ثمة اجماع عام بتراجع اداء الرئيس اوباما امام خصمه ميت رومني الذي ظهر على غير سجيته المعروفة ووالذي التزم الدقة والتركيز واتقن فن السجال الخطابي. ويمكن القول ان ابرز تعبير عن الاحباط وخيبة الامل داخل معسكر اوباما كان في صعود عقيلته وابنتيه المسرح دون التلفظ بكلمة، ثم المغادرة سريعا بشكل جماعي. اما المرشح رومني فقد طال بقاؤه وعائلته وبعض مؤيديه على المسرح وكأنه في كرنفال.
اصيب فريق اوباما للحملة الانتخابية بالاحباط لاداء مرشحه الذي كان باستطاعته قول الكثير واحراج خصمه؛ لكنه فضل التخلي عن كسب الجولة طواعية. فماذا حصل؟
البعض يعلل الأمر بعدم استعداد اوباما كاملا قبل المناظرة، استنادا الى ما صرح به قبل الموعد المنتظر بأن فريقه الانتخابي “يحثه على مواظبة واتمام واجب التحضير،” كأنه واجب دراسي. البعض الآخر يعزوه الى اللعنة الانتخابية التي تلازم الرئيس الراهن، اي كان، فهو مشتت الفكر وضعيف التركيز لكثرة مشاغله وهمومه. اذ للمرة الاولى منذ ولايته يعتلي خشبة المسرح ليس منفردا، بل كنظير لطرف آخر يزاحمه الاهتمام والفطنة، بل الدعابة والاحترام؛ اذ شعر بتحدي الآخر لكل ما جاء لطرحه امام الجمهور دون اذعان خصمه لهيبة منصب الرئاسة المفترضة. واوباما لا يشكل استثناء للقاعدة المذكورة، اذ عانى كل من الرئيس الاسبق ريغان والسابق جورج بوش الابن من معضلة مماثلة امام الملأ.
فريق المشككين، في الجانب المقابل، ذهب بالقول ان اوباما جهد في تجنب مواجهة القضايا الشائكة سابقا، وفضل الظهور السلس عبر بعض المقابلات المتلفزة لبرامج خفيفة الظل. وعليه، ظهر حائرا في معالجة القضايا المطروحة بجدية وتحد.
اما رومني، الذي جاء على خلفية توقعات باهتة قبيل المناظرة ، فقد دخل مسلحا بقوة فكرية وخطابية، وسحب البساط من تحت اقدام خصمه اوباما في تناوله المبكر لبرنامجه الاقتصادي والاجتماعي المثير للجدل لدعم الطبقة الوسطى، والتي تشكل جزءا حيويا من الناخبين وخاصة في الولايات المحورية المتصارع عليها. اذ ارخت الازمة الاقتصادية ظلالها المأساوية على اوضاع الطبقة الوسطى وتحسست تردي احوالها باكرا مقارنة بما كانت عليه قبل اربع سنوات من ولاية اوباما الرئاسية. طرح رومني القوي والمباشر اكسبه ثقة كل من تابعه لا سيما لتقديمه غير المتوقع لبعض تفاصيل برامجه وسياساته لتحقيق اهدافه المطروحة. وعلى صعيد السجال الخطابي، نجح رومني في تسجيل عدد من النقاط الجوهرية ضد خصمه واظهر التزاما وطرحا موضوعيا بعيدا عن الشعارات الانتخابية التي طبعت حملته، مما فوت الفرصة على الرئيس اوباما لمحاججته بنجاح وموضوعية. كما ان التفاصيل البصرية التي نقلتها شاشات التلفزة بتوجهه لمخاطبة خصمه وكذلك النظر مباشرة للكاميرا ساهمت في تعزيز ادائه وربما صدقه لدى المشاهدين.
في المقابل، طبع الارتباك والتردد اداء الرئيس اوباما، مما فسره البعض بانه عائد لافراط اعتماده على شاشة التلقين الجاهزة في نقل افكاره. وعلى غير عادته في الظهور العلني فقد اظهر تضعضع ثقته في برامجه وخططه وانجازاته خلال فترة ولايته. اما لغة عيونه فقد عكست ما يعتمره من قلق داخلي، وفضل تركيز انظاره الى الاسفل بدل النظر مباشرة الى المشاهدين.
بؤس اداء اوباما لن يكون مدمرا لحملته الانتخابية، اذ امامه جولتي مناظرة مقبلتين باستطاعة فريقة الانتخابي اعداده بافضل مما كان في الجولة الاولى.
من نافل القول ان المناظرات الرئاسية لا تلعب دورا حاسما في حسم الفوز في الانتخابات، بل هي ثمة مناسبة لتكريس انطباع وتصور عام؛ وتوفر فرصة للتحدث مطولا الى الجمهور الاميركي بعيدا عن تدخل وسائل الاعلام وخياراتها للتغطية، بالنسبة للمرشح المنافس. ففي عام 1980، اغتنم رونالد ريغان الفرصة لاسقاط صفة المتشدد عنه كما درجت وسائل الاعلام على توصيفه سابقا. كما تجدر الاشارة الى ان المناظرة الاخيرة فسحت المجال لميت رومني الظهور بمظهر الرصانة والثقة بالنفس والالمام بالحقائق في مواضيع شتى، اكسبته ثقة الناخب المتردد اصلا. لعل ذلك العامل هو اهم ما تمخضت عنه جولة المناظرة التي اتت لصالحه حتما.
ما لم يبرزه السجال المذكور كان نتائج استطلاعات الرأي الحديثة التي دلت بوضوح على التقارب الشديد لمكانة المرشحيْن بين جمهور الناخبين، وعامل فوز احدهما سيستند الى قدرة الطرفين على حشد ومشاركة اكبر عدد من انصارهما يوم الانتخابات التي تعد العامل الحاسم ربما في النتيجة النهائية. وعليه، يمكن متابعة وادراك الاهمية القصوى لاداء رومني بغية كسب ثقة قاعدته الانتخابية، لا سيما الشرائح المتأرجحة والمتشددة في مغالاتها وتطرفها، على السواء، في حزبه الجمهوري، واقناع الجمهور العام للاقلاع عن النظرة العامة بأن شعبية اوباما كاسحة ستكسبه الانتخابات بيسر، والتعويل عليه كمنافس شرس المراس. واستطاع رومني فرض برنامجه على السجال الاعلامي وفطنته لابراز نواقص وبؤس اداء الرئيس اوباما مما عزز شعبيته لدى جمهوره الانتخابي.
محورية ولاية اوهايو وامكانية ميلها لصالح الحزب الديموقراطي
نتائج الاستطلاعات المتتالية لولاية اوهايو شكلت قلقا واسعا في اوساط الحزب الجمهوري، اذ دلت بثبات تقدم الرئيس اوباما على خصمه الجمهوري بفارق لا بأس به. دور ولاية اوهايو المحوري يشكل هما اكبر بكثير مما تعكسه اصواتها الانتخابية الثمانية عشرة (18). دلالتها التاريخية تكمن في ثباتها على التصويت لصالح المرشح الفائز في الانتخابات الرئاسية منذ عام 1944، باستثناء انتخابات عام 1960 بين جون كنيدي وريتشارد نيكسون. اما الولايات المحورية الاخرى المتصارع عليها، نيفادا وكولورادو ونورث كارولينا، فتشير نتائج الاستطلاعات الى تقارب شديد بين المرشحيْن، مقابل تفوق بارز لصالح اوباما في ولاية اوهايو.
عند هذا المنعطف، ينبغي ادراك العوامل التي ادت بتلك الولاية المركزية الميل لصالح الحزب الديموقراطيي في الجولة الانتخابية الراهنة، مع الاخذ بعين الاعتبار احتمال عدم تجاوب ناخبيها مع برنامج ميت رومني.
ولاء الجمهور الانتخابي في اوهايو ينقسم الى قسمين، الجزء الريفي في غرب الولاية ويميل للمحافظين وتأييد الحزب الجمهوري بشكل عام، والجزء الشرقي الذي نشات فيه الصناعات والمدن الكبرى ويتسم بدعم واضح للحزب الديموقراطي. ويعلل البعض التحولات الديموغرافية في الولاية وانعكاساتها على الخريطة الانتخابية بشكل عام لما اصاب الولاية من تطور سياسي.
اذ تجدر الاشارة للتطورات والتحولات الكبرى التي حلت بالولاية منذ تصويتها للمرشح الخاسر عام 1960، ريتشارد نيكسون، لا سيما ان نسبة ثقلها الانتخابي آنذاك كان ضعف ما هو عليه راهنا علاوة على احتضانها لعدد كبير من المقرات الرئيسية للشركات الصناعية الكبرى.
التطورات الطبيعية فعلت فعلها في الخارطة الديموغرافية والتحالفات والولاءات الحزبية في ولاية اوهايو، مقارنة بما ساد عليه الوضع قبل نصف قرن من الزمن. اذ عانت الولاية من انتقال فرص العمل والمصانع الانتاجية الى مناطق الجنوب والغرب منها بحثا عن عمالة خفيفة الكلفة وقوانين اقل تشددا. وارخى العقد الاول من القرن الحالي ظلاله الثقيلة على الولاية بشكل استثنائي، اذ شهدت فقدان نحو 600,000 فرصة عمل ورحيل بضع مئات الآلاف من مواطنيها لاماكن اوفر حظا. كما انعكس الامر على خارطة توزيعها الانتخابي التي تشهد اقل مستوى تمثيلي في الكونغرس منذ ما قبل اندلاع الحرب الاهلية. التطور التقني في عدد من المجالات ومكننة مصانع الانتاج ادت الى وفرة الانتاج الصناعي بالتزامن مع تبخر فرص العمل. واضحى جليا نزوح عدد من الشركات الانتاجية الكبرى الى خارج الولاية مما حرم خزينتها من مبالغ ضرائبية ليس من السهل تعويضها. وتجدر الاشارة ايضا الى ان عدد لا بأس به من خريجي جامعاتها المختلفة يتطلعون للعمل خارج الولاية بعد اتمامهم المتطلبات الاكاديمية، مما يعني خسارة تامة للشريحة العلمية والمثقفة.
القسم الغربي الريفي من الولاية كان اشد تأثرا بانحسار فرص العمل وانتقال المصانع للخارج، وهي التي تميل بغالبيتها لصالح الحزب الجمهوري. وللدلالة، شكلت مقاطعة كلارك (القريبة من حدودها الغربية مع ولاية انديانا) محورا هاما للاستقطاب في الانتخابات الرئاسية لعام 2004، وضرب فيها المثل: وجهة مقاطعة كلارك تستدرج ولاية اوهايو باكملها. وشهدت المقاطعة انخفاضا سكانيا بنحو 4.4% ما بين عام 2000 وعام 2010.
الخسارة من جانب تؤدي عادة الى كسب صافي للطرف الاخر حفاظا على التوازن الطبيعي. وبدا جليا تعاطف الرئيس اوباما مع صناعة السيارات التي تشكل اوهايو احد اعمدتها الاساسية بغية تعزيز دور وفاعلية القاعدة الانتخابية للحزب الديموقراطي؛ كما ان جهوده لضخ اموال لانقاذ الوضع الاقتصادي من مزيد من التدهور لقي اذانا صاغية بين الناخبين المستقلين ايضا.
في غابر الزمن، كان يضرب المثل باوهايو لمتانة وضعها الاقتصادي ووفرة فرص العمل وتمركز عدد من الشركات الانتاجية الكبرى فيها، ويحن اهلها للماضي القريب عله يعود بكل ما حمله من تطور. وتجدر الاشارة الى ان العمال والموظفين على السواء تمتعوا بديمومة فرص العمل وما تحمله من وعود وامكانيات كبرى للانتقال السعيد للطبقة الوسطى والتمتع الحقيقي بفوائد قضاء الاجازات والحصول على راتب تقاعدي مجد. يحمل برنامج اوباما للنهوض الاقتصادي بعضا من تلك الامال والفرص الضائعة بالتزامن مع اقرار الكثيرين بالتحولات الاقتصادية العالمية خاصة وان الصناعات التي اعتمدت عليها اوهايو من السيارات الى الحديد الصلب والاطارات المطاطية قد ضاعت الى غير رجعة.
سجل المرشح رومني العملي، خاصة في شراكته لمؤسسة مضاربة مصرفية، بين كابيتول، وضبابية المعلومات المتوفرة والمقدمة منه قد عزز الشكوك ضده، وتمضي حملة اوباما الانتخابية للاستفادة القصوى من تناقض خطابه ووعوده الانتخابية بتوفير فرص عمل مقارنة بما اشرف عليه من افلاس بعض الشركات وفقدان اليد العاملة ونزوح مؤسسات اخرى خارج الولايات المتحدة بحثا عن اليد العاملة الرخيصة.
لذا، سيواجه رومني صعوبات جمة في محاولتة لكسب ثقة الناخبين في اوهايو، وينبغي عليه اعادة التوازن للوعود الانتخابية والاقلاع عن الشعارات المعتادة بطموحه لتقليص هيكل الدولة المركزية وتخفيض الضرائب التي تبتعد عن أس هموم الناخبين واولوياتهم هناك. امامه فرصة تحد عالية لوضع تصور مستقبلي لاوهايو يخولها الاستمرار في اجواء المنافسة العالمية الشديدة. ان اي اخفاق له في كسب الولاية، مهما بدى ضئيلا، سيكلفه خسارتها كاملة لصالح الرئيس اوباما، مرة اخرى.