استئناف التحالف الوثيق بين تركيا و”اسرائيل” للانتقام من سورية

  بمرور الذكرى العاشرة لتسلم رجب طيب اردوغان مهامه السياسية في منصب رئيس الوزراء، يدشن مرحلة فريدة في ديمومة السياسة التركية، اذ اضحى اطول زعيم سياسي يبقى في منصبه بصورة متواصلة متفوقا على رئيس الوزراء الاسبق المنتخب عدنان مندريس الذي اطاحت به الطغمة العسكرية في انقلاب وقع عام 1960، ثم حوكم واعدم على ايديها.

         كما تلقى اردوغان “هدية واعادة اعتبار” من الرئيس الاميركي باراك اوباما، 22 آذار الجاري، حينما خاطبه هاتفيا قبل مغادرته مطار اللد متوجها الى عمّان للتوسط بينه وبين نظيره “الاسرائيلي” بنيامين نتنياهو في مكالمة دامت نحو 30 دقيقة، التي قدم فيها نتنياهو اعتذاره عن اعتراض قواته البحرية لسفينة “نافي مرمرة” التركية ومقتل عدد من النشطاء الاتراك على متنها. الجانب الاميركي كاد يزهو بانجازه موضحا ان نتنياهو اقر بارتكاب “اخطاء ميدانية” لكنها لم تكن مقصودة، بل “اعرب الجانب الاسرائيلي عن اسفه لمقتل البعض وجرح الاخرين.”

         الآلة الاعلامية لحزب اردوغان، حزب الحرية والعدالة، تحركت على الفور لتزف النبأ ببهجة عالية “لموافقة اسرائيل على الشروط التركية الثلاثة،” والايحاء بأن الاولى رضخت صاغرة لشروطها. في فلسطين المحتلة، تعاملت يومية “جيروزاليم بوست” مع النبأ بازدراء قائلة ان اردوغان ووزير خارجيته احمد داوود اوغلو يصوران الأمر وكأنه “انتصار هام انجزاه معا ضد اسرائيل .. بل ان اردوغان لم يحقق كل ما طمح اليه،” سيما شرطه المسبق برفع الحصار المفروض على غزة، والاهم اسقاط تركيا للتهم القانونية الموجهة للضباط “الاسرائيليين” المسؤولين عن مجزرة “نافي مرمرة.”

         اردوغان بدوره تمادى في تضخيم المسألة الشكلية كاشفا عن نرجسيته في مخاطبة انصاره “عندما بدأ نتنياهو بالحديث معي عبر الهاتف، قمت بقطع الاتصال. وقلت له انني ارغب في مخاطبة الرئيس اوباما اولا. انني احن لسماع صوته.”

         اهداف الدور الاميركي، مجسدا بدخول الرئيس اوباما على الخط مباشرة، قد يكتنفه الغموض لدى البعض، سيما وان علاقته الشخصية والعملية مع نتنياهو شهدت توترا معلنا منذ حملة الانتخابات الرئاسية ودعم الاخير للمنافس الجمهوري ميت رومني. بيد ان حقيقة التطورات السياسية تدفعنا الى القول ان نتنياهو حقق تنازلا معينا من قبل الرئيس اوباما، ربما يفضي الى توسيع هامش مجال مناورته بشأن الملف الايراني او الحصول على مزيد من المعدات العسكرية والمساعدات الاميركية، فضلا عن رغبة الطرفين التركي و”الاسرائيلي” باعادة علاقتهما الى سابق عهدها. واوضح الرئيس “الاسرائيلي” شمعون بيريز الامر بالقول ان للطرفين “اسبابا عدة لتعزيز العلاقات الاسرائيلية – التركية والتعاون بينهما اكثر من اي وقت مضى.” نتنياهو، من جانبه، ذهب للتأكيد على تغير التطورات الاقليمية، ومن بينها ما يجري في سورية، مما يستدعي تعاون اوثق بين الطرفين اللذين يشتركان حدوديا مع سورية. اذن، ما اطلق على تسميته “اعتذار اسرائيلي” كان امرا ضروريا “لضمان أمن اسرائيل،” او هكذا يوحي.

         دوافع تركيا للمضي بترميم علاقاتها مع “اسرائيل” كانت اقل وضوحا. اذ ذهب “مجلس العلاقات الخارجية” الى القول ان الحافز الاكبر لتركيا “ربما يعود لعوامل ثلاث مجتمعة: سورية وايران ومجال الطاقة،” اذ يفسح لها الوصول الى موارد اكتشفت حديثا في مياه البحر المتوسط مما يحتم عليها ايجاد مخرج للتعاون مع “اسرائيل،” مهما كلفها الامر بالنسبة لانعكاساته على تردي علاقاتها مع كل من روسيا وايران من وراء ذلك. اردوغان، بدوره، تمادى في تملقه بالتركيز على “العلاقات التاريخية المشتركة بين اليهود والشعب التركي،” غير غافل عن ذكر دور الامبراطورية العثمانية الداعم لاستيطان اليهود في فلسطين منذ القرن الثامن عشر. بالاضافة لذلك، يدرك الطرفان اهمية تعاونهما في احتواء الازمة السورية والحد من انتقال عدواها الى خارج الحدود او نحو مزيد من التدهور وفقدان السيطرة عليها.

         الثابت ايضا ان تركيا تلعب دورا محوريا في فك وانهاء عزلة “اسرائيل” في المنطقة، سيما في اعقاب تبنيها للتغيرات السياسية التي جاءت بحركة الاخوان المسلمين الى السلطة في عدد من اقطار العرب، ونفوذها الملحوظ على قياداتها، خاصة في مصر. بالمقابل، لزوم “اسرائيل” جانب تركيا يخفف من قلقها على عدة جبهات متعددة: ايران وروسيا وقبرص وبلدان المشرق العربي، بالاضافة الى وضعهما المميز داخل حلف الناتو – بصرف النظر عن ان “اسرائيل” ليست عضواً رسمياً في الحلف.

         في اعقاب اكتشافات موارد الطاقة من النفط والغاز الطبيعي في اعماق البحر المتوسط، تعاظم دور قبرص (الشطر اليوناني) بالدرجة الاولى لتلعب دورا هاما في تنمية وتطوير برنامج الطاقة، واتاحة الفرصة لتركيا و”اسرائيل” استغلال خيراتها المكتشفة لمنافسة روسيا، المصدر الاساسي لتوريد الطاقة الى تركيا. ومن شأن استعادة العلاقات الثنائية، بين تركيا و”اسرائيل،” ايضا فسح المجال لتصدير الغاز الطبيعي من سواحل فلسطين المحتلة الى وعبر الاراضي التركية باتجاه الاسواق الاوروبية، الامر الذي يخدم المصلحة الاستراتيجية للطرفين.

 كما لا يجوز اغفال أهمية عامل تجميد تركيا للورقة الكردية في الصراع واخراجها من التداول المسلح، مرحليا، وما قد يمثله من ترحيب وتعزيز موقعها لدى واشنطن وحلف شمال الاطلسي. ومن شانه ايضا تخفيف العبء عن كاهل الدولة التركية، في المستويات العسكرية والمالية، لتتفرغ للانضمام الكلي الى الجهود الاميركية في السيطرة على منطقة البحر المتوسط وسورية.

 وكما تجلى سابقا، باستطاعة تركيا ممارسة نفوذها السياسي والايديولوجي للضغط على اطراف المقاومة في قطاع غزة لمصلحة “اسرائيل،” سيما وان نتنياهو في مكالمته الهاتفية المذكورة اوضح لاردوغان ان مصير العلاقات الثنائية بينهما مرتبط بما ستؤول اليه اوضاع الفلسطينيين. الثابت الملموس في “التنازلات الاسرائيلية” هو ما تشهده حركة توريد السلع الاستهلاكية الى غزة من تخفيف الاجراءات على قيودها السابقة.

 تركيا، “اسرائيل،” وايران

         يجمع المحللون والساسة على السواء بالدور المحوري لتركيا في تعزيز قدرات الدفاع الجوي “لاسرائيل” ضد ايران، والتي كانت شبه غائبة عن الخطاب السياسي مؤخرا، مع العلم ان قواعد الرادار المتطورة لحلف الناتو في المناطق الشرقية لتركيا، التي تشرف على ادارتها وتوجيهها القوات العسكرية الاميركية، تقوم بتزويد “اسرائيل” بمعلومات بالغة الحساسية حول النظم الصاروخية الايرانية، والتي بواسطتها تستطيع الاولى تصويب نظم آرو للدفاعات الجوية ضد صواريخ “شهاب” الايرانية؛ فضلا عن عدم رغبة او ارتياح تركيا لرؤية جارتها الايرانية على عتبة الارتقاء الى مصاف الدول النووية، والتي تشاطرها “اسرائيل” في الهدف عينه. عمليا، قد يؤدي هذا الامر الى صرف نظر تركيا عن طلعات جوية للطائرات الحربية “الاسرائيلية” للمرور باجوائها في طريقها الى تسديد ضربة لايران.

         حاجة الطرفين لبعضهما البعض يخدم الاهداف “الاسرائيلية” بالدرجة الاولى، اذ يعزز وجودها على الحدود الشمالية مع سورية بشكل خاص، ويخفف عنها بعض الاعباء كي تنصرف الى معالجة التهديد الذي قد يأتي من الجبهة الجنوبية مع مصر، في الوقت الذي تذهب فيه تركيا الى تحمل اعباء التدخل والسيطرة على احداث سورية.

         طموحات اردوغان السياسية لم تعد ثمة تكهنات، بل يراهن على قدرته وحزبه من ورائه بتغيير بعض النصوص الدستورية لصالحه الشخصي التي تحرمه حاليا من الترشح لولاية اخرى، ومن ثم يتطلع لمنصب رئاسة الجمهورية. رهانه يعتمد على صلابة الاداء الاقتصادي واستقراره. اما ترتيباته المعلنة مع رئيس حزب العمال الكردستاني المعتقل، عبد الله اوجلان، لوقف اطلاق النار فهي تأتي في سياق الصراع الاشمل مع سورية بغية نزع فتيل الملف الكردي المتفجر من الداخل التركي، واخراجه من سيطرة الحكومة السورية واحتمال فتح جبهة صراع جديدة.

         اقتصاديا، عودة العلاقات التجارية والديبلوماسية الى سابق عهدها مع “اسرائيل” يعزز الفائض في التبادل التجاري بينهما لصالح تركيا، اذ بلغ مجموع العملية التجارية بينهما لعام 2011 نحو 4 مليارات دولار.

         في الملف القبرصي، يعّول اردوغان على مساعدة “اسرائيل” في استغلال نفوذها لدى القبارصة اليونانيين الذين تتطلع حكومتهم الى نسج علاقات اقتصادية افضل مع الدول الغربية، سيما في ظل الازمة المالية التي تعصف بالبلاد راهنا، وولوج طريق بديل عن تركيا للقيام بذلك. تجدر الاشارة الى ان الرئيس القبرصي اليوناني الحالي، نيكوس اناستاسياديس، يعد رجل الغرب بامتياز ويتطلع للانضمام الى هيئات الناتو للشراكة من اجل السلام. وهذا يستدعي تعاونا اوثق مع تركيا، عضو الحلف، لضمان عدم معارضتها فضلا عن دورها المفترض باستغلال نتفوذها لدى القبارصة الاتراك بغية التوصل الى تسوية سياسية في الجزيرة القبرصية، والتي من شأنها بمفردها تعديل الاداء الاقتصادي للجزيرة سيما لناحية تنعم جميع المواطنين بالخيرات الطبيعية المكتشفة بالقرب من الشواطيء البحرية لبلادهم. الامر الذي سيولد نشاطا واهتماما اقتصاديا على مستويات عدة، من بينها استقطاب استثمارات خارجية للمساهمة في نهضة البلاد، الامر الذي سيفيد تركيا حتما، بل ستكون في مصاف المستفيد الاكبر. اما “اسرائيل،” فبامكانها توفير مصادر استثمارية في قطاع الطاقة الافضل استقرارا ونموا.

          استعراض المنافع المشتركة للطرفين، تركيا و”اسرائيل،” كما تقدم، يوضح بشكل جلي دوافعهما ومصالحهما في المديين المتوسط والبعيد في سياق الصراع الاوسع الدائر على الساحة السورية، ومن ورائها اضلاع محور القوى الداعمة للمقاومة؛ ليس في المنافع الاقتصادية للطرفين فحسب، بل مشروعية السؤال لماذا انتظر نتنياهو فترة طويلة قبل المحادثة الهاتفية وترميم ما اطلق عليه توتر العلاقات الثنائية بالرغم من ان نقاط التوافق والالتقاء بينهما تفوق نقاط التنافر والتناحر بمرات عدة.

تهديدات كوريا الشمالية ومحاولات اميركية لاحتواء التصعيد

  ليست المرة الاولى التي تظهر فيها كوريا الشمالية بموقف التحدي والمواجهة، بل جاء احدثها في اعلان الرئيس الكوري كيم جونغ-اون عن تهديد الولايات المتحدة بشن هجوم نووي عليها ومحيطها، سبقه قرار باجراء تفجير نووي ثالث مؤخرا. ومضى الرئيس الكوري في تصعيد حدة لهجة خطابه السياسي باعلانه العزم على انسحاب بلاده من اتفاقية وقف اطلاق النار المبرمة عام 1953 بغية انهاء الحرب الكورية. بل ظهر الرئيس جونغ-اون برفقة قواته العسكرية قبل بضعة ايام يطلب منها الابقاء على جاهزيتها العسكرية “لدخول حرب شاملة.”

          تاريخ الصراع بين الكوريتين، سواء مباشرة او بالنيابة، يدل على انها ليست المرة الاولى التي تعلن فيها كوريا الشمالية الغاء العمل بالهدنة مع جارتها الجنوبية. اذ رافق انضمام كوريا الجنوبية “لمبادرة انتشار الأمن،” عام 2009، اعلان الشطر الشمالي عن انسحابه من اتفاقية الهدنة. يذكر ان “مبادرة الأمن” تحث الدول الاعضاء على اعتراض شحنات التقنية الصاروخية والنووية التي مصدرها كوريا الشمالية.

         الاجراءات الاخيرة صممت بالتزامن مع بدء المناورات العسكرية المشتركة بين القوات الاميركية والكورية الجنوبية. بالطبع، هناك ما وراء الأكمة يبرر تصعيد لهجة الحرب، قد يكون احدها تولد قناعة لدى القيادات العسكرية العليا القريبة من الرئيس جونغ-اون تقضي بأن التهديدات اللفظية والتفجيرات النووية لم تعد تكفي الغرض منها. اذ كانت التجربة السابقة تشير الى تصعيد خطاب المواجهة عند كل نقطة انعطاف ترمي لتخفيف العقوبات الاقتصادية.

         المسؤولون الاميركيون اعربوا عن اعتقادهم ان لغة التهديد والوعيد لن تسفر عن تخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية التي باتت تؤثر على مستوى معيشة النخب في كوريا الشمالية، والتي يستند الرئيس جونغ-اون الى دعمها للبقاء على رأس السلطة. واضافوا ان تشكيلة النخب تضم الرئيس وحاشيته وذوو الرتب العسكرية العليا، الذين تضم امتيازاتهم استيراد كافة الاحتياجات والكماليات، السيارات الفارهة والكحول، مما اسس لنمط حياة معين للشريحة القيادية بات مهددا بالضياع. في السابق، تم تطبيق العقوبات على السلع الكمالية، اما ما يميز المرحلة الراهنة فهو قرار اممي صادق عليه مجلس الامن بالاجماع لفرض حظر على كافة السلع والمنتجات: تبدأ من سيارات السباق واليخوت لتشمل حظرا على التقنية النووية والعناصر الصاروخية. في اعقاب دعم الصين لقرارات مجلس الامن للعقوبات الجديدة، وهي التي تمثل محطة عبور كافة مواد الاستيراد، تتعاظم الحظوظ لفعالية اكبر للعقوبات هذه المرة.

         من عادة كوريا الشمالية انها تواجه تزايدا في مستويات عزلتها مما يدفعها للاقدام على اتخاذ اجراءات تنطوي على تهديدات، كما جرى في شهر تشرين الثاني / نوفمبر 2009 ابان اجراء تجاربها الصاروخية بعيدة المدى التي حلق احد الصواريخ العابرة للقارات فوق الاجواء اليابانية. في المحصلة العامة، ما تطلبه كوريا الشمالية ثمة الاعفاء وتخفيض حدة العقوبات الاقتصادية، سيما تلك التي تمس مباشرة الشريحة القيادية. تكتيكيا، اضحت كوريا الشمالية اكثر حنكة في التعامل مع الولايات المتحدة والذهاب لمديات ابعد من السابق لكن لما دون مستوى التسبب في مزيد من الانعكاسات الضارة عليها.

         الولايات المتحدة، من جانبها، حافظت على مستوى معقول من الهدوء وتجنب الاثارة، مطمئنة الى فعالية نظامها الدفاعي ضد الصواريخ الباليستية. كما ان المعلومات الاستخبارية المتوفرة حول كوريا الشمالية لم تشر الى قدرتها على تحميل رأس نووي على متن صاروخ بعيد المدى. وتدرك ايضا ان القوات الكورية المسلحة، بصرف النظر عن تعدادها البشري، فان تسليحها عبارة عن اسلحة تعود لجيل الستينيات ويتوفر لديها قدر ضئيل من الدعم اللوجستي.

         لا توجد مؤشرات تدل على ان الادارة الاميركية في وارد تقديم تنازلات لكوريا. اذ جاء على لسان المستشار الرئاسي لشؤون الامن القومي، توم دونيلون، حديثا ان “الولايات المتحدة ترفض مكافأة التصرف الطائش لكوريا الشمالية. كما ان الولايات المتحدة لا تنوي الدخول في لعبة تؤدي لتقبل وعود فارغة او الامتثال للتهديدات. وكما صرح وزير الدفاع الاسبق، بوب غيتس، بالقول اننا لن نلدغ من الجحر مرتين (لن نشتري ذات الفرس مرتين).” واوضح دونيلون ان وزارة المالية الاميركية بصدد تطبيق اجراءات المقاطعة ضد مصرف التجارة الاجنبية، التابع لكوريا الشمالية.

         جدير بالملاحظة ان الولايات المتحدة لم تقدم على اتخاذ خطوات عسكرية، مع الاقرار بأن القوات الاميركية والكورية الجنوبية المشتركة هي في حالة تأهب اعلى من ذي قبل نظرا للمناورات التي تجريانها. لكن ينبغي النظر الى مجمل الاستراتيجية الكونية الاميركية التي اعلن عن تحول اولوياتها شرقا نحو المياه الاسيوية، الا ان القوات المسلحة الاميركية تعاني من انتشار واسع جغرافيا فضلا عن ان تحريك حاملات طائرات اخرى للمنطقة تحسبا لأي خطوة قد تقدم عليها كوريا الشمالية من شأنه خفض مستوى حضورها العسكري في منطقة الشرق الاوسط.

كوريا الشمالية وايران

         السؤال البارز هنا ان كان باستطاعتنا عقد مقارنة بين طبيعة الرد الاميركي على كوريا الشمالية وردها المحتمل ضد ايران. اذ اضحت كوريا الشمالية قوة نووية، رغم عزلتها الدولية، بموارد اقتصادية محدودة، وقوات نظامية كبيرة لكنها لا تمتلك القدرة على الانتشار عميقا في اراضي كوريا الجنوبية.

         بالمقابل، قد لا تمتلك ايران قنبلة نووية بعد لكن قواتها المسلحة اكثر حداثة، تسليحا وتدريبا، فضلا عن ثقلها الاقتصادي وتوفر عدد اكبر من الحلفاء وعدد السكان، ولديها القدرة على نشر قواتها في منطقة مضيق هرمز بالغ الحساسية.

         بصرف النظر عن انتقادات الخصوم الموجهة لادارة الرئيس اوباما في الداخل الاميركي لعدم اتخاذها اجراءات كبيرة بشأن ايران، الا ان توجهاتها نحو المسألتين، الكورية والايرانية، تدل على اختلاف الادوات في معالجتيهما.

         نظريا، تمتلك كلتا الدولتين القدرة على وصول اسلحتها للدمار الشامل الاراضي الاميركية، بل ان التهديد المرجح اميركيا مصدره ايران. وتمتلك ايران القدرة الصاروخية على الوصول لعدد من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، كما باستطاعتها مضايقة سبل النقل البحري في مضيق هرمز، ولديها سياسة خارجية نشطة، فضلا عن قدرتها بترجمة عناصر قوتها على الاقليم.

         بالرغم من امتلاك كوريا الشمالية بعض القدرات النووية، الا ان قدرتها على ترجمة تلك القوة تبقى محدودة خارج حدودها في الزمن الراهن؛ اما عدم اقدامها على شن هجوم على كل من الصين وروسيا لكونه عملا انتحاريا بامتياز. اما شن هجوم على كوريا الجنوبية فقد يحظى بقدر من النجاح الميداني في المراحل الاولى، لكن قوة اندفاعه ستتعثر ويتوقف سريعا. وفي حال الاقدام على مغامرة خطرة بمهاجمة اراضي الولايات المتحدة باستخدام صواريخ من العسر الاعتماد عليها لحمل رؤوس نووية فانه يعد عملا انتحاريا، فضلا عن ان الشعب الاميركي سيطالب اوباما بالرد بقسوة على مصدر التهديد.

         قد يكون من الثابت ان كوريا الشمالية توصلت لقناعة بان امتلاك السلاح النووي لا يفي بالغرض للتصور الاولي. فقدراتها المحدودة لا تسمح لها انتاج سلاح نووي صالح للاستخدام ميدانيا، كالقنبلة النيوترونية، الا بعد عدة عقود من الزمن. وبالامكان القول ان قدراتها النووية بصورتها الراهنة لا تشكل سوى مظلة توفر ضمانات بعدم الاطاحة بنظامها السياسي عن طريق استخدام قوات اجنبية. كما انها تشكل وسيلة ضغط سياسية لتعزيز مطالبها برفع الحظر الاقتصادي عنها.

         مقارنة عناصر القوة لكل من ايران وكوريا حفزت واشنطن تركيز جهودها على مواجهة ايران، بل لعل عامل قربها جغرافيا وسياستها المعادية “لاسرائيل” هو العامل الاهم في سياسة اميركا. هجمات القرصنة الالكترونية الاميركية وربما “الاسرائيلية،” فايروس ستكسنت وغيره من برامج ضارة، كانت وجهتها ايران ومنشآتها النووية؛ فضلا عن مرابطة قسم لا باس به من ترسانة اسلحتها المتطورة وحاملات الطائرات في المياه البحرية القريبة من ايران.

         وجدير بالانتباه ايضا الى تباين ردود الفعل الاميركية على ايران وكوريا الشمالية امام لهجة تهديداتهما للمصالح الاميركية. اذ اعتبر مستشار الامن القومي للرئيس اوباما ان كوريا الشمالية تمثل طفل اساء التصرف، قائلا “ترفض الولايات المتحدة مكافأة سلوك كوريا الشمالية الضار.” ولم يواكبه تحركات عسكرية ذات شأن.

         اما تهديد ايران لنيتها اغلاق مضيق هرمز امام حركة الملاحة التجارية، فقد استدعى استقدام عناصر القوة الاميركية الى المنطقة، على رأسها حاملات الطائرات وكاسحات الالغام البحرية. بل اعلنت الولايات المتجدة ان حاملات طائراتها سترابط خارج مياه الخليج للقيام بتنفيذ مهامها، وفي نفس الوقت الابقاء على منطقة آمنة تخلو من اي تهديد محتمل لحركة الملاحة. وانضمت فرقاطات ومدمرات اميركية الى السفن الحربية التي تملكها دول الخليج العربي لحماية القوافل البحرية، فضلا عن توفيرها غطاء جويا لمسرح عمليات مرتقب. اما كاسحات الالغام فمهمتها مراقبة الحركة البحرية في المضيق ومسح مياهه للتيقن من خلوها من المتفجرات. طائرات “الاواكس” ايضا تنضم لمراقبة حركة الملاحة التجارية واعطاء الاشارة لانطلاق طائرات مقاتلة لمواجهة محاولات السفن الايرانية زرع الالغام او الاعداد لشن هجوم. فرق القوات الخاصة ستقوم بمهام تفتيش المركبات واتخاذ الاجراءات اللازمة. مقابل كل ما تقدم، يبقى السؤال قائما ان يؤدي تفاقم الوضع في شبه الجزيرة الكورية الى استدراج بعض عناصر القوة العسكرية من منطقة الخليج العربي مما قد يسفر عنه اتاحة الفرصة لايران للمضي في مواقفها المتشددة، اما في منطقة مضيق هرمز او في مكان آخر.

         الولايات المتحدة تحافظ على سرية احداثيات وتحركات قطعها البحرية، الا ان تنامي حدة النزاع بين الصين واليابان حول ملكية جزر متنازع عليها ادى لتحرك حاملتي طائرات من سلاح البحرية الاميركية  وقوة من مشاة البحرية لاتخاذ مواقع محددة في غربي المحيط الهاديء. مسافة وصول تلك الترسانة الى مقربة من شواطيء كوريا الشمالية تستغرق 48 ساعة، عند الضرورة. ويستبعد الحاجة الى مشاركة مزيد من القطع البحرية المرابطة في منطقة الشرق الاوسط نظرا لانتفاء قدرة كوريا الشمالية على فرض نفوذها.

         استنادا الى فرضية التهديد الايراني سيكون مصدره من ناحية البحر، مياه المضيق، يصبح منطقيا افتراض بقاء قطع البحرية الاميركية مرابطة في منطقة الشرق الاوسط. بالمقابل، تفتقد كوريا الشمالية الى سلاح بحري ذو شأن مما يدفع الى الاستنتاج بان القوة البحرية الاميركية لمواجهة كوريا ستكون محدودة وسيتم الاعتماد على استخدام سلاح الطيران للمهام القتالية من القوات المرابطة في اليابان او كوريا الجنوبية.

         عند حاجة مسرح الشرق الاوسط لمزيد من القوة العسكرية الاميركية، ستتم عملية الامداد من القوات والاسلحة المرابطة في مياه البحر الابيض المتوسط واوروبا. ونظرا لاعتماد القارة الاوروبية على الامدادات النفطية المارة بمضيق هرمز، فمن المرجح انضمام القوات الفرنسية والبريطانية للجهد الحربي.

         ايران، من جانبها، ترصد بدقة مدى وطبيعة الرد الاميركي على كوريا الشمالية واعتباره مؤشر على كيفية الرد الاميركي على التحديات الايرانية. اما الولايات المتحدة فتعتبر ايران منذ عقود مصدر تهديد اكبر استلزم نشر ترسانة عسكرية ضخمة وشن حرب الكترونية على منشآتها الحساسة واستهداف مصالحها الاقتصادية؛ وتمضي ادارة الرئيس اوباما في الرهان على قدرتها لاحتواء ايران ومجال نفوذها الاقليمي.

زيارة اوباما الخارجية الاولى في عهده الثاني: أبعد من السياحة واعمق من الاستماع

   تعطل سيارة وموكب الرئيس اوباما في زيارته للقدس المحتلة ربما يرمز الى ما هو ابعد من ثمة عطل ميكانيكي، بل كما اريد منها بالاصل همروجة اعلامية خالية الوفاض من اي خطوات عملية، كما كان يرنو اليه المنخرطون في سياسة التسوية. في الشق المقابل من المشهد الاميركي، يشاطر معظم المحللين والمراقبين الرأي ان زيارته، بل الحملة الاعلامية المكثفة، لم تنطوي على نوايا جديدة بالتحرك لتعزيز جهود السلام في المنطقة، كما يروج السياسيون.

غياب طابع الجدية والثبات كان طاغيا في زيارة اوباما، التي سرعان ما تحولت الى زيارة استكشافية للمعالم الهامة التي تزخر بها المنطقة. اما الرسالة الخفية فهي التأكيد على دور الكيان “الاسرائيلي” في المنطقة، كركيزة للمخططات الاميركية. ولم يكن بوسع اوباما الا زيارة ضريح مؤسس الصهيونية الاول، ثيودور هيرتسل في القدس المحتلة، والنصب التذكاري الابرز “ياد فاشيم” بالقرب من قبر هيرتسل، ومتحف “اسرائيل” الذي يضم مقتنيات اثرية مسروقة تشمل مخطوطات البحر الميت، والتزلف بوجود اليهود في المنطقة منذ القدم، كما زعم نائب المستشار الرئاسي لشؤون الامن القومي، بن رودس، قائلا ان المخطوطات “تدل على ترابط اليهود القدماء واسرائيل، بالطبع.”

وحتى لا تضيع فرصة التوكيد المزعوم، انبرى سفير الكيان “الاسرائيلي” في واشنطن، مايكل اورين، للحديث وشرح المخطوطات التي “كتبت قبل 2،000 عام ونيف، بالعبرية على يد اليهود في وطنهم، ارض اسرائيل …”

لعل الاهم في معالم الزيارة هو ما جرى تجنبه من الادراج على جدولها، اذ رفض اوباما الظهور امام الكنيست والقاء كلمة فيه، اجراء يعد لازمة لكل رئيس اميركي زائر، كما تجنب زيارة حائط المبكى اللازمة الاخرى.

زخم التغطية الاعلامية رمى لارضاء الجالية اليهودية الاميركية واستعادة ثقتها، سيما بعد تصاعد نغمة النداءات التي تزعم ان سياسات اوباما معادية “لاسرائيل” لتجنبه زيارتها من موقعه الرئاسي، مقارنة مع سلفيه الرئيسين جورج بوش الابن وبيل كلينتون اللذين لم يدخرا جهدا الا وبذلاه في استثمار العلاقة الاميركية الاسرائيلية. بعد انفضاض الزيارة يكون بوسع اوباما اخراجها من حيز التداول والابتزاز.

 شعبية اوباما لدى “الاسرائيليين” متدنية ولم تتجاوز 10%، وفق احدث استطلاعات الرأي، مما يفضي الى القول انه لا يملك الكثير من النفوذ للضغط على الحكومة “الاسرائيلية” لدخول المفاوضات السلمية. اما ان افضت الزيارة الرئاسية عن نجاحها فمن شأنها تعزيز ذاك التوجه، لو اراد، حتى بدون توفر ضمانات لوجهتها النهائية. وبالنظر الى النتائج المخيبة لآماله نتيجة انخراطه المباشر في المفاوضات السلمية ابان ولايته الرئاسية الاولى، باستطاعتنا القول ان اوباما سينأى بعيدا عن الانخراط الفعال، وقد يحيل المهمة الى وزير خارجيته جون كيري.

وعليه، في ظل غياب مبادرة محددة بشأن الفلسطينيين، ماذا سينتج عن زيارته؟

بداية، لم يلجأ اوباما الى التعويل على جهود مفاوضات ثنائية تجري بين حكومتين، بل استعاض عنها بالقاء كلمة مباشرة امام حشد من الطلبة الجامعيين في القدس المحتلة، موجها خطابه مباشرة الى المواطنين “الاسرائيليين” والاميركيين.

تبنى اوباما في خطابه الرواية الصهيونية بكاملها لقراءة الصراع العربي-الصهيوني، لم يجد غضاضة او تناقضا بين زعمه التبشيري بديموقراطية  دولة الكيان الاسرائيلي وتأكيده للاعتراف بها كدولة يهودية. ولا يبدو انه يكترث بمصير اصحاب الارض من الفلسطينيين الذين سيتعرضون بالطبع للترحيل من وطنهم.

كما التفّ على موضوع الاستيطان في مسعى لتهميشه، واشار اليه فقط باعتباره عملا “غير بناء اومناسب او يخدم هدف السلام”، اي تجاوز اعتباره امرا محظورا قانونيا لانه تصرف باراضي الغير من قبل سلطة احتلال. وللامعان في التجاوز اشار بصورة واضحة الى ان اي استئناف للمفاوضات المباشرة بين الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني لايجوز ان يكون مشروطا بوقف الاستيطان، واشار ضمنيا الى ان الاصرار على وقفه يشكل استباقا للحل النهائي، عندما تساءل ماذا يبقى للتفاوض او ما الفائدة من التفاوض اذا تم الاصرار على وقف الاستيطان؟

وكان مستغربا ان لم يكن جهلا او تضليلا مقصودا ان يشبّه اوباما العلاقة القائمة بين الاسرائيليين والفلسطينيين (وهي بين سلطة احتلال وشعب خاضع للاحتلال)  كعلاقة الجار بين كندا واميركا، فهل تحتل اميركا كندا او العكس؟

السفير الاميركي الاسبق لدى تل ابيب، مارتن انديك، هلل لاوباما مبشرا بأنه “نجم فني سيجري استقباله بحفاوة، وسيستطيع العودة الى سابق عهده، الامر الذي يعد بالغ الاهمية. اذ ان الراي العام (الاسرائيلي) سيعاقب رئيس وزرائه لاساءته استخدام العلاقة مع رئيس يحظى بشعبية .. فنتنياهو يتغذى على استطلاعات الرأي عند افطاره، وسيدرك اي تغيير في مسار التوازن” بينهما.

 بما ان نتنياهو قد خرج من توه منتصرا في الانتخابات، فقد انخفض حاجز خوفه من اوباما الذي لا يتمتع بشعبية تتجاوز 10% بين “الاسرائيليين.” من الطبيعي تعويل اوباما على مردود ايجابي لزيارته وتوقع تحسن صورته ولو بشكل مؤقت ان لم يرتكب زلة كبرى. ويدرك اوباما ان عدم الرضى “الاسرائيلي” ليس لتخلف زيارته، بل لكيفية تعاطيه مع الملفات التي تهم “الاسرائيليين.”

تصريحات اوباما في المؤتمر الصحفي المشترك في رام الله، يوم الخميس 21 آذار، بينت بوضوح تقربه نحو الموقف “الاسرائيلي” فيما يتعلق بوضعية المستوطنات التي تفادى وصفها “غير شرعية،” بالنقيض مع سياسة ادارته عينها سابقا. ونعتها بخجل بانها “غير مشجعة،” طمعا في عدم اثارة غلاة اليمين “الاسرائيلي.” بل قطع الطريق على طاقم المفاوضات الفلسطيني الذي يتدثر بتوسيع المستوطنات كذريعة وشرطا للجلوس الى طاولة المفاضات.

تصدرت جدول اعمال لقاء اوباما ونتنياهو مسألتي ايران وسورية، بخلاف توقعات البعض لحضور ملف المفاوضات “الاسرائيلية” – الفلسطينية. ففي سورية، تجري مخاوف من تجدد الاشتباكات على جبهة مرتفعات الجولان، خاصة بعد تعرض مواقع قوات الامم المتحدة للقصف من قبل المسلحين السوريين،  ودخول الاسلحة الالكيميائية ميدان المعارك، بالرغم من تصريحات السفير الاميركي لدى دمشق، روبرت فورد، بان الدلائل غير متوفرة لاستخدام اسلحة كيميائية في الاشتباكات مطلع الاسبوع الماضي؛ اما وزير الاستخبارات “الاسرئيلية” فقد قارب الجزم باستخدامها. روسيا بدورها اعلنت ان الهجمات تحمل بصمات كيميائية من صنع المتمردين السوريين.

ادخال مكونات كيميائية في المواجهات المسلحة يثير اهتمامات وطرح اسئلة كبيرة، سيما وان اطقما طبية عدة تواجدت في المكان دون اقنعة واقية من الاسلحة الكيميائية اثناء قيامها بواجبها لاسعاف المصابين، والذين لو تعرضوا حقا لمكونات اسلحة كيميائية لما بقوا على قيد الحياة. البعض تكهن بان مكون سام آخر تسبب في مقتل الابرياء. الثابت علميا ان مسرح الاشتباكات التقليدية في حروب اليوم مشبع بالسموم نتيجة المتفجرات المختلفة، والرذاذ المندفع وعناصر كيميائية اخرى تخص الاستخدامات العسكرية. باستطاعة المحارب اطلاق رذاذ لعدد من المواد السامة في الهواء كي يستنشقها المدنيون؛ وان تعرضت حاوية بداخلها مواد كيميائية سامة الى قذيفة متفجرة، سيتأثر كل من في محيطها للغازات المنتشرة، كما شهدنا في الحروب الاميركية المختلفة على يوغسلافيا والعراق.

 المثير انه في زمن وفرة انتشار المعلومات تبقى حالة من عدم التيقن للمصدر والفاعل، مما وفر ذخيرة اعلامية يستغلها الطيف الواسع من الفاعلين، كل لمصلحته. بل يراها البعض انها الرمق الاخير في المخطط الغربي لتوفير ذريعة التدخل بعيدا عن الآليات والاعراف الدولية، سيما وان بعض تلك الاطراف رسم “خطوطا حمراء” للحكومة السورية تجاوزها يستدعي تدخلا عسكريا اميركيا. في حال الادارة الاميركية، من المرجح ان تبقي ادارة الرئيس اوباما على ضبابية الامر، رغم تيقنها لهوية الفاعل الحقيقي، لتفادي بلورة اي رد مفترض.

العلاقات “الاسرائيلية” المصرية كانت حاضرة على جدول الاعمال، وان غيبتها التغطية الاعلامية، للخشية من العدد الكبير للجيش المصري في ظل مناخ سياسي داخلي مضطرب. كما تخشى “اسرائيل” من عدم قدرة قواتها المسلحة مواجهة القوات النظامية المصرية بعد ادخال تعديلات على عقيدتها القتالية بتخفيف الاعتماد على الاسلحة التقليدية، كالمدرعات، والتركيز على استراتيجية غير تقليدية. وعليه، من المرجح ان تلجأ “اسرائيل” لطلب مزيد من المعدات والوسائل القتالية لتعويض النقص في قدراتها.

في مسالة الملف النووي الايراني، اكد اوباما مجددا ان الولايات المتحدة لا تنهج “سياسة احتواء ايران،” وستعمل على منعها التسلح نوويا. وعلت النشوة وجه نتنياهو قائلا “انا على قناعة مطلقة بان الرئيس عازم على منع ايران امتلاك سلاح نووي.”

ما ينتظر اوباما في هذا الشأن هو قدرته على ردع “اسرائيل” من القيام باجراء احادي الجانب ضد ايران، اذ من غير المنتظر ان يلقى آذانا صاغية داخل اوساط حكومة نتنياهو الحالية دون تقديمه مزيد من الخطوات البديلة. لم يعد سرا قلق الولايات المتحدة لقيام “اسرائيل” بشن غارة عسكرية على ايران، او ضيق ذرع “الاسرائيليين” باعتماد المقاطعة الاقتصادية اسلوبا رئيسا. وقد تؤدي هذه المعادلة المختلة الى توصل الطرفين لتعزيز جهودهما المشتركة لشن هجمات الكترونية ضد المنشآت النووية الايرانية، التي اسفرت عن بعض النجاحات في السابق، كما تبلور في فايروس “ستكسنت.” غني عن القول، ان ما تقدم لن يأتي ذكره في اي صيغة بيان مشترك للطرفين او عند نهاية الزيارة.

كما من المرجح ان تفضي الزيارة عن اتفاقية غير معلنة لتعزيز التعاون بين جهاز المخابرات “الموساد” ووكالة المخابرات المركزية، السي آي ايه، كما يستدل من تقرير لصحيفة واشنطن بوست الذي جاء فيه “قامت اجهزة الاستخبارات الاميركية بالتعاون الفعال مع الموساد لانشاء قوة لشن حرب بالوكالة من وراء الاضواء. ونقلا عن تصريحات مؤكدة لمسؤولين اميركيين، جاء في تقرير لشبكة “ان بي سي” للتلفزة بث في شهر شباط 2012 ان الجهاز الاسرائيلي (الموساد) قام بتدريب وتسليح عناصر من مجاهدي خلق سرا .. لاغتيال علماء ايرانيين في علم الذرة بطهران.”

من جانبه، رسم البيت الابيض مستوىً متدنٍ من التوقعات للجولة الرئاسية، واطلق العنان لوسائل الاعلام لتناول اخفاقات التقدم في ملفات المنطقة – مما اثار حفيظة اوباما. وعلى غير عادته، وبخ الرئيس اوباما مراسل سبكة “ام اس ان بي سي” للتلفزة، تشك تود، لفرطه في طرح اسئلته، سيما حول اخفاقات الرئيس في احراز تقدم في المفاوضات السلمية في الشرق الاوسط، ونعته اوباما “بالعنيد.” لا عجب، اذن، لتدني توقعات الخبراء لاحراز خطوات ملموسة عقب انتهاء الجولة الرئاسية.

مع كتابة هذه السطور تكون الطائرة الرئاسية قد حطت على الاراضي الاميركية وانتقل اوباما الى مخدعه في البيت الابيض ولكنه ترك وزير خارجيته ليتابع الملفات الاقليمية وخاصة الخطوة القادمة في مسار تأمين التفاوض الفلسطيني – الاسرائيلي. يستطيع اوباما ان يعلن انجازا لم يتصدر جدول زيارته اعلاميا اصلا وهو استعادة دفء العلاقات بين حليفين رئيسين لواشنطن : تركيا واسرائيل. خطوة تبدو مع تطورات اخرى في المنطقة تؤشر على مسعى واشنطن لسد اي ثغرات في معسكرها الاقليمي لممارسة المزيد من الضغط الميداني في مسرح العمليات الخفية والعلنية من لبنان ،سوريا ، فلسطين، العراق وايران .. والسؤال يبقى عالقا كيف سيرد المعسكر المستهدف لوقف عمليات التطويق والاستنزاف؟؟؟؟

نفوذ “ايباك”: هل هي مرحلة تراجع وأُفول؟

بداية المتاعب “للجنة الاميركية الاسرائيلية للعلاقات العامة” برزت في مؤتمرها السنوي الذي عقد مطلع الاسبوع. اذ وبصرف النظر عن تصدر الشخصيات الرسمية، وعلى رأسها نائب الرئيس الاميركي، جو بايدن، قائمة المتحدثين الى جانب حضور كبير ومميز لاعضاء الكونغرس بمجلسيه ولجانه الفاعلة من الحزبين، شذ المؤتمر عن المعتاد وتغيب عنه كل من الرئيس الاميركي باراك اوباما ورئيس الوزراء “الاسرائيلي.”

تفاقم الازمة السابقة بين اوباما ونتنياهو ارخى ظلاله على اكبر منظمة يهودية فاعلة في المستوى السياسي، سيما وان اوباما لم يغفر لنتنياهو تدخله السافر في الانتخابات الرئاسية الاميركية ودعمه المعلن لمنافسه الجمهوري، ميت رومني.

غياب الرئيس الاميركي ورئيس الوزراء “الاسرائيلي” (وجه كلمته بالفيديو) امر غير مألوف لمنظمة هي الافضل تنظيما والاعظم نفوذا من بين المجموعات السياسية الاخرى في الولايات المتحدة، وينبغي الا يذهب المرء بعيدا في تفسير الازمة الناشئة وكأنها ادت لالغاء ايباك من المعادلة. يعتقد البعض ان مراهنات “اسرائيل،” بالدخول وخسارة نظيفة للمعركة مع الرئيس اوباما لترشيحه وزيري الدفاع والخارجية، قد سدد بعض الضربات السياسية لها. اما حقيقة الأمر فان فريقها الممثل “بايباك” فانه يعمل بصلابة وبعيدا عن الجلبة والاضواء لتعزيز قبضة “اسرائيل” على مفاصل السياسة الاميركية – بدعم من وزير الدفاع الجديد.

السعي لاماطة اللثام عن “ايباك” والتعرف على اساليبها بلي الاذرع يعادل قدرة المرء على استيعاب كنه السياسة الميكيافيلية، في افضل الحالات. فالمنظمة قلما تخرج للعلن باساليبها وسياساتها، وتفضل التحرك بعيدا عن اعين وسائل الاعلام وتنسيق الجهود مع الساسة وصناع القرار من وراء الستار، وليس عبر المنابر الاعلامية.

تأسست ايباك عام 1951 على يد موظف في وزارة الخارجية “الاسرائيلية،” يدعى آيزياه كينين، قبل تحولها للاطار التنظيمي الراهن عام 1953. اذ سعت منذ ساعات تأسيسها الاولى على انشاء نفوذ سياسي تستخدمته للتأثير على صناع القرار السياسي الاميركي، بغية الاستمرار في الدعم الاميركي اللامحدود “لاسرائيل” على حساب اولويات سياسية اخرى. تضم المنظمة نحو 100،000 عضوا هذه الايام، وللدلالة على نطاق تأثيرها وصفتها صحيفة نيويورك تايمز بانها “منظمة فائقة الاهمية للتأثير على العلاقات الاميركية مع اسرائيل.” وذهب البعض بوصفها بانها من اقوى جماعات الضغط (اللوبي) والتاثير في عاصمة القرار السياسي، بينما يعتبرها البعض الآخر كوكيل عمل بالنيابة عن الحكومة “الاسرائيلية،” ايا تكن هويتها، “لتضييق الخناق” على الكونغرس الاميركي بمجلسيه.

على رأس اعمال “ايباك” يأتي حشد الدعم لديمومة المساعدات المالية الاميركية “لاسرائيل،” ولعب دور اساسي في رفع سقف المساعدات السنوية الى 3 مليارات دولار، مما يضع “اسرائيل” في مرتبة “الطرف الاكبر لتلقي مساعدات اميركية تراكمية ضمن برنامج المساعدات الاجنبية” الذي تبنته وتشرف عليه الحكومة الاميركية منذ الحرب العالمية الثانية. كما ان “ايباك” تلعب دورا هاما في ادخال “استثناءات دستورية” على مشاريع القرارات المختلفة بما يخدم “اسرائيل،” والتي لا يسري مفعولها على حلفاء الولايات المتحدة الآخرين. ووصف مركز ابحاث تابع للكونغرس، يعد خدمات الكونغرس البحثية، تلك الاستثناءات  بانها تنص على تقديم “مساعدات بصيغة هبات مالية، وغير منصوص على وجهة البرامج المنوي دعمها .. وصرف تلك الهبات بكامل قيمتها في مطلع الشهر الاول من كل سنة مالية (اكتوبر)، عوضا عن التحويلات الموسمية. ويسمح “لاسرائيل” انفاق نحو 25% من برنامج المساعدات العسكرية على مشتريات تخص المعدات والخدمات المقدمة للقوات المسلحة داخل “اسرائيل،” تشمل اعمال الابحاث والتطوير، بدلا من صرفها لمنفعة السوق الاميركية.”

نفوذ ايباك على السياسة الاميركية اسطوري بامتياز. ووصف احد رؤسائها السابقين، ديفيد ستاينر، المدى الذي ذهب اليه عام 1992 بلقائه وزير الخارجية الاميركية، جيمس بيكر، للتوصل الى تسوية بينهما، اذ قال متبجحا “فضلا عن 3 مليارات دولار، فان (ادارة الرئيس بوش الاب) تركض وراء اصوات اليهود، وسأخبره بكل ما يطرب سماعه .. علاوة على 10 مليارات دولار كضمانات للقروض في مجالات اخرى لا يعلم عنها الكثير.”

عودة لمعركة الترشيحات، فقد رأى البعض ان المصادقة على ترشيح تشك هيغل لوزارة الدفاع يعد مؤشر على بدء تآكل نفوذ اللوبي “الاسرائيلي” في واشنطن، والذي عمل بكد وتصميم من خلف الستار على تطويق مجال حرية حركة وزير الدفاع الجديد المرتقبة وتحويل وجهته الى المدافع الاول عن استمرار الدعم الاميركي “لاسرائيل.”

وينبغي لفت النظر الى آلية تحرك “ايباك،” اذ بمجرد اعلان الرئيس اوباما عن ترشيحه هيغل لمنصب وزير الدفاع يوم 7 كانون الثاني – يناير من العام الجاري سارعت ايباك للاعلان انها لا تنوي معارضة هيغل. بل ذهبت ابعد من ذلك لاضفاء صفة الحيادية بالنسبة له وتعمد الناطق الرسمي باسمها تجاهل الامر كليا والزعم بأن “ايباك لا تتخذ مواقف حيال المرشحين من قبل الرئيس.” والتزمت ايباك الصمت التام خلال الجدل الذي رافق ترشيحه، كما لم تقدم مساعدة عينية للتأثير على آلية التصويت. بعض المراقبين يؤكدون ان ترشيح هيغل كان سيصطدم بحائط موقف ايباك ان قررت معاداته ومن ثم اخراجه من المعادلة.

منظمات يهودية اخرى اعربت عن مناهضتها ترشيح هيغل، منها صدور مذكرة من 14 صفحة عن “المنظمة الصهيونية الاميركية” التي ارست اسباب معارضتها لهيغل. كما انضمت “عصبة مناهضة تشويه السمعة” لجهود معارضته.

اما ايباك، فقد اتبعت استراتيجية اكثر حنكة راهنت فيها على المدى الابعد والسماح لهيغل تولي منصب وزير الدفاع. واضحى هيغل مدين لايباك لعدم اقدامها على اجهاض ترشيحه، وما لبثت ان بدأت مراهنتها تؤتي أكلها، استنادا الى نتيجة توصلت اليها بالثمن المطلوب تقديمه لو استمرت في استعداء لاعب اساسي بامكانه ممارسة نفوذ قوي في توجيه العلاقات الاميركية – الاسرائيلية.

لم تكن ايباك غافلة لحقيقة توفر عدد كبير من الافراد المؤيدين لاسرائيل في هيكل وزارة الدفاع وعدم التسبب باعاقة جهودهم من قبل وزير الدفاع الجديد. وعليه، ليس مستبعدا لو قام هيغل بكبح جهودهم على خلفية معاداة ترشيحه.

 بل، الشاغل الاكبر لايباك راهنا هو مناخ التخفيضات المالية، لا سيما لوزارة الدفاع، وضمان استثناء “اسرائيل” من نصيب التخفيض، للسنة الحالية وفي المستقبل. ولهذا السبب، سعت ايباك لمارسة نفوذها على اعضاء الكونغرس لاقرار “اسرائيل كحليف استراتيجي هام” للولايات المتحدة، وهي مرتبة فريدة لا تتمتع بها اي دولة اخرى. يقتضي هذا التصنيف قيام الحكومة الاميركية بتحويل البرامج المقررة “لاسرائيل” الى بند ميزانية البنتاغون، مما يستوجب دعم تشك هيغل للقيام بذلك – الذي كان سيرفضه في ظرف معارضة ايباك لترشيحه.

الاستراتيجية “الهادئة” الموصوفة اعلاه تمثل ذروة الترتيبات التي تجري بعيدا عن الاضواء، وتقتضي عدم ممانعة ايباك ترشيح هيغل “واستغلال” الخطوة لضمان ديمومة الدعم المالي كجزء عضوي في ميزانية وزارة الدفاع الاميركية؛ الامر الذي سيعزز النفوذ السياسي لهيغل. والثمن المطلوب هو دور هيغل المؤيد لاستمرار تدفق المساعدات الاميركية لاسرائيل عبر دهاليز وزارته. من المستبعد ان يكرر هيغل نقده “للوبي اليهودي” مرة اخرى.

ايباك من خلف الستار

تشتهر “ايباك” بقدرتها على زج عملائها بكثافة داخل الادارات المتعاقبة، سواء للحزب الجمهوري او الديموقراطي. شهد عام 1992 احداثا ادت لاستقالة رئيس منظمة ايباك، ديفيد ستاينر، عقب تسجيل احاديث له يتباهى بمدى نفوذه السياسي الذي ادى لموافقة الادارة على تقديم الدعم “لاسرائيل.” وزعم ستاينر انه كان في سياق “التفاوض” مع ادارة الرئيس الجديد بيل كلينتون بخصوص من سيقع عليه اختياره لتولي مناصب وزير الخارجية ورئيس وكالة الامن القومي. واوضح ان باستطاعة “ايباك” الاعتماد على “نحو عشرة افراد (ذو نفوذ لافت) داخل طاقم حملة كلينتون الانتخابية، في مقرها الرئيسي .. بمدينة ليتل روك (آركنساس)، وانهم جميعا سيتولون مناصب” في الادارة الجديدة.

من نافل القول ان ارصدة ايباك البشرية تم تجنيدها خلال مرحلة دراستها الجامعية، بل اشتملت خطة التجنيد على بضع مئات من الطلبة الجامعيين ليتولوا مراكز قيادية في المستقبل واغرائهم برحلات مدفوعة التكاليف بالكامل لحضور مؤتمر ايباك للعام الجاري. واوضح مسؤول قسم تنمية القيادات في المنظمة، جوناثان كيسلر، ان “كل مرشح لمجلس الشيوخ في المستقبل  سيمر على حرم جامعي اميركي. كما سيمر كل عضو مجلس نواب في المستقبل على حرم جامعي ايضا. فوظيفة ايباك هي التعرف على اولئك والانخراط معهم وتثقيف الشريحة المميزة والواعدة بتولي مناصب قيادية سياسية في الحرم الجامعي.”

برنامج ايباك التدريبي ينطوي على تثقيف الطلبة بالقضايا التي تهمهم، ومن ثم صهرهم كي يصبحوا دعاة ناجحين مؤيدين “لاسرائيل.” في الزمن الراهن، تنشط “ايباك” على بضع مئات من الجامعات الاميركية، كما يزعم موقعها الالكتروني. وتوفر ايباك لاعضائها الطلبة مواد تثقيفية متنوعة مرة كل اسبوعين ، منها تغطية احدث المسائل التشريعية، توجيهات للعمل، القيام بزيارات “لاسرائيل،” وتوفير تدريب اختصاصي لما تصفه بنص “الرد على الدعاية،” كما ورد في الموقع الالكتروني لـ “التحالف لاجل اسرائيل في الجامعة،” المدعوم من ايباك.

من غير المتوقع ان ينتهي الامر بكافة طلبة ايباك تولي مناصب سياسية. فالبعض سيقع عليه الاختيار للانضمام الى مؤسسات الامن القومي الاميركية.

اضحت ايباك مركز دعاوى مختلفة بانها تنشط لحساب اسرائيل في اعمال التجسس على الولايات المتحدة. في شهر نيسان 2005، افاق الجميع على خبر صاعق بطرد مسؤول قسم الشؤون السياسية في المنظمة، ستيفن روزن، الى جانب الخبير في الشأن الايراني لديها ايضا، كيث وايسمان، على خلفية تحقيق يجريه مكتب التحقيقات الفيدرالي للتيقن من امكانية ايصالهما معلومات اميركية سرية لاسرائيل تلقياها من شخص يدعى لورنس فرانكلين. تم اتهامهما لاحقا بالتآمر المخل للقانون لجمع والكشف عن معلومات سرية حول الامن القومي الاميركي وايصالها لاسرائيل. وتبرعت ايباك بتحمل تكاليف الحملة القضائية للدفاع عن وايسمان تتضمن مرحلة استئناف الحكم ان تطلب الامر، وتم اسقاط لائحة الاتهام بعدئذ.

بعد تلك الحادثة بفترة زمنية قصيرة لا تتجاوز 30 يوما، اعلنت وزارة العدل اعتقال عقيد احتياط في سلاح الجو الاميركي يدعى لورنس انثوني فرانكلين، كان يعمل في منصب محلل في شؤون الدفاع في مكتب دوغلاس فايث في البنتاغون. ووجهت له التهمة بايصال معلومات سرية لاسرائيل تتعلق بالامن القومي، وجاء في لائحة الاتهامات ذكر “ايباك” نصا في سياق اجتماع عقد على وجبة غداء سرب فيه فرانكلين معلومات صنفت “عالية السرية” لمسؤوليْ ايباك المذكورين. واعترف فرانكلين بالذنب لايصاله اسرارا حكومية الى المتهمين الاخرين، كما شمل اعترافه قيامه بتسليم معلومات سرية مباشرة الى مسؤول حكومي اسرائيلي في واشنطن. وصدر الحكم بالسجن 151 شهرا (ما يعادل 13 عاما) ودفع غرامة مالية بقيمة 10،000 دولار. واستنادا الى اتفاقية اعترافاته، وافق فرانكلين على التعاون مع الاجهزة الامنية الاميركية في اجراءات التحقيق الفيدرالية الاوسع.

ضلوع ايباك في التجسس على الولايات المتحدة تشير الى تنامي نقاط ضعف في جسمها– اذ لا تستطيع المراهنة على تعاون مسؤولين اميركيين معها كما في السابق، مما يدفعها اللجوء لاستخدام اساليب مخلة بالقانون للظفر بمعلومات كانت تتلقاها من هيئات رفيعة المستوى.

ما تقدم يقودنا الى ضرورة عدم الاستخفاف بنفوذ ايباك نظرا لتشابك مصالح عدد لا باس به من القوى. اذ اثبتت انها رعت نمو جيل جديد من الساسة المؤيدين “لاسرائيل” لتبوأ مناصب متعددة في هيكلية الحكومة الاميركية. واستنادا الى مهارة ايباك في الضغط من خلف الستار وبعيدا عن الضجيج الاعلامي، ستستمر في خدمة مركزية “اسرائيل” وخصوصيتها في السياسة الخارجية الاميركية الى امد منظور.

آفاق هجوم الكتروني محتمل على المؤسسات الاميركية

تبادل الاتهامات الدولية بمسؤولية الهجمات الالكترونية:   آفاق هجوم الكتروني محتمل على المؤسسات الاميركية

المناخ السياسي الاميركي ملبد بالقلق جراء امكانية تعرض البنى التحتية بكاملها الى هجمات الكترونية تنذر بتوقف وشلل تام لحياة البذخ والرخاء والرفاهية الاقتصادية، يستشعره الانسان العادي قبل السياسي والاكاديمي. بل من دواعي الارتباك الخشية من ارتداد سياسات الهيمنة على العالم الى الاراضي الاميركية، واطلاق المؤسسات الحاكمة تحذيرات متباينة لكنها جلية في عدم قدرتها على التفاعل او الرد او التأقلم مع المتغيرات، بل عدم قدرتها على التحكم بمسار الاحداث، ولا يختلف الوضع عما آل اليه الجهد العسكري الاميركي المباشر في الميدان .

 ربما هي المرة الاولى منذ طي صفحة الحرب الاهلية قبل 127 عاما التي يجري فيها الحديث عن تعرض المؤسسات الاميركية وبناها التحتية لشلل تام وعلى الارض الاميركية بالذات، سيما وان هيكلية البنى التحتية المقصودة تعتمد بصورة شبه تامة على التقنية الحديثة لتشغيلها، والتي تشمل: شبكات توليد وتوزيع الطاقة، السدود والمرافق المائية، القطاع المصرفي الهائل، القطاع التجاري بكل تشعباته واختصاصاته، وكل من له دور في المؤسسات الامنية والعسكرية المختلفة.

اعلاميا، تصدرت صحيفة نيويورك تايمز مطلع الاسبوع اثارة “تنامي التهديد من هجمات الكترونية ضد الولايات المتحدة،” معتبرة ان مصدرها الجيش الاحمر الوطني في الصين، والتي تجلت بتداعيات ملموسة في عموم شبكات الحواسيب الالكترونية التي تتحكم بمناحي الحياة اليومية – بدءا من قطاع الامن والدفاع القومي الى القطاع المصرفي ومعلبات المشروبات الغازية وما بينها. تلتها ايضا صحيفة واشنطن بوست لتؤكد ان “كل ما له علاقة بمسار الحياة اليومية في واشنطن قد تم اختراقه،” لا سيما مراكز الابحاث كافة ومقرات المحاماة المنتشرة بوفرة والشركات العاملة في القطاع العسكري، الخ.

للدقة، فان الهجمات المنظمة والمنتظمة المشار اليها لا ترتقي الى مستوى تصنيفها هجمات الكترونية، بل هي اقرب الى سعي “لجس النبض الالكتروني،” لسبر اغوار نقاط الضعف في الشبكات العائدة للحكومة وللقطاع الخاص على السواء، ربما لاستخدامات لاحقة. وتجلى جزء لا باس به من المحاولات بادخال برامج ضارة خفية، فايروس، تتيح للمشرفين على القرصنة منفذا داخليا للتأثير والتحكم بالاجهزة والشبكات بالغة الحساسية في وقت لاحق.

رسميا، اقرت الحكومة الاميركية ان المحاولات الصينية امتدت للمصانع والموردين لاجهزة الحواسيب للمكاتب والمقرات الحكومية والمجمعات الصناعية الحساسة. كما ان البرامج العائدة للمؤسسات التجارية المصنعة عادة تشكل حلقة الضعف الكبرى لشبكات الحواسيب الحساسة، كما بدا في برنامج “ستكسنت” ضد البنية التحتية لبرنامج ايران النووي.

عقب تسليط الوسائل الاعلامية الضوء على جهود القرصنة الالكترونية، تبارى الخبراء للاجابة على سؤال بديهي لمدى فعالية الدفاعات الاميركية الراهنة ضدها. النتيجة التي اجمعوا عليها كانت محبطة، بل ان التدابير المتخذة لمكافحة الاختراقات تبدو ضئيلة، حجما وتأثيرا. تصدر الرئيس اوباما جهود بلورة الاشراف على تعزيز الدفاعات الداخلية باصداره قرار رئاسي يحث فيه القطاعين الحكومي والخاص على تبادل المعلومات بينهما، وكذلك تبادلها مع المؤسسات الخاصة التي تقيم سدودا منيعة امام منافسي منتجاتها وخدماتها المتعددة؛ ومن غير المحتمل ان يسفر القرار عن قفزة ملموسة في جهود التعاون والحماية. لعل اهم النواحي الايجابية في القرار الرئاسي اشتراطه بلورة معايير تحدد مصدر الخطر وآليات مكافحته، مع العلم انه لا يشترط على المؤسسات الخاصة وضع تدابير من شأنها توفير الحماية لمنشآت حيوية مثل شبكة توزيع الطاقة.

وعليه، كيف نرصد التوقعات لما قد تتعرض له الولايات المتحدة لهجمات الكترونية مدمرة. من نافل القول ان البنية التحتية في عموم الولايات المتحدة تجاوزت عمرها الافتراضي، كما ان اغلبيتها تدار من قبل القطاع الخاص (شركات توزيع الطاقة على سبيل المثال) مما يحرم الحكومة المركزية من بلورة وتطبيق تدابير فعالة لمكافحة الخطر.

بعض جهود القرصنة التي اثمرت اثارت قلق المختصين بنظم الشبكات المعلوماتية لتدبر الامر. واجري تحقيق رسمي عام 2011 للتيقن من السبب الذي كان وراء عطل اصاب آلة ضخ للمياه في محطة عامة للتوزيع بمقاطعة من ولاية الينوي، وهل يقف هجوم الكتروني شنه غرباء وارءه. وفي وقت متزامن، نجح احد القراصنة باختراق شبكة توزيع للمياه في مدينة هيوستن، وتعمد ترك اثار فعلته على شاكلة صور للمعدات الحساسة في الشبكة لتأكيد نجاحه. وعلى الرغم من انه لم يسجل اي اختراق موثق لشبكة توزيع الكهرباء لتاريخه، الا ان انقطاع التيار الكهربائي في عدد من المؤسسات البرازيلية الهامة، بين اعوام 2005 و 2007، اسفرت عن اضطرار عشرات الالاف من السكان البقاء في الظلام يرجح ان قرصنة الكترونية كانت وراء ذلك.

 يذكر ان النظم الصناعية المعتمدة للتحكم في عدد من الشبكات الحيوية اضحت قديمة، والتي تعرف بمنظومة الاشراف والتحكم بالمعلومات، لا زالت تستخدم في قطاعات خطوط الانابيب وشبكات الطاقة والمصانع، والتي تصنعها مؤسسات ضخمة مثل شركة جنرال اليكتريك وسيمنز. الاعتقاد السائد آنذاك ان تلك النظم تحتوي على مكونات تعزز حمايتها وتثبيتها كنظم آمنة، وتم توصيلها لاحقا بشبكة الانترنت وما يرافقها من مخاطر تعرضها للاختراق. بل ان الاجهزة التي تعرضت لفايروس ستكسنت في ايران كانت من تصنيع شركة سيمنز الالمانية.

آفاق هجوم الكتروني يحاكي دمار بيرل هاربر

 اسفر الهجوم الياباني على مرفأ بيرل هاربر في جزر هاوايي، 7 كانون الأول 1941، عن دمار هائل لسلاح البحرية الاميركية طالت قدرته التدميرية قطعا عسكرية كانت ثابتة في مرابضها، ونجاة العجلة الاقتصادية وبنى التصنيع التحتية آنذاك، وتفادي الحاق خسائر بشرية في المجتمع الاميركي. اما شن هجوم الكتروني على الولايات المتحدة في الزمن الراهن قد تفوق تداعياته كل ما تقدم.

هجوم الكتروني بحجم بيرل هاربر قد يشل المرافق والبنى التحتية الاقتصادية ويترك بصماته على مستوى العيش الراهن للمواطنين الاميركيين. ومن اكثر الاهداف عرضة للهجوم تبرز المناطق الحضرية، خصوصا تلك المقامة على الساحلين الشرقي والغربي للولايات المتحدة.

 تعتمد الحياة الحضرية اليومية بصورة شبه كلية على توفر متواصل للتيار الكهربائي واتصالات فورية. وقد لا يسبب انقطاع التيار الكهربائي حالة من الذعر بين المواطنين، بيد ان انقطاع مستدام لاجهزة الاتصالات قد يؤدي الى تنامي مشاعر الخوف على نطاق واسع، في ظل عدم تيقن الجمهور من البعد الزمني الذي سيستغرقه انقطاع الكهرباء والاتصالات.

على سبيل المثال، لو تعرضت شبكة توزيع كهرباء في احدى المدن الرئيسة لهجوم الكتروني سينطوي عليها متاعب فورية نتيجة خسارة الانارة والطاقة للوهلة الاولى والتي ستؤدي لغياب المعلومات تلقائيا. كما من شأنه تعطيل عمل شبكة امدادات المياه التي تعتمد على الطاقة الكهربائية للضخ؛ اشارات المرور ستتعطل ايضا مما يفرض على طاقم الشرطة القيام بمهام تنظيم المرور وتراجع مهمة حماية السلم الاهلي؛ نظم المواصلات العامة سينالها الشلل مما يضاعف حركة المواصلات على شبكات الطرق العامة؛ المحلات التجارية ستفقد قدرتها لادارة معاملاتها المالية الكترونيا؛ محطات توزيع الوقود ستفقد طاقتها لضخ وقود السيارات؛ المحال التجارية وشبكة المطاعم ستتعرض لخسارة مخزونها من البضائع القابلة للتلف بسبب توقف اجهزة التبريد عن العمل. اما تزامن شن الهجوم مع فصل الشتاء فقد يؤدي الى وفاة الآلاف من المواطنين، لا سيما المسنين، بسبب البرد القارص.

هجوم الكتروني منسق قد يؤدي لنتائج مدمرة لا ريب، وما على المرء الا تأمل ما قد ينجم عن شن عدد من الهجمات الارهابية الكبرى مقرونة بهجوم الكتروني مركب.

من باب الافتراض، لنتأمل حيثيات عدة هجمات ارهابية تشن على عدد من المدن الاميركية الرئيسة – باستخدام طائرات مدنية يتم اختطافها على غرار 11 أيلول 2001، سيارات مفخخة بعبوات كبيرة، او هجمات ارهابية تستهدف الفنادق تحاكي ما تم في مدينة مومباي الهندية، يتلوها هجمات الكترونية على شبكات توزيع الطاقة والاتصالات لتلك المدن. اما داخلها، فمن شأن الاضرار الناجمة عرقلة جهود وطواقم الانقاذ. اما في المحيط الخارجي للمدن المستهدفة، فسينتشر خبر الهجمات على امتداد الاراضي الاميركية مجردا من اية تفاصيل دقيقة توضح الى اي مدى بلغ حجم الضرر. وكل مدينة تتعرض لعطل في شبكات الكهرباء والاتصالات سيفترض انها اضحت ضحية هجوم ارهابي.

الهجمات التالية على المصارف المالية، ان تمت، ستضع مزيدا من العراقيل امام سيرورة الحياة اليومية في ظل تبخر الاموال النقدية من المصارف الآلية. وامتداد الهجمات الى انابيب النفط والغاز ايضا سيضاعف من عراقيل قطاع المواصلات ومفاقمة ازمة التدفئة التي تعتمد فيها المنازل على امدادات وقود الديزل والغاز الطبيعي.

 في حال تعثر جهود الهيئات الرسمية لاعادة تشغيل البنى التحتية واستعادة السلم الاهلي بصورة عاجلة ، فمن المرجح تصاعد الاضطرابات المدنية وامتدادها الى مدن الكثافة السكانية والتي سيصبح اهلوها غير قادرين على توفير احتياجاتهم من الماء والغذاء. في هذا الحال، ستجري تعبئة فورية لقوى الحرس الوطني لدخول بؤر الاحتجاجات والسيطرة على الاضطرابات، مما سيفقد المشهد القومي الاشمل من قوى بشرية ضرورية لمواجهة مخاطر اخرى.

سردية ما تقدم لا تمثل السيناريو الاسوأ من بين الاحتمالات الاخرى، على الرغم من امكانية تعرض مناطق الساحل الشرقي – الشمالي وجنوبي كاليفورنيا الى ضربات موجعة؛ اما المناطق الريفية التي يتضاءل اعتمادها على نظم خدمات وبنى تحتية متطورة قد تبقى في حال افضل. عملية الانتاج الغذائي ستستمر، وان بوتيرة مختلفة، الا ان عددا من العقبات تعترض ايصاله الى مدن الكثافة السكانية. ان القدرة على ضبط الاضطرابات الاهلية والسيطرة عليها واعادة العمل لشبكات الطاقة والمياه ونقل المواد الغذائية خلال فترة زمنية معقولة ستحدد حجم التداعيات طويلة الامد الناجمة عن شن مثل تلك الهجمات.

عمليا، واستنادا الى الاجراءات المتخذة بعد اعصار “ساندي” المدمر الذي ضرب اجزاء كبرى من الساحل الشرقي للبلاد، فان بؤس اداء الهيئات الرسمية لمواجهة كارثة الاعصار تضعها جميعا في دائرة التقصير. اذ تم التنبؤ مسبقا بالاعصار ومساحة دائرة المناطق المهددة، والنتيجة كانت انهيار البنى التحتية وتعطل الخدمات لفترة زمنية امتدة لعدة اسابيع. وعليه، يمكننا القول ان اداء الدوائر والهيئات والاجهزة الرسمية لتوفير الخدمات الرئيسة ستبقى بالغة الصعوبة عند مواجهتها كوارث تمتد على رقعة جغرافية اوسع.

تعرض الاراضي الاميركية لهجمات الكترونية خرج من دائرة التكهن منذ زمن. اما وسائل المواجهة للحد من التداعيات القاسية لهجوم منظم فهي مقرونة بقدرة المؤسسات الخاصة المعنية بالبنى التحتية على توزيع الخدمات العامة، وقابليتها لاتخاذ تدابير صارمة لتعزيز دفاعات شبكاتها الالكترونية – التي تمثل خط الدفاع الاول. وما يليها من منظومة دفاعية للتعامل مع الكوارث والطواريء يستند بشكل رئيس الى قدرة الهيئات والاجهزة الرسمية، مركزيا ومحليا، للحد من التهديدات المحدقة بالبنى التحتية عند تعرضها للهجوم، واعادة العمل الى مستوياته الطبيعية في اقصر فترة زمنية ممكنة. حقيقة الامر، ان الاجابة الصريحة لكلتا المهمتين المذكورتين يشوبها عدم اليقين والريبة.

اوباما في عهده الثاني: مؤشرات على سياسة خارجية مكبلة بقيود الاجندة الداخلية

اوباما في عهده الثاني: مؤشرات على سياسة خارجية مكبلة بقيود الاجندة الداخلية

دشن الرئيس اوباما ولايته الجديدة بخطوة عاجلة نحو السياسة الخارجية، بارساله وزير الخارجية الجديد، جون كيري، في اولى جولاته الرسمية، بالتزامن مع مصادقة الكونغرس على تعيين تشك هيغل لحقيبة وزارة الدفاع.

تباينت نتائج جولة كيري مقارنة مع الفرضيات السابقة وتوقعاتها للقاءات حميمية وسلسة، وتم تسليط الاضواء على لقائه برموز المعارضة السورية في روما، سبقها تشدد في تصريحات قوى المعارضة بعدم استعدادهم للقائه تعبيرا عن عدم رضاهم للمساعدات العينية المطلوبة من اميركا. بل اطلقت المعارضة سلسلة تصريحات تدل على مدى الاحباط الذي لحقهم جراء وعود بالمساعدة لم تنفذ، وهددوا بعدم حضور مؤتمر “اصدقاء سورية” في روما الذي سيحضره كيري.

واطلقت الادارة الاميركية وعودا جديدة بالمساعدة لاغراء قوى المعارضة بالحضور، منها اشارات صدرت عن البيت الابيض بأن الرئيس اوباما يعكف على احداث نقلة نوعية في سياسته من ضمنها انه قد يتم تزويد المعارضة المسلحة بمساعدات عينية غير فتاكة تشمل مجال التدريب العسكري.

هكذا كافأت الولايات المتحدة قوى المعارضة لحملها على حضور مؤتمر روما، تبعها تصريح لوزير الخارجية كيري بأن بلاده وللمرة الاولى تنظر في تقديم مساعدات عينية تتضمن حصصا غذائية للمقاتلين وعربات نقل واجهزة اتصالات ومعدات للرؤية الليلية ومساعدات طبية. كما اعلنت الادارة الاميركية عن توفير 60 مليون دولار كمبلغ اضافي لتمويل المشتريات استكمالا لمبلغ سابق وصل الى 385 مليون دولار لمساعدات ذات طبيعة انسانية، وشراء معدات بلغت كلفتها 54 مليون دولار. واوضح كيري في خطابه لمؤتمر روما ان القرار الاميركي بتقديم الدعم اتى للرد على “وحشية قوات عسكرية جيدة التسليح يدعمها مقاتلون اجانب من ايران وحزب الله.”

ومضى جون كيري في اطلاق تصريحات تنقد بشدة الرئيس السوري، اذ قال في محطة باريس “ينبغي على (الرئيس الاسد) ادراك عدم قدرته على الخروج من هذه الازمة بالسبل العسكرية، ويتعين علينا اقناعه بذلك واعتقد ان المعارضة بحاجة الى مزيد من المساعدة كي تستطيع تحقيق ذلك. كما واننا نعمل سويا لبلورة موقف موحد.”

يدرك كيري ان رؤيته لتطبيق حل اميركي في سورية تصطدم بالموقف الروسي الداعم للرئيس الاسد وحاجة الولايات المتحدة للمساعدة الروسية ايضا في ملفين حيويين آخرين في الشرق الاوسط: حمل ايران على وقف جهودها التي قد تؤدي بها للحصول على الاسلحة النووية، وانسحاب القوات الاميركية بسلاسة وسلام من افغانستان، لا سيما وان روسيا تتحكم باحدى الممرات الرئيسية التي ستسلكها القوات الاميركية، خطوط الامداد الشمالية، والتي تتعرج وجهتها من كابول مرورا بنفق سالانغ وانتهاء باراضي الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى. اخلاء المعدات العسكرية الاميركية الثقيلة من افغانستان يستوجب مساعدة روسية نظرا للاعتبارات الاقتصادية. في حال قررت الادارة الاميركية تزويد المعارضة السورية المسلحة بمعدات اضافية، خاصة اسلحة ثقيلة، فان تعويلها على انسحاب آمن لقواتها من افغانستان قد تختفي.

تشكل سورية الحلقة الكبرى في علاقة الدولتين العظميين. اذ مع استمرار النزاع، سيكون بمتناول المعارضة المسلحة وسائل قتالية تمكنها من شن هجمات على الجيش السوري، واستمرار القلق الاميركي من تزعم القاعدة لقوى المعارضة. لمناهضة ذلك السيناريو، ابلغت الولايات المتحدة المعتدلين في قوى المعارضة بضرورة البدء في توفير الخدمات الحكومية الاساسية في المناطق الخاضعة تحت سيطرتها، بغية تعزيز سلطتها وعلاقاتها مع المدنيين السوريين. كما تهدف الولايات المتحدة الى اقناع الرئيس الاسد بحتمية انتصار المتمردين.

بالمقابل، روسيا كانت شديدة الوضوح في التحذير من الاصرار المسبق على رحيل الرئيس الاسد كشرط لعقد مفاوضات سلمية، مما سيؤدي الى وأد المفاوضات بالكامل. اما المعارضة المدعومة اميركيا واوروبيا وعربيا فقد اوضحت ايضا معارضتها التامة لاي دور مقبل للرئيس الاسد في الحكومة السورية.

علاوة على ما تقدم، فان الرئيس اوباما بحاجة ماسة لعون روسي في جولة المفاوضات الجارية مع ايران، التي تحتل رأس سلم الاولويات لسياسته الشرق اوسطية. اذ ان جولة مفاوضات ثلاثية جرت العام الماضي باشراف مسؤولة شؤون السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبين كاثرين آشتون، لم تسفر عن اي تحول في المواقف المعلنة. وما تزال ايران متمسكة بموقفها حول حقها في تخصيب اليورانيوم، بصرف النظر عن تداعيات العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.

ملامح سياسة اوباما الخارجية في ولايته الجديدة

قيام وزير الخارجية الجديد، جون كيري، بجولة عالمية بعد تسلمه مهام منصبه ببضعة ايام تؤشر على جدول اوليات السياسة الخارجية للادارة الاميركية. اذ بدأ جولته بالمرور على الحلفاء الاوروبيين التقليديين (بريطانيا وفرنسا والمانيا وايطاليا)، قبل توجهه للشرق الاوسط ليحط في كل من ومصر والسعودية وتركيا والامارات؛ وترحيل زيارة “اسرائيل” الى وقت لاحق لم يحدد بعد.

بالاستناد الى تركيز خطاباته في اوروبا حول سورية يدفعنا للقول ان الاخيرة ستبقى تتصدر اهتماماته في زيارته للدول العربية وتركيا، التي تشكل خط الاشتباك الاول في الازمة السورية وموقعها الجغرافي كمحطة مرور للمساعدات المقررة للمعارضة السورية المسلحة. اما دول الخليج العربي الثلاث فهي التي تقوم بتمويل وتسليح المعارضة السورية بمختلف انواع الاسلحة. كما ان الدول عينها لا تخفي قلقها البالغ من طموحات ايران النووية التي تنظر اليها بانها لا تعزز قدراتها التي قد تستغلها لاعاقة حركة الناقلات النفطية عبر مضيق هرمز.

من الملاحظ خلو السياسة الخارجية لاوباما من اية مبادرات تتعلق بالمنطقة، كما جرت العادة لعدد من الرؤساء الاميركيين السابقين، واصطفافها الى جانب خيار بقاء السيطرة على القضيتين الملتهبتين في سورية وايران، والحيلولة دون تفاقمها الى مديات ابعد؛ الامر الذي يوفر له جهدا ثمينا ليلتفت الى الملفات الداخلية الاميركية. ولا يلوح في الافق اي مؤشرات تدل على تحول في مسار السياسة الخارجية الاميركية او الميل لتحقيق اتفاقية سلام بين “اسرائيل” والفلسطينيين في المدى المنظور – الامر الذي يعد استثناءاً لاولوية المسالة لكافة الرؤساء الاميركيين في العصر الحديث.

بل باستطاعتنا القول ان اهم ما يشغل بال اوباما هو ابقاء القضايا الساخنة على نار هادئة كي لا تسبب له ازعاجا يعيق تحقيق تقدم في ملفات سياساته الداخلية، خاصة اصلاحات قوانين الهجرة، والانفاق الحكومي، والنظام الضرائبي، ونظام الرعاية الصحية المكنى ببرنامج “اوباماكير،” والحد من انتشار حيازة الاسلحة النارية الفردية. اذ من شان اندلاع ازمة في الشرق الاوسط ان تكلفه بعض رصيده السياسي واشغال اهتمامات الكونغرس بعيدا عن اولوياته التي حددها مسبقا.

من غير المتوقع، بل من المستبعد ان يدلي فريق سياسته الخارجية الجديد بآراء تغاير المعلن من السياسات او الذهاب الى بلورة مبادرات معينة. وقد تعود احد اسباب ذلك الى طبيعة تكوين الفريق الذي لا يتمتع بقسط من القوة والنفوذ لسلفه في عهد وزيرة الخارجية كلينتون، والتي شكلت بشخصها احد نقاط الاستقطاب السياسي وقدرتها على البوح علانية بتوجهاتها المتباينة مع سياسات الرئيس اوباما. كما كان باستطاعة وزير الدفاع الاسبق، بوب غيتس، تحريض المعارضة من الحزب الجمهوري على الرئيس اوباما بحكم ولائه السياسي للحزب ان تطلب الامر. كما ان مدير وكالة الاستخبارات المركزية المستقيل، ديفيد بترايوس، كان يتمتع بقدر واسع من النفوذ والشعبية بين افراد الشعب الاميركي تتيح له مخاطبته مباشرة واحراج الرئيس.

اما الآن فقد تغيرت الاوضاع.

سيواصل مدير وكالة الاستخبارات المركزية المقبل، جون برينان، “الحرب على الارهاب،” باساليب مجربة ابان عهدي الرئيس بوش الابن واوباما في ولايته الاولى.

ويتمتع كل من وزير الخارجية جون كيري ووزير الدفاع تشاك هيغل بخبرة طويلة في الشؤون الخارجية ابان تسلم مهامهما السابقة في مجلس الشيوخ، واللذيْن امضيا عدة سنوات في مجلس الشيوخ الى جانب نائب الرئيس جو بايدن. خدمة هيغل استمرت 14 عاما في مجلس الشيوخ، وعشر سنوات اضافية كعضو في الطاقم الاداري للكونغرس وعمله كمندوب لاحدى جماعات الضغط؛ نائب الرئيس بايدن خدم 34 عاما؛ وجون كيري خدم 28 عاما في الكونغرس. الخبرة الاجمالية لفريق السياسة الخارجية تبلغ نحو 78 عاما، تتضمن خدمة عضوين منهما فترة شبابهما في اروقة الكونغرس.

واجبات اعضاء مجلس الشيوخ لا تتضمن ادارة برامج معينة، او تنفيذ سياسات محددة، او الاشراف على ادارة هيكل بيروقراطي متشعب. بل ان احراز تقدم ما في مسالة حساسة لا يمثل سوى الجزء الاول من التحدي، بينما الجزء الاكبر يتمثل في تطبيق الاتفاق ضمن ضوابط الفهم المشترك. جدير بالاشارة الى ان مهمة عضو مجلس الشيوخ لا تنطوي على تطبيق القوانين التي صوت لصالحها، بل تقتصر في توفير نسبة الاغلبية البسيطة (50 + 1) من الاصوات للمصادقة عليها. اذ ان اعضاء مجلس الشيوخ لا يميلون لرؤية العالم وتشعباته من منظار استراتيجيات بعيدة الامد، التي هي ميزة للخوض في السياسة الخارجية. بكلمة اخرى، فريق اوباما للسياسة الخارجية لديه حس مرهف للتغلب على العقبات السياسية، مما سينعكس على آلية تناوله للازمات من منظار درء تفاقمها وليس حلها بالضرورة.

نظرا لتركيبة وطبيعة فريق السياسة الخارجية ونزعته لتفادي التصادم، يحذر بعض الخبراء الاميركيين ممن استطلعت ارائهم انه من غير المرجح اقدام الرئيس اوباما على تبني مبادرات او صيغ خاصة للحل فيما يخص سورية او ايران، مما سيؤدي الى تطبيقات جزئية مشوهة للسياسة الخارجية وغياب استراتيجية اشمل للتعامل مع قضايا المنطقة، وارسال رسائل متناقضة للحلفاء، وتبني سياسة خارجية تأخذ في الحسبان اتجاهات استطلاعات الرأي على حساب اعتبارات المصالح الاميركية او الاقليمية. بل من المرجح ان يبرز الدور القيادي في المنطقة من مواقع اخرى، وليس من البيت الابيض.

Targeting Tehran’s Euros

Foundation of Defense of Democracies

By: Jonathan Schanzer, Mark Dubowitz

The United States has blocked Iran from easily accessing greenbacks as a means to slow down the Islamic Republic’s nuclear program. But those financial sanctions only go so far. With Iranian nuclear physics still outpacing Western economic pressure, Washington is looking to prevent the mullahs from accessing their second favorite currency: the euro.

The key to the U.S. strategy is Target2, or the Trans-European Automated Real-Time Gross Settlement Express Transfer system. As the European Central Bank’s proprietary electronic interbank payment system, it’s the euro-zone equivalent of the U.S. Fedwire.

http://www.defenddemocracy.org/media-hit/targeting-tehrans-euros/

 

تبادل الاتهامات الدولية بمسؤولية الهجمات الالكترونية: آفاق هجوم الكتروني محتمل على المؤسسات الاميركية

تبادل الاتهامات الدولية بمسؤولية الهجمات الالكترونية: آفاق هجوم الكتروني محتمل على المؤسسات الاميركية

المناخ السياسي الاميركي ملبد بالقلق جراء امكانية تعرض البنى التحتية بكاملها الى هجمات الكترونية تنذر بتوقف وشلل تام لحياة البذخ والرخاء والرفاهية الاقتصادية، يستشعره الانسان العادي قبل السياسي والاكاديمي. بل من دواعي الارتباك الخشية من ارتداد سياسات الهيمنة على العالم الى الاراضي الاميركية، واطلاق المؤسسات الحاكمة تحذيرات متباينة لكنها جلية في عدم قدرتها على التفاعل او الرد او التأقلم مع المتغيرات، بل عدم قدرتها على التحكم بمسار الاحداث، ولا يختلف الوضع عما آل اليه الجهد العسكري الاميركي المباشر في الميدان .

ربما هي المرة الاولى منذ طي صفحة الحرب الاهلية قبل 127 عاما التي يجري فيها الحديث عن تعرض المؤسسات الاميركية وبناها التحتية لشلل تام وعلى الارض الاميركية بالذات، سيما وان هيكلية البنى التحتية المقصودة تعتمد بصورة شبه تامة على التقنية الحديثة لتشغيلها، والتي تشمل: شبكات توليد وتوزيع الطاقة، السدود والمرافق المائية، القطاع المصرفي الهائل، القطاع التجاري بكل تشعباته واختصاصاته، وكل من له دور في المؤسسات الامنية والعسكرية المختلفة.

اعلاميا، تصدرت صحيفة نيويورك تايمز مطلع الاسبوع اثارة “تنامي التهديد من هجمات الكترونية ضد الولايات المتحدة،” معتبرة ان مصدرها الجيش الاحمر الوطني في الصين، والتي تجلت بتداعيات ملموسة في عموم شبكات الحواسيب الالكترونية التي تتحكم بمناحي الحياة اليومية – بدءا من قطاع الامن والدفاع القومي الى القطاع المصرفي ومعلبات المشروبات الغازية وما بينها. تلتها ايضا صحيفة واشنطن بوست لتؤكد ان “كل ما له علاقة بمسار الحياة اليومية في واشنطن قد تم اختراقه،” لا سيما مراكز الابحاث كافة ومقرات المحاماة المنتشرة بوفرة والشركات العاملة في القطاع العسكري، الخ.

للدقة، فان الهجمات المنظمة والمنتظمة المشار اليها لا ترتقي الى مستوى تصنيفها هجمات الكترونية، بل هي اقرب الى سعي “لجس النبض الالكتروني،” لسبر اغوار نقاط الضعف في الشبكات العائدة للحكومة وللقطاع الخاص على السواء، ربما لاستخدامات لاحقة. وتجلى جزء لا باس به من المحاولات بادخال برامج ضارة خفية، فايروس، تتيح للمشرفين على القرصنة منفذا داخليا للتأثير والتحكم بالاجهزة والشبكات بالغة الحساسية في وقت لاحق.

 رسميا، اقرت الحكومة الاميركية ان المحاولات الصينية امتدت للمصانع والموردين لاجهزة الحواسيب للمكاتب والمقرات الحكومية والمجمعات الصناعية الحساسة. كما ان البرامج العائدة للمؤسسات التجارية المصنعة عادة تشكل حلقة الضعف الكبرى لشبكات الحواسيب الحساسة، كما بدا في برنامج “ستكسنت” ضد البنية التحتية لبرنامج ايران النووي.

عقب تسليط الوسائل الاعلامية الضوء على جهود القرصنة الالكترونية، تبارى الخبراء للاجابة على سؤال بديهي لمدى فعالية الدفاعات الاميركية الراهنة ضدها. النتيجة التي اجمعوا عليها كانت محبطة، بل ان التدابير المتخذة لمكافحة الاختراقات تبدو ضئيلة، حجما وتأثيرا. تصدر الرئيس اوباما جهود بلورة الاشراف على تعزيز الدفاعات الداخلية باصداره قرار رئاسي يحث فيه القطاعين الحكومي والخاص على تبادل المعلومات بينهما، وكذلك تبادلها مع المؤسسات الخاصة التي تقيم سدودا منيعة امام منافسي منتجاتها وخدماتها المتعددة؛ ومن غير المحتمل ان يسفر القرار عن قفزة ملموسة في جهود التعاون والحماية. لعل اهم النواحي الايجابية في القرار الرئاسي اشتراطه بلورة معايير تحدد مصدر الخطر وآليات مكافحته، مع العلم انه لا يشترط على المؤسسات الخاصة وضع تدابير من شأنها توفير الحماية لمنشآت حيوية مثل شبكة توزيع الطاقة.

وعليه، كيف نرصد التوقعات لما قد تتعرض له الولايات المتحدة لهجمات الكترونية مدمرة. من نافل القول ان البنية التحتية في عموم الولايات المتحدة تجاوزت عمرها الافتراضي، كما ان اغلبيتها تدار من قبل القطاع الخاص (شركات توزيع الطاقة على سبيل المثال) مما يحرم الحكومة المركزية من بلورة وتطبيق تدابير فعالة لمكافحة الخطر.

بعض جهود القرصنة التي اثمرت اثارت قلق المختصين بنظم الشبكات المعلوماتية لتدبر الامر. واجري تحقيق رسمي عام 2011 للتيقن من السبب الذي كان وراء عطل اصاب آلة ضخ للمياه في محطة عامة للتوزيع بمقاطعة من ولاية الينوي، وهل يقف هجوم الكتروني شنه غرباء وارءه. وفي وقت متزامن، نجح احد القراصنة باختراق شبكة توزيع للمياه في مدينة هيوستن، وتعمد ترك اثار فعلته على شاكلة صور للمعدات الحساسة في الشبكة لتأكيد نجاحه. وعلى الرغم من انه لم يسجل اي اختراق موثق لشبكة توزيع الكهرباء لتاريخه، الا ان انقطاع التيار الكهربائي في عدد من المؤسسات البرازيلية الهامة، بين اعوام 2005 و 2007، اسفرت عن اضطرار عشرات الالاف من السكان البقاء في الظلام يرجح ان قرصنة الكترونية كانت وراء ذلك.

يذكر ان النظم الصناعية المعتمدة للتحكم في عدد من الشبكات الحيوية اضحت قديمة، والتي تعرف بمنظومة الاشراف والتحكم بالمعلومات، لا زالت تستخدم في قطاعات خطوط الانابيب وشبكات الطاقة والمصانع، والتي تصنعها مؤسسات ضخمة مثل شركة جنرال اليكتريك وسيمنز. الاعتقاد السائد آنذاك ان تلك النظم تحتوي على مكونات تعزز حمايتها وتثبيتها كنظم آمنة، وتم توصيلها لاحقا بشبكة الانترنت وما يرافقها من مخاطر تعرضها للاختراق. بل ان الاجهزة التي تعرضت لفايروس ستكسنت في ايران كانت من تصنيع شركة سيمنز الالمانية.

آفاق هجوم الكتروني يحاكي دمار بيرل هاربر

اسفر الهجوم الياباني على مرفأ بيرل هاربر في جزر هاوايي، 7 كانون الأول 1941، عن دمار هائل لسلاح البحرية الاميركية طالت قدرته التدميرية قطعا عسكرية كانت ثابتة في مرابضها، ونجاة العجلة الاقتصادية وبنى التصنيع التحتية آنذاك، وتفادي الحاق خسائر بشرية في المجتمع الاميركي. اما شن هجوم الكتروني على الولايات المتحدة في الزمن الراهن قد تفوق تداعياته كل ما تقدم.

هجوم الكتروني بحجم بيرل هاربر قد يشل المرافق والبنى التحتية الاقتصادية ويترك بصماته على مستوى العيش الراهن للمواطنين الاميركيين. ومن اكثر الاهداف عرضة للهجوم تبرز المناطق الحضرية، خصوصا تلك المقامة على الساحلين الشرقي والغربي للولايات المتحدة.

تعتمد الحياة الحضرية اليومية بصورة شبه كلية على توفر متواصل للتيار الكهربائي واتصالات فورية. وقد لا يسبب انقطاع التيار الكهربائي حالة من الذعر بين المواطنين، بيد ان انقطاع مستدام لاجهزة الاتصالات قد يؤدي الى تنامي مشاعر الخوف على نطاق واسع، في ظل عدم تيقن الجمهور من البعد الزمني الذي سيستغرقه انقطاع الكهرباء والاتصالات.

على سبيل المثال، لو تعرضت شبكة توزيع كهرباء في احدى المدن الرئيسة لهجوم الكتروني سينطوي عليها متاعب فورية نتيجة خسارة الانارة والطاقة للوهلة الاولى والتي ستؤدي لغياب المعلومات تلقائيا. كما من شأنه تعطيل عمل شبكة امدادات المياه التي تعتمد على الطاقة الكهربائية للضخ؛ اشارات المرور ستتعطل ايضا مما يفرض على طاقم الشرطة القيام بمهام تنظيم المرور وتراجع مهمة حماية السلم الاهلي؛ نظم المواصلات العامة سينالها الشلل مما يضاعف حركة المواصلات على شبكات الطرق العامة؛ المحلات التجارية ستفقد قدرتها لادارة معاملاتها المالية الكترونيا؛ محطات توزيع الوقود ستفقد طاقتها لضخ وقود السيارات؛ المحال التجارية وشبكة المطاعم ستتعرض لخسارة مخزونها من البضائع القابلة للتلف بسبب توقف اجهزة التبريد عن العمل. اما تزامن شن الهجوم مع فصل الشتاء فقد يؤدي الى وفاة الآلاف من المواطنين، لا سيما المسنين، بسبب البرد القارص.

هجوم الكتروني منسق قد يؤدي لنتائج مدمرة لا ريب، وما على المرء الا تأمل ما قد ينجم عن شن عدد من الهجمات الارهابية الكبرى مقرونة بهجوم الكتروني مركب.

 من باب الافتراض، لنتأمل حيثيات عدة هجمات ارهابية تشن على عدد من المدن الاميركية الرئيسة – باستخدام طائرات مدنية يتم اختطافها على غرار 11 أيلول 2001، سيارات مفخخة بعبوات كبيرة، او هجمات ارهابية تستهدف الفنادق تحاكي ما تم في مدينة مومباي الهندية، يتلوها هجمات الكترونية على شبكات توزيع الطاقة والاتصالات لتلك المدن. اما داخلها، فمن شأن الاضرار الناجمة عرقلة جهود وطواقم الانقاذ. اما في المحيط الخارجي للمدن المستهدفة، فسينتشر خبر الهجمات على امتداد الاراضي الاميركية مجردا من اية تفاصيل دقيقة توضح الى اي مدى بلغ حجم الضرر. وكل مدينة تتعرض لعطل في شبكات الكهرباء والاتصالات سيفترض انها اضحت ضحية هجوم ارهابي.

الهجمات التالية على المصارف المالية، ان تمت، ستضع مزيدا من العراقيل امام سيرورة الحياة اليومية في ظل تبخر الاموال النقدية من المصارف الآلية. وامتداد الهجمات الى انابيب النفط والغاز ايضا سيضاعف من عراقيل قطاع المواصلات ومفاقمة ازمة التدفئة التي تعتمد فيها المنازل على امدادات وقود الديزل والغاز الطبيعي.

في حال تعثر جهود الهيئات الرسمية لاعادة تشغيل البنى التحتية واستعادة السلم الاهلي بصورة عاجلة ، فمن المرجح تصاعد الاضطرابات المدنية وامتدادها الى مدن الكثافة السكانية والتي سيصبح اهلوها غير قادرين على توفير احتياجاتهم من الماء والغذاء. في هذا الحال، ستجري تعبئة فورية لقوى الحرس الوطني لدخول بؤر الاحتجاجات والسيطرة على الاضطرابات، مما سيفقد المشهد القومي الاشمل من قوى بشرية ضرورية لمواجهة مخاطر اخرى.

 سردية ما تقدم لا تمثل السيناريو الاسوأ من بين الاحتمالات الاخرى، على الرغم من امكانية تعرض مناطق الساحل الشرقي – الشمالي وجنوبي كاليفورنيا الى ضربات موجعة؛ اما المناطق الريفية التي يتضاءل اعتمادها على نظم خدمات وبنى تحتية متطورة قد تبقى في حال افضل. عملية الانتاج الغذائي ستستمر، وان بوتيرة مختلفة، الا ان عددا من العقبات تعترض ايصاله الى مدن الكثافة السكانية. ان القدرة على ضبط الاضطرابات الاهلية والسيطرة عليها واعادة العمل لشبكات الطاقة والمياه ونقل المواد الغذائية خلال فترة زمنية معقولة ستحدد حجم التداعيات طويلة الامد الناجمة عن شن مثل تلك الهجمات.

عمليا، واستنادا الى الاجراءات المتخذة بعد اعصار “ساندي” المدمر الذي ضرب اجزاء كبرى من الساحل الشرقي للبلاد، فان بؤس اداء الهيئات الرسمية لمواجهة كارثة الاعصار تضعها جميعا في دائرة التقصير. اذ تم التنبؤ مسبقا بالاعصار ومساحة دائرة المناطق المهددة، والنتيجة كانت انهيار البنى التحتية وتعطل الخدمات لفترة زمنية امتدة لعدة اسابيع. وعليه، يمكننا القول ان اداء الدوائر والهيئات والاجهزة الرسمية لتوفير الخدمات الرئيسة ستبقى بالغة الصعوبة عند مواجهتها كوارث تمتد على رقعة جغرافية اوسع.

تعرض الاراضي الاميركية لهجمات الكترونية خرج من دائرة التكهن منذ زمن. اما وسائل المواجهة للحد من التداعيات القاسية لهجوم منظم فهي مقرونة بقدرة المؤسسات الخاصة المعنية بالبنى التحتية على توزيع الخدمات العامة، وقابليتها لاتخاذ تدابير صارمة لتعزيز دفاعات شبكاتها الالكترونية – التي تمثل خط الدفاع الاول. وما يليها من منظومة دفاعية للتعامل مع الكوارث والطواريء يستند بشكل رئيس الى قدرة الهيئات والاجهزة الرسمية، مركزيا ومحليا، للحد من التهديدات المحدقة بالبنى التحتية عند تعرضها للهجوم، واعادة العمل الى مستوياته الطبيعية في اقصر فترة زمنية ممكنة. حقيقة الامر، ان الاجابة الصريحة لكلتا المهمتين المذكورتين يشوبها عدم اليقين والريبة.

قراءة اولية في خطاب اوباما عن حالة الاتحاد

في الماضي البعيد، اعتاد الرئيس الاميركي على توجيه مذكرة خطية لاعضاء الكونغرس في مستهل فترة تسلمه مهامة الرئاسية يشرح فيها الحالة العامة والبرامج التي ينوي تحقيقها. ومن ثم، اضحت المذكرة لازمة اقرها الكونغرس تطورت فيما بعد الى خطاب يحشد له حضور مميز وكل من هو بقرب دائرة صنع القرار. ومع دخولنا عصر التلفزيون، اصبح الخطاب يستدعي اهتماما اعلاميا ابلغ اهمية من الخطاب عينه. وبسط هذا التطور ميزاته على خطاب الرئيس اوباما في مطلع ولايته الرئاسية الثانية.

خصص الجزء الاكبر من خطاب اوباما الى القضايا ذات الاهتمام الداخلي، مستهلا مسألة انسحاب القوات الاميركية من افغانستان بالقول “بعد انقضاء عقد من الزمن على حرب طاحنة، فان جنودنا البواسل رجالا ونساءً يتأهبون للعودة الى الوطن .. نقف معا الليلة موحدين لتوجيه التحية للجنود والمدنيين الذين يضحوا بارواحهم يوميا من اجل حمايتنا. بفضلهم نستطيع البوح بثقة ان الولايات المتحدة ستكمل مهمتها في افغانستان وتحقيق هدفنا بهزيمة نواة القاعدة.” وشكل هذا الفصل القسم المتعلق بالسياسة الخارجية للرئيس.

ومر اوباما مرور الكرام على مستقبل بقاء القوات الاميركية في افغانستان الى ما بعد الانسحاب الشامل عام 2014،  لكنه ابقى طبيعة المهام المنوطة بها مبهمة. بيد انه اتى على ذكر مهمتين بانتظار القوات “القيام بتدريب وتسليح القوات الافغانية لوضع يخولها عدم الانزلاق الى حالة من الفوضى (والثانية) جهود مكافحة الارهاب مما يفسح لنا المجال لمطاردة من يتبقى من القاعدة واعوانها.”

 ولمزيد من التعليل، اقر اوباما استمرارية مسألة القاعدة في آسيا وافريقيا قائلا “حقا، لقد برزت مجموعات مختلفة متطرفة تقيم علاقات مع القاعدة، امتدادا من شبه الجزيرة العربية وصولا لافريقيا. الخطر الذي تمثله تلك المجموعات لا يزال طور الانشاء.” وفي ذات السياق، اوضح اوباما انه لا ينوي ارسال قوات عسكرية لمسارح الحرب الجديدة بالقول “ينبغي علينا توفير المساعدة لبلدان مثل اليمن وليبيا والصومال بحيث تضطلع بحماية امنها ومساعدة الحلفاء الذين يتصدون للارهابيين في معاقلهم، كما شهدنا في مالي.”

وفضل اوباما الابقاء على غموض آلية مساعدة الولايات المتحدة، مما يعني ضمنيا الاستمرار او تصعيد حرب الطائرات دون طيار، الدرونز، كما جاء في كلمته “(يتوفر لدينا) طيف من الامكانيات، (اذ) سنستمر في اتخاذ اجراء مباشر ضد اولئك الارهابيين الذين يشكلون التهديد الاخطر للاميركيين.”

واستوجبت المناسبة المرور على ذكر بعض الدول الاخرى في الشرق الاوسط. ففي الحالة الايرانية، لم�’ح الى الاستمرار في الجهود الديبلوماسية. ومع ذلك، ابقى على مسافة من توجيه تهديد مبطن بقوله “سنعمل ما نراه ضروري للحيلولة دون امتلاكها سلاح نووي.”

في حالات عدة، تطلب الامر قراءة ما بين السطور للوقوف على سياسة اوباما الخارجية في المرحلة المقبلة. وفيما يخص مصر، اشار الى ان الولايات المتحدة لا تشعر بالسعادة التامة لمسار تطبيق الديموقراطية ووتيرة الاصلاحات الدستورية، قائلا “ليس بوسعنا الافتراض (لقدرتنا على) املاء طبيعة مسار التغيير (المطلوب) في دول مثل مصر، بل لدينا القدرة �” والعزم �” للمطالبة باصرار على ضرورة احترام الحريات الاساسية لكافة افراد الشعب.” واستدرك بالقول “ليس بوسعنا افتراض قيامنا باملاء ما نراه مناسبا على مسار التغيير،” مشيرا ايضا الى عدم نيته اتخاذ اي مبادرات في مجال السياسة الخارجية ترمي حث او معاقبة مصر. هناك شعور لدى الرئيس اوباما بأنه يحقق استقرار المنطقة عبر تعزيز سلطة الرئيس مرسي.

 جدير بالذكر ان اوباما لم يمر على تسمية مصر بأنها حليف حميم في المنطقة �” الأمر الذي كان سيحظى بتصفيق وترحيب في خطاباته الرئاسية الماضية. وهذا يدل على انه بالرغم من شحنة الطائرات المقاتلة الاخيرة من طراز F-16 المقدمة لها، فان الولايات المتحدة عدلت عن رؤية مصر كلاعب اساسي في الاقليم.

 ومر اوباما مرورا عارضا على المسألة السورية محافظا على غموض توجهات السياسة الاميركية نحوها. وقال “سنواصل ضغوطنا على النظام السوري الذي قتل ابناء شعبه وندعم زعماء المعارضة الذين يكنون الاعتبار لحقوق كل فرد سوري،” في اشارة مبطنة الى مشاعر القلق نحو السياسات المتبعة من بعض قوى المعارضة، والتلميح الى نية العمل مع نظام الاسد بعد ثباته.

  واختتم اوباما شق السياسة الخارجية الاميركية بترديد الدعم الالزامي لاسرائيل، قائلا “سنقف بصمود مع اسرائيل في السعي للتوصل الى أمن وسلام دائم.” وبخلاف خطاباته السابقة، فقد آثر عدم تحديد اطار لمسار سلمي اوسع او ذكر اي جهد يبذل لحل المسألة الفلسطينية. لا شك ان اوباما يدرك جيدا عدم تناغم سياساته مع سياسات الحكومة الاسرائيلية الامر الذي لا يعزز التوقعات بان المبادرات السلمية تلوح في الافق.

كان شق السياسة الخارجية في مجمل الخطاب مفعما بالشعارات والوعود وخاليا من تفاصيل متوقعة. كان جلي ايضا ادراك الادارة الاميركية تنامي وانتشار تنظيم القاعدة، بيد ان الامر يبدو لا يستحق عناء التفكير لمواجهة ذلك. الجواب الثابت للحظة هو توقع مزيد من غارات طائرات الدرونز، وعقد الأمل على اقدام دول اخرى نشر قوات مقاتلة للاشتباك مع الارهابيين.

اما ذكر بعض قضايا الشرق الاوسط لماما فكان لاستدرار موجة من الترحيب والتصفيق. في الشق الايراني، اوضح اوباما بما لا يدع مجالا للشك ان انخراط ايران ديبلوماسيا هو الخيار المفضل، مع التذكير بالاشارة الى اتخاذ بعض الاجراءات الاخرى ان اقتضى الامر مثل الحرب في الفضاء الالكتروني. ولا يبدو انه مقبل على الانخراط في مصر في ظل حالتها الداخلية الملتهبة. في الشأن السوري، تبقى الادارة الاميركية مترددة حيال التعامل معه، اقرنها وزير الخارجية الجديد جون كيري بالتلميح الى مشروع معادلة حل محتمل تتحدد معالمه مع الجانب الروسي، لكن الجانبين لا يزالا بعيدين كل البعد عن التوصل لحل وسط.

السياسة الداخلية

 تضمنت الخطابات الموجهة للأمة بعض الصدقية في احيان سابقة، وليس ثمة حدث اعلامي بارز. الرئيس الاسبق جيرالد فورد قال في خطابه عام 1975 “ينبغي علي الاقرار لكم بأن حال الأمة لا يبعث على الارتياح،” في ظل معدلات عالية للبطالة وبطء النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات العجز بصورة جنونية. واضاف ” احمل اليكم انباء غير سارة، ولا اتوقع منكم اطراءً، او بعضه ان توفر.”

 الرئيس الشاب جون كنيدي قال في خطابه عام 1961 “حال الاقتصاد الحالية تثير القلق،” موضحا انه يلقي خطابه “في ظرف يتسم بالخطر الماثل على الأمة ولكنه ايضا فرصة قومية للنهوض.”

اما الرئيس اندرو جاكسون الذي تسلم مهام منصبه في اعقاب انتهاء الحرب الاهلية، فقال “الصراحة تقتضي مني اعلامكم بان اللحظة الراهنة لا تدل على وجود اتحاد كما رآه الاباء المؤسسون، وكما ارادوه لنا.”

ذاك الوضوح وتلك الصراحة لا تجد حيزا في خطابات الامة في الظروف الراهنة، بل هي مفعمة بالتفاؤل والقفز عن الاخبار السيئة. اذ جرت العادة ان تركز تلك الخطابات على مبادرات سن تشريعات داخلية، بما ان الخطاب موجه للمؤسسة التشريعية. اما اوباما فقد اقر مسبقا بنقاط الضعف في بلورة مشاريع قانونية بالقول “ساصدر تعليمات اعضاء حكومتي لصياغة اجراءات تنفيذية بامكاننا القيام بها.” وهذا يؤشر بوضوح على ان تنسيق الجهود مع الكونغرس لن يكون له نصيب الاولوية.

وارفقه بالكف عن الاشارة الى ميزانية العام المقبل، 2014، مما يعد تغيرا كبيرا. اذ لم يرد ذكر اي مقترحات لتجسير العجز في الميزانية المقبلة، كما ان اوباما اخفق في طرح مشروع الميزانية المزمع تقديمها للكونغرس �” موضوع اضحى ثابت في خطابات حال الأمة. كما خلا خطاب اوباما من اي نصوص تقليدية لاصلاح اي من البرامج الحكومية، او اطلاق برامج جديدة، او انهاء العمل ببعض القديم منها، او اي اشارة يستدل منها على نية للقيام بها في ولايته الثانية. بل جاء خطابه وكانه يتزامن مع نهاية سنواته الثمانية في البيت الابيض بدلا من مشروع للسنة الخامسة من رئاسته.

بعض المشاريع حملت عناوين ومصطلحات براقة: محاور صناعية، “علاقة شراكة لاعادة بناء اميركا،” تحدي “لاعادة تصميم المدارس الاميركية،” “القمة الخاصة للاستثمار في الولايات المتحدة،” و”وقفية الأمن للطاقة.” بالرغم من كل ذلك، لم يتطوع بأية معلومات قد تكون مفيدة حول البرامج المذكورة، بل ليس مستبعدا ان تدخل ادراج النسيان في المستقبل القريب.

         النبض الشعبي، وفق استطلاعات فورية للرأي تجري خلال القاء الخطاب، جاء بنتيجة مخيبة لآمال الحزب الديموقراطي اذ  كان التأييد متدنيا بين الناخبين من كافة التوجهات السياسية، الديموقراطيين والجمهوريين والمستقلين، على السواء لمجرد مطالبته اتخاذ اجراءات مشددة اكثر للحد من انتشار الاسلحة الفردية. وسجلت اعلى اصوات الدعم عند الاشارة الى حتمية عودة القوات الاميركية من افغانستان. معدلات ردود الفعل على فقرات متعددة من الخطاب الرئاسي دلت على تقارب بين مشاعر المستقلين والجمهوريين، مما يؤشر على الحجم الضئيل لشعبية الخطاب الرئاسي بين عموم الشعب الاميركي.

يستدل من المحصلة العامة للخطاب الرئاسي عن حال الأمة انه ثمة تكرار لقضايا وردت في خطابات سابقة، قدمها اوباما خلال الحملة الانتخابية وتلك التي القاها امام الكونغرس. اذ لا يستشعر منه ان هناك توجه جديد في الافق او انه ينوي معالجة التحديات الحقيقية التي تعاني منها الولايات المتحدة. وعلق عضو المحكمة العليا، انتوني سكاليا، الذي تغيب عن حضور القاء ستة عشر (16) خطابا رئاسيا متتاليا، بالقول “لقد تحولت (المناسبة) الى مشهد صبياني. لا اريد التواجد هناك كي لا اضفي شرعية عليها.” ويشاطره الرأي معظم قطاعات الشعب الاميركي مجسدا ذلك بادنى مستوى مشاهدة خلال عشرين (20) عاما، باستثناء آخر خطاب رئاسي القاه الرئيس الاسبق بيل كلينتون.

  تضافرت تطورات عالمية وانباء داخلية ذات اهمية واسعة للنأي بالخطاب جانبا، اهمها التفجير النووي لكوريا الشمالية، والعاصفة الثلجية الكبرى في ولايات الشمال الشرقي، وحالة القلق العام نتيجة تمرد وغضب احد افراد الشرطة السابقين في لوس انجيلس ومطاردته بعد اطلاقه النار على زملاء سابقين احتجاجا على سوء معاملتهم له وطرده من السلك الوظيفي.

اميركا على حافة “الانهيار المالي” هل ستهوي فعلا ؟

اميركا على حافة “الانهيار المالي” هل ستهوي فعلا ؟

تطغى التحذيرات من السقوط في الهاوية المالية على غيرها من اولويات سياسية واجتماعية في واشنطن، على خلفية التجاذبات الحادة لاقرار بنود الميزانية المركزية بين الفريقين السياسيين الرئسيين. حقيقة الامر ان مخاطر الوقوع في هاويتين تنتظران البت العاجل: الاولى، الارتفاع التلقائي للنسب الضريبية المقررة مع بداية العام المقبل، والتي من شأنها الوصول بالحالة الاقتصادية الى الركود. والثانية تتمثل في رفع سقف الديون العامة والذي لا مفر منه للمحافظة على مستويات الانفاق المركزية الراهنة.

  يرى بعض الفرقاء من طرفي الصراع ضرورة الوصول بالدولة الى السقوط لاحداث الصدمة لدى العامة وصناع القرار على السواء. هناك من يجادل داخل فريق الحزب الديموقراطي بأن التحديات الناجمة بعدئذ جاءت بسبب تعنت الحزب الجمهوري، مما يشكل ذخيرة انتخابية للفريق الاول في الانتخابات النصفية المقبلة، عام 2014. بالمقابل، يستمر فريق الحزب الجمهوري في عناده بان مسؤولية الركود الاقتصادي تقع على عاتق البيت الابيض وحده لتخلفه عن الوصول الى اتفاق مشترك بخفض الانفاق على البرامج الاجتماعية والصحة العامة.

بعضهم يرى انه يتعين على اوباما استثمار فوزه بولاية رئاسية ثانية من اجل ممارسة مزيد من الضغوط على الفريق الجمهوري للتساوق مع موقفه. حقيقة المشهد السياسي تدل على خطأ تلك الفرضية، لا سيما وان اوباما لا يتمتع راهنا بمستويات عالية من الدعم الشعبي ومن شأن اي اهتزاز في الوضع الاقتصادي، نتيجة تفعيل مستويات ضرائبية اعلى، ان يؤدي الى تآكل قاعدة الداعمين والمؤيدين له. اذ يتطلع الى حشد اكبر دعم جماهيري ممكن لصالحه قبيل الانتخابات النصفية في عام 2014، التي عادة تنذر بالشؤم للحزب المسيطر على البيت الابيض وتداعياتها القاسية في مناخ يتسم بالركود الاقتصادي. كما ان تضاؤل الموارد المالية نتيجة لحالة الركود وعدم رفع سقف الدين العام يشكلان قيودا جديدة على حرية حركته في ولايته المقبلة وبرامجه المتعددة.

من المستبعد ان يسمح اي من الفريقين بتدهور الاوضاع ودفعها نحو السقوط الاقتصادي المدوي. بل ان الفريقين يشتركان في الظهور بموقف صارم امام قواعدهما الانتخابية، لكنهما في حقيقة الامر سيتوصلان لصيغة عمل ما لدرء تفاقم الازمة. وكما جرت العادة، فان الحلول الوسط التي سيتوصلان اليها طبيعتها قصيرة الاجل وتستند الى الحد الادنى من تقديم التنازلات المتبادلة. الا انها في نهاية المطاف تشكل اتفاقا يمكن البناء عليه، مع ادراك الطرفين لطبيعته للمعالجة السريعة بمثابة ضمادات تخفي عمق الازمة بغية درء التداعيات المقبلة، ومن شأن الازمة العوده مجددا العام المقبل.

ومن بين المقترحات المتداولة الطلب من وزارة المالية بعدم قبض اموال ضرائبية مستحقة على اصحاب الدخل العالي لعام 2013، واجماع الخبراء وصناع القرار على السواء ان لدى وزير المالية، تيموثي غايتنر، صلاحية اقرار حجم الضرائب المستحقة على المداخيل �” لكافة اصحاب الدخل او البعض منهم. مما يعني ان اجراءاته المرتقبة تتساوق مع موقف البيت الابيض القاضي برفع النسب الضريبية لذوي الدخل المرتفع من فئة 250،000 دولار سنويا فما فوق. وفي نفس الوقت، الابقاء على النسب الضريبية المستحقة على الطبقة الوسطى كما هي عليه راهنا، وعدم تعرض مداخيلهم لمزيد من الاستقطاعات الضرائبية.

من شأن الحل المقترح تخفيف وطأة الازمة، اذ ان الضرائب المستحقة تبقى كذلك، وعدم قبضها في اوانها يؤجل ولا يلغي الاستحقاق الذي لا مفر منه ان لم يتم تسوية الامر وابقاء المستويات المستحقة على نسبها الراهنة. اذ ان صلاحية السلطة الرئاسية تقتصر على تحديد النسب الضرائبية المستحقة على المداخيل، وليس اعفاء اصحابها منها بالكامل. الادارة هي في وضع المقامرة، ففي حال ثبوت خطأ فرضياتها السابقة سيواجه الملايين استحقاقات ضرائبية كبيرة في العام الذي يليه، 2014، وقبل نحو ستة اشهر من بدء حملة الانتخابات النصفية لممثلي الكونغرس.

لمعالجة الهوة المالية الامثل الناجمة عن فروقات الدخل والانفاق هو اعتماد تغييرات جادة في برامج اصلاح الاستحقاقات الاجتماعية، الامر الذي يشكل عنصرا تجاذبيا لدى فرقاء الحزبين. اورد الصحافي الاستقصائي المعروف، بوب وودووارد، عن رغبة البيت الابيض في ادخال اصلاحات على برامج الاستحقاقات، برفع سن التأهل لبرنامج الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية. الا ان العثرة تكمن في معارضة القاعدة الديموقراطية العريضة للخطوة، اذ يعتبر الحزب البرنامجين جوهرة سياساته التقليدية. في المقابل، يواجه رئيس ممجلس النواب الجمهوري، جون بينر، تحديا مماثلا من اقرانه للتمسك بتخفيض الاستحقاقات الضرائبية على ذوي الدخل العالي.

 الحل، برأي وودوورد، يتعين على الطرفين تقديم تنازلات في هذا الصدد، اذ ان كل فريق يتمترس خلف معتقداته، لكن ما يجمعهما هو الرغبة المشتركة في التوصل لحل وسط يحفظ ماء الوجه لهما معا. ما ينشده المجتمع باكمله هو التوصل لحلول عملية والاقلاع عن المناكفات الحزبية والايديولوجية المتزمتة، وقد ضاق ذرعا لتشتيت الطرفين للوقت والجهود، ولديه قابلية لتبني اي حل يحظى بموافقة مشتركة.

من المفارقات الحزبية، ان عددا لا باس به من معارضي الرئيس اوباما هم اعضاء في مجلس النواب المسيطر عليه من قبل الحزب الجمهوري. ان كان بمقدوره التوصل لاتفاق مع رئيس المجلس، جون بينر، فمن شان ذلك تهميش معارضيه من حزبه.

يتشارك الطرفين المعنيين خشية الافصاح علنا عن حجم التنازلات المتفق عليها، درءا لسهام الانتقادات المتربصة بهما. قد يكون من الافضل لهما اصدار اعلان مشترك لصيغة الاتفاق النهائي تحفظ ماء وجهيهما امام قواعدهما الحزبية. وعليه، من الجائز ان تستمر وتيرة المفاوضات الراهنة لبضعة اسابيع مقبلة.

 عند توصل الطرفين لاتفاق حول تجنب السقوط في الهاوية، يبقى عليهما معالجة رفع سقف الدين العام الذي يخول الحكومة الاميركية الاقتراض المالي لتغطية الانفاقات المتعددة. اذ سعى اوباما منذ البداية الى حصر صلاحية رفع السقف بالسلطة التنفيذية. اما الكونغرس الذي يزهو بسلطته المطلقة على “ميزانيات الانفاق،” كما هو منصوص عليها دستوريا، لا يبدي استعدادا لتخليه طواعية عنها. مما يعني ان اي طلب للكونغرس برفع سقف الاستقراض يشكل عنصر ضغط ونفوذ يسعى الحزب الجمهوري التشبث به. كما ان عددا من زعماء الحزب الديموقراطي ليسوا على استعداد للتنازل عن تلك الصلاحية، لخشيتهم مما يضمره المستقبل من رئيس جمهوري يعارضون سياساته.

 جعبة مناورات السلطة التنفيذية لا تخلو من مفاجآت. اذ يلوح البيت الابيض الاعتماد على نص التعديل الدستوري الرابع عشر، المادة الرابعة، اذ تنص بان “صلاحية اقرار الدين العام للولايات المتحدة، المصادق عليه قانونيا .. لا تجوز مساءلته.” وعليه، ينذر فريق البيت الابيض خصومه المعارضين بان اخفاق الكونغرس في رفع سقف الدين العام سيؤدي تلقائيا الى تعثر التزامات الولايات المتحدة بسداد ديونها، الامر الذي لا تسمح به المادة الخاصة بالدين العام. ودرءا لتلك الواقعة، يطالب بالمصادقة على صلاحية الرئيس برفع سقف الدين العام دون موافقة مسبقة من الكونغرس.

  الفريق الاخر، بالمقابل، يتمسك بالنص الدستوري الذي حصر الصلاحية بالكونغرس. كما ان المحكمة العليا حسمت الجدل سابقا بالقول ان التعديل الدستوري المشار اليه كان يرمي لدرء تخلف الولايات المتحدة عن الوفاء بالتزاماتها او اضطرارها لتعديل شروط الاستقراض.

         من بين المقترحات الاخرى المتداولة ثغرة “عملة البلاتين،” اذ ان القوانين المعمول بها تخول وزارة المالية صك عملة معدنية مصنوعة من البلاتين وتحديد قيمتها الشرائية كما تراه مناسبا. وعليه، باستطاعة هيئة صك العملة استحداث زهاء 2 تريليون دولار من عملة البلاتين، تخضع لامرة الرئيس بتخزينها في البنك المركزي والذي سيشرف على تسويقها عبر وزارة المالية. وبهذا تستيقظ وزارة المالية لتجد في حوزتها ملياري دولار في خزينتها تسدد ديونها لنحو سنتين قادمتين �” دون اللجوء للتعامل بسقف الدين، وابطال مفعول النص الدستوري الاصلي.

 بالرغم من ان الاقتراح المذكور لا تشوبه تحفظات قضائية، الا انه ينطوي على بضعة تحديات. اولها، النص القانوني الاصلي لم يكن يرمي الى تطبيق من هذا القبيل وباستطاعة الكونغرس ابطال مفعوله بغية الحفاظ على سلطاته الحصرية للتحكم بمصادر الدخل العام. ثانيا، تداعيات التضخم الاقتصادي المترتبة عن سياسة عدم الاستقراض، بل البحث بوسائل تنفيذها. وفي التاريخ القريب، كانت تجربة المانيا ابان عهد جمهورية ويمر في عشرينيات القرن المنصرم، ومثال حديث العهد في زيمبابوي التي اعتمدته مما ادى الى افراط التضخم الاقتصادي واضطرابات اجتماعية.

في نهاية المطاف، تتضائل الخيارات المتاحة امام الحزبين لتجنب السقوط مما يشكل ضغطا مضاعفا على الطرفين لتقديم تنازلات كافية، وستستمر جهودهما في الظهور بمظهر التشدد العام وعدم الرضوخ لاهواء الطرف المقابل، وستعلو اصوات بعدم الرضا من بعض مؤيدي الطرفين. الا ان شدة وطأة الاوضاع وتنامي الضغط العام على الطرفين لتقديم تنازلات يُعق�’د من رغبة المعسكرين التمترس وراء مواقفهما المعلنة، ويدفع باتجاه الاقتراب للتوصل الى حل يرضيهما.