مصر : بين نظام الخيبة وارتهان النخبة!
24 نيسان، 2009
يخطيء من يعتقد ان تراجع مكانة مصر الدولية والاقليمية تعود لسوء الادارة الديبلوماسية للنظام شبه المحنّط بانتظار أزوف لحظة التغيير او التوريث ، اي التمديد.
كما يتوهم من يحصر سوء الاداء و”تعثر” الخطوات بالفترة الاخيرة التي شهدت حربين عدوانتين شنهما الكيان الصهيوني الغاصب على لبنان وغزة، وكأن النظام بريء من التواطؤ في حرب تموز 2006 والتشجيع والتآمر والمشاركة بالحصار مع حكومة اولمرت في حرب 2008-2009 على غزة.
ويشتد الزوغان عندما يتم اختزال المؤشر على “ضعف النظام الرسمي المصري” وعورته بالحملة الاعلامية “البذيئة” لأجهزة إعلامه الرسمية او الملحقة بها وممارستها “للردح” الاعلامي الغبي ، تتـفـنـن في كيل الشتائم لحزب الله وأمينه العام شخصيا – بعد افتعال الأجهزة الأمنية لقضية مفبركة- بعنوان موضّب تحت مسمى “خلية حزب الله.”
وفجأة يكتشف البعض تبعية الاعلام المصري “الكاملة”، وتحوله الى “بوق دعاية يطلقه الحاكم حين يشاء ويسكته حين يشاء.” كأنّ الاعلام الرسمي المصري قبل توجيهه بالسعار في قضية المناضل سامي شهاب كان يغطس حتى أذنيه في المهارة المهنية والمصداقية ،وحمل الرسالة الاعلامية النبيلة ، تقياً نقياً من عيوب الإنتهازية والمحسوبية والتزمير والتطبيل ،أو “الردح” المدفوع الأجر وحسب الطلب.
يتمادى في الاوهام من يسند ما يعتبره فشل سياسات النظام المصري العربية والداخلية الى غياب الرؤية الاستراتيجية الواضحة لديه ، للتعامل مع حقائق الوضع الاقليمي والدولي ومتغيراتها، لأنه يتغاضى عن الحقيقة المرّة ، أنَه ومنذ انخراط النظام في معاهدة كامب ديفيد تحول الى دولة تابعة منزوعة السيادة، لا تملك القدرة على امتلاك رؤية استراتيجية مستقلة، تعنى بالمصلحة الوطنية المصرية أو مصالح الأمن القومي العربي ومستلزماته، بما فيها دور عربي طليعي يصون لمصر مكانة اقليمية وازنة. لم تعد مهمة النظام الأساسية محصورة في حماية وجوده كسائر الانظمة الأخرى، بل تعداها الى لعب دور وظيفي أمني في الاقليم مقابل الرشوة الاميركية التي يتقاضاها لصيانة معاهدة “السلام” مع الكيان الصهيوني الغاصب ، ولعب دور الوصيفة الأمنية الاولى في مملكة المشروع الاميركي للهيمنة في الوطن العربي والعالم الاسلامي، ويستتبع هذا الدور ضمان تأمين البيئة العربية – الاسلامية للخضوع الى املاءات واشنطن برعاية إقليمية هدفها ضمان أمن “اسرائيل” وتصفية المقاومة.
تتبارى بعض النخب في توغلها الانعزالي القطري الشوفيني عبر خطاب يبدو كلوحة اعلانية في موسم انتخابي ، لتزيين “محاسن” او تسويق “فوائد” مرتقبة من الانخراط في نهج قطري منغلق ، وبذريعة الانسجام مع العولمة ومتطلباتها يتم التنكر لاعتبارات الانتماء الطبيعي ، والهوية الجامعة، أو المصلحة العربية المشتركة، رغم ان التجربة اثبتت ان الوحدة القطرية مهددة بالتفتت حين يسود الابتعاد او حتى التغاضي عن مستلزمات الأمن القومي العربي ، الذي يصون الوحدات الاقليمية وأمنها أصلا. ولا أدري بعد انكشاف أزمة القرصنة المالية العالمية وما حملته من آثار مدمرة على الاقتصاديات القطرية العربية، كيف يستمر البعض في تبرير القفز الى قبول شروط العولمة الاقتصادية دون قبول دائرة “العروبة الاقتصادية” اصلا، والسعي لاستكمال بناء منظوماتها لتحصين عملية التفاعل مع العولمة بأقل الخسائر من قوتها التسلطية؟؟
بعض النخب اعتادت من وقت لآخر زيادة جرعة قطريتها الشوفينية كردة فعل على ما تعتبره تجاوزا من الشقيق القريب، بينما لا نجد حماسا واستنفارا مماثلا تجاه التجاوزات الفعلية والانتهاكات من العدو الغريب!
كما وتمارس بعض النخب المصرية ما يمكن تسميته ارهابا فكريا على بقية العرب بذريعة الحساسية المفرطة حيال التعرض بالنقد والمساءلة لسياسات وممارسات اركان الحكم في مصر، والتي لها تأثير مباشر على مسيرة الأمة بأسرها، أو لدى أي منافسة في حقول الفن، والمعرفة، والسياسة، والثقافة… الخ. قد يتفهم المرء الحساسية التي تصدر من ابواق أركان النظام لاننا اعتدنا سماع نغماتها الرتيبة والمملة، لكن ان تنساق مع هذه الحساسية المفتعلة غالبا “كتيبة” كبيرة من العناصر المحسوبة على التيار الوطني القومي العربي ، وفي قضية تمس المقاومة والقضية الفلسطينية .. أمر يدعو للاستغراب والاستنكار معا.
واعتادت بعض النخب المصرية التصرف مع بقية أشقائها العرب بمنطق ناظر المدرسة تجاه طلبة قاصرين مشاغبين، أو عقلية الشقيق الأكبر (رغم عدم اعترافه بالعائلة أحياناً) الذي فوّض نفسه بهذه الصفة ليتولى دور الأب في غيابه ، لتقويم سلوك صغار يقلقون راحته اثناء خلوده للنوم.
ألم يخطر ببال هؤلاء ان توقيت فتح ملف مفبرك هو محاولة يائسة من نظام يترنح جراء الاخفاقات المتعددة لسياساته الهدامة، وهو معزول داخليا وعربيا واقليميا من أجل صرف الانظار عن سياساته المشينة ، وطنيا وقوميا، بتواطئه الأمني واللوجستي مع الكيان الصهيوني الغاصب؟!
إن بدعة تهديد الأمن الوطني المصري في هذه القضية المفتعلة، لا يجوز أن تنطلي على أحد، وخاصة الوطنيين والقوميين العرب في مصر ، لأن النظام فرّط حتى النخاع بأمن مصر ودورها ، وتخلى عن التزامات الأمن القومي العربي، وتحول الى خادم أمين ومطيع للنظام الأمني الاقليمي الاميركي – الأطلسي – الصهيوني. والنخبة الفاسدة الحاكمة تخشى من خسارتها للرشوة التي يقدمها لها السيد الاميركي منذ اتفاقيات كامب ديفيد التي انهت ارتباط مصر بالامن القومي العربي وقوّضت شروط حماية الأمن الوطني المصري. واقتنعت هذه النخبة تحت سوط الابتزاز الصهيوني بأن ضمان تدفق الرشوة او عدم المساس بحجمها يتطلب رضى الوكيل الصهيوني عنها ، كي “يضغط” لعدم تحريك قواته الضاربة في المسرح الاميركي.
والآن ظهرت للعيان حقيقة ارتباط بعض رموز “النخبة” الوطنية والقومية المصرية بآلية النظام خلال العدوان على غزة. وتراجع وعيها القومي والوطني عندما ناشد السيد حسن نصر الله الشعب والجيش المصري التحرك لنجدة ابناء غزة المحاصرين من المذبحة التي ترتكبها القوات الصهيونية. حينذاك اندفعت هذه الرموز لتوجيه الانتقادات وازداء “النصح” لسيد المقاومة بتفهم “حساسية الشعب المصري.” ولكن بعد توضيب الخلية المزعومة سارع جمع غفير من النخب للالتحاق بنوبة الهستيريا والفجور والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور التي انتابت غوغاء النظام وادواته وابواقه ومرتزقته.
إن ظاهرة “دب الصوت” ضد من ينتقد سياسة انظمة التبعية العربية المفرّطة بالقضايا القومية تحت ذرائع السيادة والسلم الاهلي، هي الرموز الكودية (السرية) لمن يتصرف وكأنه يدافع عن شرف العائلة الحاكمة المطعون به. ويبدو ان انخراط البعض من المحسوبين على النخب الوطنية والقومية في حملات الدفاع عن نظام شرم الشيخ لا تقتصر على القطر العربي الشقيق بل تتجاوزه الى العديد من انظمة التبعية العربية ، لكنها تبدو نافرة ومفرطة في مغالاتها لدى الاشقاء المصريين.
تطرح مثل هذه الممارسات بعض التساؤلات حول هشاشة الادعاء بالانتماء للتيار القومي العربي ، لا بل تفضح الارتهان للمنطق القطري الضيق بحكم ارتباط مصالحهم الخاصة مع النظام الآيل للسقوط ، كذلك عندما يعجز هؤلاء عن التمييز بين النقد المشروع من كل عربي اينما وجد ، والموجه للانظمة العربية في سياساتها المفرّطة بالقضايا القومية وبين التدخلات الخارجية في معركة التغيير الداخلية. فالانتماء للتيار القومي العربي والانخراط في الدفاع عن أو تأييد مشروعه وقضاياه ، ليس بذلة يمكن ارتداءها بانتقائية ومزاجية ، ونزعها خشية الشعور بالاحراج تحت ثقل التبعات من إنزعاج النظام.
ربما ينفع هنا التذكير كيف تسامى سيد المقاومة في لبنان على الجراح ، عند اتهام أنظمة التبعية العربية وابواقها له القيام بمغامرة خلال عدوان تموز 2006، وبالرغم من التآمر والغدر من الأشقاء واستماتة العدو الصهيوني بالاجرام والقتل والتدمير، لم يبدِ سيد المقاومة أي تذمّر ولم يطالب أحدا، لا النظام المصري ولا غيره، القيام بنجدة شعب لبنان او مقاومته. وصوّر النظام العربي التابع ذنب السيد وجريمته التي لا تغتفر خلال عدوان غزة على انه طالب مُحقا وباسم كل الشرفاء والاحرار في الوطن العربي والعالم ، بأن يتحرك الشعب والجيش في مصر العروبة لنجدة اشقائهم في غزة وفتح معبر رفح. ولم يطلب من مصر أن ترسل لهم السلاح أو العتاد لمواجهة حرب الإبادة الصهيونية ، وهو واجبها الوطني قبل القومي.
هذه الحرب التي اعلن مجرمو العدو إيقافها من جانب واحد بعد 23 يوما من القتل والحرق والدمار، بناء على طلب من الرئيس المصري . فحتى لو كان المجرم اولمرت يخادع ويراوغ فانه يقرّ بحقيقة ان الرئيس المصري لم يطلب منه وقف الحرب طيلة الأيام الطويلة الدامية التي سبقت اعلانه وقف اطلاق النار.
لا شك أن شعب مصر الابيّ الصابر والمغلوب على أمره يشعر بالأسى والإحباط والأسف عندما تبدو معظم نخبته الوطنية الناطقة – مع استثناءات مشرّفة– ألعوبة بيد نظام هي شاهدة على فساده وعجزه وارتهانه للحلف الاميركي – الأطلسي – الصهيوني . وتعتصره المرارة أكثر عندما تكون هذه النخبة عاجزة عن توحيد صفوفها وتتبنى برنامجا وطنيا قوميا ينشد التغيير في مصر، ويعيدها الى الدور الريادي المفترض والمنتظر، ويعبر عن طموحات وآمال شعبها المحاصر ايضا بنظام أمني يعتاش على فتات الصدقات والمعونات الخارجية.
لقد عدت الى الخطاب المسجّل الذي القاه سماحة السيد نصر الله في الأول من محرّم لدعم غزة، وأنصح الجميع بالعودة اليه، لانني شعرت كغيري في الوطن العربي والعالم بأنه ينطق بلسان حالي وحال الشعب المصري. ولم يأتي الخطاب وفحواه بانه لا يتناسب مع حسابات “نخبة” وطنية وقومية مصرية هاجسها التماهي مع أجندة النظام لتنال رضاه ، وتضمن هامش من الحركة منحها اياها طالما انها مطواعة ولا تهدده وبامكانه الاعتماد عليها عند الحاجة. ولقد كان مخزيا مستوى الإسفاف والسوقية التي انحدرت إليه بعض الأقلام في حفلة الشتائم التي وجهتها لسيد المقاومة ، وهو لقب انتزعه بجدارة وامتياز، لما أثبته في ميدان معمودية النار الدائمة التي يخوضها ضد العدو الصهيوني وعملائه ، من تفان وكفاءة وإخلاص وإباء مقرون بالعزّة والكرامة والحكمة والشجاعة والإقدام والريادة.
ان تباكي البعض على انتهاك “سيادة” أنظمة التبعية العربية يدعو للشفقة في ظل الاستباحة المطلقة للارض وما عليها من السيد الاميركي ووكيله المعتمد الكيان الصهيوني ، خاصة عندما يتم تضخيم قضية المناضل من حزب الله الذي حاول مساندة أهلنا في غزة واعتبار جهده المحكوم بقهر الجغرافيا انتهاكا للسيادة والشرعية.
لقد حان الوقت لتقديم وتكريس شرعية ومشروعية المقاومة كتعبير عن السيادة الشعبية التي تعتبر أن كل الأرض العربية ساحة لنضالها ضد المشروع الصهيوني. فلا سدود ولا حدود (وهي مصطنعة أصلا) بين الدول العربية وفلسطين عندما يتعرض شعبها للحصار والحروب علاوة على عنف الاحتلال القائم أصلا.
تشكل ردة فعل النظام المصري وأدواته الإعلامية ونخبه المرتهنة دليلا ساطعا على ضعفه وهشاشته وخوفه من شعبه. مصر الآن ، تبدو لي ، أمام مفترق طوفان قادم محتبس خلف السدود الأمنية ، ولا يهم المواطن المصري ومعه العربي هذه الأيام كيف سيكون شكل الطوفان القادم أو مصدره ونقطة انطلاقه. وسيرحّب بأن يفيض نيل التغيير على حين غرّة من النظام البائس المحنّط ، في انتفاضة تحاكي تجارب رجال مصر العظام الّذين سبقوا وصنعوا مجدا لها ولشعبها ومحيطها العربي.
كما سيهلّل الشعب اذا انشقت فجأةً عيون الاهرامات الحابسة دموع المقهورين في أرض الكنانة ، وهطلت مطرا دافقا جارفا يكنس زمرة الذلّّ والهوان والارتهان ، الحرّاس الجدد للسور الأمني الواقي للكيان الصهيوني الغاصب. هذه أمنية أسرّ لي بها أحدهم من الّذين يشكلون “خلايا” في نسيج الأحلام الوردية لشعب مصر. وأحتفظ بعدم الكشف عن كيف ومتى “هبطت عليّ” ، ولكني مستعد لمضبطة التحقيق والاتهام التي سيلفقها زبانية النظام بأنني أحرّض على الانقلاب العسكري أو الثورة الشعبية أو كليهما . فلا فرق من أين وكيف يتم تحريك هذه البركة الآسنة.
فكما صدح أحد رموز مصر الأبية لعقود خلت ، الشاعر الشهم أحمد فؤاد نجم ، أردد معه وايضا الملايين في مصر وخارجها :
يـا مـصـر قـومـي وشـدّي الـحـيـل
كـل اللـي تتـمنيـه … عـــنـــدِك
د. منذر سليمان
كاتب وباحث عربي مقيم في واشنطن