المقدمة
إنفرجت أسارير خبراء المؤسسات الفكرية والبحثية مع “قُرب” أعلان هزيمة داعش في مدينة الرقة، على أيدي القوات الأميركية، وأطلقت العنان لسيل من النقاش حول “المرحلة المقبلة” فيما يخص القوات الأميركية المتواجدة في سوريا تحديداً.
سيستعرض قسم التحليل ما تم الإعلان عنه بعد طول إنتظار لتصوّر يمكن اعتباره ملامح “السياسة الأميركية” في المنطقة بعد الاتفاق النووي، وتحذير “بعض” أقطاب المؤسسة من أن يؤدي انتصار الرقة المدمرة إلى “إنجذاب الولايات المتحدة أكثر للإنخراط في الصراع.”
ملخص دراسات واصدارات مراكز الابحاث
سقوط دولة الخلافة
قبل الاعلان الرسمي عن سقوط مدينة الرقة المدمرة بالكامل، 20 الشهر الجاري، أعرب معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى عن اعتقاده بأن “عاصمة الخلافة ستسقط خلال الاسبوع الثالث من شهر تشرين 1/اكتوبر،” معززاً اعتقاده بإحجام الآلة الاعلامية التابعة لداعش عن “اصدار أي بيان يتعلق لآلية العمل في المدينة، لشهر على الأقل، او الاشارة للخدمات الاجتماعية أو التطرق لجهود التجنيد عبر الدعوة.” واستطرد بالقول ان “الصمت الإعلامي قد لا يؤشر على وقف تام وشامل لآلية حكم داعش .. بل تعبير عن تراجع مستمر في الجهاز الإعلامي.”
شدّد معهد المشروع الأميركي على عدم إعتبار استعادة بغداد لسيطرتها على مدينة كركوك بان “ايران قد هزمت أميركا،” وينبغي على الولايات المتحدة “أن لا تخجل من إعلان هدفها بتغيير النظام” في طهران والعمل على تحقيقه. وأوضح أن “الديبلوماسية الايرانية تميزت بعدم الصدقية واتسمت بالخداع خلال المفاوضات حول البرنامج النووي.”
http://www.aei.org/publication/take-it-from-me-kirkuk-was-not-an-iranian-defeat-of-america/
أعرب معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى عن إستهجانه من عدم بروز مواقف معارضة لاستعادة بغداد سيطرتها على كركوك، وتحفظه أيضاً لموقف الرئيس الأميركي بأنه لا ينوي “التحيز لأي من الأطراف.” وأضاف ان العملية العسكرية سارت بنجاح باهر واجهت فيها القوات العراقية “مقاومة رمزية من القوات الكردية المحلية نظراً لعدم حسم الجناح السياسي المشرف على المقاتلين، حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، موقفه والدفع باتجاه مقاومة الخطوة.” ومما زاد الطين بلّة، أضاف المعهد، ان لم “تعرب أي هيئة دولية أو دولة عن معارضتها للإجراء.”
سوريا
حذر معهد الدراسات الحربية الولايات المتحدة بأنها “تخاطر بتعريض مصالح الاستراتيجية في المنطقة إن لم تدخل تعديلات على سياساتها نحو سوريا والعراق.” وأوضح أن الهدف المعلن باستعادة الموصل والرقة من قبضة داعش قد “أُنجز تقريبا. ومع ذلك فإن أدارة الرئيس ترامب تسير ببطء في بلورة وتنفيذ سياسات أميركية من شأنها ضمان المصالح الحيوية الاميركية في مواجهة سرعة ورشاقة تحرك أعداء أميركا وخصومها والقوى المناوئة لها.” وأردف أن تلك القوى هي “روسيا، ايران ووكلائها، داعش، تنظيم القاعدة، وبعض العناصر الكردية .. التي تسعى مجتمعة لتهديد الأهداف الأميركية وتستغل الظروف الحالية لتحقيق مكاسب استراتيجية بينما تمضي الولايات المتحدة بالترويج لمكاسب قصيرة الأجل ونجاحات تكتيكية الطابع.”
http://www.understandingwar.org/article/intelligence-estimate-and-forecast-syrian-theater
استعرض معهد كارنيغي ما أسماه “أهداف تركيا بعيدة المدى في سوريا” والتي “يصعب” الإجابة عليها أبعد من “طموحات أردوغان الشخصية .. بتغيير النظام في دمشق؛ كما رأى فرصة جيوسياسية كي يفعل في سوريا ما أقدمت عليه سابقاً بريطانيا وفرنسا؛” بيد أن مراهناته لم تتحقق بفعل “التعقيدات التي تجاوزت كل الحدود.” واستطرد أن “الهدف الآني لأنقرة هو احتواء النزاع (في سوريا)، ووقف تدفق موجة اللاجئين وعكس مسارها” والحيلولة دون تأثير الصراع على الداخل التركي.
http://carnegie-mec.org/diwan/issue/1628
مصر
أجرى معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى استطلاعاً لقياس مدى تفاعل الشعب المصري مع السياسات الأميركية معتبراً المواقف المتشددة للرئيس ترامب نحو إيران “تتمتع بقدر كبير من الدعم .. إذ أعرب ما لا يزيد عن 1% من المستطلعة آراؤهم عن تأييدهم لسياسات إيران الإقليمية.” وزعم المعهد أن “91% من المصريين أعربوا عن عدم رضاهم عن حزب الله – تطور عكسي مذهل لصورة الحزب المجيدة بعد حرب 2006 مع إسرائيل.” وأضاف أن نحو “56% يعتبرون نسج علاقة مع الولايات المتحدة هامة ..” مما يعد تحولاً عن التوجهات السابقة المعادية لأميركا، وفق المعهد. واستدرك بالقول أن “معظم الشعور العام يبدي عدم توافقه مع مجمل السياسة الأميركية، (لكن الجمهور) يؤيد أهمية نسج علاقة رسمية مريحة مع واشنطن.”
إيران
شن معهد المشروع الأميركي حملة على سياسات الرئيس ترامب نحو إيران “لفشله في ترسيخ موقع الريادة الأميركية،” ومثنياً على عدائه للاتفاق النووي. وأوضح أن ما ينقص السياسة الأميركية لاستعادة هيبتها هو “النأي عن تركيز خطابها على البرنامج النووي والتوجه للتذكير بالمخاطر الأبعد لإيران على عموم المنطقة.”
http://www.aei.org/publication/president-trumps-failing-leadership-on-iran/
ندد صندوق مارشال الألماني بقرار الادارة الأميركية لعدم المصادقة على الاتفاق الدولي واعتبره “أمر لا يمكن تفسيره، غير عقلاني، وخطير.” واعتبر ان جملة التعليقات والتصريحات الصادرة في واشنطن “عقب الإعلان عن استراتيجية جديدة حول إيران اظهرت بأنه حتى لو اعتبرنا التحفظات المطروحة مبررة بعض الشي، فانها ليست صحيحة بكل بساطة.” وأردف ن الاستراتيجية الجديدة للإدارة الأميركية هي عبارة عن خطة عمل “لكيفية خسارة معسكر الأصدقاء وعزل الأصدقاء.” وذكر الصندوق بتحذير الرئيس السابق اوباما بأن اقدام الكونغرس على الإطاحة بالاتفاق يعيد الأنظار لتوجيه “اللوم للولايات المتحدة لأفشالها المساعي الديبلوماسية الدولية. ستنهار وحدة المجتمع الدولي، وتتسع رقعة الأزمة.”
الحركة الإسلامية في الخليج
استعرض مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية العلاقة المتوترة بين دول الخليج وتنظيم الإخوان المسلمين والتحديات التي يمثلها على دوله، بشكل رئيسي، وتأييدها واحتضانها لعناصره “بالآلاف” إبان حقبة ظهور المد القومي العربي؛ وذلك بالإتساق مع تقرير السفير البريطاني السابق لدى الرياض، السير جون جنكينز، بعد تكليف الحكومة البريطانية له عام 2014. وأضاف أن الحلقة المركزية في تقرير السفير المذكور كانت “إحتضان التنظيم للثورة الإسلامية في إيران عام 1979 .. على نقيض مواقف حكومات الخليج التي رعت عناصره لمدة طويلة معتبرة ما جرى بأنه تبشير بانطلاق الثورات” في المنطقة. وأضاف ان كراهية نظم الخليج للتنظيم “تعززت عام 1990 حين أعلنت بعض قيادات الإخوان المسلمين تأييدها للغزو العراقي للكويت .. مما حدا بالسعودية قمع أعضاء حركة الصحوة في البلاد.”
https://www.csis.org/events/gulf-roundtable-egos-and-ideologies-islamism-gulf
التحليل
بعد هزيمة داعش بالرقة المدمرة
أميركا وإلى حين باقية بمهام إضافية
تجدد الجدل الداخلي حول مصير القوات الأميركية في سوريا بعد ما يربو على عامين ونصف من تدخل واشنطن المباشر وتحقيق هدفها المعلن بإزاحة ” داعش عن مدينة الرقة،” واكبها إعلان البنتاغون أن المدينة أضحت محررة من التنظيم الإرهابي – بصرف النظر عن تدميرها بالكامل.
قبل الإجابة الوافية على السؤال المحوري ينبغي الإضاءة على أبعاد “الانتشار العسكري الأميركي في سوريا” وتدرج تصعيده في أعقاب تكليف الرئيس ترامب للبنتاغون بلورة استراتيجية جديدة “تستند على نشر قوات أميركية برّية إضافية ومحدودة للمشاركة الفعلية في المعركة؛” والمرور على “بعض” التسليح لدى القوات الخاصة الأميركية. أفادت يومية واشنطن بوست، 9 آذار الماضي، بأن واشنطن نشرت “وحدة مدفعية من سلاح المارينز، الوحدة 11، مزودة ببطاريات مدفعية هاوتزر لإطلاق قذائف عيار 155 ملم، ووحدة للتدخل السريع ومجموعة مظليين،” تجاوز تعدادها الإجمالي 1000 عسكري، مع العلم أن الحجم الرسمي المصرح به لا يزيد عن 500 عنصر.
هذا بالإضافة إلى انشاء قاعدة جوية أميركية في منطقة الرميلان بمحافظة الحسكة، أقصى شمال شرق البلاد، وتسليح عناصرها بأسلحة نوعية “لا يمكن لواشنطن تقديمها للقوات الحليفة،” وخاصة مضادات الطائرات وأجهزة التشويش.
تتالت التقارير الميدانية والصحافية منذ ذاك التاريخ لترصد حجم الدمار الذي لحق بمدينة الرقة، لا سيما بعد تغيير الإدارة الأميركية “قواعد الإشتباك” بمنح قياداتها الميدانية “مرونة واستقلالية أكبر” في عملياتها مما أدى “الى إرتفاع كبير في أعداد الضحايا من المدنيين نتيجة قصف قوات التحالف.”
استعادة الرقة “من غير المرجح أن يشكل نهاية للتدخل الأميركي في سوريا،” كما جاء على لسان عدد لا بأس به من العسكريين والمسؤولين السابقين، أحدثها كان في طيات تقرير لنشرة فورين بوليسي، في نسختها الالكترونية، 18 أكتوبر الجاري، نظراً لخشية واشنطن من تمدد قوات الجيش العربي السوري وحلفائه قبل أن “تصبح المنطقة الجغرافية بين مدينة الرقة والحدود العراقية منطقة محرمة.”
في الوقت عينه أعلنت “قوات سوريا الديموقراطية” عن عزمها ضم مدينة الرقة الى منطقة حكمها الذاتي، المعلن من جانب واحد، تجسيداً للوعود الآميركية بأن مستقبل سوريا ينبغي أن يكون بصيغة حلٍ “فيدرالي لا يستند الى نظام حكم مركزي.” بعبارة أخرى، واشنطن لا زالت تعلق آمالاً على تقسيم سوريا الى كيانات متعددة.
مستشار الأمن القومي الأسبق لنائب الرئيس ديك تشيني، جون هانا، كان بالغ الوضوح في رؤية ونوايا المؤسسة الحاكمة لما بعد الرقة قائلاً أن “تواجد قوات محلية مدعومة أميركيا تسيطر على أجزاء واسعة من سوريا يشكل ثقلاً ديبلوماسياً محتملاً لواشنطن في تشكيل مستقبل سوريا ما بعد انتهاء الحرب ضد تنظيم داعش،” 18 أكتوبر لقناة فرانس24.
نظرة ميدانية سريعة على طبيعة الجغرافيا تؤكد صحة النتائج التي انتهى إليها (هانا) وآخرين أيضا. إذ شجعت واشنطن “قوات سوريا الديموقراطية – قسد” في الآونة الأخيرة تصدر القتال “شرقاً” في مناطق بعيدة عن تواجدها وهي “غير قادرة على تنفيذ المهام المطلوبة منها بمفردها،” خاصة بعد رصد الأقمار الإصطناعية الروسية “تسليم داعش مواقعه في مدينة الرقة لـ (قسد) دون قتال،” وتيقن التقنية الروسية من تدمير المدينة بالكامل من قبل الطيران الأميركي.
المتحدث باسم قوات التحالف لمحاربة داعش، رايان ديلون، أكد في مؤتمر صحفي عقده من بغداد، 17 أكتوبر، أن “الإئتلاف الدولي يجري محادثات مع قوات سوريا الديموقراطية لمواصلة الحملة (ضد داعش) على طول نهر الفرات ..،” أي مباشرة الى دير الزور وما سينطوي عليها من “احتكاك” وربما اشتباك مباشر مع قوات الجيش العربي السوري وحلفائه.
اتساع رقعة القتال الى وادي نهر الفرات أضحت حقيقة ومطلباً أميركيا، ليس لقطع طريق التواصل الجغرافي بين دمشق وطهران وتأكيد وزير الدفاع جيمس ماتيس أن القيادة الأميركية “تواكب تحركات ايران .. ” فحسب بل لاحتواء باطن الأرض على مخزون “أهم حقول النفط” في سوريا.
بعد توجيه ضربات قاسية مميتة لتنظيم داعش برزت تكهنات حول مصير التحالف الدولي، المكون من 73 دولة وهيئة، والذي يعتقد أنه سيتعرض لبعض التصدع جراء الانسحابات المتتالية، وربما انفراط عقده وما سيخلفه هو صيغة تحالفات جديدة تعكس حقيقة موازين القوى على الأرض.
واشنطن وحلفاؤها في لندن وباريس تحديداً تعرب عن خشية تعرض بلدانها لحملة “متجددة” من الاعمال الارهابية، لا سيما وأن عدد لا بأس به من “المتطوعين في صفوف داعش” وجد طريق عودته لتلك البلاد وعلى أهبة الاستعداد لشن هجمات نوعية بعد الخبرة الميدانية المكتسبة.
على الطرف المقابل، ناحية سوريا وحلفائها، تتجدد أيضا المطالبة بسحب القوات الأميركية من سوريا دون قيد أو شرط، لعدم تنسيق تواجدها مع الحكومة السورية بشكل قانوني أو أي غطاء قانوني دولي لها، ولسوريا بالطبع كل الحق بتثبيت سيادتها على أراضيها.
تجدر الاشارة أيضاً الى أن استراتيجية ترامب “الجديدة” تستند الى تسخير القوات الخاصة للقيام بالأعمال القتالية، مع إدراك البيت الأبيض والبنتاغون الحدود القصوى لعدد القوات التي يمكن الاعتماد عليها، مما يرجح كفة التراجع الاضطراري عن إبقاء قوات أميركية لفترة طويلة والتي ستواجه مقاومة معتبرة. كما أن الطرفين يدركان طول المدة الزمنية التي يستغرقها إعداد عنصر القوات الخاصة، التي تقرب من السنتين، وصعوبة استبدال النقص بسرعة كما يرغب صاحب القرار السياسي.
واشنطن في عصر ترامب مسكونة بالتصدي لإيران وفرض إعادة التفاوض بشأن برنامجها النووي، على الرغم من عدم تأييد حلفاء واشنطن من الموقعين على الاتفاق. بيد أن التصعيد باتجاه إيران له أبعاد داخلية بالدرجة الأولى لا سيما وأن الخطاب الإنتخابي للمرشح ترامب استند الى حشد التأييد ضد الاتفاق النووي ووعده “بتمزيقه.”
الترتيبات الميدانية الأميركية مع الجانب الروسي في سوريا فيما اتفق على تسميته “بمناطق خفض التصعيد” سيتم صرفها سياسياً حين انعقاد مؤتمر جنيف الدولي، أو ربما خلال جولة أخرى في آستانا. أي أن لها سقف زمني محدد قد لا يستمر أكثر من بضعة أشهر.
أميركا تسخر “ورقة إعادة إعمار سوريا” لمصلحة استدامة بقائها هناك، لكن هزيمة المسلحين والمتطرفين، وان لم تكن نهائية حتى اللحظة، حرمتها من المراهنة على جسم عسكري متماسك باستثناء القيام بأعمال تخريبية؛ وتلوح بربط موافقتها لإعادة الإعمار على “تعاون” الحكومة السورية وابتزازها.
في هذا السياق يرى البعض حقيقة مغزى قيام المبعوث الرئاسي الأميركي لمحاربة داعش، بريت ماكغورك، بزيارة بلدة عين عيسى بالقرب من مدينة الرقة، 16 اكتوبر، بصحبة السفير السعودي السابق لدى بغداد ثامر السبهان، والذي أعادته الرياض بعد سلسلة شكاوى تلقتها نظراً لتدخلاته في الشأن الداخلي العراقي. وعقد الثنائي المذكور سلسلة لقاءات مع أعضاء المجلس المحلي لمدينة الرقة، أتبعها بلقاء مع “لجنة إعادة الإعمار.”
مع تجريد واشنطن من فعالية “ورقتها السياسية بتشغيل المتطرفين،” تتراجع أهمية مراهنتها على التأثير بمستقبل سوريا، خاصة عند الأخذ بعين الإعتبار أن الطرف المنتصر هو الذي يفرض الوقائع السياسية، لا العكس.