زيارة اوباما الخارجية الاولى في عهده الثاني: أبعد من السياحة واعمق من الاستماع

   تعطل سيارة وموكب الرئيس اوباما في زيارته للقدس المحتلة ربما يرمز الى ما هو ابعد من ثمة عطل ميكانيكي، بل كما اريد منها بالاصل همروجة اعلامية خالية الوفاض من اي خطوات عملية، كما كان يرنو اليه المنخرطون في سياسة التسوية. في الشق المقابل من المشهد الاميركي، يشاطر معظم المحللين والمراقبين الرأي ان زيارته، بل الحملة الاعلامية المكثفة، لم تنطوي على نوايا جديدة بالتحرك لتعزيز جهود السلام في المنطقة، كما يروج السياسيون.

غياب طابع الجدية والثبات كان طاغيا في زيارة اوباما، التي سرعان ما تحولت الى زيارة استكشافية للمعالم الهامة التي تزخر بها المنطقة. اما الرسالة الخفية فهي التأكيد على دور الكيان “الاسرائيلي” في المنطقة، كركيزة للمخططات الاميركية. ولم يكن بوسع اوباما الا زيارة ضريح مؤسس الصهيونية الاول، ثيودور هيرتسل في القدس المحتلة، والنصب التذكاري الابرز “ياد فاشيم” بالقرب من قبر هيرتسل، ومتحف “اسرائيل” الذي يضم مقتنيات اثرية مسروقة تشمل مخطوطات البحر الميت، والتزلف بوجود اليهود في المنطقة منذ القدم، كما زعم نائب المستشار الرئاسي لشؤون الامن القومي، بن رودس، قائلا ان المخطوطات “تدل على ترابط اليهود القدماء واسرائيل، بالطبع.”

وحتى لا تضيع فرصة التوكيد المزعوم، انبرى سفير الكيان “الاسرائيلي” في واشنطن، مايكل اورين، للحديث وشرح المخطوطات التي “كتبت قبل 2،000 عام ونيف، بالعبرية على يد اليهود في وطنهم، ارض اسرائيل …”

لعل الاهم في معالم الزيارة هو ما جرى تجنبه من الادراج على جدولها، اذ رفض اوباما الظهور امام الكنيست والقاء كلمة فيه، اجراء يعد لازمة لكل رئيس اميركي زائر، كما تجنب زيارة حائط المبكى اللازمة الاخرى.

زخم التغطية الاعلامية رمى لارضاء الجالية اليهودية الاميركية واستعادة ثقتها، سيما بعد تصاعد نغمة النداءات التي تزعم ان سياسات اوباما معادية “لاسرائيل” لتجنبه زيارتها من موقعه الرئاسي، مقارنة مع سلفيه الرئيسين جورج بوش الابن وبيل كلينتون اللذين لم يدخرا جهدا الا وبذلاه في استثمار العلاقة الاميركية الاسرائيلية. بعد انفضاض الزيارة يكون بوسع اوباما اخراجها من حيز التداول والابتزاز.

 شعبية اوباما لدى “الاسرائيليين” متدنية ولم تتجاوز 10%، وفق احدث استطلاعات الرأي، مما يفضي الى القول انه لا يملك الكثير من النفوذ للضغط على الحكومة “الاسرائيلية” لدخول المفاوضات السلمية. اما ان افضت الزيارة الرئاسية عن نجاحها فمن شأنها تعزيز ذاك التوجه، لو اراد، حتى بدون توفر ضمانات لوجهتها النهائية. وبالنظر الى النتائج المخيبة لآماله نتيجة انخراطه المباشر في المفاوضات السلمية ابان ولايته الرئاسية الاولى، باستطاعتنا القول ان اوباما سينأى بعيدا عن الانخراط الفعال، وقد يحيل المهمة الى وزير خارجيته جون كيري.

وعليه، في ظل غياب مبادرة محددة بشأن الفلسطينيين، ماذا سينتج عن زيارته؟

بداية، لم يلجأ اوباما الى التعويل على جهود مفاوضات ثنائية تجري بين حكومتين، بل استعاض عنها بالقاء كلمة مباشرة امام حشد من الطلبة الجامعيين في القدس المحتلة، موجها خطابه مباشرة الى المواطنين “الاسرائيليين” والاميركيين.

تبنى اوباما في خطابه الرواية الصهيونية بكاملها لقراءة الصراع العربي-الصهيوني، لم يجد غضاضة او تناقضا بين زعمه التبشيري بديموقراطية  دولة الكيان الاسرائيلي وتأكيده للاعتراف بها كدولة يهودية. ولا يبدو انه يكترث بمصير اصحاب الارض من الفلسطينيين الذين سيتعرضون بالطبع للترحيل من وطنهم.

كما التفّ على موضوع الاستيطان في مسعى لتهميشه، واشار اليه فقط باعتباره عملا “غير بناء اومناسب او يخدم هدف السلام”، اي تجاوز اعتباره امرا محظورا قانونيا لانه تصرف باراضي الغير من قبل سلطة احتلال. وللامعان في التجاوز اشار بصورة واضحة الى ان اي استئناف للمفاوضات المباشرة بين الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني لايجوز ان يكون مشروطا بوقف الاستيطان، واشار ضمنيا الى ان الاصرار على وقفه يشكل استباقا للحل النهائي، عندما تساءل ماذا يبقى للتفاوض او ما الفائدة من التفاوض اذا تم الاصرار على وقف الاستيطان؟

وكان مستغربا ان لم يكن جهلا او تضليلا مقصودا ان يشبّه اوباما العلاقة القائمة بين الاسرائيليين والفلسطينيين (وهي بين سلطة احتلال وشعب خاضع للاحتلال)  كعلاقة الجار بين كندا واميركا، فهل تحتل اميركا كندا او العكس؟

السفير الاميركي الاسبق لدى تل ابيب، مارتن انديك، هلل لاوباما مبشرا بأنه “نجم فني سيجري استقباله بحفاوة، وسيستطيع العودة الى سابق عهده، الامر الذي يعد بالغ الاهمية. اذ ان الراي العام (الاسرائيلي) سيعاقب رئيس وزرائه لاساءته استخدام العلاقة مع رئيس يحظى بشعبية .. فنتنياهو يتغذى على استطلاعات الرأي عند افطاره، وسيدرك اي تغيير في مسار التوازن” بينهما.

 بما ان نتنياهو قد خرج من توه منتصرا في الانتخابات، فقد انخفض حاجز خوفه من اوباما الذي لا يتمتع بشعبية تتجاوز 10% بين “الاسرائيليين.” من الطبيعي تعويل اوباما على مردود ايجابي لزيارته وتوقع تحسن صورته ولو بشكل مؤقت ان لم يرتكب زلة كبرى. ويدرك اوباما ان عدم الرضى “الاسرائيلي” ليس لتخلف زيارته، بل لكيفية تعاطيه مع الملفات التي تهم “الاسرائيليين.”

تصريحات اوباما في المؤتمر الصحفي المشترك في رام الله، يوم الخميس 21 آذار، بينت بوضوح تقربه نحو الموقف “الاسرائيلي” فيما يتعلق بوضعية المستوطنات التي تفادى وصفها “غير شرعية،” بالنقيض مع سياسة ادارته عينها سابقا. ونعتها بخجل بانها “غير مشجعة،” طمعا في عدم اثارة غلاة اليمين “الاسرائيلي.” بل قطع الطريق على طاقم المفاوضات الفلسطيني الذي يتدثر بتوسيع المستوطنات كذريعة وشرطا للجلوس الى طاولة المفاضات.

تصدرت جدول اعمال لقاء اوباما ونتنياهو مسألتي ايران وسورية، بخلاف توقعات البعض لحضور ملف المفاوضات “الاسرائيلية” – الفلسطينية. ففي سورية، تجري مخاوف من تجدد الاشتباكات على جبهة مرتفعات الجولان، خاصة بعد تعرض مواقع قوات الامم المتحدة للقصف من قبل المسلحين السوريين،  ودخول الاسلحة الالكيميائية ميدان المعارك، بالرغم من تصريحات السفير الاميركي لدى دمشق، روبرت فورد، بان الدلائل غير متوفرة لاستخدام اسلحة كيميائية في الاشتباكات مطلع الاسبوع الماضي؛ اما وزير الاستخبارات “الاسرئيلية” فقد قارب الجزم باستخدامها. روسيا بدورها اعلنت ان الهجمات تحمل بصمات كيميائية من صنع المتمردين السوريين.

ادخال مكونات كيميائية في المواجهات المسلحة يثير اهتمامات وطرح اسئلة كبيرة، سيما وان اطقما طبية عدة تواجدت في المكان دون اقنعة واقية من الاسلحة الكيميائية اثناء قيامها بواجبها لاسعاف المصابين، والذين لو تعرضوا حقا لمكونات اسلحة كيميائية لما بقوا على قيد الحياة. البعض تكهن بان مكون سام آخر تسبب في مقتل الابرياء. الثابت علميا ان مسرح الاشتباكات التقليدية في حروب اليوم مشبع بالسموم نتيجة المتفجرات المختلفة، والرذاذ المندفع وعناصر كيميائية اخرى تخص الاستخدامات العسكرية. باستطاعة المحارب اطلاق رذاذ لعدد من المواد السامة في الهواء كي يستنشقها المدنيون؛ وان تعرضت حاوية بداخلها مواد كيميائية سامة الى قذيفة متفجرة، سيتأثر كل من في محيطها للغازات المنتشرة، كما شهدنا في الحروب الاميركية المختلفة على يوغسلافيا والعراق.

 المثير انه في زمن وفرة انتشار المعلومات تبقى حالة من عدم التيقن للمصدر والفاعل، مما وفر ذخيرة اعلامية يستغلها الطيف الواسع من الفاعلين، كل لمصلحته. بل يراها البعض انها الرمق الاخير في المخطط الغربي لتوفير ذريعة التدخل بعيدا عن الآليات والاعراف الدولية، سيما وان بعض تلك الاطراف رسم “خطوطا حمراء” للحكومة السورية تجاوزها يستدعي تدخلا عسكريا اميركيا. في حال الادارة الاميركية، من المرجح ان تبقي ادارة الرئيس اوباما على ضبابية الامر، رغم تيقنها لهوية الفاعل الحقيقي، لتفادي بلورة اي رد مفترض.

العلاقات “الاسرائيلية” المصرية كانت حاضرة على جدول الاعمال، وان غيبتها التغطية الاعلامية، للخشية من العدد الكبير للجيش المصري في ظل مناخ سياسي داخلي مضطرب. كما تخشى “اسرائيل” من عدم قدرة قواتها المسلحة مواجهة القوات النظامية المصرية بعد ادخال تعديلات على عقيدتها القتالية بتخفيف الاعتماد على الاسلحة التقليدية، كالمدرعات، والتركيز على استراتيجية غير تقليدية. وعليه، من المرجح ان تلجأ “اسرائيل” لطلب مزيد من المعدات والوسائل القتالية لتعويض النقص في قدراتها.

في مسالة الملف النووي الايراني، اكد اوباما مجددا ان الولايات المتحدة لا تنهج “سياسة احتواء ايران،” وستعمل على منعها التسلح نوويا. وعلت النشوة وجه نتنياهو قائلا “انا على قناعة مطلقة بان الرئيس عازم على منع ايران امتلاك سلاح نووي.”

ما ينتظر اوباما في هذا الشأن هو قدرته على ردع “اسرائيل” من القيام باجراء احادي الجانب ضد ايران، اذ من غير المنتظر ان يلقى آذانا صاغية داخل اوساط حكومة نتنياهو الحالية دون تقديمه مزيد من الخطوات البديلة. لم يعد سرا قلق الولايات المتحدة لقيام “اسرائيل” بشن غارة عسكرية على ايران، او ضيق ذرع “الاسرائيليين” باعتماد المقاطعة الاقتصادية اسلوبا رئيسا. وقد تؤدي هذه المعادلة المختلة الى توصل الطرفين لتعزيز جهودهما المشتركة لشن هجمات الكترونية ضد المنشآت النووية الايرانية، التي اسفرت عن بعض النجاحات في السابق، كما تبلور في فايروس “ستكسنت.” غني عن القول، ان ما تقدم لن يأتي ذكره في اي صيغة بيان مشترك للطرفين او عند نهاية الزيارة.

كما من المرجح ان تفضي الزيارة عن اتفاقية غير معلنة لتعزيز التعاون بين جهاز المخابرات “الموساد” ووكالة المخابرات المركزية، السي آي ايه، كما يستدل من تقرير لصحيفة واشنطن بوست الذي جاء فيه “قامت اجهزة الاستخبارات الاميركية بالتعاون الفعال مع الموساد لانشاء قوة لشن حرب بالوكالة من وراء الاضواء. ونقلا عن تصريحات مؤكدة لمسؤولين اميركيين، جاء في تقرير لشبكة “ان بي سي” للتلفزة بث في شهر شباط 2012 ان الجهاز الاسرائيلي (الموساد) قام بتدريب وتسليح عناصر من مجاهدي خلق سرا .. لاغتيال علماء ايرانيين في علم الذرة بطهران.”

من جانبه، رسم البيت الابيض مستوىً متدنٍ من التوقعات للجولة الرئاسية، واطلق العنان لوسائل الاعلام لتناول اخفاقات التقدم في ملفات المنطقة – مما اثار حفيظة اوباما. وعلى غير عادته، وبخ الرئيس اوباما مراسل سبكة “ام اس ان بي سي” للتلفزة، تشك تود، لفرطه في طرح اسئلته، سيما حول اخفاقات الرئيس في احراز تقدم في المفاوضات السلمية في الشرق الاوسط، ونعته اوباما “بالعنيد.” لا عجب، اذن، لتدني توقعات الخبراء لاحراز خطوات ملموسة عقب انتهاء الجولة الرئاسية.

مع كتابة هذه السطور تكون الطائرة الرئاسية قد حطت على الاراضي الاميركية وانتقل اوباما الى مخدعه في البيت الابيض ولكنه ترك وزير خارجيته ليتابع الملفات الاقليمية وخاصة الخطوة القادمة في مسار تأمين التفاوض الفلسطيني – الاسرائيلي. يستطيع اوباما ان يعلن انجازا لم يتصدر جدول زيارته اعلاميا اصلا وهو استعادة دفء العلاقات بين حليفين رئيسين لواشنطن : تركيا واسرائيل. خطوة تبدو مع تطورات اخرى في المنطقة تؤشر على مسعى واشنطن لسد اي ثغرات في معسكرها الاقليمي لممارسة المزيد من الضغط الميداني في مسرح العمليات الخفية والعلنية من لبنان ،سوريا ، فلسطين، العراق وايران .. والسؤال يبقى عالقا كيف سيرد المعسكر المستهدف لوقف عمليات التطويق والاستنزاف؟؟؟؟