما يترتب عليهما من تدابير يتخذانها لمواجهته عسكريا وسياسيا، وربما تعديل بوصلة سياستهما الداعمة للمعارضة المسلحة في سورية. السعودية قلقة ايضا من تدهور الاوضاع الأمنية في المنطقة الشرقية المطلة على الخليج العربي والغنية بالنفط نتيجة سياساتها المعادية لطموحات شعب الجزيرة العربية
على الرغم من الانجازات التي حققها داعش الا انه من غير المرجح ان يستطيع السيطرة على بغداد او الاحتفاظ بالمساحات الشاسعة لفترة طويلة، علما انه يدرك عمق الخلافات العقائدية بينه وبين بعض حلفائه من “المقاتلين السنة،” مما يؤشر على وضع يسود فيه الجمود لمدة طويلة. بل قد تشتعل اشتباكات داخل اطرافها على اسس عرقية وطائفية، واندلاع مواجهات شاملة في العراق على تلك الخلفية مع سعي “القوات السنية والشيعية” تطهير مناطقها من الطرف الآخر. ولم تترك داعش فرصة الا ووثقت فيها عمليات اغتيال وقتل جماعي قامت به لأناس خارج طائفتها في المناطق التي سيطرت عليها
تجمع الدوائر الغربية المختلفة، لا سيما الاجهزة الاستخبارية، ان “الاكراد على ابواب افضل فرصة تاريخية لتشكيل دولة خاصة بهم،” آخذين بعين الاعتبار تدني قدرة كل من العراق وسورية لافشالها “بل ان كردستان قوية تشكل تهديدا لداعش، تركيا ستناهض المشروع لكن سعيها لوأده سيواجه عقبات عدة سيما وهي اكبر مستثمر اجنبي في المناطق الكردية في العراق .. وهددت سابقا بغزو كردستان ان اعلنت استقلالها، وربما عدلت عن ذلك”
القوات الكردية المسلحة، البيشمركة، لا تعاني من مقتل انتشارها على مساحات جغرافية واسعة، وسارعت للتقدم والسيطرة على المناطق التي اخلاها الجيش العراقي قبل وصول داعش وبعضها متنازع عليها، لا سيما مدينة كركوك والمناطق المحيطة بها الغنية بالنفط
جدير بالذكر ان القوات الكردية احجمت عن الوقوف بوجه قوات داعش المتجهة جنوبا انطلاقا من اراضيها، اذ تتموقع القوات الكردية بالقرب من شبكة الطرق المؤدية من الموصل الى بغداد، وكان بامكانها قطع وسائل اتصال قوات داعش ووقف توجهه الى بغداد
الخلاصة
اعتادت الولايات المتحدة ان تبسط نفوذها وتستخدم قوتها واعتبرت لاعبا اساسيا في الاقليم، بالمقابل يبدو الرئيس اوباما منفصل في عزلة، ويتهمه خصومه بأنه على غير استعداد للنظر بمساعدة حكومة المالكي بقوة عسكرية تكفي لهزيمة او مواجهة داعش في سورية او العراق
اوباما غير راغب بتوفير سبل دعم تعزز استقلال وسيادة العراق، والارجح انه سيخصص عدد محدود من القوات لاستعادة استقرار البلاد، مما يؤشر على نيته او عدم اعتراضه الجدي على تقسيم العراق نتيجة “امر واقع” في المدى القريب على الاقل