2014-05-02 التقرير الأسبوعي

 

 

المقدمة  

        دب النشاط في اروقة مراكز الفكر والابحاث الاميركية التي تناول عدد منها مواضيع وقضايا متعددة تخص الوطن العربي، لا سيما سورية التي برزت كساحة تشهد اندحار وتراجع قوى المعارضة المسلحة “الممولة سعوديا وقطريا،” وتعزيز الانجازات الميدانية لصالح الدولة السورية

        سيستكمل قسم التحليل تناوله لآفاق التمرد والمواجهات المسلحة في اميركا، والمنطقة الغربية منها بالتحديد، والتي استعرضها الاسبوع المنصرم. الجديد في المسألة المشار اليها تلمس النقاط الساخنة التي قد تستكمل متطلبات انجاز صاعق التفجير لحالة عصيان مدني لم تعهدها الدولة الاتحادية منذ زمن طويل

ملخصدراسات ونشاطات مراكزالابحاث

سورية

        كرس معهد كارنيغي اهتمامه بالازمة السورية بدراسة مذيلة بتوقيع احد اكبر باحثيه في الاقليم، يزيد صايغ من مقره في بيروت، سعيا لدراسة المتغيرات التي طرأت على تركيبة قوى المعارضة المسلحة متسائلا “هل دخلت الثورة المسلحة في سورية مرحلة الانحسار؟” واعتبرت الدراسة ان قوى المعارضة “لا تزال بمنأى عن الهزيمة،” مستدركا بأنها “وصلت الى مرحلة عدم الصعود على الصعيدين العسكري والسياسي

        واعرب المعهد عن عميق قلقه من استمرار “حالة التشرذم والمنافسة المختلّة” في صفوف المعارضة مشيرا الى نقص العامل البشري “ومعاناتها من تقلص مخزون المجندين الجدد المحتملين .. وتنامي (اتجاهات) الانفصال بين المكوّنات المختلفة للثورة السورية،” واتهمها بالمغالاة والمبالغة في العديد من الانجازات خاصة الاعلانات المتكررة عن توحيد جماعات اسلامية متعددة والتي “لم تقدم ادلّة تثبت صحة المزاعم .. باستثناء انشاء صفحة على موقع فيسبوك،” اشارة الى “اتحاد السوريين الاحرار،” اذ كشفت “المواجهات على قدرتهم المحدودة على تخطيط عمليات عسكرية واسعة النطاق .. وكشفت هشاشة تحالفاتهم الاخيرة

        واشاد المعهد بدور المملكة السعودية “في ترتيب تكوين تحالفات جديدة كبيرة للثوار لمواجهة تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام .. وزادت الرياض بشكل حاد حجم تمويل الثوار منذ آب/اغسطس 2013 .. غير ان المكاسب الفعلية التي تحققت كانت اكثر تواضعا مما كان متوقعا.” واوضح ان الناتج عن تلك الجهود السعودية يتمثل بـ “اعادة تقديم واعادة تسويق (لقوى المعارضة) اكثر منها نتاج عمليات تحوّل خضعت لها الجماعات الموجودة ..” والتي توظف ]”الولاء المعلن لبعض الاجندات الاسلامية” في الغالب باعتباره اداة لتأمين التمويل الخارجي”[ وملاحظة ان “الميل نحو الاتجاهات السلفية لم يتغير، ناهيك عن انه ينحسر

        ولم يفت المعهد الاقرار مواربة بهزيمة المعارضة المسلحة، اذ “من الخطورة بمكان ان يتم تعليق الكثير من الآمال على وعد الثوار باسقاط النظام او حتى اضعافه اكثر. فالمشاكل الكامنة التي تواجهها الثورة المسلحة تجعلها اكثر هشاشة وضعفا من اي وقت مضى .. فنقطة ضعف الثورة المسلحة ليست عسكرية بل سياسية

        وختم بالقول “.. صحيح ان الثورة المسلحة لم تفقد زخمها وقوتها الدافعة، الا انها لا تزال اقل بكثير من مجموع اجزائها .. (وسيطرتها) تضمحل على نحو اسرع مما يمكّنها ان تتماسك وتقوى من الآن فصاعدا

        اما معهد واشنطن فقد سخر من اجراءات الانتخابات الرئاسية السورية نظرا “للنتيجة المحسومة بفوز الرئيس بشار الاسد” سيما وان اعادة انتخابه “في الحقيقة تشكل جزءاً من استراتيجيته الاوسع لتدمير الخطة المدعومة من قبل المجتمع الدولي بانجاز حل تفاوضي .. وفرضه حل آخر يلبي شروطه

لبنان

        انتخابات الرئاسة اللبنانية كانت محطة اخرى ضمن اولويات معهد واشنطن، معربا عن اعتقاده بأن “تؤدي الى اندلاع موجة عنف جديدة .. في ظل غياب مرشح توافقي او التمديد” للرئيس ميشيل سليمان. كما اشار الى تراجع حدة “الاعمال العدائية” التي تجسدت في “انفجار 16 سيارة مفخخة عام 2013” وتراجعها يعود لعدة عوامل منها “.. الانتصارات التي انجزها نظام الاسد في المناطق الحدودية الاستراتيجية .. وربما لدور اتفاق سعودي-ايراني غير معلن” لنزع فتيل التفجير في لبنان.

تعثر المفاوضات برعاية اميركية

        حمّل مركز السياسة الأمنية مسؤولية توقف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية و”اسرائيل” للادارة الاميركية و”اخفاقات السياسة الخارجية في سورية، ومصر، وايران، وروسيا، واوكرانيا، والصين، وكوريا الشمالية، والمملكة السعودية، ودول اخرى متعددة في مناطق شتى.. مما قوّض مصداقية الولايات المتحدة وصبت في صالح خصومنا.”  واعرب عن اعتقاده بأن “المصالحة” الفلسطينية جسدت “عبثية مراهنة (وزير الخارجية) كيري والضغط على ادارة الرئيس اوباما مواجهة الحقائق اذ ان التوصل لاتفاقية سلام تستدعي ممارسة ضغوط اشد على المسؤولين الفلسطينيين .. والعمل مع اسرائيل .. عوضا عن علنية انتقادها كعقبة اساسية تعترض التسوية

        مؤسسة هاريتاج بدورها التزمت لهجة تدل على السخرية من خطوة السلطة الفلسطينية “التوجه لنيل اعتراف أممي .. اذ ان فلسطين ليست دولة، على الرغم من اعتراف ما ينوف عن مئة دولة بها كعضو مراقب” في الهيئة الدولية. وبعد استعراضها للشروط الدولية لقبول دولة عضو كما نصت عليه “معاهدة (مدينة) مونتيفيديو لعام 1933” خلصت بالقول ان “فلسطين تشذ عن الامتثال للشروط المنصوص عليها

الخليج العربي

        ناقش مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ما اعتبره “التهديدات التي تواجه منطقة الخليج .. والعناصر الاساسية التي تحافظ على ديمومة علاقة الشراكة الاستراتيجية لحلفاء الخليج مع الولايات المتحدة” التي اجملها بالعوامل التالية “مدى التزام الولايات المتحدة (بأمن) الخليج .. حجم جهود التحديث وتنمية القوات العسكرية لدول مجلس التعاون .. أهمية الاستقرار الاوضاع الداخلية في منطقة الخليج .. والهيكلية الشمولية للمؤسسة السياسية والعسكرية الايرانية

        معهد المشروع الاميركي تطرق الى “اخفاق السياسة الاميركية في وضع حد لنمو تنظيم القاعدة،” مناشدا صناع القرار بأن السياسة الحكيمة تقتضي “اعادة تقييم للعدو واهدافه واختيار الادوات المناسبة .. والاخذ بعين الاعتبار تعريف ادق لايدولوجيته، واهدافه المعلنة، والاستراتيجية العسكرية والسياسية .. والاخذ بجدية التحديات الناجمة عن المنظمات المناصرة له .. وتضمين الاستراتيجية نمط محدد من سياسة مكافحة التمرد ومكافحة الارهاب ايضا

 كردستان العراق

        اقر معهد ابحاث السياسة الخارجية بما وفره “العدوان الاميركي على العراق” من فرصة “لتحالف الاكراد مع اميركا واستغلال العلاقة لتحرير انفسهم .. وبمحض الصدفة اضحت منطقة كردستان العراق احدى الانجازات الحسية والدائمة للسياسة الاميركية في الشرق الاوسط،” والتي يعود الفضل الى “تسيد زعامة اميركية لعقدين من الزمن ..” مما يطرح مجددا العودة الى تلك المعادلة “خاصة في ظل المواجهة الراهنة مع روسيا بخصوص اوكرانيا

        اشاد مركز ويلسون ” بنجاح التجربة الاقتصادية” في كردستان العراق واعتمادها كنموذج “لخفض حدة العنف في المنطقة ..” على الرغم من عدم توفر ضمانات بنجاح التجربة في اماكن اخرى في الاقليم والتي قد تقع “ضحية للقوى القومية التي تصدرت قيادة السياسة العربية لعدة عقود.” وحث على المضي باستنساخ التجربة مع الاقرار بالعقبات التي تعترض “التحالفات الاقتصادية عابرة الحدود والتي قد تعيق امكانية استحضار نمط الحكم المركزي، والدول الاستبدادية وعنف تشظيها الى جيوب عرقية وطائفية صغرى

 

التحليل

تقرير خاص : اميركا من الداخل

 

آفاق نشوب نزاع أهلي وتمرّد مسلح في أميركا

ملاحظة: نزولا عند رغبة القراء والعاملين بشؤون الابحاث السياسية والاستراتيجية، وتلقينا العديد من المقترحات بضرورة متابعة البحث في مسألة الوضع الداخلي المغمور في اميركا، نضع بين ايديكم الجزء الثاني من التقرير الخاص نستعرض فيه: امكانية نشوب اضطرابات أهلية وعصيان مدني نظرا لطبيعة التهديد التي تمثله كيانات الميليشيات المسلحة على الاستقرار الاجتماعي؛ ومديات ظواهر الانقسامات الافقية المتنامية في المجتمع؛ وسبر اغوار النتائج المحتملة

        تركيبة الدول الوطنية ومجتمعاتها عبر العالم تشترك بخاصية تجانس اعراقها المختلفة، باستثناء الولايات المتحدة التي تتشكل من بوتقة جامعة تجمع فيها اعراق عدة وثقافات مختلفة – وهنا لا نناقش الممارسات العنصرية البشعة التي لا زالت سائدة ضد الاميركيين من اصول افريقية بشكل خاص. كما ان النظام السياسي الاميركي لا يستند الى صيغة توارث الحكم ضمن “العائلة المالكة،” وطبّق مشاركة افراد المجتمع في انتخاب ممثليه تصاعديا الى منصب الرئيس وفقا لاحكام الدستور. اما بعض مثالب النظام القائم فهي تؤشر على تعدد منابع التوتر في المجتمع نظرا لتعظيم دور الفرد على حساب الجماعة، اذ يسعى كل من يستطيع الى تحقيق اهدافه الخاصة ضمن النظام الواحد، والذي ارسى اللبنة الاولى لنظام تتحكم شريحة ضيقة لا تتعدى 1% بالمقدرات والثروات الطبيعية

        المجتمعات الانسانية عامة لا تخلو من التوترات والتناقضات، والمجتمع الاميركي ليس استثناءاً لتلك القاعدة، بل شهد مصادمات ومواجهات مسلحة عبر مراحل تشكله منذ قدوم الاوروبيين الى القارة الجديدة، لعل اشدها قسوة كانت الحرب الاهلية الاميركية والتي تلاها عدد من الاشتباكات اتسمت بالعنف والتصفية الجسدية بين طرفي صراع، خاصة بين العمال وارباب العمل ابان تطور الثورة الصناعية وحاجتها لليد العاملة. ومن محطات الصدام الاخرى برزت حركة المهمشين والمستهدفين بالتمييز العنصري للمطالبة بحقوقهم المدنية، مطلع عقد الستينيات من القرن الماضي، توالت بعدها الاحتجاجات الواسعة ضد العدوان الاميركي على فيتنام، وتجلياتها الاخرى اهمها تفجير احد مقرات الحكومة الاتحادية في مدينة اوكلاهوما، ولا زالت الاشتباكات المسلحة تتجلى في المجتمع بين فينة واخرى لاسباب وتموضعات متعددة. هذه الاطلالة السريعة تستثني الاضطرابات الناجمة عن انقطاع التيار الكهربائي، مثلا، التي يظهر البعد الاقتصادي من اهم مسبباتها

        بعض الاشتباكات تؤدي الى التفاف الشرائح الاجتماعية وتضافر جهودها، والبعض الآخر ينجم عنها تشققات وانقسامات قد تكون حادة احيانا كما شهدت عليه المظاهرات ضد التمييز العنصري في الستينيات. وفي الوقت نفسه لا يجوز اغفال البعد العقائدي والاصطفاف السياسي وحتى الديني في اطلاق الشرارة الاولى للاحتجاجات، خاصة عند النظر الى ما آل اليه الوضع خلال المواجهة بين قوى الأمن الاتحادية وراعي البقر، كلايفن بندي، وصحبه، قبل تدارك السلطات المعنية واستيعابها لاصطفاف الميليشيات المسلحة وجاهزيتها للاشتباك مع الدولة الاتحادية

        بالمحصلة، تم ارجاء الاشتباك الى مرحلة قد لا تطول على الرغم من ظاهرها في غياب القوى الرسمية وبقاء فريق ضيق من الميليشيات مرابط بالقرب من بندي، وهي لا تزال تتلقى دعما لوجستيا متعدد الاوجه من انصارها ومؤيديها من مناطق اميركية متعددة

استقراء حالة عدم الاستقرار في المجتمع الاميركي

        من سمات عدم الاستقرار، بل تنامي وتيرتها، التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي ادت الى اعادة تموضع الثروة العامة وتركيزها في قبضة شريحة ضيقة لا تتجاوز 1% من كامل النشاط الاقتصادي، بدءا منذ عهد الرئيس الاسبق نيكسون – الذي ارسى توجهات السلك القضائي ممثلا بالمحكمة العليا نحو التيارات اليمينية؛ والرئيس الاسبق ريغان الذي بشّر عهده بازالة القيود وتخفيف تفعيل القوانين المركزية على شريحة الاثرياء واطلاق العنان لها في كامل النشاطات الاقتصادية؛ ومن ثم تنامي ظاهرة الارهاب الداخلي ممثلا بالميليشيات المسلحة وتعزيز سيطرة القوى الاشد محافظة على مقاليد السلطة في جزء كبير من الولايات المكونة للاتحاد الفيدرالي

        في الشق الاقتصادي، جذر الازمات والآفات الاجتماعية، برع عدد من الاخصائيين في التحذير من تراكم مصادر الثروة واقصاء الشريحة الوسطى تدريجيا عن ممارسة دورها الانتاجي. وجاءت مؤخرا شهادة مسؤول سابق في وزارة الخارجية الاميركية، بيتر فان بيورين، والذي شغل مناصب رفيعة منها ابان الاحتلال الاميركي للعراق، دلالة على اختمار بذور الاحتجاجات انتظارا لشرارة تدب النار في الهشيم. وقال فان بيورين: “تراكم النتائج الكارثية لعدة سنوات واكبها الاقلاع عن التصنيع والانتاجية، وتراجع سلم الاجور والرواتب، وتقلص الامتيازات والرعاية رافقها اضعاف ممنهج للنقابات العمالية، وارتفاع معدلات الاتجار بالمخدرات والكحول بين العامة والعاطلين، وخسارة جماعية عريضة لوظائف هامة، وانحدار شديد في معدلات المساواة” وتوزيع الثروة “اي تدمير ممنهج لنمط حياة المجموع لخدمة اهداف شريحة 1% ..” (اسبوعية “ذي نيشن” 1 أيار 2014)

        الروائي الاميركي الشهير، جون ستايبك، مؤلف ملحمة “عناقيد الغضب،” 1939، اوجز مشاهدته للفوارق والاختلال الاجتماعي بعد نشره روايته الشهيرة بالقول انه بات “مشحون بتجليات غاضبة ضد اناس يمارسون اضطهاد الآخرين

        ما لم يمر عليه فان بيورين وآخرين هو تردي البنية التحتية في عموم الولايات المتحدة: شبكات الكهرباء وتوزيع المياه والمصارف الصحية والجسور .. الخ، بفعل جشع الشريحة الضيقة المسيطرة وقرارها بعدم الاستثمار في تطوير قطاعات الخدمات، باستثاءات معزولة لا تعدل الصورة العامة، ومراكمتها معدلات ارباح خيالية لعدة عقود خلت. ويعد هذا التردي في الاداء وعدم الوفاء بالالتزامات التنموية مصدرا اضافيا لحالة عدم الاستقرار، غالبا ما يتم القفز عليها واهمالها بالكامل

        سبق لمركز الدراسات ان تناول وضع الشبكات الكهربائية الاميركية وابراز خصائصها وتردي تجهيزاتها ومعداتها، واضحت البنية غير قادرة على تلبية تزايد الطلب على التيار الكهربائي دون انقطاع لفترات متعددة في المدن الصناعية الكبرى. يشار ايضا الى التقلص في امدادات محطات التوليد بوقود الفحم، لعدة اعتبارات منها المحافظة على البيئة وتقليص انبعاث الغازات السامة. والنتيجة، تنامي الطلب وتراجع الانتاج وارتفاع فترات انقطاع التيار الكهربائي، كما اسلفنا

        انقطاع التيار الكهربائي يتأثر سلبا به القطاعات والمراكز المدينية بحكم كثافة المؤسسات الانتاجية والاستهلاكية، والتي لا تضاهي امكانياتها تخزين الاغذية، مثلا، قدرات المناطق الريفية او الضواحي السكنية الاوسع انتشارا. وعليه، تشتد الحاجة لنقل الامدادات على طرق المواصلات. فانقطاع التيار الكهربائي، ولو عرضيا، يؤدي الى فساد الاغذية المحفوظة وارباك شبكة الامدادات. فالظروف المناخية القاسية، لا سيما انقطاع التيار بفعل العواصف الثلجية، الاعاصير والزوابع المدمر، تؤدي الى ازدياد الطلب على المواد الاستهلاكية والتي ينفذ بعضها سريعا، يرافقه صعوبة المؤسسات في اتمام العمليات المصرفية وادامة الاتصال مع المصارف والبنوك لسداد قيمة المواد الاستهلاكية الكترونيا

        تعثر امدادات المواد الغذائية والاستهلاكية للاسواق المدينية يرفع معدلات الاحتجاج والتي قد تتطور سريعا لاشتباك والوصول للمواد المطلوبة بطريق السرقة، وقد تتفاقم الاوضاع سلبا مع استمرار انقطاع التيار الكهربائي مما يعزز حتمية المواجهة والاشتباك مع قوات الأمن والحرس الوطني التي قد تجد صعوبة في السيطرة على الاوضاع، كما شهدت مدن لوس انجليس ونيويورك سابقا

        لعل ابرز مثال على تطور الاحتجاجات وصعوبة السيطرة  كان ما شهدته ولاية لويزيانا خلال “اعصار كاترينا” المدمر عام 2005، والذي اعتبر احد اشد الاعصارات القاسية التي ضربت الاراضي الاميركية طيلة تاريخ تكوين الدولة. واندلعت احداث السطو والاشتباك مباشرة عقب تراجع حدة الاعصار، 30 أب 2005، وسعي من تبقى من الناجين للبحث عن مواد غذائية ومياه شفه نادرة، وتعرضت بعض المتاجر للسرقة نظرا لعدم توفر المواد الحيوية بوسائل اعتيادية، واخفاق السلطات المركزية في توفير الاغاثة والامكانيات المطلوبة بالسرعة اللازمة

        وشهد منطقة مركز الاعصار في قطاع من مدينة نيو اورلينز اعمال سطو واغتيال مسلح وسرقة للسيارات وبعض احداث الاغتصاب كردود افعال على حجم الغضب والاحتقان الشعبي ضد تقصير السلطات، ليس ابان الاعصار فحسب، بل للتهميش والفقر المدقع والاهمال الذي اصاب تلك المناطق. تجدر الاشارة الى ان السلطات المركزية، للدولة الاتحادية والولاية على قدم المساواة، عمدت الى اخلاء تلك المنطقة ممن تبقى من سكانها واجبروهم على اللاعودة، ليتبين لاحقا ان هناك مخطط لاستثمار البقعة الجغرافية لصالح احد حيتان المال والنفوذ المحليين، والذي تربطه علاقة صداقة حميمية مع الرئيس السابق جورج بوش الابن آنذاك

        كما ان السلطات استدعت عشرات الالاف من الحرس الوطني والقوى الأمنية المدججة بالسلاح، اتوا من مناطق اميركية متعددة، بلغ تعدادها زهاء 46،838 عنصر ارسلوا على عجل “لحفظ الأمن” في تلك المنطقة الملتهبة. اتضح لاحقا ان جزءاً كبيرا من تلك القوى لم تتوفر له المعرفة التامة بحقيقة التوترات ودرجات الاحتقان. وعبرت حاكم ولاية لويزيانا آنذاك، كاثلين بلانكو، بصفاقة عن جهوزية القوة قائلة “لديها بنادق رشاشة من طراز ام-16 معدة وجاهزة للاطلاق. اعضاءها يحترفون اطلاق النار والقتل وتوقعاتي انها ستقوم بذلك.” واقر النائب في مجلس النواب عن الولاية، بيل جيفرسون، في تصريح لشبكة “ايه بي سي” للتلفزة بالقول ان القوة “اشتركت في اطلاق النار، وايضا في اعمال القنص

        ما دلت عليه تلك التجربة المكلفة بشريا وماديا هو عدم قدرة السلطات الاتحادية السيطرة على اندلاع اشتباكات عاجلة تهدد السلم الأهلي، بل ربما فاقمتها. ففي حال اعصار كاترينا، تردد ان السلطات الاتحادية كان لديها خطة باخلاء الناجين من الاعصار الى مراكز اكثر أمنا، منها ملعب كرة القدم الضخم، مهيأ لاستيعاب 800 فرد في احوال الطواريء بينما تدفق اليه حوالي 30،000 نازح

        هشاشة البنية التحيتية لشبكة توزيع الكهرباء لم تغب عن بال المسؤولين الحكوميين، وادراكهم ايضا لتداعيات انقطاع التيار لبعض الوقت مما قد يشعل هشيم العنف في معظم المناطق. وطالبوا بتطبيق بعض الاجراءات، لتبرز عقبة الانجاز بانها ستستغرق عدة سنوات بتكلفة اجمالية تقدر ببضع مليارات من الدولارات

        التقلبات المناخية الحادة تشكل احد اهم دواعي القلق فضلا عن خلل تقني ينال شبكة توزيع الكهرباء بالتتالي، مع الاخذ بعين الاعتبار ان الشبكة تبقى عرضة لاستهداف هجمات ارهابية، محلية او خارجية. ورصدت الاجهزة الرسمية حالتي هجوم على الشبكة العام الماضي؛ الاول استهدف المحطة النووية لتوليد الكهرباء في ولاية تنسي، والثاني استهدف محطة فرعية في ولاية كاليفورنيا عبر اطلاق نار من قبل مجموعة مجهولة الهوية، ادى الى تدمير 19 محولا كهربائيا. تم الحادث في ساعات متأخرة من الليل وهي فترة لا يكثر عليها الطلب وتم استدراك التداعيات واصلاح الخطوط قبل بزوغ ساعات الفجر. يشار الى ان الحادث الاخير لو وقع في وضح النهار اثناء ذروة الطلب على التيار الكهربائي، ربما لتسبب بانقطاع تام لمنطقة جغرافية واسعة. كما ان الفاعلين في كلا الحادثتين استطاعوا الافلات ولم يعثر عليهم. واخذت شركات التوليد عبرة سريعة بتعزيز اعمال الحراسة على المحطات الرئيسة والفرعية

        في الاحوال الاعتيادية، تشكل الاضطرابات الناجمة عن انقطاع التيار الكهربائي احد اكبر التهديدات التي تواجه النسيج الاجتماعي الاميركي. وتم رصد تنامي مضطرد لاحتمال وقوع اشتباك مسلح بين السلطة المركزية والمواطنين، تعزز بشكل اكبر خلال المواجهة مع راعي البقر، كلايفن بندي، تصدرتها الميليشيات المسلحة والوافدة على جناح السرعة لمنطقة الاشتباك المحتملة بدافع اختلافاتها مع سيطرة ونفوذ الدولة الاتحادية

        تشكيلات الميليشيات المتعددة تلتزم جانب السرية في اعمالها، وما يتوفر من معلومات دقيقة هو النذر اليسير. احدى اهم مكونات تلك المجموعات برز “حماة القسَم،” الذين يبلغ تعداد افرادها نحو 3،000 عنصر وسبق لبعضهم اداء الخدمة العسكرية او في اجهزة الشرطة، وعقدوا العزم فيما بينهم على عدم امتثالهم لاوامر الدولة التي يعتبرونها مناهضة للدستور

        برز تشكيل “حماة القسَم” بقوة في مواجهة القوات الاتحادية نظرا لاتخاذها من مدينة لاس فيغاس مقرا اساسيا لها واستطاعت حشد اعضائها على وجه السرعة وتوفير المساعدات اللوجستية للمرابطين في مزرعة بندي. التشكيل لا يعتبر نفسه ميليشيا مسلحة، بيد ان رصد اعضائه بكامل اسلحتهم في المنطقة سلط الاضواء عليه

        تعزز وجود “حماة القسَم” بفروع اخرى من الميليشيات المسلحة، والتي لم تعرف اعدادهم بدقة لكن يعتقد انها ادنى من سرية مشاة. وتجدر الاشارة الى الولايات المتعددة التي ارسلت “ميليشيات مسلحة” للمرابطة هناك، منها: تكساس، مونتانا، اوكلاهوما، اريزونا، ونيفادا. اما الاعداد الدقيقة فبقيت حيز التكهن. من المجموعات المسلحة الاخرى صعد “فرسان الجبل الغربي، حركة 912، ومجموعة 3%.” الاعتقاد السائد ان اعضاء تلك المجموعات لا تتجاوز اصابع اليدين، اما حجم المساعدات الراجلة والمعدات التي تموضعت في موقع الاشتباك المحتمل يدل على قاعدة عريضة من المؤيدين الملتزمين بتوفير المعونات اللوجستية

        من الخطأ اعتبار تلك الميليشيات المسلحة رديفة لقوة عسكرية حقيقية، بالرغم من خبرة بعض اعضائها في الاعمال الحربية كمجندين في القوات الاميركية المحتلة في العراق وافغانستان. وكل منها لديها هيكلية قيادية منفصلة عن الاخرى، ومن الطبيعي ان تتعرض صفوفها الى خلافات حول التكتيكات التي ينبغي اتباعها. كما ان تشكيلاتها تتباين في جملة الاهداف التي تسعى لتحقيقها، فالبعض هرع لتوفير الحماية لراعي البقر بندي ليس الا، والبعض الآخر لا يتورع عن الانخراط في اشتباك مسلح مع القوى الأمنية الاتحادية

        دلت المواجهة الاخيرة غير المكتملة على امكانية اشعال صاعق التفجير للتمرد في الاراضي الاميركية. وقد افصح عدد من عناصر الميلشيات المشاركة عن رغبتهم باندلاع المواجهة والتي من شانها اطلاق رصاصة التمرد ليعم كافة اراضي البلاد. القوى الأمنية بدورها، والتي تمتلك معلومات مفصلة عن التشكيلات المسلحة واهدافها عبر مخبريها داخلهم، تدرك خطورة الأمر مما دفعها الى التراجع المرحلي عن الاشتباك وانهاك اعضاء الميليشيات عبر المرابطة لفترة غير محددة وما سينتج عنها من عودتهم تدريجيا الى مناطقهم الاصلية

        مع مضي الزمن فقد “بندي” ومناصريه زخم التحرك والاستقطاب وتراجعت حدة الاشتعال التي مثلتها المواجهة قبل بضعة اسابيع. لكن التموجات داخل صفوف تلك العناصر تبقى قابلة للاشتعال مرة اخرى ردا على اي محاولة قمع قد تقدم عليها السلطات الاتحادية، وايقاع خسائر بالارواح

        في حال ساد التعقل وتم نزع فتيل الاشتعال مع “بندي” واعوانه سلميا، لا ينبغي غض الطرف عن التداعيات السياسية العميقة. فالتجربة التاريخية لنشوء الدولة المركزية تشير الى حوادث عدة مشابهة، وكان من شأنها احداث تغيرات بالغة في الخارطة السياسية افرزت حزبين سياسيين يتناوبان السلطة، منذ عهد انتخاب الرئيس توماس جيفرسون. وعرفت تلك المواجهة الحادة “بانتفاضة الويسكي،” عام 1794، في تحدي مزارعي الحبوب خاصة الذرة ومؤسسات تقطير الكحول سلطة الدولة بفرض ضرائب اضافية عالية على مشروب الويسكي، بلغت 25% من القيمة التجارية،  بغية تمويل عجز خزينة الدولة الناجم عن الحروب. ولخص احد المسؤولين الرافضين لسلطة الدولة آنذاك الأمر بالقول “ان نخضع لكافة اعباء الدولة والتمتع بصفر من المزايا العائدة للدولة هو وضع لن نخضع له ابدا

        يجدر الاشارة الى ان انتفاضة الويسكي كانت اشمل واوسع واكبر حجما مما جرى مع راعي البقر، بندي، وفي نفس الوقت ينبغي عدم اغفال الجوانب المشتركة المتعددة خاصة لهبة العديد من المعارضين وتشكيل جسم شبه متجانس مقاوم لاستخدام السلطة المركزية وسائل الضغط بالقوة غير المتناسبة. كما ان المواجهات كشفت اتساع تعدد الاراء السياسية المختلفة، خاصة للوافدين من المناطق الحضرية استعدادا للمواجهة

        تشكلت حينئذ عدة هيئات ومنظمات على ارضية الولاء للوطن، اطلق عليها “الجمعيات الجمهورية والديموقراطية” التي اعتبرت مناوئة وهدامة للدولة الاتحادية. وحذر الرئيس الاميركي الاول جورج واشنطن من تلك الظاهرة المتبلورة قائلا “.. ان لم يتم مواجهة تلك الجمعيات .. ستلجأ لهز الاسس التي تقوم عليها الدولة.” وسارع واشنطن برفقة وزير خزانته آنذاك، الكساندر هاميلتون، تشكيل وترؤس قوة عسكرية ضخمة بمقاييس ذلك الزمن، انطلقت من مقر العاصمة الاتحادية، فيلادلفيا، الى بؤرة التمرد في المناطق الريفية الواقعة في الشطر الغربي من ولاية بنسلفانيا لاخماد حركة التمرد بنجاح. المناوئين للحكومة اطلقوا على القوة المتشكلة “جيش البطيخ” تندرا (واطلاق التسمية مرده ان الجنود كانوا يرتدون بذلات عسكرية خضراء تغطي قمصانهم الحمراء تحتها، أي اخضر من الخارج أحمر من الداخل مثل البطيخ)، والتي استطاعت القاء القبض على نحو 30 فردا منهم دون مقاومة، بيد ان التداعيات السياسية لتلك الخطوة كانت بالغة

        عودة لظاهرة “بندي” وما كرسته من تفاعلات وآفاق في المدى المنظور، ورغبة في وضعها ضمن سياقها الحقيقي بعيدا عن الرغبات والمبالغات الاعلامية، نستدرك اوصاف وسائل الاعلام اليمينية وعلى رأسها شبكة “فوكس نيوز” التي جاهدت واستمرت في ابراز الدور البطولي لراعي البقر ورفعه الى مكانة “الاباء المؤسسين” للدولة الاتحادية ومساواة فعلته بمواجهتهم آنذاك لسطوة التاج الملكي البريطاني. بعد انقضاء “السكرة وحلول الفكرة،” ثبت ان التحدي المشار اليه لم يكن معزولا عن دعم وتحريض التيارات اليمينية وعلى رأسها الممول الثنائي الاخوين كوك، اللذين تبلغ ثروتهما مجتمعة عدة مليارات من الدولارات، والذي وصف بأنه “نموذجا رائعا لحماقة ارتكبها التيار اليميني،” في رهانه على شخص “منزوع الدسم،” في المقياس السياسي والايديولوجي، لتنفيذ اجندة اكبر من حجمه وقدراته الفردية، بل اكبر من طاقات مؤيديه من الميليشيات

        من المفارقة والسخرية في آن ان “بندي” ومناصريه اقاموا خيمة استقبال على بوابة مزرعته لاستيعاب الميليشيات المسلحة تحت يافطة اضرت باللغة الانكليزية لما تضمنته من سوء املائي جاء على الشكل التالي “MILITA SIGHN IN,”خطء قد يرتكبه طالب بثقافة المرحلة الابتدائية، مما يدل على سطحية ثقافة الميلشيات المسلحة من ناحية

        دعم الاخوين كوك لحركة “بندي” الهزلية غير قابل للجدل، وشكل منصة انطلاق لتشكيلات ومجموعات اخرى تناهض الدولة. تراجع الدعم المعلن عقب ارتكابه خطايا تصريحاته المفعمة بالعنصرية والتي شكلت احراجا كبيرا لهذين الممولين “لمواجهة مع السلطة المركزية انتظراها نحو عقدين من الزمن،” كما افاد مقربون منهما. محصلة اجندة الاخوين هي سعيهما لنزع ملكية الدولة عن الاراضي العامة وتحويلها الى السلطات المحلية في الولايات المعنية، كي يتسنى لهما الفوز بعقود مجزية لاستثمار اراضي شاسعة بثمن بخس، ان وجد، مستغلين نفوذهما التجاري عبر شبكة استثمارات متشعبة تدر دخلا لبعض الولايات عن طريق الضرائب من الصعب الاستغناء عنها، مهما بلغت بسيطة

في غضون ذلك، النشاط التجاري للاخوين كوك يشمل التنقيب عن المعادن والنفط وتقنية تكسير الصخور التحتية لاستخراج النفط، وتجارة الاخشاب. يدرك الاخوين بدقة ان استغلال الاراضي المشار اليها ضمن الظروف الراهنة مقيد بقوانين الحماية من الدولة المركزية، ويتضح مدى حرصهما على ركوب موجة الغضب التي رمز لها في البداية “منزوع الدسم” بندي بغية توسيع حجم استثماراتهما. بعبارة اخرى، شكل بندي “حصان طروادة” لمشاريع الاخوين كوك لحين افصاحه عن توجهات عنصرية احرجت اقرب المقربين اليه. وما مراهنتهما على “بندي” الا امتداد لتاريخ المراهنة على “الجمعيات الوطنية” في التاريخ الاميركي الرسمي، ذات الافق الضيق والتي يسهل تسييرها من قبل المتنفذين، على قاعدة صراع ثنائية بين فريق يطالب بدور اكبر للدولة المركزية وآخر ينادي بتكثيف السلطات في المجالس المحلية

اما آفاق المواجهة المذكورة فينبغي النظر اليها في سياق معارك متصلة تعلو وتنخفض حدتها، وتترك خلفها آثارا سلبية في البنى الاجتماعية، ليس اقلها تسليط الضوء على سطوة شريحة الاثرياء (1%) سالفة الذكر، وتنامي فالق توزيع الثروة وتقلص شريحة الطبقة الوسطى تباعا، وتداعي البنى التحتية، مما سيؤدي الى مزيد من المواجهات التي لن تكون نهاياتها بسلاسة نهاية المواجهة مع راعي البقر