التحليل 08-23-2014

:التحليل

انتفاضة فيرغسون والمواجهة في مزرعة بندي

غليان اميركي تحت الاستقرار المخادع

ظاهرة عسكرة اجهزة الشرطة

          “تجييش اجهزة الشرطة،” او عسكرتها كما اطلق عليها، لم يأتِ عابرا ودون تخطيط. بل كانت الظاهرة ثمرة للعدوان الاميركي واحتلال العراق، 2003، تجسدت عبر اقرار الكونغرس في دوراته المتعاقبة تدفق “ميزانيات غير محددة السقف لشؤون الأمن الداخلي،” مباشرة عقب احداث الحادي عشر من ايلول 2001، فضلا عن حثه البنتاغون “للتبرع” بفائض الاجهزة والمعدات والذخائر، التي بقيت في حوزته بعد انسحابه المتتالي من افغانستان والعراق، لاجهزة الشرطة وخاصة في المدن الكبرى، بصرف النظر ان “توفرت الحاجة لذلك ام لا.” رافق المعدات العسكرية الحديثة المتاحة لاجهزة الشرطة غياب مراقبة حقيقية لتوغل الاجهزة الأمنية مما زاد من معدلات “اعتداء القوات الخاصة للشرطة (طواقم سوات) بمعدل 137 حادث في اليوم .. فريق من قوات الاقتحام يعتدي على بيت آمن ويغرق قاطنيه والاحياء المحيطة بالارهاب،” ثبت في عديد من المناسبات انه ارتكب فعلته ضد عنوان وهدف خاطيء

          للدلالة على الميزانيات الهائلة المرصودة، اوضحت صحيفة “لوس انجليس تايمز،” 28 آب 2011، ان “الاجهزة الأمنية المحلية والفيدرالية تنفق ما معدله 75 مليار دولار سنويا على شؤون الأمن الداخلي.” منظمة “الاتحاد الاميركي للدفاع عن الحريات المدنية” اصدرت تقريرا لها في هذا الشأن في شهر حزيران 2014، تحذر فيه من “تجييش” الاجهزة الأمنية اذ “اضحت الولايات المتحدة في هذه الايام لوحة مفرطة في العسكرة، عبر رصد برامج انفاق على الصعيد الرسمي من شأنها ايجاد الحوافز لاجهزة الشرطة المحلية وتلك التابعة للولايات لاستخدام اسلحة هجومية غير مبررة وتكتيكات استنبطت للتطبيق في ميدان المعارك العسكرية”

          نشر عدد من الصحف الاميركية (نيويورك تايمز وكريستيان ساينس مونيتور) مؤخرا تقارير متتالية نقلا عن احصائيات وزارة الدفاع، البنتاغون، توضح فيها “بعض” الاسلحة التي تلقتها اجهزة الشرطة منذ عام 2006، التي بلغت”435 عربة مدرعة، 533 طائرة، 93,763 بندقية هجومية، و432 شاحنة مدرعة مقاومة للالغام .. مركبات برية وبحرية وطائرات .. اسلحة ومعدات للرؤية الليلية واجهزة الكمبيوتر، البزات الواقية من الرصاص والاقنعة الواقية من الغاز، وبضع مئات من معدات كواتم الصوت، و 200,000 طلقة رصاص من عيارات مختلفة.” وذلك في اعقاب مصادقة الكونغرس على برنامج لنقل المعدات العسكرية الثقيلة من ثكنات الجيش الى اجهزة الشرطة، بلغت قيمتها نحو 4.3 مليار دولار. في الجانب الاقتصادي، يقدر الخبراء ان “الشركات والمصانع والموردين والمنتفعين” من تلك “الهبة” سيرتفع معدل حجم سوق تبادلها التجاري ليبلغ نحو 31 مليار دولار مع نهاية العام الجاري

          الجهاز الفيدرالي المختص بالاشراف سنويا على تسليح اجهزة الشرطة المدنية الاميركية، مكتب دعم اجهزة تطبيق القانون – ليسو، اوضح في نشرته نهاية عام 2011 حجم المعدات التي نقلها من وزارة الدفاع الى اجهزة الشرطة بالقول “مثّل عام 2011 سنة قياسية لمعدل نقل ملكية المعدات من مخزون القوات العسكرية الاميركية الى اجهزة الشرطة المنشرة في البلاد،” تجاوزت قيمتها 500 مليون دولار للعام المذكور

          ظاهرة العسكرة ليست وليدة اجواء ايلول 2001، بل هي نتاج هاجس الدولة بكافة اجهزتها “لبسط الأمن والنظام” التي ولدتها المظاهرات والاحتجاجات الشعبية لنيل المساواة والحقوق المدنية والقضاء على الممارسات العنصرية في عقد الستينيات من القرن الماضي؛ واتخذت عناوين متعددة منذئذ “الحرب على المخدرات،” و “مكافحة الفقر” ابان عهد الرئيس الاسبق رونالد ريغان التي لم تسفر الا عن زيادة معدلات الفقر وتوسيع الهوة الاجتماعية بين شريحة الاثرياء والمحرومين. المحصلة العامة ادت الى عسكرة العقلية الاميركية وتوجيه كافة اسلحتها وممارساتها “ضد الاقليات والمناطق الفقيرة بصورة لا تتناسب مع حجمها الاجتماعي” وابعاد ارهاصاتها واحتجاجاتها عن التداول العام

          واوجز الصحافي الشهير، غلين غرينوولد، الظاهرة الأمنية الاميركية بالقول ان “شبكة التجسس والأمن الداخلي الهائلة، والحواجز الاسمنتية واجهزة التدقيق في الهوية بالغة التطور اضحت أمرا واقعا وباقية في حياتنا اليومية .. على غرار المجمع العسكري الصناعي الذي تبلور الى ظاهرة ثابتة وقوية في المشهد الاميركي”

شراكة وثيقة بين اجهزة الأمن الاميركية و”اسرائيل”

          تم الكشف مؤخرا عن العلاقة العملية الوثيقة بين جهاز الشرطة في مدينة فيرغسون و”اسرائيل” التي استضافت رئيس قسم شرطة المدينة، تيموثي فلينتش، لحضور دورة “لمكافحة الارهاب .. واستيعاب الاساليب القاسية التي تطبقها اجهزة الشرطة هناك،”  وقام الصحفي الشهير غلين غرينووالد بنشر نص الدعوة الموجهة بتاريخ 25 آذار 2011

الترابط بين اساليب بالغة القسوة لشرطة مدينة فيرغسون وممارسات جيش الاحتلال الصهيوني لم تغب عن بال الاهالي والمراقبين واصحاب الضمائر الحية، الذين وصفوها بأنها “تعيد الى الذاكرة مشاهد ما يحدث في غزة،” اي ان اجهزة الشرطة “تفكر وتتصرف وترتدي زي جيشٍ غازٍ محتل مدجج بالسلاح” يواجه مواطنين عزلا خرجوا للتظاهر سلميا احتجاجا على اوضاعهم الاقتصادية المزرية، بالدرجة الاولى، وعلى تهميشهم اجتماعيا. واشاد العديد منهم على مواقع التواصل الاجتماعي بارشادات الفلسطينيين في قطاع غزة يشاركونهم خبرتهم في كيفية التغلب على عبوات القنابل المسيلة للدموع

          وجاء في الوثائق ان جهازي الشرطة في مدينة سانت لويس الكبرى (العاصمة) تلقيا تدريباتهما من قبل “القوى الأمنية الاسرائيلية،” واللذين تصدت قواتهما للمتظاهرين السلميين منذ البداية بقسوة وبشاعة حفزت المراقبين على تسليط الاضواء على البعد “الاسرائيلي” في عسكرة الاجهزة الأمنية الاميركية، فضلا عن اعتداءات شرطة ميزوري على اطقم الصحافيين دون مبرر – كما يجري معهم في فلسطين المحتلة

          في التفاصيل ايضا، رعى “المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي – جينسا،” وهو منظمة اميركية، سلسلة دورات تدريبية لاجهزة الشرطة وارسال اطقمها الى “اسرائيل” للتدرب، كان احدهم مساعد رئيس جهاز الشرطة في فيرغسون، جوزيف موكوا، في شباط 2008، والذي اعتلى منصب رئيس الجهاز في مدينة سانت لويس لاحقا قبل اضطراره للاستقالة بعد الكشف عن تورط جهازه وقرينته في استخدام السيارات المصادرة لاغراضهم الشخصية

          واوضحت نشرة صادرة عن “المعهد اليهودي” المذكور طبيعة برامج التدريب التي بدأت منذ عام 2002 “شارك فيها نحو 100 من رجال الشرطة،” قائلة ” راقب الاميركيون الاساليب والتقنيات التي تسخدمها قوات الشرطة الاسرائيلية في الحيلولة دون وقوع عمليات انتحارية والتفاعل معها ومع انماط اخرى من الارهاب تضمنت سبل ابطال مفاعيل المتفجرات، الطب الشرعي، السيطرة على الحشود الجماهيرية، وتنسيق الخطاب مع الاجهزة الاعلامية وعموم الشعب”

          ويمتد اخطبوط الاختراق “الاسرائيلي” للاجهزة الأمنية الاميركية ليشمل “عصبة مكافحة التشهير اليهودية،” اذ اوضحت ان رئيس جهاز شرطة مدينة سانت لويس سالف الذكر، تيموثي فلينتش، استجاب لدعوة العصبة والمشاركة في “الندوة  القومية لمكافحة الارهاب” التي امتدت طيلة اسبوع كامل “حضره عدة رؤساء لاجهزة الشرطة الاميركية للتعرف عمليا على التكتيكات والاستراتيجيات الاسرائيلية مباشرة من قادة كبار في جهاز الشرطة الاسرائيلية، وخبراء آخرين في اجهزة الاستخبارات والأمن الاسرائيلية، وجيش الدفاع الاسرائيلي” ايضا، حسبما افاد موقع العصبة الالكتروني. اضافة لما تقدم، “يدعى” ضباط عسكريون “اسرائيليون” لتقديم المساعدة والمشورة لاجهزة الأمن في المطارات ومراكز التسوق الاميركية

بعد الكشف عن التكتيكات “الاسرائيلية” التي اعتمدها جهاز شرطة مدينة سانت لويس، اصدر حاكم الولاية، جاي نيكسون، اوامره بسحب المسؤولية من الشرطة وايكالها لشرطة الطرقات السريعة التي تتبع امرته مباشرة

          عضو الكونغرس الجمهوري المشاكس عن ولاية ميتشيغان، جستين أماش، علق على الممارسات القمعية “الاسرائيلية” في فيرغسون قائلا “المشاهد والتقارير الواردة من فيرغسون مرعبة. هل هي ساحة حرب ام مدينة اميركية؟ الحكومة (المركزية) تصعد وتيرة التوترات القائمة باستخدامها معدات وتكتيكات عسكرية.” (13 آب 2014). كما اوضحت “مؤسسة حرية الصحافة” الرصينة ان الاساليب العسكرية المطبقة “لا تستهدف المتظاهرين فحسب، بل اولئك الذين ينقلون الصورة اعلاميا ايضا”

          السؤال البديهي الذي يتبادر الى الذهن هو كيف استطاعت الاجهزة الامنية “الاسرائيلية” اختراق وممارسة نفوذها على المؤسسة الأمنية الاميركية

          بداية، التسيق بين الطرفين لم يكن وليد اللحظة، بيد ان المهام المضاعفة المترتبة على اجهزة الشرطة عقب هجمات الحادي عشر من ايلول 2001 شكلت حافزا للجانب الاميركي التوجه نحو دول اخرى ومنها “اسرائيل” لاكتساب مهارات في “مكافحة الارهاب.” واستغل “المعهد اليهودي – جينسا” و”عصبة مكافحة التشهير” هاجس الاميركيين للأمن وفرصة لتوددهما لدى الاجهزة الأمنية الاميركية المختلفة، ووفرتا رحلات مجانية “لزيارة اسرائيل” لشريحة كبار الضباط في تلك الاجهزة، فضلا عن عقد مؤتمرات ذات طابع أمني في الولايات المتحدة تتحملان كامل تكلفتها من سفر واقامة وتعويضات

          وتدريجيا جرى نسخ الطبائع “الاسرائيلية” من قبل المدعوين، لا سيما قاعدة تمييز وفصل قوات الشرطة عن محيطها السكاني وعدم انتمائها له، والتصرف وفق ما تتطلبه قوة احتلال من افراط في القسوة لتوفير الهدوء بصرف النظر عن الكلفة المرافقة. تعزز هذا الفهم الملتوي لدى اجهزة الشرطة في مدن واحياء تعج بالاقليات والافارقة الاميركيين، مثل مدينة فيرغسون، التي يقطنها اغلبية من السود بينما جهاز الشرطة غالبيته العظمى من البيض

          المنظمات الاهلية ولجان الحقوق المدنية رصدت منذ زمن ارتفاع معدلات قسوة ووحشية قوى الشرطة في تعاملها مع الفئات والاحداث المختلفة، فضلا عن تنامي مشاعر عدم ثقة المواطنين باجهزة الشرطة والأمن، مما يجسد “الاساليب الاسرائيلية العدائية التي تدربوا عليها. وجاء في احدث استطلاع للرأي، اجري في الفترة من 11 الى 14 آب الجاري، جاءت النتيجة بنسبة 43% تدين ارتفاع معدلات استخدام قوى الشرطة للاسلحة الفتاكة، مقابل معارضة 32%

تفسخ نسيج المجتمع الاميركي

السمعة المشوهة لاجهزة الشرطة ليست الا واحدة من جملة ازمات يعاني منها المجتمع الاميركي، لتنضم الى مشاعر القلق وعدم الثقة من اداء الحكومة الاميركية باكملها. واوضح استطلاع للرأي اجرته شبكة (سي ان ان) للتلفزة، مطلع الشهر الجاري، ان نسبة لا تتعدى 13% من الاميركيين يضعون ثقتهم بالحكومة المركزية، وهي ادنى نسبة مسجلة منذ نصف قرن من بدء الاهتمام بذلك البعد الشعبي. واضافت نتائج الاستطلاع ان نحو 10% من الاميركيين لا يثقون مطلقا بالحكومة، وهي اعلى نسبة للآن، بينما عبر نحو 76% من المستطلعة اراؤهم عن بعض الارتياح ومشاعر الثقة النسبية بعض الاحيان، والتي جاءت في المرتبة الثانية منذ بدء التوثيق

ادرك الرئيس اوباما تدهور الاوضاع الاقتصادية وتجلياتها على مجمل السياسة الاميركية، وتراجع تحقيق “الحلم الاميركي” في تحقيق الازدهار والنمو كما اطلق عليه. وقال في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، منتصف شهر تموز 2013، ان “التدهور مستمر منذ نحو 20 او 30 عاما، وقبل وقوع الازمة المالية” عام 2008. واضاف ان “اتساع الهوة وعدم مساواة الدخل فضلا عن التداعيات التي خلفتها الازمة المالية قد اسهمت جميعها في تهتك النسيج الاجتماعي وتقويض حلم الاميركيين بالفرص الممنوحة”

المجتمع الاميركي منهك بفعل ثقل هموم الحياة اليومية، وتزداد معدلات الاستقطاب والتطرف، لا سيما “في وجهات النظر السياسية والمعتقدات الدينية.” بل قفز عامل تراجع الدخل الى مرتبة اعلى من العامل العرقي في التجمعات التي تمارس الفصل العنصري، كما هو الحال في معظم الولايات الجنوبية

اضافة لما تقدم، لا يزال المجتمع يعاني من ارتفاع معدلات البطالة، وبطء الاداء الاقتصادي، وتقلص الطبقة الوسطى، وتعاظم مشاعر المواطنين بأن بلدهم “يديرها حفنة ضئيلة من النخب السياسية والاقتصادية.” اما الفصل العنصري وسوء معاملة السود من قبل اجهزة الشرطة المختلفة فحدث ولا حرج. اذ جاء في تقرير لمكتب التحقيقات الفيدرالي عام 2012، جرى على امتداد سبع سنوات، ان معدل قتل مواطن اسود البشرة على يد رجل شرطة ابيض بلغ مرتين في الاسبوع

جدير بالذكر ان التقارير الصادرة عن هيئات حكومية ومنظمات شبه رسمية ينبغي النظر اليها بحذر شديد لتحيزها وتغاضيها عن التصريح والالمام بكافة جوانب الحدث، لا سيما “في عدد الضحايا السود العزل من السلاح.” وجاء في تقرير نشرته اسبوعية “مذر جونز،” 15 آب 2014،شككت فيه بكافة التقارير الرسمية قائلة “لسنا على يقين من قيام اي هيئة (حكومية) تقصي حوادث اطلاق الشرطة النار والتي تؤدي لمقتل المدنيين العزل بصورة منتظمة وشاملة.” وجاء في دراسة صادرة عن منظمة حقوقية للسود بتاريخ 13 نيسان 2014، “حركة مالكولم اكس الشعبية،” ان معدل مقتل شاب/ة من السود على يد رجال الشرطة من البيض بلغ ضحية واحدة كل 28 ساعة، استنادا الى احصائيات عام 2012 الذي شهد مقتل 313 مواطن اسود

فيرغسون ومزرعة بندي في نيفادا

الغالبية العظمى من المتظاهرين في مدينة فيرغسون هم من السود – الافارقة الاميركيين، يميلون للتيارات السياسية الليبرالية؛ بينما مؤيدو المزارع بندي، نيسان 2014، غالبيتهم الساحقة من البيض ينتمون للتيارات السياسية المحافظة والمتشددة – باستثناء الحارس الشخصي الاسود لبندي. في كلتا الحالتين، ارتدى رجال الشرطة بزاتهم العسكرية القتالية وامتشقوا الاسلحة المعدة لقتال الجيوش

يحفل التاريخ بأمثلة وقوع حدث ما يشعل النار في الهشيم، يطلق ثورة اجتماعية في بعض الاحيان. في فيرغسون، تضامن عدد من التيارات السياسية الليبرالية واليسارية مع المحتجين وشاركوهم “صحوتهم” ضد السلطة؛ بينما مؤيدو بندي جلهم جاء من صفوف الميليشيات اليمينية الذين يتقاسمون العداء الفطري للسلطة المركزية وكانوا على اهبة الاستعداد للدخول في مواجهة عنيفة مع الاجهزة الأمنية الفيدرالية

تنامي مشاعر عدم الثقة من الحكومة المركزية، بكافة تجلياتها، وازدياد وتيرة المواجهات قد تدخل الاحتجاجات في دوامة عنف يصعب السيطرة عليها خاصة اذا حظيت بامتداد ودعم شعبي اوسع، مما ينذر بامكانية ان تجد السلطات نفسها في مواجهة اضطرابات مدنية رئيسة في المستقبل المنظور. لا يستطيع احد التنبؤ بزمن ومكان اشتعال فتيل المواجهة او القوى المنخرطة، بيد لا ينبغي التغاضي عن الحجم الواسع للمتضررين من السلطة المركزية، عند الاخذ بعين الاعتبار التمثيل العرقي الواسع والامتداد الجغرافي وتبلور الوعي السياسي لدى فئات شعبية واسعة

تسارع الاضطرابات في فيرغسون معطوفة على مشاركة قوى شعبية كبيرة من خارج المنطقة الجغرافية اذهل السلطات المركزية التي بذلت كل ما بوسعها لاحتواء الازمة واعادته الى المربع المحلي، وحققت نجاحا آنيا في هذا الشأن. التنازلات الشكلية التي قدمتها، دور اكبر للسلطة المركزية في اجراءات التحقيق والتلميح الى دخولها طرفا في الادعاء القضائي، حالت دون تكرار المشهد في مدن ومراكز سكانية كبيرة تقطنها اعداد معتبرة من الافارقة الاميركيين: فيلادلفيا، شيكاغو، بلتيمور، لوس انجليس، ونيويورك. ادركت السلطة قبل خصومها انها لو تركت الامور على عواهنها فان رقعة الاحتجاجات ستشتعل سريعا كالنار في الهشيم يصعب السيطرة عليها او احتوائها

القوى المهمشة والاقليات المتضررة قد تلجأ للمشاركة في الاحتجاجات التي تجد ارضيتها الخصبة في طيف واسع من القوى السياسية والعرقية، لا سيما بعد توغل التيارات الرسمية اليمينية والليبرالية في اقصاء الاقليات و”المهاجرين غير الشرعيين” دون وازع، واطلاقها العنان للقوى العنصرية والميليشيات اليمينية اخذ زمام المبادرة ضد القوى الاخرى. حينها، سيلجأ الرئيس اوباما الى تعبئة شاملة لقوى الحرس الوطني المختلفة “لمساعدة” الاجهزة الأمنية المختلفة – التي شهدت فيرغسون اولى تجلياتها. قد يعلن ايضا حالة الطواريء في المناطق المشتعلة، كما شهدته فيرغسون، بيد ان ما يحول دون ذلك الخيار هو الثمن السياسي المرتفع وامكانية مفاقمة الامور ودفعها الى حافة الانفجار عكس ما يريد

القانون الاميركي يساوي بين اعلان الاحكام العرفية وحق الفرد المثول امام القضاء والدفاع امام ظروف الاعتقال، مما يدخل عامل القضاء في النظر باحقية ومشروعية الاعتقال. كما ان الدستور الاميركي يخول السلطة المركزية تعليق العمل بحق مثول المتهم امام القضاء، الفقرة التاسعة من المادة الاولى للدستور، “لا يجوز تعليق حق المثول امام المحكمة، الا في حالات التمرد او الاعتداء على السلامة العامة كما يقتضى ذلك.” اي ان الدستور يجيز اعتقال السلطات لأي كان واحتجازه دون توفر الدلائل على خرقه للقانون

المساعي التي بذلها الرئيس اوباما واركان حكومتة، لا سيما في ايفاده وزير العدل شخصيا للاشراف على التهدئة لا ينبغي ان يقودنا الى الاستنتاج بأن الامور عادت الى وتيرتها السابقة؛ فالاضطرابات قد تشتعل في منطقة اخرى في اي لحظة نظرا لأن عوامل التفجير متأصلة في البنية السياسية ذاتها. اضافة لنضوج الظروف الموضوعية لعوامل الانفجار، هناك ايضا بلورة للظروف الذاتية للقوى المتضررة، وان تبدو هامشية للبعض: التشكيلات المختلفة بين السكان الافارقة الاميركيين، خاصة اعادة انتاجها لتنظيم “الفهود السود الجديد” في مدن الكثافة السكانية الكبرى ولديها اسلحة خفيفة؛ والقوى الفوضوية التي برزت بقوة اثناء احتجاجاتها المتكررة والعنفية احيانا ضد سيطرة رأس المال والبنك وصندوق النقد الدوليين، اغلب اعضائها من الفاشيين البيض اختصاصها المظاهرات والعصيان المدني لا سيما امام مؤتمرات الدول الصناعية الثمانية ويتقنون ميزة التعامل مع وسائل التقنية الحديثة اذ قاموا بشن هجمات الكترونية ضد مواقع مدينة فيرغسون الرسمية؛ والميليشيات اليمينية المدججة بالاسلحة. كل من تلك القوى تشكل تحديا بحد ذاتها للسلطة المركزية، حتى وان لم تتشارك او تتقاسم الاهداف فيما بينها

ربما تشكل الميليشيات اليمينية اكبر تهديد للسلطات المركزية نظرا لاعدادها الكبيرة واتساع رقعة انتشارها في عموم الولايات المتحدة، والاسلحة المتعددة التي بحوزتها، سيما وان عددا لا باس به من اعضائها يتقنون استخدام السلاح بكافة انواعه والتكتيكات العسكرية  نظرا لخبرتهم اثناء فترة ادائهم الخدمة العسكرية. اجراءات التحقيق في احداث المواجهة مع السلطة المركزية في محيط مزرعة بندي اشارت الى ضلوع قناص محترف من صفوف الميليشيات والذي اشترك في العدوان على العراق واكتسب مهارة معتبرة، وقام بتوزيع عدد من القناصة تحت امرته على اماكن عدة من المزرعة. الاساليب القتالية التي اظهرتها المجموعة تفوقت على القوة المركزية المنوطة بالسيطرة على الاحداث هناك، مما دفع بالمشرفين في السلطة المركزية الى التراجع وسحب رجالاتهم خشية تطور الاوضاع الى الاسوء

في هذا الصدد، حمل مسؤولون رسميون تلك الميليشيات مسؤولية التعرض لشبكة توزيع الكهرباء في كاليفورنيا، العام الماضي، والذي لا يزال التحقيق جارٍ فيه من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي، والذي استنتج ان الفعلة طبقت عن سبق اصرار وتصميم ونفذت بحرفية عالية

الازمة الاجتماعية تعرّي العنصرية الاميركية الممنهجة

التباينات والاختلافات الجوهرية بين تلك القوى المتضررة من السلطة المركزية قد تجد قاسما مشتركا للتعاون فيمابينها لتحقيق مآربها مع احتفاظ كل منها باستقلاليته عن الآخر. التاريخ البشري حافل بمشاهد وامثلة عديدة لتقاطع المصالح والاهداف بين قوى متضادة في الجوهر والبنية والاسلوب

من نافل القول ان الاجهزة الامنية الاميركية راكمت تجربة معتبرة في تصديها للاضطرابات المدنية، بصرف النظر عن الاساليب القاسية المستخدمة، لا سيما منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية بكثافة في عقد الستينيات من القرن المنصرم. وتجدر الاشارة في هذا الصدد الى اصدار سلاح الجيش الاميركي كراسا بعنوان “تكتيكات الجيش الاميركي: الاضطرابات المدنية، في شهر نيسان من العام الجاري؛ والذي يفصل التجهيزات والتدابير المنوي اتخاذها في حال اندلاع “اعمال شغب واسعة النطاق” في الولايات المتحدة مما يستدعي تدخل القوات العسكرية “لاستخدام اسلحة فتاكة” والتعامل مع الحشود المكثفة للمحتجين. اللافت ايضا في نصوص الكراس انها تلقي جانبا “بالحقوق الدستورية للمواطنين الاميركيين التي تعتبر لاغية وباطلة في ظل حالة الطواريء”

محصلة النظرة الموضوعية بعد كل ما تقدم تشير بقوة الى ان الاوضاع الداخلية الاميركية لا زالت تنعم بالاستقرار النسبي، والاحتجاجات التي اندلعت في فيرغسون تم السيطرة عليها وحالت دون انتشارها لمناطق اخرى، للحظة، لكنها لا زالت تشكل بؤرة اشتعال يصعب التنبؤ بمآلاتها. تلك الاحداث الشعبية، وهي كذلك في فيرغسون، تحاكي ما شهده الاتحاد السوفياتي السابق من احتجاجات توسعت بسرعة واطاحت بالنظام السياسي برمته. ايضا كانت يوغوسلافيا واحة من الاستقرار ومحطة مفضلة يقصدها السياح من كل اماكن المعمورة، لكنها انزلقت سريعا وشهدت اضطرابات مدنية في عقد التسعينيات من القرن المنصرم، اذكاها عنصر التدخل الخارجي من حلف الناتو حتى استطاع من تقسيمها وتشظيها

عند استحضار هذه الخلفية، يمكننا القول ان اندلاع مواجهات واضطرابات واسعة النطاق، بين المواطنين بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم والاجهزة الحكومية في الشق الغربي من الولايات المتحدة هو امر في طريق التطور، وينذر بتشكيل تهديد اضافي للنسيج الاجتماعي الاميركي