المقدمة
تمحورت ابرز القضايا السياسية مؤخرا حول قراراي الرئيس اوباما: الاول لعدم استخدامه حق الفيتو ضد قرار مجلس الأمن بعدم شرعية المستوطنات؛ والثاني قراره الرئاسي بانزال عقوبات جديدة ضد روسيا على خلفية اتهامها بالقرصنة الالكترونية والتاثير في نتائج الانتخابات الرئاسية، باغلاق مركزين لها مع ترحيل نحو 90 فرد بين مسؤول ورعية، واجراءات اخرى احجم عن الاعلان عنها.
سيفرد المركز حيزا كبيرا لمناقشة مستقبل العلاقات الثنائية بين روسيا واميركا، خاصة فيما يتعلق بتقاطعاتها في الشرق الاوسط، وقلق حلفاء الولايات المتحدة الاقليميين بأن نفوذها في تراجع لتحل روسيا محله. كما سيتطرق قسم التحليل الى ما بقي في جعبة الرئيس اوباما من خيارات واجراءات قد يقدم عليها قبل مغادرته منصبه، في سعي محموم لتقييد حركة الرئيس المقبل ورؤيته المغايرة لارساء علاقة ثنائية مع روسيا تميزها الشراكة والتعاون بدل الصدام والمواجهة.
ملخص دراسات واصدارات مراكز الابحاث
قرار المستوطنات بين اوباما وترامب
استشعرت اقطاب المؤسسة الحاكمة “خطرا” على “اسرائيل” تسبب فيه قرار الادارة الاميركية بعدم استخدام حق الفيتو ضد قرار مجلس الأمن الخاص بعدم شرعية المستوطنات. ولقي الرئيس نفسه وحيدا في الساحة السياسية اذ تخلى عنه قادة حزبه الديموقراطي وخصومه الجمهوريين لما اعتبروه انه يقوض هيبة “اسرائيل” الاقليمية ومكانتها العالمية. واوضح معهد المشروع الاميركي ان القرار الأممي “يفترض توفر آلية قانونية ملزمة للطرفين .. بيد ان الأمر غير ذلك.” واضاف ان ما يتبين للمرء ان هناك “نزاع حول الجهة السيادية في مناطق الضفة الغربية المختلفة؛ وعليه فان المسألة الجوهرية ليست في وضعية المستوطنات، بل من هي الجهة التي لها حق السيادة والقرار على اراضي الضفة الغربية وهل ستتم مناقشتها وحلها على طاولة المفاوضات او على ساحة المعركة.”
وفي سياق مكمل، اضاف معهد المشروع الاميركي ما اعتبره “اجابات مقترحة لترامب للرد على قرار الأمم المتحدة،” معتبرا ان لدى الرئيس اوباما “كراهية تجاه رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو،” واستغل الفرصة السانحة في الامم المتحدة “لتسديد ضربة في نهاية ولايته بالامتناع عن التصويت في مجلس الأمن.” واوضح ان السلوك الاميركي في الهيئة الدولية جاء بمثابة “تراجع وتقويض للسياسة الاميركية القائمة منذ عقود، وتراجع ايضا عن الضمانات التي قدمت ابان توقيع اتفاقيات اوسلو ..” خاصة لقبولها الضمني “اعلان بلدة القدس القديمة اراضٍ فلسطينية محتلة.” من بين “الارشادات المقترحة” لترامب وفق ما يراها المعهد “قطع التمويل عن وكالة الغوث الخاصة باللاجئين الفلسطينيين؛ نقل مقر السفارة الاميركية الى القدس؛ اغلاق بعثة التمثيل الديبلوماسي للسلطة الفلسطينية في واشنطن؛ اعلان اتفاقيات اوسلو لاغية ومنتهية الصلاحية؛ انهاء العمل بالخدمات التي تقدمها القنصلية الاميركية في القدس الشرقية؛ مبادرة الكونغرس لانزال عقوبات بالسلطة الفلسطينية وقطع التمويل المخصص؛ تصنيف وزارة الخارجية الاميركية منظمة التحرير الفلسطينية كمنظمة ارهابية؛ تعليق كافة حصص الولايات المتحدة المالية للأمم المتحدة لحين تطبيقها اصلاحات داخلية ..”
ذكّر المجلس الاميركي للسياسة الخارجية بوعود ترامب الانتخابية والتزاماته بأمن “اسرائيل” خاصة تلك التي ادلى بها امام المؤتمر السنوي لمنظمة “ايباك،” شهر آذار الماضي “ووعده بنقل مقر السفارة الاميركية الى العاصمة الابدية للشعب اليهودي، القدس.” واوضح ان ذلك الوعد قد نشهد تحقيقه في المدى القريب نظرا لاختيار ترامب ديفيد فريدمان كسفير اميركا لدى تل ابيب، وما رافقه من انتقادات حادة واعتبار يومية نيويورك تايمز الخطوة “جنونية.” واوضح المجلس ان العاصفة المثارة حول مقر السفارة ينبغي الا يفاجيء احدا خاصة وان قرار نقل المقر “اتخذه الرئيس الاسبق بيل كلينتون عام 1995، ودعمه لفظيا كل الرؤساء منذئذ.” واضاف ان نقل السفارة للقدس “سيؤدي الى اعادة تنشيط المسار السلمي بخلاف ما يراه الطرف الآخر بأنه سيدق آخر مسمار في نعشه.” واستطرد المعهد ان نقل السفارة سيشكل “خطوة كبرى على طريق حسم وضع مدينة القدس كعاصمة لاسرائيل، أمر احجمت على اتخاذه الولايات المتحدة منذ قرار التقسيم عام 1947.”
http://www.afpc.org/publication_listings/viewArticle/3387
التطرف الاسلامي
نبه مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية اركان المؤسسة الحاكمة الى بعض الانجازات الهامة التي حققتها ادارة الرئيس اوباما “في تعزيز الاجراءات الأمنية في الداخل الاميركي وكذلك في جهود مكافحة الارهاب العالمي، واعادت هيكلة اولوياتها بانشاء شراكة أمنية مع دول اسلامية ورفع مستوياتها الى السقف الذي تراه ضروري لمكافحة الارهاب. واضاف ان “قلة من صناع القرار الاميركيين يدركون أهمية تشكيل شراكات استراتيجية بين الولايات المتحدة ودول العالم الاسلامي.” واردف انه يتعين على النخب السياسية الاقرار ليس بنجاح تلك الجهود فحسب، بل ان “معظم الجهود الاميركية تتمركز حول التهديد الآني الذي يمثله داعش، وتداعياته على الداخل الاميركي واوروبا .. خاصة وان محاربة التطرف الاسلامي تدور رحاه داخل ساحات الدول الاسلامية عينها.”
https://www.csis.org/analysis/rethinking-threat-islamic-extremism-changes-needed-us-strategy
ترامب والتقارير الاستخباراتية
اشار معهد كاتو الى الجدل الدائر حول مفاضلة ترامب الاطلاع على التقارير الاستخباراتية “مرة في الاسبوع بدل الاطلاع عليها يوميا .. تجسيدا لازدرائه المؤسسات الأمنية” التي يتهمها بأنها تتحمل القسط الاوفر من مسؤولية شن حروب لا مبرر لها. الا ان سهام الانتقادات ضده دفعت بفريقه الانتقالي الى الاقرار بأنه يتلقى “التقرير الاستخباراتي ثلاث مرات في الاسبوع، اضافة للتقارير اليومية التي يعده لها مرشحه لمنصب مستشار الأمن القومي.” واوضح المعهد ما يدور في خلد ترامب بالاشارة الى تبريره الذي بثته شبكة فوكس نيوز مؤخرا بالقول “انني كأي فرد ذكي وفطن، لا يتعين علي الاصغاء الى الرواية عينها بمفرداتها المكررة يوميا طيلة السنوات الثماني المقبلة .. لست بحاجة لذلك.” واستدرك المعهد بالقول ان مضامين التقارير الاستخباراتية “لا تشكل ضجر المتلقي فحسب، بل عادة ما تحث على الترهيب” كاسلوب ضغط على الرئيس لاتخاذ قرارات موازية لاصحاب التقارير السرية.
https://www.cato.org/publications/commentary/why-it-could-be-good-trump-skip-some-intelligence-briefings
ترامب والشرق الاوسط
استعرض معهد واشنطن لسياسات الشرق الاوسط مسار التحولات السياسية الاميركية بعد انتخاب دونالد ترامب وما تحمل في طياتها من متغيرات لدول الاقليم، استهلها بالاشارة الى “حالة الاحباط المستمر (بين) القوى العربية التقليدية” من سياسات ادارة الرئيس اوباما خاصة لسعيه “احداث توازن داخلي في الشرق الاوسط عبر القوى المحلية دون التزام اميركي مباشر مع الحلفاء التقليديين .. توجه بالاتفاق النووي مع ايران.” ووصف مشاعر الدول الحليفة لاميركيا بأنها “مزيج بين الأمل والتوجس،” مستدركا بالقول ان “الدول المغاربية عموما والجزائر خصوصا لا تبدو قلقة من انتخاب ترامب اذ تتطلع لاستمرار الشراكة الاقتصادية والأمنية مع الولايات المتحدة .. باستثناء ليبيا نظرا للقلق السائد من امكانية ادارة ترامب ظهره لدعم حكومة الوفاق الوطني.” واضاف ان “تركيا والسعودية ستعملان على استعادة الثقة المفقودة” مع اميركا والرهان على ان ترامب سيلجأ “لتصعيد لهجة التوتر مع طهران والعمل على الحد من نفوذها .. بل ان ذلك لا يعني ان سياسة ترامب ستكون سهلة تجاه السعوديين والاتراك،” معربا عن اعتقاده اقدام ترامب على تعزيز الجهود الاقليمية “لمحاربة المتطرفين الاسلاميين .. وتحييد عناصر الصراع الطائفي.” واردف المعهد ان ترامب “لم يكشف حتى الان عن جميع اوراق (تعامله مع الشرق الاوسط) ويبدو المستقبل معه غامضا (بالنسبة) لحلفاء اميركا” الاقليميين، لا سيما لناحية نيته ارساء “ارضية تفاهم اميركية روسية .. لمواجهة التحديات الرئيسية مثل محاربة داعش وتحقيق انتقال سياسي في سوريا ..” وحث المعهد “النخب السياسية والاعلامية في المنطقة .. عدم تجاهل لب الموضوع وهو ضرورة الدعوة الى تعزيز الممارسة الديموقراطية في بلدانها واجراء انتخابات شفافة يتشوق العالم لمعرفة نتائجها.”
http://www.washingtoninstitute.org/fikraforum/view/trump-and-the-middle-east-between-hope-and-apprehension
سوريا
تناول معهد كارنيغي مرحلة ما بعد تحرير حلب والخيارات المتاحة امام القوات السورية والى اين ستتجه” “شرقا لمواجهة تنظيم الدولة الاسلامية، ام غربا وجنوبا لدحر معاقل المعارضة في (محافظة) ادلب وحول مدينة درعا؟ .. مرجحا استمراره السعي لالحاق الهزيمة بالمعارضة في الاجزاء الغربية من سوريا، بدلا من مقارعة الدولة الاسلامية.” واستبعد المعهد كذلك توجه القوات السورية وحلفاءها “شن معركة لاستعادة الرقة (طمعا) في حصد مكافآت سياسية .. فكلا الطرفين السوري والروسي يصران على نيل الاعتراف من الولايات المتحدة بصفتهما شريكين على قدم المساواة في الحرب ضد الدولة الاسلامية.” وفي سياق استقراءه للتكتيك السوري اعرب المعهد عن اعتقاده بالتركيز على حلب “تحقيقا لتعهد الاسد في اواسط تشرين الاول / اكتوبر (الماضي) باستخدام حلب كمنصة انطلاق الى مناطق اخرى،” مما سيضاعف اعتماد ما تبقى من المسلحين على “الدعم والاذن التركي .. الذي لن يتخل عن المعارضة في ادلب في اي وقت قريب.” اما في الجبهة الجنوبية، درعا، فيعتقد المعهد ان “انياب الجبهة الجنوبية قد انتزعت، لكم مركز العمليات العسكرية (الموك) يريد الابقاء على المعارضة المسلحة .. لاستخدامها كورقة في المفاوضات اللاحقة مع روسيا ونظام الاسد.”
http://carnegie-mec.org/diwan/66481?lang=en
التحليل
هل ينجح اوباما في تعطيل تفاهم واعد
بين بوتين وترامب
ارتباك ادارة الرئيس اوباما المتكرر في معالجة الملفات الدولية، خاصة سوريا، استحضر فيها تجديد المشاعر المعادية لروسيا، لا سيما وان العلاقة الخاصة بين الرئيسين اوباما وبوتين لم تكن يوما على ما يرام، اقله في الحد الادنى.
السفير الاميركي السابق في روسيا، مايكل ماكفول، اوضح بعض دوافع الادارة الاميركية “للانتقام من روسيا” تفسرها العودة الى لقاء جمع الرئيسين على هامش الدورة السنوية للامم المتحدة عام 2015، التي لم تمضِ عليها 48 ساعة حتى فاق العالم على انطلاق القاذفات والصواريخ الروسية لدك مواقع المجموعات المسلحة في سوريا.
في لقائه جنود اميركيين باحدى القواعد العسكرية احياء لذكرى الحادي عشر من سبتمبر، 11/9/2015، خاطبهم اوباما قائلا “إن الاستراتيجية الروسية في دعم نظام بشار الأسد في سوريا آيلة إلى السقوط .. ”
آنذاك اتهم الكونغرس الادارة الاميركية وكل ما تمثله بانها ارتكبت “فشلا استخباراتيا” من الطراز الاول وأُخذت على حين غرة من قرار الرئيس بوتين. ردت الادارة بأنها كانت “تراقب التحركات الروسية وعلى علم بتحشدها في سوريا، وكنا نعتقد انها لاستعراض القوة او لاجراء مناورات مفاجئة.” ماكفاول علق على ذلك بالقول “حتى لو لم يفاجئنا الروس ماذا كان يتوفر لدينا من خيارات؟”
العلاقات الاميركية مع روسيا بند ثابت لا يتغير على اجندات الحكومات الاميركية المتعاقبة، تتحكم في آفاقه العقلية الاميركية والشعور بالتفوق والاحادية في تقرير مصير العالم، “احادية الهيمنة،” رغم كل التحولات الدولية وفشل الحروب الاميركية، المباشرة وغير المباشرة، التي بدأت ملامحها تؤتي ثمارها تراجعا في نطاق النفوذ الاميركي وارتفاع منسوب قلق حلفاء واشنطن واعوانها، لا سيما في ساحة الاشتباك في الشرق الاوسط.
استحدثت المؤسسة الاميركية الحاكمة مشاعر العداء “والهلع من السوفييت،” في الماضي القريب لتعيده بصيغته الجديدة التخويف من روسيا الصاعدة؛ الأمر الذي يفسر انصياع كافة التيارات السياسية الحاكمة لدعوات اجهزة الاستخبارات، وعلى رأسها السي آي ايه، بانزال اقسى العقوبات على روسيا، حتى ان البعض طالب باستهداف الرئيس بوتين شخصيا وشمله ضمن قرار العقوبات!
اذن نحن امام مرحلة تبشر بالصدام بقرار اميركي على كافة المستويات القيادية، اقله لقطع الطريق على الرئيس المقبل وتقييد حركته “المهادنة” نحو موسكو – كما يجمع اقطاب المؤسسة. لو اردنا التدقيق والتمحيص “بالرواية الرسمية” الاميركية نجد انها تستند الى العناصر التالية، كما اوجزتها اسبوعية ذي نيشن، 29 ديسمبر 2016:
“كل ما يصدر عن المؤسسة الرسمية ينبغي تبنيه كأنه حقائق وحكم عامة مسلم بها؛ الادلة المادية لا تهم، وان توفرت فهي متناثرة ويصعب اخضاعها للتدقيق والتثبت من قبل هيئات محادية نسبيا؛ الرواية تتضمن مزيج من معلومات خاطئة او مجتزأة عن طريق التجاهل؛ هي مصدر الخداع والتضليل.”
احد اهم خبراء الشأن الروسي والصحافي بيومية نيويورك تايمز، ستيفن كوهين، حذّر حديثا من تفاقم الازمة قائلا “نحن على ابواب اخطر مرحلة صدام مع روسيا منذ أزمة الصواريخ الكوبية.” واضاف في مقابلة مع على شبكة الراديو العامة، 15 ديسمبر الجاري، مع المذيعة المرموقة آيمي غودمان “ينبغي علينا الاسراع في مناقشة المسألة على نطاق واسع .. الاجواء العامة الراهنة تعيق وتكبل النقاش الجاد خشية من الصاق التهم الجاهزة بأن كل من يختلف مع السردية الرسمية هو عبارة عن تابع ووكيل لبوتين.”
وشدد الصحافي على ان صحيفته نيويورك تايمز هي احدى تلك المنابر الجاهزة لالقاء التهم “الى جانب اعضاء مجلس الشيوخ” الصقور. بعبارة اخرى، يوضح كوهين، ان “تيار الحرب في المؤسسة الحاكمة يقف على نقيض رغبة ترامب في التعاون مع روسيا وعازم على وقف اي توجه له قبل ان يتجذر .. وشيطنة بوتين بأنه مجرم حرب.”
وفق التوصيفات والتحذيرات اعلاه يبدو وكأن المعني مباشرة هو تيار الحرب ممثلا بالسيناتور جون ماكين واعوانه الذي الصق تهمة “الكذب والرياء” سلفا بكل من يخالف الرواية المعادية لروسيا، مبشرا بانتعاش مناخ “المكارثية” الشائن. التيار عينه في الحزبين كان من اشد الداعمين لترشيح هيلاري كلينتون للرئاسة.
المشهد الدولي الراهن يتسم بعودة “اللعبة الكبرى” بين الولايات المتحدة وروسيا، تعزز فيها الاولى التمدد العسكري لقوات حلف الناتو والتحرك لتشكيل وضعية حصار حول حدود روسيا الطبيعية؛ القاذفات الاستراتيجية الروسية تحلق بالقرب من الاجواء الاميركية ودول الحلف الاخرى؛ تتربص القوتين ببعضهما البعض في ساحات الاشتباك الملتهبة في سوريا ومناطق اخرى.
بعيدا عن التبرير الرسمي حول “تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية،” التي لا تستقيم امام جهود تمحيص صادقة، بل شكك بها كبار الشخصيات وبعض الهيئات الرسمية الاميركية، ابرزها مكتب الحقيقات الفيدرالي – اف بي آي؛ لكن صخب الهوس بروسيا اسكت كل ما عداه. فالثابت ان اقطاب المؤسسة الحاكمة، وعلى رأسها مجلس الأمن القومي ووكالة الاستخبارات المركزية تنظر بريبة شديدة لكل توجهات تتحدى او تنتقد “السياسة الاميركية وتجلياتها الاقتصادية والعسكرية على الصعيد العالمي وتتهمها بأنها موسومة باللون الاحمر،” دلالة على شعار النظم الاشتراكية في الصين والاتحاد السوفياتي، وخليفته روسيا حتى بعد تبنيها النظام الراسمالي.
تجديد رواية العداء لروسيا، وامتدادا الصين، يعود بمنافع اقتصادية واجتماعية جمة على الداخل الاميركي تحديدا وتبريرا لسردية “قيادة اميركا للنظام العالمي.” رافقها اجماع تيارات المؤسسة على ضرورة “زيادة الانفاق العسكري،” حتى في ظل رئاسة باراك اوباما وتحديثه الترسانة النووية.
في الشق المتعلق بالحزب الديموقراطي وقياداته، حظي الرئيس اوباما بازدراء لا يخفى على ناظره على خلفية تعثر وتخبط سياسته الخارجية التي يعتبرونها مصدر اخفاق وخيبة أمل لهم؛ واتهامه بأنه لا يتحلى بالكفاءة والحنكة في معالجة تحديات السياسة الخارجية، وما اعلانه “التوجه” نحو الشرق الاقصى الا محاولة للقفز عن معالجة ازمة تلو اخرى نتيجة التسرع في اتخاذ المواقف.
يشار الى ان وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، عرضت على روسيا عام 2009 خطة “اعادة تفعيل” العلاقات معها كحسن نية الادارة الجديدة للعمل المشترك مع موسكو؛ وفي عام 2012 التقط مايكروفون مفتوح حديث خاص للرئيس اوباما يعرض على الروس ان يبذلوا جهودا اكبر للتعاون الثنائي بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية لذلك العام.
وما لبثت الادارة الاميركية ان صوبت سهام انتقاداتها على روسيا عقب أزمة اوكرانيا، وحركت قطعاتها العسكرية في مياه البحر الاسود وبالقرب من الحدود الروسية وتموضعت في دول البلطيق وبولندا، ونفذت واشنطن عقوبات ضد روسيا ضمت اليها دول الاتحاد الاوروبي بعضها بالاكراه والتهديد، وتصاعدت وتيرة الازمة بينهما خلال الازمة السورية.
التحول الاميركي الى الشرق الاقصى حث روسيا ايضا على النظر شرقا وتعزيز علاقاتها مع الصين، التي قامت بدورها بتحدي الوجود الاميركي العسكري بالقرب من مياهها الاقليمية.
مراهنة اقطاب المؤسسة الاميركية الحاكمة ودعمها الثابت للمرشحة هيلاري كلينتون اعاد للواجهة بعض الفرضيات في السياسة الاميركية، والتي كانت ستجسدها كلينتون بنظرهم لان نسبة نجاحها لم يكن يشوبها شك، وتستحدث اجواء الحرب الباردة بصيغتها الجديدة.
يشار في هذا الصدد الى التزامن المريب في توجيه الاتهامات بالتدخل الى روسيا قبل بدء عملية التصويت التي خذلت مراهنات المؤسسة الحاكمة. فالسيدة كلينتون كانت تتقدم في معظم استطلاعات الرأي، وحشدت دعما لا بأس به من تيارات سياسية وقيادات مختلفة، من الحزبين، واركان السلطة واجهزتها الأمنية. بل تعمدت حملتها الانتخابية الى الترويج بعدم أهلية منافسها ترامب لقيادة البلاد، مستشهدة بقلق بعض المؤسسات الأمنية من فوزه.
احد ابرز قيادات الحزب الديموقراطي من التيار الليبرالي، آدم شيف، وجه نقدا حادا للادارة الاميركية لعدم اقدامها على اتخاذ مواقف مناسبة “ضد روسيا” في وقت مبكر اذ توفرت لها “الدلائل” على تدخلها كما زعمت. واوضح “لا اقبل القول ان الادارة لم يكن بوسعها التحرك مبكرا (قبل نتائج الانتخابات) نتيجة عدم توصلها لدلائل وقرائن تعزز الاتهامات. الادلة كانت واضحة منذ زمن طويل وقبل توجه الادارة للاعلان عنها،” مشيرا الى سعيه في شهر ايلول الماضي الايحاء بالأمر نظرا لعضويته في لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ.
الاجراءات “العقابية” المعلنة ضد روسيا تشوبها بعض الاشكاليات القانونية والتنفيذية على السواء. البعض يشير الى ان “تسفير” نحو 35 عنصر روسي من واشنطن لا يشكل عقوبة بالمعنى الصرف، وعادة ما تلجأ الدول لذلك الاسلوب في معادلة المعاملة الندية. بيد ان رد الرئيس الروسي “المفاجيء” بعدم الرد بالمثل وترحيل ديبلوماسيين اميركيين القى ظلالا من الشك حول فاعلية الاجراء الذي يستطيع الرئيس المقبل ابطال مفعوله بعد انقضاء 21 يوما على اتخاذه – كما يؤكد الخبراء الدستوريين.
قرار الرئيس الروسي وصفته يومية نيويورك تايمز، 30 ديسمبر، بانه “رمى لنزع مبررات الاميركيين المعادين لروسيا، بمن فيهم اعضاء في الكونغرس الذين يفضلون قراءة (بوتين) على انه عدو شرس للولايات المتحدة.” واضافت ان بوتين “سياسي حاذق ويميل لاتخاذ اجراءات غير مرئية .. وارسل تحذيرا لواشنطن بأنه ينتظر قدوم الادارة المقبلة،” وبذلك وفّر للرئيس المقبل ترامب “ارضية مناورة جديدة لتحقيق علاقات اوثق مع روسيا كما اعلن” خلال حملته الانتخابية. ترامب سارع الى النأي بنفسه عن الاجراءات بطمأنته الشعب الاميركي لضرورة “العودة للاهتمام بقضايا اكبر وأهم.”
بعض الخبراء في واشنطن يرجحون اقدام الرئيس اوباما على اتخاذ اجراءات “ضعيفة” ضد روسيا “نظرا لعجزه تبني اجراءات احادية الجانب اتساقا مع القوانين السارية حاليا،” التي تمنح الرئيس الفرصة اتخاذ ما يراه مناسبا “ضد ما يستشعره تهديدا للأمن القومي الاميركي او استقرار النظام المصرفي،” ولم يكن بمقدوره تقديم اثباتات قاطعة على ارتقاء القرصنة الى مستوى هذه التهديدات. لكن مساعي معسكر توتير العلاقة مع موسكو سيستمر عبر “قراصنة” لجان الكونغرس التقليديين المعادين لروسيا لتعطيل او عرقلة اي تفاهم محتمل بين بوتين وترامب بعد تسلمه الرئاسة، وسيكون احد الاختبارات الاولى كيفية تعامل هذه اللجان مع مرشحي ترامب لمنصبي الخارجية والدفاع تحديدا في جلسات المناقشة للتصديق على اختيارهما.