المقدمة
قدم الرئيس اوباما التهاني والتبريكات للشعب الاميركي، في مؤتمر صحفي عقده نهاية الاسبوع، 18 الشهر الجاري، مدشنا بدء عطلة اعياد الميلاد والسنة الجديدة رسميا، والذي انعكس ايضا على تقلص انتاجات ونشاطات مراكز الفكر والابحاث.
في مطلع الاسبوع تجمع مرشحو الحزب الجمهوري الثمانية لمنصب الرئاسة الاميركية في مناظرة متلفزة للتنافس والمبارزة امام المشاهدين تناولت جملة مواضيع، لعل اهمها مسألة السياسة الخارجية التي يتخيلها كل منهم، وما واكب اللقاء من اصطفافات سياسية وانفلات الخطاب العنصري من عقاله في اعقاب حادث الهجوم الارهابي في ورية كاليفورنيا.
سيستعرض قسم التحليل “رؤية” فريق المرشحين للشق المتعلق بالسياسة الخارجية نحو منطقة الشرق الاوسط، وانشطار وجهات نظر قواعد الحزب الجمهوري بين الاصطفاف الى جانب المواقف المغامرة للمحافظين التقليديين مقابل مجموعة “اميركا اولا،” التي تنشد نهج العزلة والالتفات الى الداخل الاميركي. اضافة لكل ذلك سيتطرق التحليل لآفاق مؤتمر الحزب الجمهوري السنوي واستشعار مروحة من “الصفقات” السياسية الاكثر ترجيحا.
ملخص دراسات واصدارات مراكز الابحاث
تداعيات هجمة الارهاب في كاليفورنيا
حذر معهد كاتو من الانعكاسات الداخلية الناجمة عن حادثة الهجوم الارهابي في كاليفورنيا مؤخرا، في ظل مناخ تصاعد التعبيرات العنصرية المناهضة للمسلمين مما “سيشجع معسكر الصقور النفخ” بزيادة حجم وقسوة الهجمات العسكرية ضد الدولة الاسلامية، على الرغم “ما ينطوي عليه من مغامرة استدراج لمزيد من الانخراط العسكري ليس في ساحة واحدة فحسب، بل في دولتين من دول المنطقة .. وعديد القوات المطلوبة لن يكون كافيا لازاحة داعش.” واضاف انه ينبغي على المعنيين الالتفات الجاد الى ما آلت اليه “التجربة الاميركية في كل من العراق وافغانستان، مقرونتين ببضعة آلاف المليارات من الدولارات ومقتل الآلاف من الاميركيين، دون ان تسفر عن اي نتائج ملموسة.” وذكّر انصار ذلك الفريق بان الترويج للتدخل العسكري “يواكبه مغامرة من نوع آخر بالتشديد على ضرورة “الانتصار” والانزلاق في وحل حرب شاملة واحتلال لاراضي الغير .. فضلا عما سيرافقه من ارتفاع معدلات الارهاب وليس تقليصها.”
http://www.cato.org/publications/commentary/dont-let-hawks-exploit-terrorism-fears
سوريا
واكب معهد المشروع الاميركي الانباء الصحافية المتتالية مؤخرا والتي افادت بانسحاب تدريجي للقوات الايرانية من سوريا، موضحا ان ما تم رصده من تحركات “ليس الا اعادة انتشار لقوات الحرس الثوري على الارجح .. وما تكبدته من خسائر بشرية سيؤدي الى اعادة تموضع تكتيكي وليس تراجعا استراتيجيا، في الغالب.” واوضح ان ذلك الاجراء “قد يكون جزء من الخطة الاصلية المعتمدة بالاتفاق بين ايران وروسيا،” وما اتضح من ان الطرفين “سيصعدا جهودهما بكثافة لفترة تمتد من ثلاثة الى اربعة أشهر توفر (للحكومة) السيطرة على مزيد من الاراضي السورية لتعزيز موقعها التفاوضي.”
رصد معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى تواجد قوات الدولة الاسلامية في جنوبي سوريا، لا سيما “تعاظم قوتها بشكل ملحوظ عند مقارنة بما كان عليه الوضع في كانون اول/ ديسمبر 2013 او ديسمبر 2014، ويتبين ان المجموعة باتت اشد قوة وبأسا.” واضاف انه “يتيعن علينا انتظار مصير كتيبة شهداء اليرموك التي اشهرت البيعة للدولة الاسلامية العام الماضي وهل ستعلن عن نفسها جزء من داعش، كما يروج .. الأمر الذي سيترتب عليه تشديد الحصار على دمشق من ناحية الجنوب الغربي.” واردف ان داعش “قد يلجأ لاستخدام قاعدته الجنوبية كعمق استراتيجي في حال اشتد الخناق عليه في الشمال والشرق .. بيد ان المسلم به ان الدولة الاسلامية تبقي على تواجد لها في الجنوب وتتطلع لاستثماره.”
http://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/the-islamic-state-in-southern-syria
اعرب معهد كارنيغي عن شكوكه من نضوج الظروف الموضوعية لعقد “مؤتمرات السلام السورية .. نظرا لضيق الوقت لاعداد الترتيبات والتي اضافت مزيدا من التعقيد بحد ذاتها.” واوضح لفريق التحالف الدولي بقيادة اميركا ان “حكومة (الرئيس) الاسد تتمتع بفريق تفاوضي مخضرم، تستند فيه الى ذات الشخصيات في كل تفاوضاتها اجمالا، نواتها وزير الخارجية وليد المعلم ونائبه فيصل مقداد، والديبلوماسي المخضرم احمد عرنوس .. ويتمتع الفريق بميزة ديبلوماسية عالية لناحية الانضباط وادامة التركيز بخلاف قوى المعارضة المنقسمة على نفسها.” واضاف ان وفود المعارضة “اينما حلت للاجتماع في الخارج، اضحى من المألوف رؤية الديبلوماسيين الاجانب يلاحقون انصارهم في ردهات الفنادق لحثهم على تصويب المسار في الاتجاه المرسوم.”
http://carnegieendowment.org/syriaincrisis/?fa=62239
حذر معهد ابحاث السياسة الخارجية من مخاطر تفاقم الصدام بين حلف الناتو وتركيا من جهة مع روسيا “مع الاخذ بعين الاعتبار اتساع دائرة القوى المناهضة للدولة الاسلامية .. والتي بمجموعها ومن ضمنها الولايات المتحدة لا تضع في رأس سلم اولوياتها تدمير داعش.” وسخر المعهد من مساعي “انشاء جبهة موحدة ضد داعش كضرب من الخيال وما ينطوي عليها من وضع كافة اللاعبين على مسار خطير من سوء الادراك واخفاق التواصل.” واضاف فيما يخص اسقاط القاذفة الروسية ان الحادثة “اوضحت بما لا يدع مجالا للشك ان نشوب حرب بين حلف الناتو وروسيا لم يعد أمرا مستبعدا حدوثه بل هو اقرب من اي وقت مضى .. نظرا لانها المرة الاولى لتبادل الطرفين اطلاق النار منذ عهد الحرب الباردة.”
http://www.fpri.org/articles/2015/12/turkey-russia-and-nato-enter-danger-zone
مصر
اشاد معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى باستمرار العلاقات الثنائية بين مصر و”اسرائيل .. عقب سلسلة هزات اجتاحت المنطقة .. مع الاشارة الى تراجع مدى التزام مصر في مناخ مرحلة ما بعد مبارك.” واضح ان “الاستقرار لم يعد الى الواجهة الا مع صعود (عبد الفتاح) السيسي الى الحكم وبدء عصر جديد من التعاون الاستراتيجي بينهما.” كما ان استئناف الجانبين “الاسرائيلي والفلسطيني التفاوض يحتاج الى مصر كشريك فعال.” وحث الولايات المتحدة “وحلفاءها الاقليميين تجديد التزامهم بدعم اوصر علاقات قوية بين مصر واسرائيل لما تشكله من ركيزة للسلام والاستقرار الاقليمي.”
http://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/riding-the-egyptian-israeli-roller-coaster
افغانستان
رسم مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية صورة قاتمة للحرب الدائرة في افغانستان والتي لم يسفر عنها سوى “عوارض دولة فاشلة، وغياب المعلومات الاستخباراتية المفيدة .. مما حفز خروج عدد من البعثات الديبلوماسية ومنظمات الاغاثة الانسانية والمنظمات غير الحكومية” من البلاد. واضاف ان الخسارة البينة للولايات المتحدة وحلفائها ادت “لتقليصها الشديد للتقارير الرسمية وفضلت التركيز على ربح جبهة العلاقات العامة والمبالغة بمدى النجاحات على اجراء تقييم حقيقي.” اما الجانب الافغاني فيلتزم في تقاريره على التدريبات الاميركية لعناصره “باستخدام نماذج مستوفاه من التجارب الحسابية على الاجهزة الالكترونية التي تفرط في تفصيل التقديرات المستندة الى نماذج بيانية هشة.”
http://csis.org/publication/afghanistan-and-failed-state-wars-update
التحليل
السياسة الخارجية في مناظرة
مرشحي الحزب الجمهوري
تبلور معالم السباق الرئاسي
بخلاف المناظرات السابقة تميز الظهور الاخير لمرشحي الحزب الجمهوري لمنصب الرئاسة بتناول مسألة السياسة الخارجية الاميركية التي فرضتها التطورات الدولية المتسارعة، وادلى كل مرشح بدلوه، وما انطوى عليه من انفعالات وتشنجات متبادلة اغلبها مفتعلة. اللافت ان مضمون المناظرة حظي باهتماك عدد كبير من المراقبين والسياسيين لفرادة الغوص في القضايا الجوهرية الخلافية.
اداء المرشحين الابرز جاء مطابقا للتوقعات المسبقة: المرشح دونالد ترمب في الصدارة، يليه مناصفة ماركو روبيو وتيد كروز واللذين شحذا كل ما في جعبتهما السياسية من براعة خطابية للنيل من بعضهما البعض.
في الشق الأهم من السياسة الخارجية برز الخلاف بين توجهين: انصار النهج الانعزالي تحت شعار “اميركا اولا،” بوجه انصار التيار المتشدد والمغامر من صقور الحرب المطالب دوما بحماية المصالح الاميركية عبر آلية تغيير الانظمة غير الموالية والاطاحة بها بالقوة. يمثل تيار “العزلة” اقل عددا ونفوذا من نظيره التقليدي المتهور، وبرز يعبر عن نفسه بقوة اكبر نتيجة للمغامرات العسكرية المتتالية للولايات المتحدة وما اسفرت عنه من ازمات اقتصادية واجتماعية متفاقمة بعد نحو 15 عاما من التحشيد والتجييش من الحزبين، واستشراء الاعياء على مختلف الشرائح الاجتماعية.
احتل تيد كروز مركز المنافس الاول للمرشح دونالد ترمب مجسدا موقف التيار “الانعزالي،” ومستغلا حالة الاحباط العامة لالقاء اللائمة على فشل الرئيس اوباما في ادارة سياسة خارجية فاعلة – كما يروج، مما انعكس على ارتفاع جلي في نسبة شعبيته وتأييده. كروز لا يزال يحتفظ بعلاقات وثيقة مع قيادات الحزب التقليدية، نظرا لشغله منصب المستشار السياسي لحملة المرشح جورج بوش الابن، عام 2000، وتسليطه الضوء على ما يعتقده من تردد ادارة الرئيس اوباما في استصدار تشريع يتيح بموجبه مراقبة شبكات التواصل الاجتماعي كوسيلة للتعرف على المتطرفين “والمحافظة على سلامة الأمن الوطني،” التي اخفق فيها “الرئيس اوباما وهيلاري كلينتون كليهما وبعض الجمهوريين، للأسف.”
يزهو كروز بمواقفه الاخيرة واصطفافه الى جانب دعوات رفض استقبال اللاجئين السوريين في الولايات المتحدة، وتبنيه تشريعات تؤيد ذلك في مجلس الشيوخ، مما دفع به الى مقدمة القيادات الحزبية، بينما انصرفت الوسائل الاعلامية المتعددة في التركيز على تصريحات دونالد ترمب العنصرية “والمحرجة” لاغلاق ابواب الهجرة والسياحة امام المسلمين بشكل عام.
وذهب كروز الى مدىً ابعد خلال المناظرة بتركيز سهام انتقاداته على منافسه ماركو روبيو، عضو مجلس الشيوخ الصاعد والمرشح الواعد، على خلفية حملة الاخير الدعائية ضده منتقدا موقفه في مجلس الشيوخ “بالموافقة على انهاء التفويض الرسمي الممنوح لوكالة الأمن القومي لجمع والاحتفاظ ببيانات خاصة لكل فرد من افراد المجتمع،” الناجمة عن كشف المتعاقد السابق ادوارد سنودن لتغول المؤسسة الأمنية في الحياة اليومية للاميركيين.
حقيقة الأمر ان اخطبوط الوكالة لم يقيد او يجري الحد الفعلي لنفوذه الشامل، بل احيل الأمر الى ضرورة حصولها على أمر قضائي مسبق من “محكمة سرية” الانعقاد، كاسلوب التفافي على المطالب الشعبية المنادية بانهاء برنامج التجسس الداخلي برمته.
روبيو من جانبه استغل نقطة الضعف الظاهرة للانقضاض على منافسه كروز والدعوة للتشبث بدعم وتأييد وكالة الأمن القومي في كل ما تنوي انجازه دون قيود مفروضة.
قضية وكالة الأمن القومي كغيرها من القضايا المثيرة للجدل احتلت حيزا كبيرا من النقاش والتجاذب، وشهد اصطفاف المرشح راند بول الى جانب كروز في تفنيد مزاعم روبيو بأن الوكالة اسهمت اسهاما مباشرا في تعزيز الوضع الأمني للشعب الاميركي. ووجدها كروز فرصة للانقضاض مرة اخرى على منافسه الأشهر باتهامه بضعف موقفه وعدم جديته في حماية أمن الحدود الاميركية جنوبي البلاد.
لا يمكن انكار موهبة ماركو روبيو الخطابية وتسلقه معارج السياسة الخارجية بسرعة اذهلت اقرب مقربيه، وهي من أهم عناصر رصيده السياسي امام كافة منافسيه الحزبيين. اولى ضحاياه في مجال الخبرة السياسية كان استهدافه للمرشح جيب بوش الذي كان يعول عليه التفوق في هذا الجانب، واستطاع روبيو تحجيمه سريعا والحفاظ على منزلة متقدمة بين اقرانه عند المحافظين الجدد. دفاع بوش كان تقليديا الى ابعد الحدود مطالبا “حفنة المحامين التوقف عن التسلق على ظهور مقاتلي الحرب،” في اشارة الى النفوذ الهائل لشريحة الحقوقيين المهنيين داخل اروقة الكونغرس والسلطة التنفيذية.
ترمب حافظ على قدر معقول من التروي والهدوء بخلاف ادائه وتصريحاته النارية المشبعة بالعنصرية والاستفزاز، ربما عن سبق اصرار وترصد طمعا للتمسك بالمرتبة الاولى في اعين الناخبين.
في معرض دفاعه عن تصريحاته بوقف هجرة المسلمين بالكامل زعم ان الأمر “لا يقتصر على مسألة (الاتهام) بأفضلية العزلة، بل يتعلق بالأمن” القومي وما يشكله “اولئك البلطجية وقطاع الطرق من مخاطر.. انهم نفر من المفزعين.” مفاهيم ترمب السياسية سطحية وغير منقحة، في افضل الاحوال، وافصح في اكثر من محطة عن جهله بقضايا التسلح النووي والاتفاقيات المعقودة بين الدولتين العظمتين.
وتعرض ترمب الى هجوم شديد من قبل جيب بوش لاقى ترحيبا عاما باتهام الاول يمثل “مرشحا للغموض وسيكون رئيسا كارثيا .. لا يستطيع المرء الاتكال على توجيه الاهانات لمنصب الرئاسة طمعا في المركز.” في الجولة الثالثة من المناظرات تطور اداء جيب بوش الى الافضل بعض الشيء، لكن نسبة فارق تأييده لا زالت كبيرة ولم يستطع تعدي نسبة 4%.
اداء بقية المرشحين كان هامشيا في المضمون وعالي النبرة الاعلامية، جسده حاكم ولاية نيو جيرسي كريس كريستي المعروف بسلاطة اللسان والتشدد في المواقف، لا سيما تأييده المطلق لانشاء منطقة حظر للطيران في سوريا، وزيادة ميزانية الانفاقات العسكرية والمطالبة بمزيد من التدخلات العسكرية في الخارج.
تباهي كريستي بالتشدد والتطرف في المواقف حفز منافسه راند بول الى اتهامه بأنه المرشح الافضل لبدء حرب عالمية ثالثة. يشتهر بول بدفاعه المستميت ضد سياسة التدخلات الخارجية، منوها الى ان تأييد البعض لاقامة منطقة حظر للطيران في سوريا مقرونا بالتواجد العسكري المكثف لروسيا من شأنه انضاج ظروف الاشتباك بنتائج مبهمة.
جهد المرشح وحاكم ولاية اوهايو، جون كيسك، في تبرير وجوده كمنافس يحسب حسابه عبر الولوج من بوابة مؤتمر المناخ العالمي في باريس منددا بحضور الرئيس اوباما اعمال المؤتمر واتهامه برفض المطالب المنادية بالتصدي لتنامي الارهاب. وسرعان من تم تهميشه وحصر الاضواء في مجادلات الرباعي: كروز، روبيو، بول وكريستي.
وظهر المرشح من اصول افريقية، بن كارسون، على حقيقته وهشاشة مداركه في السياسة الخارجية، وخذلته استعانته بمهنته كجراح لاعصاب الاطفال لاثبات أهميته. ولقيت ردوده المقيدة بمعادلة الانعزال الداخلي استهجانا وفقدان التواصل مع الواقع، مشددا على “ضرورة الالتفات الى احتياجات الشعب الاميركي .. قبل بذل الجهود لحل قضايا الشرق الاوسط.”
المرأة الوحيدة بين المرشحين، كارلي فيورينا، لم تسعفها براعتها الخطابية من الحيلولة دون استمرار تدهور شعبيتها، رغم مطالبتها “القطاع الخاص الانخراط بقوة الى جانب الجهود الرسمية لمحاربة الارهاب،” استنادا الى تجربتها المهنية السابقة كرئيس لشركة هيوليت باكارد العملاقة. واتهمت الاجهزة الرسمية بالفشل وعدم التنبؤ بالهجمات الارهابية في بوسطن وسان برناندينو نظرا “للحالة التي يرثى لها من التخلف عن مواكبة التطورات التقنية.”
الرابح الاكبر في المناظرة، وفق استطلاعات الرأي وتوجهات الآلة الاعلامية الضخمة، كان دونالد ترمب. الرهان المستمر على قدرة المرشح ماركو روبية تخطي العقدة المكانية لم تفلح، وبقي يراوح مكانه في المرتبة الثالثة بين القواعد الانتخابية. بالمقابل، حافظ تيد كروز على مرتبته الثانية محرزا بعض التقدم، ويديم التعويل على اقلاع الناخبين عن دونالد ترمب والاصطفاف خلفه.
تجدر الاشارة الى ثغرة اجرائية في قواعد ولوائح الحزب الجمهوري التي توجز لقادة الحزب استخدام ما اصطلح على تسميته “بالخيار النووي” لاختيار مرشح الحزب عبر سلسلة من التوافقات والتنازلات تؤدي في نهاية المطاف الى تجاوز نسبة الدعم التي يتمتع بها دونالد ترمب وابراز مرشح اكثر توافقيا. ويستطيع قادة الحزب المناورة في هذا الخيار اذا لم يتمكن اي من المرشحين الحصول على الاغلبية الضرورية من المندوبين في الانتخابات التمهيدية وتشتت الاصوات على أكثر من مرشح.
“آلية “الخيار النووي
يعرف المشهد السياسي الاميركي بامكانية تبدل المرشح الحاصل على اكبر عدد من اصوات المندوبين للمؤتمر العام بمرشح آخر يتم اختياره من قبل حفنة من قادة الحزب، لاعتبارات سياسية واستراتيجية تتعلق برؤية دوره في رسم السياسة الاميركية على الصعد الداخلية والخارجية، ابرزها الابقاء على اولوية الانفاقات العسكرية في بنود الميزانية العامة.
برزت مؤشرات قوية مؤخرا على نية قيادة الحزب التوجه لحسم مسألة مرشح الحزب والاطاحة بالمرشح ترمب واستبداله بشخصية اوفر ولاءا، على مأدبة عشاء ضم رئيس مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل ورئيس الحزب (اللجنة المركزية) رينس بريبص، برفقة عدد محدود من اقوى القيادات الحزبية.
واوضحت صحيفة واشنطن بوست التي انفردت بالخبر، تمحور النقاش حول امكانية ان تؤدي مرتبة ترمب المتقدمة بين صفوف القاعدة الانتخابية الى تدخل قيادات الحزب واختيار مرشح مركزي خلال المؤتمر العام، بالاستناد الى تبرير خلو السباق من مرشح يحظى بالاجماع.
تلقت القاعدة الانتخابية النبأ بالاستهجان والقلق من نفوذ القيادات التقليدية وتحكمها بمفاصل عملية الترشيح، اذ لم تشهد عملية الترشح معضلة مشابهة منذ عام 1976 حين فاز الرئيس الاسبق جيرالد فورد بالدورة الانتخابية الاولى على منافسه رونالد ريغان، اسفرت عن بروز الثاني على حساب رغبات القواعد الانتخابية.
ما رشح للحظة عن توجهات قيادات الحزب هو حرجها من ثبات نسبة التأييد لكل من دونالد ترمب وتيد كروز، وكليهما لا يحظى برضى المؤسسة او يشكل مرشحا توافقيا. بيد ان اللجوء “للخيار النووي” باستبعاد المرشحين معا يبدو ملبد بالمفاجآت في القراءة السياسية الراهنة.
مندوبي المؤتمر العام، الذين يحق لهم التصويت “الرمزي،” يتم اختيارهم بعناية من قبل المنظمات الحزبية المنتشرة في الولايات المتعددة، والتي تبقى اسيرة ومدينة بولائها لمن اختارها. وعلى سسبيل المثال، يلجأ حاكم ولاية من الحزب الجمهوري على اختيار المندوبين استنادا الى عامل الولاء الفردي له في المرتبة الاولى باستطاعته التصرف بوجهة تصويتهم مجتمعين داخل المؤتمر، بما اصبح يعرف بمندوبين غير ملتزمين بالتصويت لمرشح بعينه.
يدلي المندوبون باصواتهم، المحسومة والمحسوبة مسبقا، لصالح مرشح تم الاتفاق عليه والذي يتعين عليه الفوز باغلبية الاصوات في الجولة الاولى لدورة الترشيح، او التمتع بحرية الانتقاء للمرشح بناء على طبيعة التصنيف الذي توصل اليه رئيس الوفد، كل على حدة، لناحية وجهة التصويت. ومن ثم يصبح بوسع رئيس الوفد عقد مفاوضات مع المرشحين طمعا في الحصول على مكاسب سياسية ملموسة، كترشيحه لمنصب وزير او ربما نائب للرئيس، تصرف الاصوات بعدها على ضوء ما تتمخض عنه المساومات والوعود.
تبدلت توازنات المشهد السياسي الراهن لصالح القاعدة الانتخابية التي باتت تمارس صلاحياتها بحرية اوسع من مجرد الاستناد الى توجهات وعود حزبية معينة؛ الأمر الذي يصب في صالح كل من المرشحين دونالد ترمب وتيد كروز، بالدرجة الاولى، ويعزز مواقفهما بشكل افضل داخل اروقة المؤتمر للضغط على توجهات القيادات التقليدية.
احد السيناريوهات المرئية يمكن ان تقود الى فوز المرشح ترمب بأغلبية اصوات المندوبين، ويأتي تيد كروز في المرتبة الثانية. حينئذ باستطاعة كروز التوجه لمندوبيه المؤيدين “لاطلاق سراحهم” والتصويت لصالح ترمب في الجولة اللاحقة، مقابل مكسب معين ربمن لمنصب نائب الرئيس. ان صدقت التوقعات بحسم اغلبية المندوبين لصالح الثنائي ترمب – كروز، فمن المرجح ان يفوز ترمب بالاصوات في الدورة الاولى للتصويت.
بيد ان المندوبين “المطلق سراحهم” غير ملزمين بالتصويت لصالح المرشح المفضل لزعيم المجموعة، مما قد يعيد خلط الاوراق في الجولة اللاحقة، الأمر الذي يدفع بالمرشحين التحكم بمفاصل عملية التصويت منذ الجولة الاولى، وفق صيغة من تم التعارف عليه من “قوائم للمرشحين،” اختيرت بعناية على الصعد المحلية قبيل ذهاب الوفود للمؤتمر العام.
لتبسيط المسألة، علينا تعقب مسار سيناريو يفترض فوز ترمب في الانتخابات التمهيدية لولاية معينة، يليه تيد كروز وماركو روبيو، على التوالي. يعقد لقاء لمندوبي الولاية بناء عليه لاختيار المندوبين للمؤتمر، ومن ثم بصبح بوسع حملة ترمب الانتخابية تقديم “لائحة” مقترحة بالمندوبين المضمون ولاؤهم للحملة ويحافظون على التصويت لصالحه في حال اضطر المؤتمر الذهاب لعقد صيغة تسووية لاختيار المرشح الحزبي.
بالمقابل، تقدم حملتي كروز وروبيو قائمتيهما بالمرشحين مضموني الولاء للتصويت لصالح ترمب في الجولة الاولى لانتخابات المؤتمر، وفي نفس الوقت “التحرر” من تلك القيود في الجولات اللاحقة والتصويت لصالح مرشحهم، كروز او روبيو. حينئذ يرسو المشهد على الشكل التالي: ولاية معينة صوتت لصالح ترمب في الجولة الاولى قد تعطي اصوات مندوبيها للمرشح كروز في الجولة الثانية. بمعنى ادق، يدلي مندوبوا الولاية المعنية باصواتهم مرتين؛ الاولى لاختيار مندوبي دائرتهم المحلية، والثانية لاختيار مندوبي الولاية.
في ظل التوازنات الدقيقة الراهنة يصبح بوسع فريق المرشح تيد كروز بذل اقصى الجهود لضمان فوز قائمته المرشحة على صعيد الولاية برمتها؛ لكن النتيجة النهائية ليست مضمونة وليس هناك من ضوابط او عواقب تفرض على مندوب يعطي صوته لصالح مرشح آخر غير المتفق عليه.
لتقريب المسألة دعونا نفترض ان ولاية “أ” يحق لها اختيار وفد من المندوبين قوامه 50 فردا تذهب اصواتهم لصالح المرشح ترمب في الجولة الاولى للترشيح، قد تتضمن تشكيلة الوفد نحو 18 مندوب من دوائر انتخابية محلية (بمعدل 3 مندوبين لكل دائرة)، والباقي 32 مندوب فازوا بالترشيح العام عن الولاية.
في حال فازت قائمة المرشح تيد كروز بالاصوات، مقابل دائرتين انتخابيتين لكل من ترمب وروبيو وكروز، فان الجولة الثانية للترشيح في المؤتمر قد تسفر عن تشكيلة وفد ذهبت اغلبية اصواته لصالح المرشح دونالد ترمب في الجولة الاولى، ورسى على توزيع اصوات اعضائه بنسبة 38 لصالح كروز، 6 اصوات لكل من روبيو وترمب.
الأمر الذي سيضطر قادة المؤتمر العام اعتماد صيغة تسووية، كما يطلق عليها، مما يشترط توفر اغلبية الاصوات لجانبها في كافة الدوائر المحلية ومؤتمر الولاية المحلي، وجولة تصويت مستقلة على صعيد مندوبي الكونغرس.
في الحالة المفترضة اعلاه، اغلبية الاصوات المحلية وعلى مستوى الولاية تذهب لصالح ترمب او كروز، حينها يصبح من شبه المستحيل على القيادة الوطنية للحزب تحويل وجهة تصويت القواعد الانتخابية لصالح مرشح مفضل للمؤسسة، مثل ماركو روبيو او جيب بوش.
محصلة المشهد تتمحور حول اي من الحملات الانتخابية المتعددة باستطاعتها الفوز باغلبية الاصوات في الانتخابات التمهيدية للولايات تباعا. وليس من المستبعد رؤية سعي كافة الحملات للترويج وتسويق قوائم مندوبيها على صعيد الولاية كوسيلة احتياطية في حال اضطرار المؤتمر الذهاب الى خيار التسوية. طبعا هذا جانب من تعقيدات النظام الحزبي الانتخابي في الولايات المتحدة وسيكون لنا زيارة تحليلية أخرى لتناول الامر في حال حدوث ما يبرر اللجوء الى المناورات الانتخابية داخل مؤتمر الحزب الجمهوري.