اوباما في عهده الثاني: مؤشرات على سياسة خارجية مكبلة بقيود الاجندة الداخلية
دشن الرئيس اوباما ولايته الجديدة بخطوة عاجلة نحو السياسة الخارجية، بارساله وزير الخارجية الجديد، جون كيري، في اولى جولاته الرسمية، بالتزامن مع مصادقة الكونغرس على تعيين تشك هيغل لحقيبة وزارة الدفاع.
تباينت نتائج جولة كيري مقارنة مع الفرضيات السابقة وتوقعاتها للقاءات حميمية وسلسة، وتم تسليط الاضواء على لقائه برموز المعارضة السورية في روما، سبقها تشدد في تصريحات قوى المعارضة بعدم استعدادهم للقائه تعبيرا عن عدم رضاهم للمساعدات العينية المطلوبة من اميركا. بل اطلقت المعارضة سلسلة تصريحات تدل على مدى الاحباط الذي لحقهم جراء وعود بالمساعدة لم تنفذ، وهددوا بعدم حضور مؤتمر “اصدقاء سورية” في روما الذي سيحضره كيري.
واطلقت الادارة الاميركية وعودا جديدة بالمساعدة لاغراء قوى المعارضة بالحضور، منها اشارات صدرت عن البيت الابيض بأن الرئيس اوباما يعكف على احداث نقلة نوعية في سياسته من ضمنها انه قد يتم تزويد المعارضة المسلحة بمساعدات عينية غير فتاكة تشمل مجال التدريب العسكري.
هكذا كافأت الولايات المتحدة قوى المعارضة لحملها على حضور مؤتمر روما، تبعها تصريح لوزير الخارجية كيري بأن بلاده وللمرة الاولى تنظر في تقديم مساعدات عينية تتضمن حصصا غذائية للمقاتلين وعربات نقل واجهزة اتصالات ومعدات للرؤية الليلية ومساعدات طبية. كما اعلنت الادارة الاميركية عن توفير 60 مليون دولار كمبلغ اضافي لتمويل المشتريات استكمالا لمبلغ سابق وصل الى 385 مليون دولار لمساعدات ذات طبيعة انسانية، وشراء معدات بلغت كلفتها 54 مليون دولار. واوضح كيري في خطابه لمؤتمر روما ان القرار الاميركي بتقديم الدعم اتى للرد على “وحشية قوات عسكرية جيدة التسليح يدعمها مقاتلون اجانب من ايران وحزب الله.”
ومضى جون كيري في اطلاق تصريحات تنقد بشدة الرئيس السوري، اذ قال في محطة باريس “ينبغي على (الرئيس الاسد) ادراك عدم قدرته على الخروج من هذه الازمة بالسبل العسكرية، ويتعين علينا اقناعه بذلك واعتقد ان المعارضة بحاجة الى مزيد من المساعدة كي تستطيع تحقيق ذلك. كما واننا نعمل سويا لبلورة موقف موحد.”
يدرك كيري ان رؤيته لتطبيق حل اميركي في سورية تصطدم بالموقف الروسي الداعم للرئيس الاسد وحاجة الولايات المتحدة للمساعدة الروسية ايضا في ملفين حيويين آخرين في الشرق الاوسط: حمل ايران على وقف جهودها التي قد تؤدي بها للحصول على الاسلحة النووية، وانسحاب القوات الاميركية بسلاسة وسلام من افغانستان، لا سيما وان روسيا تتحكم باحدى الممرات الرئيسية التي ستسلكها القوات الاميركية، خطوط الامداد الشمالية، والتي تتعرج وجهتها من كابول مرورا بنفق سالانغ وانتهاء باراضي الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى. اخلاء المعدات العسكرية الاميركية الثقيلة من افغانستان يستوجب مساعدة روسية نظرا للاعتبارات الاقتصادية. في حال قررت الادارة الاميركية تزويد المعارضة السورية المسلحة بمعدات اضافية، خاصة اسلحة ثقيلة، فان تعويلها على انسحاب آمن لقواتها من افغانستان قد تختفي.
تشكل سورية الحلقة الكبرى في علاقة الدولتين العظميين. اذ مع استمرار النزاع، سيكون بمتناول المعارضة المسلحة وسائل قتالية تمكنها من شن هجمات على الجيش السوري، واستمرار القلق الاميركي من تزعم القاعدة لقوى المعارضة. لمناهضة ذلك السيناريو، ابلغت الولايات المتحدة المعتدلين في قوى المعارضة بضرورة البدء في توفير الخدمات الحكومية الاساسية في المناطق الخاضعة تحت سيطرتها، بغية تعزيز سلطتها وعلاقاتها مع المدنيين السوريين. كما تهدف الولايات المتحدة الى اقناع الرئيس الاسد بحتمية انتصار المتمردين.
بالمقابل، روسيا كانت شديدة الوضوح في التحذير من الاصرار المسبق على رحيل الرئيس الاسد كشرط لعقد مفاوضات سلمية، مما سيؤدي الى وأد المفاوضات بالكامل. اما المعارضة المدعومة اميركيا واوروبيا وعربيا فقد اوضحت ايضا معارضتها التامة لاي دور مقبل للرئيس الاسد في الحكومة السورية.
علاوة على ما تقدم، فان الرئيس اوباما بحاجة ماسة لعون روسي في جولة المفاوضات الجارية مع ايران، التي تحتل رأس سلم الاولويات لسياسته الشرق اوسطية. اذ ان جولة مفاوضات ثلاثية جرت العام الماضي باشراف مسؤولة شؤون السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبين كاثرين آشتون، لم تسفر عن اي تحول في المواقف المعلنة. وما تزال ايران متمسكة بموقفها حول حقها في تخصيب اليورانيوم، بصرف النظر عن تداعيات العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
ملامح سياسة اوباما الخارجية في ولايته الجديدة
قيام وزير الخارجية الجديد، جون كيري، بجولة عالمية بعد تسلمه مهام منصبه ببضعة ايام تؤشر على جدول اوليات السياسة الخارجية للادارة الاميركية. اذ بدأ جولته بالمرور على الحلفاء الاوروبيين التقليديين (بريطانيا وفرنسا والمانيا وايطاليا)، قبل توجهه للشرق الاوسط ليحط في كل من ومصر والسعودية وتركيا والامارات؛ وترحيل زيارة “اسرائيل” الى وقت لاحق لم يحدد بعد.
بالاستناد الى تركيز خطاباته في اوروبا حول سورية يدفعنا للقول ان الاخيرة ستبقى تتصدر اهتماماته في زيارته للدول العربية وتركيا، التي تشكل خط الاشتباك الاول في الازمة السورية وموقعها الجغرافي كمحطة مرور للمساعدات المقررة للمعارضة السورية المسلحة. اما دول الخليج العربي الثلاث فهي التي تقوم بتمويل وتسليح المعارضة السورية بمختلف انواع الاسلحة. كما ان الدول عينها لا تخفي قلقها البالغ من طموحات ايران النووية التي تنظر اليها بانها لا تعزز قدراتها التي قد تستغلها لاعاقة حركة الناقلات النفطية عبر مضيق هرمز.
من الملاحظ خلو السياسة الخارجية لاوباما من اية مبادرات تتعلق بالمنطقة، كما جرت العادة لعدد من الرؤساء الاميركيين السابقين، واصطفافها الى جانب خيار بقاء السيطرة على القضيتين الملتهبتين في سورية وايران، والحيلولة دون تفاقمها الى مديات ابعد؛ الامر الذي يوفر له جهدا ثمينا ليلتفت الى الملفات الداخلية الاميركية. ولا يلوح في الافق اي مؤشرات تدل على تحول في مسار السياسة الخارجية الاميركية او الميل لتحقيق اتفاقية سلام بين “اسرائيل” والفلسطينيين في المدى المنظور – الامر الذي يعد استثناءاً لاولوية المسالة لكافة الرؤساء الاميركيين في العصر الحديث.
بل باستطاعتنا القول ان اهم ما يشغل بال اوباما هو ابقاء القضايا الساخنة على نار هادئة كي لا تسبب له ازعاجا يعيق تحقيق تقدم في ملفات سياساته الداخلية، خاصة اصلاحات قوانين الهجرة، والانفاق الحكومي، والنظام الضرائبي، ونظام الرعاية الصحية المكنى ببرنامج “اوباماكير،” والحد من انتشار حيازة الاسلحة النارية الفردية. اذ من شان اندلاع ازمة في الشرق الاوسط ان تكلفه بعض رصيده السياسي واشغال اهتمامات الكونغرس بعيدا عن اولوياته التي حددها مسبقا.
من غير المتوقع، بل من المستبعد ان يدلي فريق سياسته الخارجية الجديد بآراء تغاير المعلن من السياسات او الذهاب الى بلورة مبادرات معينة. وقد تعود احد اسباب ذلك الى طبيعة تكوين الفريق الذي لا يتمتع بقسط من القوة والنفوذ لسلفه في عهد وزيرة الخارجية كلينتون، والتي شكلت بشخصها احد نقاط الاستقطاب السياسي وقدرتها على البوح علانية بتوجهاتها المتباينة مع سياسات الرئيس اوباما. كما كان باستطاعة وزير الدفاع الاسبق، بوب غيتس، تحريض المعارضة من الحزب الجمهوري على الرئيس اوباما بحكم ولائه السياسي للحزب ان تطلب الامر. كما ان مدير وكالة الاستخبارات المركزية المستقيل، ديفيد بترايوس، كان يتمتع بقدر واسع من النفوذ والشعبية بين افراد الشعب الاميركي تتيح له مخاطبته مباشرة واحراج الرئيس.
اما الآن فقد تغيرت الاوضاع.
سيواصل مدير وكالة الاستخبارات المركزية المقبل، جون برينان، “الحرب على الارهاب،” باساليب مجربة ابان عهدي الرئيس بوش الابن واوباما في ولايته الاولى.
ويتمتع كل من وزير الخارجية جون كيري ووزير الدفاع تشاك هيغل بخبرة طويلة في الشؤون الخارجية ابان تسلم مهامهما السابقة في مجلس الشيوخ، واللذيْن امضيا عدة سنوات في مجلس الشيوخ الى جانب نائب الرئيس جو بايدن. خدمة هيغل استمرت 14 عاما في مجلس الشيوخ، وعشر سنوات اضافية كعضو في الطاقم الاداري للكونغرس وعمله كمندوب لاحدى جماعات الضغط؛ نائب الرئيس بايدن خدم 34 عاما؛ وجون كيري خدم 28 عاما في الكونغرس. الخبرة الاجمالية لفريق السياسة الخارجية تبلغ نحو 78 عاما، تتضمن خدمة عضوين منهما فترة شبابهما في اروقة الكونغرس.
واجبات اعضاء مجلس الشيوخ لا تتضمن ادارة برامج معينة، او تنفيذ سياسات محددة، او الاشراف على ادارة هيكل بيروقراطي متشعب. بل ان احراز تقدم ما في مسالة حساسة لا يمثل سوى الجزء الاول من التحدي، بينما الجزء الاكبر يتمثل في تطبيق الاتفاق ضمن ضوابط الفهم المشترك. جدير بالاشارة الى ان مهمة عضو مجلس الشيوخ لا تنطوي على تطبيق القوانين التي صوت لصالحها، بل تقتصر في توفير نسبة الاغلبية البسيطة (50 + 1) من الاصوات للمصادقة عليها. اذ ان اعضاء مجلس الشيوخ لا يميلون لرؤية العالم وتشعباته من منظار استراتيجيات بعيدة الامد، التي هي ميزة للخوض في السياسة الخارجية. بكلمة اخرى، فريق اوباما للسياسة الخارجية لديه حس مرهف للتغلب على العقبات السياسية، مما سينعكس على آلية تناوله للازمات من منظار درء تفاقمها وليس حلها بالضرورة.
نظرا لتركيبة وطبيعة فريق السياسة الخارجية ونزعته لتفادي التصادم، يحذر بعض الخبراء الاميركيين ممن استطلعت ارائهم انه من غير المرجح اقدام الرئيس اوباما على تبني مبادرات او صيغ خاصة للحل فيما يخص سورية او ايران، مما سيؤدي الى تطبيقات جزئية مشوهة للسياسة الخارجية وغياب استراتيجية اشمل للتعامل مع قضايا المنطقة، وارسال رسائل متناقضة للحلفاء، وتبني سياسة خارجية تأخذ في الحسبان اتجاهات استطلاعات الرأي على حساب اعتبارات المصالح الاميركية او الاقليمية. بل من المرجح ان يبرز الدور القيادي في المنطقة من مواقع اخرى، وليس من البيت الابيض.