تهديدات كوريا الشمالية ومحاولات اميركية لاحتواء التصعيد

  ليست المرة الاولى التي تظهر فيها كوريا الشمالية بموقف التحدي والمواجهة، بل جاء احدثها في اعلان الرئيس الكوري كيم جونغ-اون عن تهديد الولايات المتحدة بشن هجوم نووي عليها ومحيطها، سبقه قرار باجراء تفجير نووي ثالث مؤخرا. ومضى الرئيس الكوري في تصعيد حدة لهجة خطابه السياسي باعلانه العزم على انسحاب بلاده من اتفاقية وقف اطلاق النار المبرمة عام 1953 بغية انهاء الحرب الكورية. بل ظهر الرئيس جونغ-اون برفقة قواته العسكرية قبل بضعة ايام يطلب منها الابقاء على جاهزيتها العسكرية “لدخول حرب شاملة.”

          تاريخ الصراع بين الكوريتين، سواء مباشرة او بالنيابة، يدل على انها ليست المرة الاولى التي تعلن فيها كوريا الشمالية الغاء العمل بالهدنة مع جارتها الجنوبية. اذ رافق انضمام كوريا الجنوبية “لمبادرة انتشار الأمن،” عام 2009، اعلان الشطر الشمالي عن انسحابه من اتفاقية الهدنة. يذكر ان “مبادرة الأمن” تحث الدول الاعضاء على اعتراض شحنات التقنية الصاروخية والنووية التي مصدرها كوريا الشمالية.

         الاجراءات الاخيرة صممت بالتزامن مع بدء المناورات العسكرية المشتركة بين القوات الاميركية والكورية الجنوبية. بالطبع، هناك ما وراء الأكمة يبرر تصعيد لهجة الحرب، قد يكون احدها تولد قناعة لدى القيادات العسكرية العليا القريبة من الرئيس جونغ-اون تقضي بأن التهديدات اللفظية والتفجيرات النووية لم تعد تكفي الغرض منها. اذ كانت التجربة السابقة تشير الى تصعيد خطاب المواجهة عند كل نقطة انعطاف ترمي لتخفيف العقوبات الاقتصادية.

         المسؤولون الاميركيون اعربوا عن اعتقادهم ان لغة التهديد والوعيد لن تسفر عن تخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية التي باتت تؤثر على مستوى معيشة النخب في كوريا الشمالية، والتي يستند الرئيس جونغ-اون الى دعمها للبقاء على رأس السلطة. واضافوا ان تشكيلة النخب تضم الرئيس وحاشيته وذوو الرتب العسكرية العليا، الذين تضم امتيازاتهم استيراد كافة الاحتياجات والكماليات، السيارات الفارهة والكحول، مما اسس لنمط حياة معين للشريحة القيادية بات مهددا بالضياع. في السابق، تم تطبيق العقوبات على السلع الكمالية، اما ما يميز المرحلة الراهنة فهو قرار اممي صادق عليه مجلس الامن بالاجماع لفرض حظر على كافة السلع والمنتجات: تبدأ من سيارات السباق واليخوت لتشمل حظرا على التقنية النووية والعناصر الصاروخية. في اعقاب دعم الصين لقرارات مجلس الامن للعقوبات الجديدة، وهي التي تمثل محطة عبور كافة مواد الاستيراد، تتعاظم الحظوظ لفعالية اكبر للعقوبات هذه المرة.

         من عادة كوريا الشمالية انها تواجه تزايدا في مستويات عزلتها مما يدفعها للاقدام على اتخاذ اجراءات تنطوي على تهديدات، كما جرى في شهر تشرين الثاني / نوفمبر 2009 ابان اجراء تجاربها الصاروخية بعيدة المدى التي حلق احد الصواريخ العابرة للقارات فوق الاجواء اليابانية. في المحصلة العامة، ما تطلبه كوريا الشمالية ثمة الاعفاء وتخفيض حدة العقوبات الاقتصادية، سيما تلك التي تمس مباشرة الشريحة القيادية. تكتيكيا، اضحت كوريا الشمالية اكثر حنكة في التعامل مع الولايات المتحدة والذهاب لمديات ابعد من السابق لكن لما دون مستوى التسبب في مزيد من الانعكاسات الضارة عليها.

         الولايات المتحدة، من جانبها، حافظت على مستوى معقول من الهدوء وتجنب الاثارة، مطمئنة الى فعالية نظامها الدفاعي ضد الصواريخ الباليستية. كما ان المعلومات الاستخبارية المتوفرة حول كوريا الشمالية لم تشر الى قدرتها على تحميل رأس نووي على متن صاروخ بعيد المدى. وتدرك ايضا ان القوات الكورية المسلحة، بصرف النظر عن تعدادها البشري، فان تسليحها عبارة عن اسلحة تعود لجيل الستينيات ويتوفر لديها قدر ضئيل من الدعم اللوجستي.

         لا توجد مؤشرات تدل على ان الادارة الاميركية في وارد تقديم تنازلات لكوريا. اذ جاء على لسان المستشار الرئاسي لشؤون الامن القومي، توم دونيلون، حديثا ان “الولايات المتحدة ترفض مكافأة التصرف الطائش لكوريا الشمالية. كما ان الولايات المتحدة لا تنوي الدخول في لعبة تؤدي لتقبل وعود فارغة او الامتثال للتهديدات. وكما صرح وزير الدفاع الاسبق، بوب غيتس، بالقول اننا لن نلدغ من الجحر مرتين (لن نشتري ذات الفرس مرتين).” واوضح دونيلون ان وزارة المالية الاميركية بصدد تطبيق اجراءات المقاطعة ضد مصرف التجارة الاجنبية، التابع لكوريا الشمالية.

         جدير بالملاحظة ان الولايات المتحدة لم تقدم على اتخاذ خطوات عسكرية، مع الاقرار بأن القوات الاميركية والكورية الجنوبية المشتركة هي في حالة تأهب اعلى من ذي قبل نظرا للمناورات التي تجريانها. لكن ينبغي النظر الى مجمل الاستراتيجية الكونية الاميركية التي اعلن عن تحول اولوياتها شرقا نحو المياه الاسيوية، الا ان القوات المسلحة الاميركية تعاني من انتشار واسع جغرافيا فضلا عن ان تحريك حاملات طائرات اخرى للمنطقة تحسبا لأي خطوة قد تقدم عليها كوريا الشمالية من شأنه خفض مستوى حضورها العسكري في منطقة الشرق الاوسط.

كوريا الشمالية وايران

         السؤال البارز هنا ان كان باستطاعتنا عقد مقارنة بين طبيعة الرد الاميركي على كوريا الشمالية وردها المحتمل ضد ايران. اذ اضحت كوريا الشمالية قوة نووية، رغم عزلتها الدولية، بموارد اقتصادية محدودة، وقوات نظامية كبيرة لكنها لا تمتلك القدرة على الانتشار عميقا في اراضي كوريا الجنوبية.

         بالمقابل، قد لا تمتلك ايران قنبلة نووية بعد لكن قواتها المسلحة اكثر حداثة، تسليحا وتدريبا، فضلا عن ثقلها الاقتصادي وتوفر عدد اكبر من الحلفاء وعدد السكان، ولديها القدرة على نشر قواتها في منطقة مضيق هرمز بالغ الحساسية.

         بصرف النظر عن انتقادات الخصوم الموجهة لادارة الرئيس اوباما في الداخل الاميركي لعدم اتخاذها اجراءات كبيرة بشأن ايران، الا ان توجهاتها نحو المسألتين، الكورية والايرانية، تدل على اختلاف الادوات في معالجتيهما.

         نظريا، تمتلك كلتا الدولتين القدرة على وصول اسلحتها للدمار الشامل الاراضي الاميركية، بل ان التهديد المرجح اميركيا مصدره ايران. وتمتلك ايران القدرة الصاروخية على الوصول لعدد من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، كما باستطاعتها مضايقة سبل النقل البحري في مضيق هرمز، ولديها سياسة خارجية نشطة، فضلا عن قدرتها بترجمة عناصر قوتها على الاقليم.

         بالرغم من امتلاك كوريا الشمالية بعض القدرات النووية، الا ان قدرتها على ترجمة تلك القوة تبقى محدودة خارج حدودها في الزمن الراهن؛ اما عدم اقدامها على شن هجوم على كل من الصين وروسيا لكونه عملا انتحاريا بامتياز. اما شن هجوم على كوريا الجنوبية فقد يحظى بقدر من النجاح الميداني في المراحل الاولى، لكن قوة اندفاعه ستتعثر ويتوقف سريعا. وفي حال الاقدام على مغامرة خطرة بمهاجمة اراضي الولايات المتحدة باستخدام صواريخ من العسر الاعتماد عليها لحمل رؤوس نووية فانه يعد عملا انتحاريا، فضلا عن ان الشعب الاميركي سيطالب اوباما بالرد بقسوة على مصدر التهديد.

         قد يكون من الثابت ان كوريا الشمالية توصلت لقناعة بان امتلاك السلاح النووي لا يفي بالغرض للتصور الاولي. فقدراتها المحدودة لا تسمح لها انتاج سلاح نووي صالح للاستخدام ميدانيا، كالقنبلة النيوترونية، الا بعد عدة عقود من الزمن. وبالامكان القول ان قدراتها النووية بصورتها الراهنة لا تشكل سوى مظلة توفر ضمانات بعدم الاطاحة بنظامها السياسي عن طريق استخدام قوات اجنبية. كما انها تشكل وسيلة ضغط سياسية لتعزيز مطالبها برفع الحظر الاقتصادي عنها.

         مقارنة عناصر القوة لكل من ايران وكوريا حفزت واشنطن تركيز جهودها على مواجهة ايران، بل لعل عامل قربها جغرافيا وسياستها المعادية “لاسرائيل” هو العامل الاهم في سياسة اميركا. هجمات القرصنة الالكترونية الاميركية وربما “الاسرائيلية،” فايروس ستكسنت وغيره من برامج ضارة، كانت وجهتها ايران ومنشآتها النووية؛ فضلا عن مرابطة قسم لا باس به من ترسانة اسلحتها المتطورة وحاملات الطائرات في المياه البحرية القريبة من ايران.

         وجدير بالانتباه ايضا الى تباين ردود الفعل الاميركية على ايران وكوريا الشمالية امام لهجة تهديداتهما للمصالح الاميركية. اذ اعتبر مستشار الامن القومي للرئيس اوباما ان كوريا الشمالية تمثل طفل اساء التصرف، قائلا “ترفض الولايات المتحدة مكافأة سلوك كوريا الشمالية الضار.” ولم يواكبه تحركات عسكرية ذات شأن.

         اما تهديد ايران لنيتها اغلاق مضيق هرمز امام حركة الملاحة التجارية، فقد استدعى استقدام عناصر القوة الاميركية الى المنطقة، على رأسها حاملات الطائرات وكاسحات الالغام البحرية. بل اعلنت الولايات المتجدة ان حاملات طائراتها سترابط خارج مياه الخليج للقيام بتنفيذ مهامها، وفي نفس الوقت الابقاء على منطقة آمنة تخلو من اي تهديد محتمل لحركة الملاحة. وانضمت فرقاطات ومدمرات اميركية الى السفن الحربية التي تملكها دول الخليج العربي لحماية القوافل البحرية، فضلا عن توفيرها غطاء جويا لمسرح عمليات مرتقب. اما كاسحات الالغام فمهمتها مراقبة الحركة البحرية في المضيق ومسح مياهه للتيقن من خلوها من المتفجرات. طائرات “الاواكس” ايضا تنضم لمراقبة حركة الملاحة التجارية واعطاء الاشارة لانطلاق طائرات مقاتلة لمواجهة محاولات السفن الايرانية زرع الالغام او الاعداد لشن هجوم. فرق القوات الخاصة ستقوم بمهام تفتيش المركبات واتخاذ الاجراءات اللازمة. مقابل كل ما تقدم، يبقى السؤال قائما ان يؤدي تفاقم الوضع في شبه الجزيرة الكورية الى استدراج بعض عناصر القوة العسكرية من منطقة الخليج العربي مما قد يسفر عنه اتاحة الفرصة لايران للمضي في مواقفها المتشددة، اما في منطقة مضيق هرمز او في مكان آخر.

         الولايات المتحدة تحافظ على سرية احداثيات وتحركات قطعها البحرية، الا ان تنامي حدة النزاع بين الصين واليابان حول ملكية جزر متنازع عليها ادى لتحرك حاملتي طائرات من سلاح البحرية الاميركية  وقوة من مشاة البحرية لاتخاذ مواقع محددة في غربي المحيط الهاديء. مسافة وصول تلك الترسانة الى مقربة من شواطيء كوريا الشمالية تستغرق 48 ساعة، عند الضرورة. ويستبعد الحاجة الى مشاركة مزيد من القطع البحرية المرابطة في منطقة الشرق الاوسط نظرا لانتفاء قدرة كوريا الشمالية على فرض نفوذها.

         استنادا الى فرضية التهديد الايراني سيكون مصدره من ناحية البحر، مياه المضيق، يصبح منطقيا افتراض بقاء قطع البحرية الاميركية مرابطة في منطقة الشرق الاوسط. بالمقابل، تفتقد كوريا الشمالية الى سلاح بحري ذو شأن مما يدفع الى الاستنتاج بان القوة البحرية الاميركية لمواجهة كوريا ستكون محدودة وسيتم الاعتماد على استخدام سلاح الطيران للمهام القتالية من القوات المرابطة في اليابان او كوريا الجنوبية.

         عند حاجة مسرح الشرق الاوسط لمزيد من القوة العسكرية الاميركية، ستتم عملية الامداد من القوات والاسلحة المرابطة في مياه البحر الابيض المتوسط واوروبا. ونظرا لاعتماد القارة الاوروبية على الامدادات النفطية المارة بمضيق هرمز، فمن المرجح انضمام القوات الفرنسية والبريطانية للجهد الحربي.

         ايران، من جانبها، ترصد بدقة مدى وطبيعة الرد الاميركي على كوريا الشمالية واعتباره مؤشر على كيفية الرد الاميركي على التحديات الايرانية. اما الولايات المتحدة فتعتبر ايران منذ عقود مصدر تهديد اكبر استلزم نشر ترسانة عسكرية ضخمة وشن حرب الكترونية على منشآتها الحساسة واستهداف مصالحها الاقتصادية؛ وتمضي ادارة الرئيس اوباما في الرهان على قدرتها لاحتواء ايران ومجال نفوذها الاقليمي.