المقدمة
سوريا وانسحاب القوات الأميركية وسرعة تراجع الرئيس ترامب لمنح مزيد من الفرصة الزمنية، تحت ضغط القيادات العسكرية، أشرت على بلوغ الصدام الداخلي مرحلة متقدمة، لا سيما بعد “إقالة” وزير الدفاع واستقالة مدير مكتب موظفي البيت الابيض.
قرار الانسحاب وما رافقه من تعديل معلن في السياسة الأميركية، سيكون موضوع التحليل، والذي اعتبره البعض مؤشر على تخبط بارز في آلية صنع القرار نتيجة الانكفاءات الميدانية الجارية، لا سيما في كل من اليمن وسوريا، والمتغيرات المحلية والدولية.
ملخص دراسات واصدارات مراكز الابحاث
قرار الحرب لمن؟
قرار شن الحرب، او التورط العسكري، دائم الحضور في الجدل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، اللتان تسعى كل منهما على قضم ما تستطيع من نفوذ لصالحها، مع ادراكهما الوثيق بأن للرئيس صلاحية مطلقة شن “حروب محدودة” زمنياً “.. شريطة إطلاع الكونغرس (خلال 48 ساعة والا تتجاوز العمليات العسكرية 60 يوما بدون موافقة الكونغرس ) وان يتم بعدها الانسحاب خلال 30 يوماً.”
صوّب معهد كارنيغي بوصلة النقاش فور انعقاد الدورة السادسة عشر بعد المئة للكونغرس الجديد مشيراً إلى أن من بين القضايا الملحة على جدول الأعمال ينبغي إثارة مسألة “متى وأين يجب نشر القوات العسكرية الأميركية المدهشة .. إذ أن الدستور يمنح صلاحيات إدارة الشؤون الخارجية لكلا الكتلتين المتصارعتين، الكونغرس والرئيس؛” مطالباً السلطة التشريعية باستعادة دورها في “الإشراف الشرس” عليها. واستدرك بالقول أنه من الطبيعي أن يقلق البيت الأبيض كونه لا ينظر بعين العطف لأي دور “اشرافي” للكونغرس وليبقي على تمركز صنع القرار بيده. وحث البيت الأبيض على “الترحيب بدور شراكة تامة مع الكونغرس في قضايا تمس الأمن القومي والذي من شأنه تشذيب السياسات المتبعة وسبل تطبيقها معا.”
https://carnegieendowment.org/2018/12/17/can-congress-stop-forever-war-pub-77987
سوريا
أكد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الشائع لقناعات ومواقف كبار السياسيين الأميركيين لتعثر استراتيجية الحروب “سنة تلو الأخرى” والتي بدأت “.. لمحاربة الارهاب عام 2001؛ وحروب مستمرة في الخليج منذ عام 2003؛ والتخبط في سوريا منذ عام 2011.” واعتبر المعهد جولة الاتهامات المتبادلة حاليا على خلفية إعلان الرئيس ترامب انسحابه من سوريا بأنها “ليست أكثر سذاجة أو عُقم من االجدالات السابقة حول ملامح السياسة الأميركية نحو سوريا .. وتخلو من أي مضمون حقيقي، كما سابقاتها، حول طبيعة الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط والخليج منذ عام 2001.” وأضاف أن مستويات النقاش انحدرت تدريجيا بحيث أضحت “بلا هدف استراتيجي واضح، وفشلت في التحكم بأي من القضايا المتعددة التي تسهم في بلورة استراتيجية أميركية في المنطقة.”
سخر معهد أبحاث السياسة الخارجية من قرار الانسحاب من سوريا “المفاجيء .. والذي تم بلورته (على عجل) بين طواقم وزارتي الخارجية والدفاع؛ ثمرة لمراكمة الاخطاء.” وجادل في فرضية صواب القرار الرئاسي “حتى لو جاء نتيجة اسباب لا يدركها الرئيس ولن يتحمل مسؤولية الاستشراف” لتداعيات القرار.
https://www.fpri.org/article/2018/12/leaving-syria/
اتهم معهد كاتو دائرة المستشارين الضيقة المحيطة بالرئيس ترامب “بكبح والغاء تطلعاته الواقعية” التي بادر بها بدءأ من اعلانه الانسحاب من سوريا واكبه اعلان آخر بتقليص عدد القوات الأميركية في افغانستان الى النصف، تقريبا. واضوح أن الفريق المعارض للقرارين معظمه من “صقور المحافظين الجدد بتأييد من الليبراليين من أنصار الحملات العسكرية الإنسانية .. مما يقوض المصالح الأميركية في البلدين.”
https://www.cato.org/publications/commentary/why-trumps-advisors-keep-quashing-realist-whims
استعرض معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى تداعيات قرار الانسحاب من سوريا “من وجهة نظر اسرائيل .. وحرص المسؤولين فيها على عدم توجيه انتقاد علني للرئيس ترامب؛ بيد أن ما يضمرونه تحت السطح تميز بعدم الرضى والقلق والرغبة في استثمار الخطوة لما قد يبنى عليها من ايجابيات.” وأوضح أن الاتصالات المكثفة التي أجراها بنيامين نتنياهو مع “الرئيس ترامب هاتفيا، ولقائه وزير الخارجية مايك بومبيو على هامش لقاء البرازيل، واستضافته لمستشار الأمن القومي جون بولتون استثارت بمجملها ضمانات أميركية علنية حول أمن اسرائيل.” وأضاف أن بعض كبار القادة السياسيين خفف من غلواء إعلان ترامب بالتأكيد على تواضع التواجد الأميركي هناك وغير مؤهل لمواجهة التقدم العسكري لإيران.” واستدرك بالقول أن تلك المروحة المتعددة من ردود الفعل “لا تعكس كامل الحقيقة.”
https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/trump-departs-syria-an-israeli-perspective
وفي استعراض موازٍ اعتبر معهد واشنطن جولة وزير الخارجية مايك بومبيو المكثفة في المنطقة قد تم الإعداد لها “قبل أعلان” الانسحاب، وهو يرمي ” للترويج وتفسير قرار الرئيس بأننا في طريق الخروج من سوريا لأصدقاء الولايات المتحدة.” وأوضح أن سوريا بالنسبة لتلك الدول لا تشكل أولوية بل “التصدي لنفوذ ايران ونشاطاتها العسكرية” هناك.
ايران
أعرب المجلس الأميركي للسياسة الخارجية مرور الذكرى السنوية الأولى على الاحتجاجات الشعبية في ايران بأنها دليل على “استمرار هاديء للقوى المناوئة للثورة (الاسلامية) والتي استطاعت تحويل مطالبها إلى حركة تتحدى شرعية النظام الديني .. رغم تجاهل وسائل الإعلام لها.” وأوضح أن المطالب “المحقة” للمحتجين تجد صداها في تدهور الحالة الاقتصادية للبلاد “فمؤشر التضخم في ارتفاع، ومعدل التضخم السنوي وصل لنحو 40% .. بينما اقر البنك المركزي الايراني بمعدل تضخم يفوق 50% خلال السنتين الماضيتين.” وخلص بالقول أن تجديد الولايات المتحدة للعقوبات على ايران تلعب الدور الرئيس “بيد أن حقيقة الأوضاع الداخلية أسوأ مما قد تعترف بها السلطات.”
https://www.afpc.org/publications/articles/a-year-into-irans-quiet-counterrevolution
التحليل
الانسحاب الأميركي من سوريا: تأجيل وتخبط
قرار رئاسي بالانسحاب من سوريا نال شبه اجماع رافض من قبل الأقطاب السياسية الأميركية المتعددة، واكبه ضغوط مكثفة على الرئيس ترامب اسفرت عن “تراجعه” مؤقتاً وابطاء الوتيرة بتمديد المهلة الزمنية المطلوبة.
بيد أن الأمر كشف عن خروج الخلافات العميقة في صنع القرار الأميركي إلى العلن، عززها الرسائل والتصريحات “المتضاربة” لعدد من كبار المسؤولين أظهرت مدى “عدم الانسجام” بين مختلف مؤسسات الدولة؛ لعل أبرزها كان “تعهد” مستشار الأمن القومي جون بولتون بعدم مغادرة القوات الأميركية سوريا “ما دامت القوات الإيرانية خارج حدود ايران.” أتبعه الرئيس ترامب بتصريح مناقض خلال ايام معدودة دفاعاً عن قراره بالانسحاب بأن “ايران تستطيع أن تفعل ما تشاء” في سوريا.
تلك الرسالة وغيرها، واكبها استقالة (وصفها لاحقا ترامب بما يشبه الإقالة ) وزير الدفاع جيمس ماتيس، دفعت يومية واشنطن بوست، الخامس من الشهر الجاري، القول بأنها “.. تعكس صورة التقلبات الدراماتيكية التي تطبع سياسة (ترامب) الخارجية، مما يدفعنا الى التساؤل عما إذا كان كبار مستشاري (الرئيس) ينفذون سياساته أم أنهم يتبعون أجنداتهم” الخاصة.
كما سلطت الصحيفة الضوء على “اجندة بولتون .. لاستخدام سوريا ورقة ضغط على ايران، من ناحية، طمعاً في نفض يديه من تحمل مسؤولية قرار شن الحرب” حين اتخاذه.
وشرعت الإدارة باحتواء ردود الفعل الدولية الرافضة قيام أبرز اقطابها، وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتن، ترؤس وفود رسمية جالت على عدد من العواصم الإقليمية بغية “طمأنة” المخاوف من تداعيات انسحاب أميركي.
بالمقابل، لم يكترث العديد لتصريحات الإدارة الأميركية منذ مطلع العام المنصرم تشير فيها إلى عزمها الانسحاب قريباً من سوريا، وطلبت مشورة عدد من المؤسسات الفاعلة والمؤثرة في بلورة القرار الرسمي، مما ينفي اتهام البيت البيض بالمفاجأة، خاصة عند الأخذ بعين الاعتبار تصريحات وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي، بالتزامن، قبل نهاية العام المنصرم فحواها أن الرئيس ترامب “لم يصادق على خطة أميركية موسعة لمواجهة ايران في سوريا.”
“شعبية” الرئيس ترامب كانت أحد الأسباب التي حثت فواصل المؤسسة الحاكمة على تأييد قرار الانسحاب “ولو بشروط،” ومن ثم الانقضاض عليه؛ عززها تراجع حدة تصريحات المسؤولين، لا سيما داخل الحزب الجمهوري، عقب صدور نتائج استطلاعات للرأي، 8 الشهر الجاري، تشير الى تأييد أغلبية من الأميركيين قرار الانسحاب من سوريا وافغانستان، 56%، ومعارضة ضئيلة لا تتعدى 27%.
الانسحاب لا يعني الخروج النهائي
غموض يكتنف حقيقة قرار واعلان الانسحاب، والذي بدأ على قدم وساق منذ مطلع الشهر الجاري، لا سيما مع أعلان وزارة الدفاع الأميركية عن ارسالها مزيد من “القوات البرية” لسوريا “لتأمين الانسحاب” إلى القواعد الخلفية في العراق، كما يعتقد، أبرزها قاعدة عين الأسد الجوية التي يرجح أن توازي أهمية قاعدة “باجرام” الأميركية في افغانستان.
قيادة “قوات التحالف الدولي” الذي يضم 73 دولة وجهت رسالة الى الدول المشاركة، 19 الشهر الماضي، يوم أعلان الرئيس ترامب قراره، بالتأكيد على “ضرورة مواصلة التحضيرات للمرحلة المقبلة من الحملة؛” بالرغم من القرار الأميركي سحب “2،200 من جنود القوات الخاصة الأميركية،” وفق توصيف يومية كريستيان ساينس مونيتور، 28 ديسمبر الماضي.
الحضور العسكري الفرنسي في سوريا يأتي في المرتبة الثانية للولايات المتحدة، من ناحية الأهمية والدرو المرسوم لها، إذ يتواجد “ما لا يقل عن 400 جندي من القوات الخاصة” في سوريا، إضافة لأعداد أخرى من القوات البريطانية والاسترالية والنيوزيلندا وآخرين، يقدر عددها بنحو 1000 عسكري من مختلف الاختصاصات. عند احتساب عديد التشكيلات المسلحة من مخزون المقاتلين الذين تشرف عليهم القوات الأميركية، لا سيما في قاعدة التنف جنوبي سوريا، ترتفع الأعداد الى ما بين 8000 الى 10000 شخص.
من بين المشككين في حقيقة الانسحاب الأميركي من سوريا، رغم إعلان الرئيس ترامب، كانت صحيفة نيويورك تايمز، 7 يناير الجاري، بالإشارة الى تضمين شروط لقرار الانسحاب، كما دل عليه تصريح لجون بولتون خلال زيارته تل أبيب مؤكداً بأن القوات الأميركية “ستبقى في سوريا حتى يتم القضاء على بقايا تنظيم داعش.” وأوضحت أن “بولتون ومسؤولون كبار آخرون في البيت البيض يقفون وراء حملة تجري خلف الكواليس لإبطاء مفعول قرار ترامب .. عبر تضمين عبارة انسحاب مشروط” من سوريا.
بدورها أكدت يومية واشنطن بوست، 7 يناير، أن التطورات الميدانية في سوريا تشير إلى أن الانسحاب الأميركي لن يتقيد بفترة زمنية محدودة، وانما “سيكون مفتوحاً إلى حد ما.” وذهبت أبعد من ذلك بالاشارة إلى هوية المسؤولين الكبار الذين يعرقلون عملية الانسحاب منهم “وزير الخارجية مايك بومبيو، مستشار الأمن القومي جون بولتون، والمبعوث الرئاسي الخاص لسوريا جيمس جيفري؛” مشيرة إلى تصريحات مماثلة تؤكد هدف التواجد العسكري الأميركي في سوريا بأنه “لا يقتصر على محاربة (داعش) بل يشمل التصدي للنفوذ الايراني في سوريا.”
بل صرح وزير الخارجية عشية قيامه بجولته في عواصم المنطقة بأن “الحملة الأميركية لمحاربة النفوذ الإيراني ستظل مستمرة حتى في حال انسحاب القوات الأميركية من سوريا.”
بالتزامن الاعلامي أيضاً، كشفت يومية وول ستريت جورنال، 7 يناير الجاري، عن محتوى ما في جعبة الوفد الأميركي لأنقرة برئاسة مستشار الأمن القومي جون بولتون ووضع شروط جديدة على النفوذ التركي طمعاً في حماية التشكيلات الكردية المسلحة، وبرفقته “خريطة ملونة” أعدها عضو الوفد جيمس جيفري تحدد فيها مناطق النفوذ الممنوع لتركيا الاقتراب منها، والتي “تشبه اتفاقية سايكس – بيكو” القرن المنصرم.
يشار إلى أن “الشروط” المستجدة في خطة بولتون وفريقه لم تكن عنصراً أو مكوناً أساسياً من مكونات خطة الرئيس بالانسحاب؛ مما دفع الرئيس ترامب على تفنيد ما تناقلته وسائل الإعلام الأميركية بشأن تركيا، مؤكداً على نشرها “تقارير تعوزها الدقة فيما يتعلق بالنوايا (الرئاسية) حول سوريا .. سياستنا لا زالت على ما هي عليه، سنخرج (من سوريا) وفق وتيرة مناسبة، وفي الوقت عينه الاستمرار في قتال داعش ..”
استراتيجية “المرحلة المقبلة”
سارع وزير الخارجية مايك بومبيو للقاء “حلفاء” واشنطن في المنطقة واطلاعهم على الخطوط العريضة للسياسة الأميركية وتوجهاتها المقبلة، قوامها الاستمرار في محاربة ايران وتقليص النفوذ التركي، وأداتها تشكيل حلف أمني عنوانه مواجهة ايران بمسمى “التحالف الاستراتيجي،” تجديداً ل قولة روّجت لتحالف الناتو العربي سابقاً.
مهد بومبيو الاجواء بعنوان مضلل لكلمته “قوة من أجل الخير: أميركا تسترد قوتها في الشرق الأوسط،” مبشراً بتوجه “جديد” يرضي غرائز عواصم الخليج بالتركيز على استمرار محاربة ايران؛ وايلاء دور أكثر فعالية لتلك الدول في سياق ركائز استراتيجية المرحلة المقبلة، والاعداد لما بعد الانسحاب الأميركي، جزئياً من افغانستان.
اقتصرت جولة بومبيو على دول الخليج والاردن ومصر، ومن ثم العراق لاحقاً، مؤكداً فيها على ان “الانسحاب من سوريا قرار لا رجعة فيه.” بيد أن غياب “التسوية للقضية الفلسطينية” كان من أبرز القضايا مما اعتبر بأن المشروع الوحيد عند الإدارة هو ترتيب التحضيرات ل “صفقة القرن،” بطي القضية برمتها وتسريع وتيرة التطبيع الرسمي مع “اسرائيل.”