قراءة اولية في خطاب اوباما عن حالة الاتحاد

في الماضي البعيد، اعتاد الرئيس الاميركي على توجيه مذكرة خطية لاعضاء الكونغرس في مستهل فترة تسلمه مهامة الرئاسية يشرح فيها الحالة العامة والبرامج التي ينوي تحقيقها. ومن ثم، اضحت المذكرة لازمة اقرها الكونغرس تطورت فيما بعد الى خطاب يحشد له حضور مميز وكل من هو بقرب دائرة صنع القرار. ومع دخولنا عصر التلفزيون، اصبح الخطاب يستدعي اهتماما اعلاميا ابلغ اهمية من الخطاب عينه. وبسط هذا التطور ميزاته على خطاب الرئيس اوباما في مطلع ولايته الرئاسية الثانية.

خصص الجزء الاكبر من خطاب اوباما الى القضايا ذات الاهتمام الداخلي، مستهلا مسألة انسحاب القوات الاميركية من افغانستان بالقول “بعد انقضاء عقد من الزمن على حرب طاحنة، فان جنودنا البواسل رجالا ونساءً يتأهبون للعودة الى الوطن .. نقف معا الليلة موحدين لتوجيه التحية للجنود والمدنيين الذين يضحوا بارواحهم يوميا من اجل حمايتنا. بفضلهم نستطيع البوح بثقة ان الولايات المتحدة ستكمل مهمتها في افغانستان وتحقيق هدفنا بهزيمة نواة القاعدة.” وشكل هذا الفصل القسم المتعلق بالسياسة الخارجية للرئيس.

ومر اوباما مرور الكرام على مستقبل بقاء القوات الاميركية في افغانستان الى ما بعد الانسحاب الشامل عام 2014،  لكنه ابقى طبيعة المهام المنوطة بها مبهمة. بيد انه اتى على ذكر مهمتين بانتظار القوات “القيام بتدريب وتسليح القوات الافغانية لوضع يخولها عدم الانزلاق الى حالة من الفوضى (والثانية) جهود مكافحة الارهاب مما يفسح لنا المجال لمطاردة من يتبقى من القاعدة واعوانها.”

 ولمزيد من التعليل، اقر اوباما استمرارية مسألة القاعدة في آسيا وافريقيا قائلا “حقا، لقد برزت مجموعات مختلفة متطرفة تقيم علاقات مع القاعدة، امتدادا من شبه الجزيرة العربية وصولا لافريقيا. الخطر الذي تمثله تلك المجموعات لا يزال طور الانشاء.” وفي ذات السياق، اوضح اوباما انه لا ينوي ارسال قوات عسكرية لمسارح الحرب الجديدة بالقول “ينبغي علينا توفير المساعدة لبلدان مثل اليمن وليبيا والصومال بحيث تضطلع بحماية امنها ومساعدة الحلفاء الذين يتصدون للارهابيين في معاقلهم، كما شهدنا في مالي.”

وفضل اوباما الابقاء على غموض آلية مساعدة الولايات المتحدة، مما يعني ضمنيا الاستمرار او تصعيد حرب الطائرات دون طيار، الدرونز، كما جاء في كلمته “(يتوفر لدينا) طيف من الامكانيات، (اذ) سنستمر في اتخاذ اجراء مباشر ضد اولئك الارهابيين الذين يشكلون التهديد الاخطر للاميركيين.”

واستوجبت المناسبة المرور على ذكر بعض الدول الاخرى في الشرق الاوسط. ففي الحالة الايرانية، لم�’ح الى الاستمرار في الجهود الديبلوماسية. ومع ذلك، ابقى على مسافة من توجيه تهديد مبطن بقوله “سنعمل ما نراه ضروري للحيلولة دون امتلاكها سلاح نووي.”

في حالات عدة، تطلب الامر قراءة ما بين السطور للوقوف على سياسة اوباما الخارجية في المرحلة المقبلة. وفيما يخص مصر، اشار الى ان الولايات المتحدة لا تشعر بالسعادة التامة لمسار تطبيق الديموقراطية ووتيرة الاصلاحات الدستورية، قائلا “ليس بوسعنا الافتراض (لقدرتنا على) املاء طبيعة مسار التغيير (المطلوب) في دول مثل مصر، بل لدينا القدرة �” والعزم �” للمطالبة باصرار على ضرورة احترام الحريات الاساسية لكافة افراد الشعب.” واستدرك بالقول “ليس بوسعنا افتراض قيامنا باملاء ما نراه مناسبا على مسار التغيير،” مشيرا ايضا الى عدم نيته اتخاذ اي مبادرات في مجال السياسة الخارجية ترمي حث او معاقبة مصر. هناك شعور لدى الرئيس اوباما بأنه يحقق استقرار المنطقة عبر تعزيز سلطة الرئيس مرسي.

 جدير بالذكر ان اوباما لم يمر على تسمية مصر بأنها حليف حميم في المنطقة �” الأمر الذي كان سيحظى بتصفيق وترحيب في خطاباته الرئاسية الماضية. وهذا يدل على انه بالرغم من شحنة الطائرات المقاتلة الاخيرة من طراز F-16 المقدمة لها، فان الولايات المتحدة عدلت عن رؤية مصر كلاعب اساسي في الاقليم.

 ومر اوباما مرورا عارضا على المسألة السورية محافظا على غموض توجهات السياسة الاميركية نحوها. وقال “سنواصل ضغوطنا على النظام السوري الذي قتل ابناء شعبه وندعم زعماء المعارضة الذين يكنون الاعتبار لحقوق كل فرد سوري،” في اشارة مبطنة الى مشاعر القلق نحو السياسات المتبعة من بعض قوى المعارضة، والتلميح الى نية العمل مع نظام الاسد بعد ثباته.

  واختتم اوباما شق السياسة الخارجية الاميركية بترديد الدعم الالزامي لاسرائيل، قائلا “سنقف بصمود مع اسرائيل في السعي للتوصل الى أمن وسلام دائم.” وبخلاف خطاباته السابقة، فقد آثر عدم تحديد اطار لمسار سلمي اوسع او ذكر اي جهد يبذل لحل المسألة الفلسطينية. لا شك ان اوباما يدرك جيدا عدم تناغم سياساته مع سياسات الحكومة الاسرائيلية الامر الذي لا يعزز التوقعات بان المبادرات السلمية تلوح في الافق.

كان شق السياسة الخارجية في مجمل الخطاب مفعما بالشعارات والوعود وخاليا من تفاصيل متوقعة. كان جلي ايضا ادراك الادارة الاميركية تنامي وانتشار تنظيم القاعدة، بيد ان الامر يبدو لا يستحق عناء التفكير لمواجهة ذلك. الجواب الثابت للحظة هو توقع مزيد من غارات طائرات الدرونز، وعقد الأمل على اقدام دول اخرى نشر قوات مقاتلة للاشتباك مع الارهابيين.

اما ذكر بعض قضايا الشرق الاوسط لماما فكان لاستدرار موجة من الترحيب والتصفيق. في الشق الايراني، اوضح اوباما بما لا يدع مجالا للشك ان انخراط ايران ديبلوماسيا هو الخيار المفضل، مع التذكير بالاشارة الى اتخاذ بعض الاجراءات الاخرى ان اقتضى الامر مثل الحرب في الفضاء الالكتروني. ولا يبدو انه مقبل على الانخراط في مصر في ظل حالتها الداخلية الملتهبة. في الشأن السوري، تبقى الادارة الاميركية مترددة حيال التعامل معه، اقرنها وزير الخارجية الجديد جون كيري بالتلميح الى مشروع معادلة حل محتمل تتحدد معالمه مع الجانب الروسي، لكن الجانبين لا يزالا بعيدين كل البعد عن التوصل لحل وسط.

السياسة الداخلية

 تضمنت الخطابات الموجهة للأمة بعض الصدقية في احيان سابقة، وليس ثمة حدث اعلامي بارز. الرئيس الاسبق جيرالد فورد قال في خطابه عام 1975 “ينبغي علي الاقرار لكم بأن حال الأمة لا يبعث على الارتياح،” في ظل معدلات عالية للبطالة وبطء النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات العجز بصورة جنونية. واضاف ” احمل اليكم انباء غير سارة، ولا اتوقع منكم اطراءً، او بعضه ان توفر.”

 الرئيس الشاب جون كنيدي قال في خطابه عام 1961 “حال الاقتصاد الحالية تثير القلق،” موضحا انه يلقي خطابه “في ظرف يتسم بالخطر الماثل على الأمة ولكنه ايضا فرصة قومية للنهوض.”

اما الرئيس اندرو جاكسون الذي تسلم مهام منصبه في اعقاب انتهاء الحرب الاهلية، فقال “الصراحة تقتضي مني اعلامكم بان اللحظة الراهنة لا تدل على وجود اتحاد كما رآه الاباء المؤسسون، وكما ارادوه لنا.”

ذاك الوضوح وتلك الصراحة لا تجد حيزا في خطابات الامة في الظروف الراهنة، بل هي مفعمة بالتفاؤل والقفز عن الاخبار السيئة. اذ جرت العادة ان تركز تلك الخطابات على مبادرات سن تشريعات داخلية، بما ان الخطاب موجه للمؤسسة التشريعية. اما اوباما فقد اقر مسبقا بنقاط الضعف في بلورة مشاريع قانونية بالقول “ساصدر تعليمات اعضاء حكومتي لصياغة اجراءات تنفيذية بامكاننا القيام بها.” وهذا يؤشر بوضوح على ان تنسيق الجهود مع الكونغرس لن يكون له نصيب الاولوية.

وارفقه بالكف عن الاشارة الى ميزانية العام المقبل، 2014، مما يعد تغيرا كبيرا. اذ لم يرد ذكر اي مقترحات لتجسير العجز في الميزانية المقبلة، كما ان اوباما اخفق في طرح مشروع الميزانية المزمع تقديمها للكونغرس �” موضوع اضحى ثابت في خطابات حال الأمة. كما خلا خطاب اوباما من اي نصوص تقليدية لاصلاح اي من البرامج الحكومية، او اطلاق برامج جديدة، او انهاء العمل ببعض القديم منها، او اي اشارة يستدل منها على نية للقيام بها في ولايته الثانية. بل جاء خطابه وكانه يتزامن مع نهاية سنواته الثمانية في البيت الابيض بدلا من مشروع للسنة الخامسة من رئاسته.

بعض المشاريع حملت عناوين ومصطلحات براقة: محاور صناعية، “علاقة شراكة لاعادة بناء اميركا،” تحدي “لاعادة تصميم المدارس الاميركية،” “القمة الخاصة للاستثمار في الولايات المتحدة،” و”وقفية الأمن للطاقة.” بالرغم من كل ذلك، لم يتطوع بأية معلومات قد تكون مفيدة حول البرامج المذكورة، بل ليس مستبعدا ان تدخل ادراج النسيان في المستقبل القريب.

         النبض الشعبي، وفق استطلاعات فورية للرأي تجري خلال القاء الخطاب، جاء بنتيجة مخيبة لآمال الحزب الديموقراطي اذ  كان التأييد متدنيا بين الناخبين من كافة التوجهات السياسية، الديموقراطيين والجمهوريين والمستقلين، على السواء لمجرد مطالبته اتخاذ اجراءات مشددة اكثر للحد من انتشار الاسلحة الفردية. وسجلت اعلى اصوات الدعم عند الاشارة الى حتمية عودة القوات الاميركية من افغانستان. معدلات ردود الفعل على فقرات متعددة من الخطاب الرئاسي دلت على تقارب بين مشاعر المستقلين والجمهوريين، مما يؤشر على الحجم الضئيل لشعبية الخطاب الرئاسي بين عموم الشعب الاميركي.

يستدل من المحصلة العامة للخطاب الرئاسي عن حال الأمة انه ثمة تكرار لقضايا وردت في خطابات سابقة، قدمها اوباما خلال الحملة الانتخابية وتلك التي القاها امام الكونغرس. اذ لا يستشعر منه ان هناك توجه جديد في الافق او انه ينوي معالجة التحديات الحقيقية التي تعاني منها الولايات المتحدة. وعلق عضو المحكمة العليا، انتوني سكاليا، الذي تغيب عن حضور القاء ستة عشر (16) خطابا رئاسيا متتاليا، بالقول “لقد تحولت (المناسبة) الى مشهد صبياني. لا اريد التواجد هناك كي لا اضفي شرعية عليها.” ويشاطره الرأي معظم قطاعات الشعب الاميركي مجسدا ذلك بادنى مستوى مشاهدة خلال عشرين (20) عاما، باستثناء آخر خطاب رئاسي القاه الرئيس الاسبق بيل كلينتون.

  تضافرت تطورات عالمية وانباء داخلية ذات اهمية واسعة للنأي بالخطاب جانبا، اهمها التفجير النووي لكوريا الشمالية، والعاصفة الثلجية الكبرى في ولايات الشمال الشرقي، وحالة القلق العام نتيجة تمرد وغضب احد افراد الشرطة السابقين في لوس انجيلس ومطاردته بعد اطلاقه النار على زملاء سابقين احتجاجا على سوء معاملتهم له وطرده من السلك الوظيفي.