نفوذ “ايباك”: هل هي مرحلة تراجع وأُفول؟

بداية المتاعب “للجنة الاميركية الاسرائيلية للعلاقات العامة” برزت في مؤتمرها السنوي الذي عقد مطلع الاسبوع. اذ وبصرف النظر عن تصدر الشخصيات الرسمية، وعلى رأسها نائب الرئيس الاميركي، جو بايدن، قائمة المتحدثين الى جانب حضور كبير ومميز لاعضاء الكونغرس بمجلسيه ولجانه الفاعلة من الحزبين، شذ المؤتمر عن المعتاد وتغيب عنه كل من الرئيس الاميركي باراك اوباما ورئيس الوزراء “الاسرائيلي.”

تفاقم الازمة السابقة بين اوباما ونتنياهو ارخى ظلاله على اكبر منظمة يهودية فاعلة في المستوى السياسي، سيما وان اوباما لم يغفر لنتنياهو تدخله السافر في الانتخابات الرئاسية الاميركية ودعمه المعلن لمنافسه الجمهوري، ميت رومني.

غياب الرئيس الاميركي ورئيس الوزراء “الاسرائيلي” (وجه كلمته بالفيديو) امر غير مألوف لمنظمة هي الافضل تنظيما والاعظم نفوذا من بين المجموعات السياسية الاخرى في الولايات المتحدة، وينبغي الا يذهب المرء بعيدا في تفسير الازمة الناشئة وكأنها ادت لالغاء ايباك من المعادلة. يعتقد البعض ان مراهنات “اسرائيل،” بالدخول وخسارة نظيفة للمعركة مع الرئيس اوباما لترشيحه وزيري الدفاع والخارجية، قد سدد بعض الضربات السياسية لها. اما حقيقة الأمر فان فريقها الممثل “بايباك” فانه يعمل بصلابة وبعيدا عن الجلبة والاضواء لتعزيز قبضة “اسرائيل” على مفاصل السياسة الاميركية – بدعم من وزير الدفاع الجديد.

السعي لاماطة اللثام عن “ايباك” والتعرف على اساليبها بلي الاذرع يعادل قدرة المرء على استيعاب كنه السياسة الميكيافيلية، في افضل الحالات. فالمنظمة قلما تخرج للعلن باساليبها وسياساتها، وتفضل التحرك بعيدا عن اعين وسائل الاعلام وتنسيق الجهود مع الساسة وصناع القرار من وراء الستار، وليس عبر المنابر الاعلامية.

تأسست ايباك عام 1951 على يد موظف في وزارة الخارجية “الاسرائيلية،” يدعى آيزياه كينين، قبل تحولها للاطار التنظيمي الراهن عام 1953. اذ سعت منذ ساعات تأسيسها الاولى على انشاء نفوذ سياسي تستخدمته للتأثير على صناع القرار السياسي الاميركي، بغية الاستمرار في الدعم الاميركي اللامحدود “لاسرائيل” على حساب اولويات سياسية اخرى. تضم المنظمة نحو 100،000 عضوا هذه الايام، وللدلالة على نطاق تأثيرها وصفتها صحيفة نيويورك تايمز بانها “منظمة فائقة الاهمية للتأثير على العلاقات الاميركية مع اسرائيل.” وذهب البعض بوصفها بانها من اقوى جماعات الضغط (اللوبي) والتاثير في عاصمة القرار السياسي، بينما يعتبرها البعض الآخر كوكيل عمل بالنيابة عن الحكومة “الاسرائيلية،” ايا تكن هويتها، “لتضييق الخناق” على الكونغرس الاميركي بمجلسيه.

على رأس اعمال “ايباك” يأتي حشد الدعم لديمومة المساعدات المالية الاميركية “لاسرائيل،” ولعب دور اساسي في رفع سقف المساعدات السنوية الى 3 مليارات دولار، مما يضع “اسرائيل” في مرتبة “الطرف الاكبر لتلقي مساعدات اميركية تراكمية ضمن برنامج المساعدات الاجنبية” الذي تبنته وتشرف عليه الحكومة الاميركية منذ الحرب العالمية الثانية. كما ان “ايباك” تلعب دورا هاما في ادخال “استثناءات دستورية” على مشاريع القرارات المختلفة بما يخدم “اسرائيل،” والتي لا يسري مفعولها على حلفاء الولايات المتحدة الآخرين. ووصف مركز ابحاث تابع للكونغرس، يعد خدمات الكونغرس البحثية، تلك الاستثناءات  بانها تنص على تقديم “مساعدات بصيغة هبات مالية، وغير منصوص على وجهة البرامج المنوي دعمها .. وصرف تلك الهبات بكامل قيمتها في مطلع الشهر الاول من كل سنة مالية (اكتوبر)، عوضا عن التحويلات الموسمية. ويسمح “لاسرائيل” انفاق نحو 25% من برنامج المساعدات العسكرية على مشتريات تخص المعدات والخدمات المقدمة للقوات المسلحة داخل “اسرائيل،” تشمل اعمال الابحاث والتطوير، بدلا من صرفها لمنفعة السوق الاميركية.”

نفوذ ايباك على السياسة الاميركية اسطوري بامتياز. ووصف احد رؤسائها السابقين، ديفيد ستاينر، المدى الذي ذهب اليه عام 1992 بلقائه وزير الخارجية الاميركية، جيمس بيكر، للتوصل الى تسوية بينهما، اذ قال متبجحا “فضلا عن 3 مليارات دولار، فان (ادارة الرئيس بوش الاب) تركض وراء اصوات اليهود، وسأخبره بكل ما يطرب سماعه .. علاوة على 10 مليارات دولار كضمانات للقروض في مجالات اخرى لا يعلم عنها الكثير.”

عودة لمعركة الترشيحات، فقد رأى البعض ان المصادقة على ترشيح تشك هيغل لوزارة الدفاع يعد مؤشر على بدء تآكل نفوذ اللوبي “الاسرائيلي” في واشنطن، والذي عمل بكد وتصميم من خلف الستار على تطويق مجال حرية حركة وزير الدفاع الجديد المرتقبة وتحويل وجهته الى المدافع الاول عن استمرار الدعم الاميركي “لاسرائيل.”

وينبغي لفت النظر الى آلية تحرك “ايباك،” اذ بمجرد اعلان الرئيس اوباما عن ترشيحه هيغل لمنصب وزير الدفاع يوم 7 كانون الثاني – يناير من العام الجاري سارعت ايباك للاعلان انها لا تنوي معارضة هيغل. بل ذهبت ابعد من ذلك لاضفاء صفة الحيادية بالنسبة له وتعمد الناطق الرسمي باسمها تجاهل الامر كليا والزعم بأن “ايباك لا تتخذ مواقف حيال المرشحين من قبل الرئيس.” والتزمت ايباك الصمت التام خلال الجدل الذي رافق ترشيحه، كما لم تقدم مساعدة عينية للتأثير على آلية التصويت. بعض المراقبين يؤكدون ان ترشيح هيغل كان سيصطدم بحائط موقف ايباك ان قررت معاداته ومن ثم اخراجه من المعادلة.

منظمات يهودية اخرى اعربت عن مناهضتها ترشيح هيغل، منها صدور مذكرة من 14 صفحة عن “المنظمة الصهيونية الاميركية” التي ارست اسباب معارضتها لهيغل. كما انضمت “عصبة مناهضة تشويه السمعة” لجهود معارضته.

اما ايباك، فقد اتبعت استراتيجية اكثر حنكة راهنت فيها على المدى الابعد والسماح لهيغل تولي منصب وزير الدفاع. واضحى هيغل مدين لايباك لعدم اقدامها على اجهاض ترشيحه، وما لبثت ان بدأت مراهنتها تؤتي أكلها، استنادا الى نتيجة توصلت اليها بالثمن المطلوب تقديمه لو استمرت في استعداء لاعب اساسي بامكانه ممارسة نفوذ قوي في توجيه العلاقات الاميركية – الاسرائيلية.

لم تكن ايباك غافلة لحقيقة توفر عدد كبير من الافراد المؤيدين لاسرائيل في هيكل وزارة الدفاع وعدم التسبب باعاقة جهودهم من قبل وزير الدفاع الجديد. وعليه، ليس مستبعدا لو قام هيغل بكبح جهودهم على خلفية معاداة ترشيحه.

 بل، الشاغل الاكبر لايباك راهنا هو مناخ التخفيضات المالية، لا سيما لوزارة الدفاع، وضمان استثناء “اسرائيل” من نصيب التخفيض، للسنة الحالية وفي المستقبل. ولهذا السبب، سعت ايباك لمارسة نفوذها على اعضاء الكونغرس لاقرار “اسرائيل كحليف استراتيجي هام” للولايات المتحدة، وهي مرتبة فريدة لا تتمتع بها اي دولة اخرى. يقتضي هذا التصنيف قيام الحكومة الاميركية بتحويل البرامج المقررة “لاسرائيل” الى بند ميزانية البنتاغون، مما يستوجب دعم تشك هيغل للقيام بذلك – الذي كان سيرفضه في ظرف معارضة ايباك لترشيحه.

الاستراتيجية “الهادئة” الموصوفة اعلاه تمثل ذروة الترتيبات التي تجري بعيدا عن الاضواء، وتقتضي عدم ممانعة ايباك ترشيح هيغل “واستغلال” الخطوة لضمان ديمومة الدعم المالي كجزء عضوي في ميزانية وزارة الدفاع الاميركية؛ الامر الذي سيعزز النفوذ السياسي لهيغل. والثمن المطلوب هو دور هيغل المؤيد لاستمرار تدفق المساعدات الاميركية لاسرائيل عبر دهاليز وزارته. من المستبعد ان يكرر هيغل نقده “للوبي اليهودي” مرة اخرى.

ايباك من خلف الستار

تشتهر “ايباك” بقدرتها على زج عملائها بكثافة داخل الادارات المتعاقبة، سواء للحزب الجمهوري او الديموقراطي. شهد عام 1992 احداثا ادت لاستقالة رئيس منظمة ايباك، ديفيد ستاينر، عقب تسجيل احاديث له يتباهى بمدى نفوذه السياسي الذي ادى لموافقة الادارة على تقديم الدعم “لاسرائيل.” وزعم ستاينر انه كان في سياق “التفاوض” مع ادارة الرئيس الجديد بيل كلينتون بخصوص من سيقع عليه اختياره لتولي مناصب وزير الخارجية ورئيس وكالة الامن القومي. واوضح ان باستطاعة “ايباك” الاعتماد على “نحو عشرة افراد (ذو نفوذ لافت) داخل طاقم حملة كلينتون الانتخابية، في مقرها الرئيسي .. بمدينة ليتل روك (آركنساس)، وانهم جميعا سيتولون مناصب” في الادارة الجديدة.

من نافل القول ان ارصدة ايباك البشرية تم تجنيدها خلال مرحلة دراستها الجامعية، بل اشتملت خطة التجنيد على بضع مئات من الطلبة الجامعيين ليتولوا مراكز قيادية في المستقبل واغرائهم برحلات مدفوعة التكاليف بالكامل لحضور مؤتمر ايباك للعام الجاري. واوضح مسؤول قسم تنمية القيادات في المنظمة، جوناثان كيسلر، ان “كل مرشح لمجلس الشيوخ في المستقبل  سيمر على حرم جامعي اميركي. كما سيمر كل عضو مجلس نواب في المستقبل على حرم جامعي ايضا. فوظيفة ايباك هي التعرف على اولئك والانخراط معهم وتثقيف الشريحة المميزة والواعدة بتولي مناصب قيادية سياسية في الحرم الجامعي.”

برنامج ايباك التدريبي ينطوي على تثقيف الطلبة بالقضايا التي تهمهم، ومن ثم صهرهم كي يصبحوا دعاة ناجحين مؤيدين “لاسرائيل.” في الزمن الراهن، تنشط “ايباك” على بضع مئات من الجامعات الاميركية، كما يزعم موقعها الالكتروني. وتوفر ايباك لاعضائها الطلبة مواد تثقيفية متنوعة مرة كل اسبوعين ، منها تغطية احدث المسائل التشريعية، توجيهات للعمل، القيام بزيارات “لاسرائيل،” وتوفير تدريب اختصاصي لما تصفه بنص “الرد على الدعاية،” كما ورد في الموقع الالكتروني لـ “التحالف لاجل اسرائيل في الجامعة،” المدعوم من ايباك.

من غير المتوقع ان ينتهي الامر بكافة طلبة ايباك تولي مناصب سياسية. فالبعض سيقع عليه الاختيار للانضمام الى مؤسسات الامن القومي الاميركية.

اضحت ايباك مركز دعاوى مختلفة بانها تنشط لحساب اسرائيل في اعمال التجسس على الولايات المتحدة. في شهر نيسان 2005، افاق الجميع على خبر صاعق بطرد مسؤول قسم الشؤون السياسية في المنظمة، ستيفن روزن، الى جانب الخبير في الشأن الايراني لديها ايضا، كيث وايسمان، على خلفية تحقيق يجريه مكتب التحقيقات الفيدرالي للتيقن من امكانية ايصالهما معلومات اميركية سرية لاسرائيل تلقياها من شخص يدعى لورنس فرانكلين. تم اتهامهما لاحقا بالتآمر المخل للقانون لجمع والكشف عن معلومات سرية حول الامن القومي الاميركي وايصالها لاسرائيل. وتبرعت ايباك بتحمل تكاليف الحملة القضائية للدفاع عن وايسمان تتضمن مرحلة استئناف الحكم ان تطلب الامر، وتم اسقاط لائحة الاتهام بعدئذ.

بعد تلك الحادثة بفترة زمنية قصيرة لا تتجاوز 30 يوما، اعلنت وزارة العدل اعتقال عقيد احتياط في سلاح الجو الاميركي يدعى لورنس انثوني فرانكلين، كان يعمل في منصب محلل في شؤون الدفاع في مكتب دوغلاس فايث في البنتاغون. ووجهت له التهمة بايصال معلومات سرية لاسرائيل تتعلق بالامن القومي، وجاء في لائحة الاتهامات ذكر “ايباك” نصا في سياق اجتماع عقد على وجبة غداء سرب فيه فرانكلين معلومات صنفت “عالية السرية” لمسؤوليْ ايباك المذكورين. واعترف فرانكلين بالذنب لايصاله اسرارا حكومية الى المتهمين الاخرين، كما شمل اعترافه قيامه بتسليم معلومات سرية مباشرة الى مسؤول حكومي اسرائيلي في واشنطن. وصدر الحكم بالسجن 151 شهرا (ما يعادل 13 عاما) ودفع غرامة مالية بقيمة 10،000 دولار. واستنادا الى اتفاقية اعترافاته، وافق فرانكلين على التعاون مع الاجهزة الامنية الاميركية في اجراءات التحقيق الفيدرالية الاوسع.

ضلوع ايباك في التجسس على الولايات المتحدة تشير الى تنامي نقاط ضعف في جسمها– اذ لا تستطيع المراهنة على تعاون مسؤولين اميركيين معها كما في السابق، مما يدفعها اللجوء لاستخدام اساليب مخلة بالقانون للظفر بمعلومات كانت تتلقاها من هيئات رفيعة المستوى.

ما تقدم يقودنا الى ضرورة عدم الاستخفاف بنفوذ ايباك نظرا لتشابك مصالح عدد لا باس به من القوى. اذ اثبتت انها رعت نمو جيل جديد من الساسة المؤيدين “لاسرائيل” لتبوأ مناصب متعددة في هيكلية الحكومة الاميركية. واستنادا الى مهارة ايباك في الضغط من خلف الستار وبعيدا عن الضجيج الاعلامي، ستستمر في خدمة مركزية “اسرائيل” وخصوصيتها في السياسة الخارجية الاميركية الى امد منظور.