2022-06-12-التحليل

التحليل

العقوبات الاقتصادية الأميركية ركيزة
عضوية في سياسات الهيمنة وإلحاق الضرر بالشعوب

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

تلجأ الحكومات الأميركية المتعاقبة إلى تفعيل سياسة العقوبات الاقتصادية، الرامية إلى “الإقصاء والعزل والمعاقبة” لخصومها، والتي لم تكن وليدة الحرب الباردة في القرن الماضي، أو نتيجة استفرادها بنظام كوبا الفتيّة، بل امتدت إلى عمق نشوء الكيان السياسي الأميركي منذ 215 عاماً، وحصدت بذلك الفشل تلو الآخر، وواكبها انعزال سياسي على المستوى الدولي. كما أنها تحظى، ولا تزال، بمدى تأييد يكاد يكون مطلقاً بين الحزبين، الجمهوري والديموقراطي.

النُخب السياسية الحاكمة أيقنت، منذ نهاية الحرب الباردة، أن تبنيها سياسة “العولمة”، كعنوان مراوغ لبسط هيمنة القطب الواحد، لن يُعمّر طويلاً، أقله لدى استراتيجيّي المؤسسة في بُعديها السياسي والعسكري، واستغلال أقصى ما يمكن توظيفه من موارد اقتصادية تراكمت في إبّان هجرة التقنيات الصناعية إلى أسواق الشرق الأقصى، سعياً وراء تكديس مزيد من الأرباح.

أدّت تلك السياسات المتّبعة إلى تراجع متانة الاقتصاد الأميركي من اقتصاد يملك آليات إنتاج وصناعات ضخمة، إلى اقتصاد محوره “المضاربات المالية”، وتنامي القطاع الخدماتي داخلياً، والاعتماد على منتوجات ما تزرعه الدول الأخرى وتُنتجه من مواد استهلاكية، بحسب رؤية بعض النُخب الليبرالية.

في البُعد الاستراتيجي عينه، كان مرئياً، منذ زمن قريب لدى أقطاب تلك النخب، أن سياسة العولمة والقطب الأوحد ستنزوي بفعل الإفراط في الانتشار وتراكُم تكاليف التمدد العسكري العالية من أجل المحافظة على مكانة متقدمة لأميركا ، وتحلّ مكانها تكتّلات إقليمية تنافسها في مراكز السيطرة الاقتصادية والتجارية، في الدرجة الأولى، مدعومة ببروز تحالفات متعددة الأقطاب، لها الفضل في التخفيف من عبء سلسة العقوبات الاقتصادية والتجارية، والتي تتسابق واشنطن مع نفسها في تفعيلها ضد خصومها، صغاراً أو كباراً، في الظروف الدولية الحسّاسة راهناً.

ويبقى السؤال الجوهري، لدى النُخب الفكرية والسياسية الأميركية، بشأن مردود “الفائدة” من تلك السياسات على مجمل مستقبل الكيان والمفروضة على “أكثر من 30 دولة” لتاريخه، والذي لا يتوانى مسؤولوه عن ترداد التزامهم متطلبات “اقتصاد السوق” ونشر “الاقتصاد الحر”، وفي نفس الوقت وأد التنافس بين القوى الدولية المتعدّدة، وخنق اقتصادات دول وكيانات أخرى بغية فرض انصياع الدول الوطنية الأخرى لمشيئتها.

عند مواكبة خطاب الرئيس جو بايدن، في بُعده الدولي، يلحظ المرء استحضاره وأعوانه، من وزراء ومسؤولين آخرين، التبجح بإيلاء الأولوية “للعمل الديبلوماسي” في التعاملات الدولية. ولا يجد أولئك غضاضة في تناقض المعلَن في ثنايا السردية الرسمية مع تفعيل أقوى لسياسة العقوبات الاقتصادية وأشمل مدىَ، والتي أضحت “الخيار الأول” لصناّع القرار “عوضاً من تسخيرها أداةً من الأدوات الديبلوماسية” المتاحة لحمل الأطراف الأخرى على تقديم تنازلات تراها واشنطن حيوية، وما ينتج منها من “أذىً للمدنيين يفوق ما يمكن السماح به في ميدان المعركة”، بحسب رؤية النخب الليبرالية أيضاً.

من الفرضيات المسّلم بها، عند النخب الأميركية النافذة، ندرة مديات نجاح سياسة العقوبات المفروضة على مختلف الدول والكيانات المتعددة. وتأتي إجابتها عن الحكمة من وراء تطبيقاتها بأنها “أداة سياسية رخيصة ليس لها انعكاسات أو تكلفة على الأوضاع الداخلية الأميركية”.

يذكر أن الحزبين الرئيسيين، الديموقراطي والجمهوري، ينعمان بالإجماع على تفعيل سياسة العقوبات الاقتصادية ضد الدول الأخرى، فضلاً عن “العقوبات الثانوية” ضد مؤسسات ومصالح تجارية تملكها أطراف “ثالثة” غير مدرَجة في لائحة العقوبات، لكنها تُعاقَب، إن ثبت لواشنطن عكس ذلك، كما شهدنا في إبّان ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما، وارتكزت عليها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.

قادة الحزب الديموقراطي في الكونغرس كانوا وراء صدور “قانون قيصر”، من أجل إنزال عقوبات شاملة ضد سوريا، “ومعاقبة إي مؤسسة أجنبية، في أي مكان في العالم، تقدّم المساعدة من أجل إعادة إعمار سوريا”.

على الرغم من “انفتاح” الرئيس باراك أوباما على كوبا، وإعادة العلاقات الديبلوماسية بها، فإنه أخفق في رفع العقوبات المتراكمة عليها، نظراً إلى توجّس أقطاب الحزبين في الكونغرس من تغيير في سياسات البلاد نتيجة ظروف دولية، وأصرّوا على سن قانون عقوبات ضد كوبا في عقد التسعينيات من القرن الماضي، على الرغم من تمتّع الرئيس أوباما بصلاحية تعليق العقوبات ضد أي طرف، وفق ما يراه يخدم “الأمن القومي” الأميركي.

وزير الخارجية الأسبق، مايك بومبيو، غرّد مهدّداً أيّ دولة، وضمنها دول أوروبا الغربية، بأنها “ستخضع لأقسى العقوبات، وستشمل أفراداً أو مؤسسات، لمجرد التفكير في عقد صفقات أسلحة مع إيران”، وستُطبّق عليها قيود مصرفية (18 تشرين الأول/اكتوبر 2020).

الولايات المتحدة “تُفعّل مروحة شاملة من العقوبات الاقتصادية، بوتيرة متزايدة، على الرغم من خلوّ سجِلِّها من أي مؤشرات على النجاح، ومن تعاظم الأدلّة أيضاً على تسببها بإلحاق أضرار هائلة بحق مواطني البلدان” المستهدَفة (دانيال لاريسون، المحرّر السابق في مجلة “ذي أميركان كونسيرفاتيف”، 16 أيلول/سبتمبر 2022).

الاستاذ الجامعي والصحافي المرموق، بيتر بينارت، أوجز عجز الديبلوماسية الأميركية عن فرضها سياسة العقوبات والمقاطعة على الخصوم، قائلاً إنه سلاح “يتغذّى على فكر أسطوري، فحواه اعتقاد واشنطن أن تلك الدول سترضخ لشروطها في نهاية المطاف مع استمرار  معاقبتها، وانهيار نُظُمها” (خلال مشاركته في ندوة صحفية في واشنطن، 28 نيسان/إبريل 2021).

وعبّر الصحافي الأميركي الشهير، سيدني هاريس، عن رؤية مماثلة أشبه بالنبوءة لتداعيات سلاح العقوبات، قائلاً إن “التاريخ يُعيد نفسه، لكن في تمويه ماكر لناحية عدم إحساسنا بمدى تطابقه مع الواقع إلّا بعد حدوث الضرر” (كتاب بعنوان “إزالة الأنقاض”، سيدني هاريس، 1986).

تدرك النُخب الفكرية الأميركية عقم سياسة العقوبات، إذ تلجأ الكيانات والدول المعنية إلى ابتكار طرق بديلة للإتجار وآليات أخرى لجني مردودها المالي بعيداً عن سيطرة الدولار . ولا يفوتها التنديد بسياسة تُلحق الضرر بالشرائح الاجتماعية المستهدَفة والأشد احتياجاً إلى الرعاية، صحياً واجتماعياً.

لعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة هي بمثابة “أعمال حربية موجّهة، وتقتل” المدنيين (دانيال لاريسون، 16 أيلول/سبتمبر 2022).

القطب الصحفي المخضرم في الشؤون العربية، توماس ليبمان، أعاد تذكير المؤسسة الحاكمة بأن “العقوبات عادة ما تأتي بنتائج عكسية”،

وجاء في دراسة أكاديمية أجرتها جامعة أوكسفورد، لتصنيف  وجمع الأدلة والبراهين على الأضرار البالغة التي تسببها، ونشرتها في دوريّتها “غلوبال ستاديز كوارترلي”، في 31 آذار/مارس 2022، أن الحكومة الأميركية “تستخدم سلاح العقوبات الاقتصادية أكثر من أي حكومة في العالم، وتضاعف الهوّة والبؤس بينها وبين المستهدَفين”.

الدراسة جاءت بعنوان مثير: “هل حالة البؤس والعناء حقاً تُحبّ المرافقة؟ تحليل المعاناة العالمية التي تُسبّبهاالعقوبات الاقتصادية الأميركية”. واستطردت بالقول إن من نتائج العقوبات الأميركية أنها “تعمّق هوّة الشرخ بين الولايات المتحدة والدول المستهدَفة، وتُساهم في تعاظم الإجحاف واللامساواة على الصعيد العالمي”.

من بين الأضرار التي رصدتها الدراسة “تعاظم الشعور بعدم الأمان الغذائي، وتردّي الرعاية الصحية”، ويواكب ذلك خطابٌ سياسي غربي مُستهلَك مفاده أن أميركا “تقف مع مطالب الشعب” الذي حرمته من مقومات الحياة اليومية، كما في العراق وسوريا وليبيا والصومال وايران  ولبنان. ونشهد حالياً استهدافاً محموماً لروسيا بالعقوبات، بعد اندلاع الحرب في اوكرانيا،  وصلت الى السعي لفرض تسعيرة لمبيعات الطاقة الروسية، في سابقة تتناقض مع أسس اقتصاد السوق، والذي تتبجّح واشنطن بحرصها على ترويجه.

2022-30-11-التحليل

التحليل

تأثير نتائج الانتخابات النصفية
في الجولة الرئاسية المقبلة

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

إنّ فحص نتائج الانتخابات النصفية الأميركية وما قد تقود إليه من استنتاجات لجولة الانتخابات الرئاسية المقبلة ينطوي على التسليم بالفرضية الرسمية، أي إن ما جرى هو في نطاق طبيعي لتداول السلطة بين حزبين تتلاشى الفوارق بينهما، والخروج بتوجه يبقى أسير المراوحة بينهما من دون أفق حقيقي لتعديل في سياسات دولة عظمى، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي بشكل خاص.

يلجأ عقلاء المجتمع الأميركي إلى ترديد توصيف شكسبير في روايته الأشهر “ماكبث” بأنّ نتائج ما جرى تتمثل بـ «كثير من الضجيج للا شيء»، وهو ما أكّدته نتائج  تبادل الحزبين مواقع السيطرة على مجلسي الكونغرس بنسب ضئيلة لكلِّ منهما، وعكسه أيضاً استمرار معدلات اللامبالاة الشعبية وتعميق مستويات الشرخ والانقسام البارزة والتي لا حلول لها في ظل توافق الحزبين على عدم مراجعة أسس نظام الكيان السياسي، ناهيك بإدخال “اصلاحات” عليه توسّع هامش المشاركة، كما يطالب به الخطاب السياسي الأميركي رسمياً دولاً ونظم حكم أخرى.

أمام مشهد حصرية تقاسم المقاعد بين الحزبين، في الحالة الراهنة – فاز الجمهوريون بـ 220 مقعداً في مجلس النواب في مقابل 212 مقعداً للديموقراطيين – فإنّ المعركة الحقيقية تجري يومياً على مستويات أدنى في الهرم السياسي، ممثّلة بالسيطرة على مناصب حكام الولايات وتركيبة مجالسها التشريعية والتحكّم في توجهاتها، الأمر الذي مهّد الساحة السياسية للتيارات المتشددة وأكثرها يمينية في المجتمع التأثير على مرشحين يلتزمون بتنفيذ أجندتها السياسية.

وقد حصدت تلك التيارات نتائج صبرها الطويل بالفوز في تركيبة المحكمة العليا، وإصدار الأخيرة قرارات تبطل مفاعيل قرارات “ليبرالية” سابقة عمرها 5خمسة عقود ونيّف، جوهرها المسّ بالحقوق الفردية لشريحة تمثل نصف المجتمع على الأقل.

بيانات جولة الانتخابات النصفية تشير إلى سيطرة الحزب الجمهوري على 56 مقعداً في المجالس التشريعية في عموم الولايات الخمسين، مقابل 39 للخصم الديموقراطي، ما يمثّل خسارة صافية للحزب الديموقراطي بنحو 16 مقعداً في تلك المجالس، في مقابل ربح صافي للحزب الخصم بـ 24 مقعداً.

تباين قوانين الولايات بشأن آليات حسم الانتخابات أدّى إلى تأخير نتائج مقعد ولاية جورجيا في مجلس الكونغرس، نظراً إلى عدم حصول أي من المرشحيْن المتنافسين على نسبة النصف زائد واحداً.

دور المال السياسي في حسم النتائج وطبيعة المترشّحين يطرحان باستمرار  مع كل دورة انتخابية، لكنه سرعان ما يتراجع الجدل بشأنهما أمام الضخ الإعلامي الهائل وحسمه مصحوباً ببيانات متعددة ومتواصلة لاستطلاعات الرأي التي ما تلبث أن تتصدّر مادة التداول الأولى للفت انتباه المواطن وحرف الأنظار عن أولوياته الحقيقية ومتطلبات الحلول.

السباق الرئاسي في دورة العام الجاري لمنصب مجلس الشيوخ في ولاية بنسلفانيا شكّل نموذجاً صارخاً لنفوذ المال السياسي، وخصوصاً بعد استصدار تشريعات سابقة ترفع سقف مديات الصرف وحجم التبرعات لتمهّد طريق النفوذ أمام كبار رؤوس الأموال والتحكّم في الأجندات السياسية.

بلغ حجم الإنفاق على السباق إلى منصبٍ في مجلس الشيوخ لولاية بنسلفانيا “أكثر من 164 مليون دولار”، متجاوزاً بذلك الرقم الأعلى السابق لعام 2014 في انتخابات ولاية نورث كارولينا، الذي بلغ 112 مليون دولار.

وصعدت مستويات الإنفاق في بنسلفانيا إلى معدلات “فلكية”، بحسب بيانات “مركز الاستجابة للسياسات – Center for Responsive Politics” المستقل، مضيفاً أن الرقم النهائي سيشهد ارتفاعاً جديداً بعد تقديم الفريقين بياناتهما للسلطات المختصة في وقت لاحق من الشهر الحالي.

وأشار الاستاذ الجامعي في جامعة فرانكلين ومارشال في بنسلفانيا، تيري مادونا، إلى خطورة المال السياسي قائلاً إن فرط الإنفاق “يجافي مبرراته، لكننا ندرك أن الهدف منه هو السيطرة والتحكم في توجهات واشنطن” السياسية (صحيفة “ذي مورنينغ كاول The Morning Call”، 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2022).

وأوضحت صحيفة المال والاستثمارات “وول ستريت جورنال”، في عددها الصادر يوم 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، أولويات الأجندة التي تنتظر مجلسي الكونغرس في تركيبته الحالية لبتّها على الفور، وعلى رأسها “الإنفاق على الدفاع”، وكذلك “رفع معدلات سقف الدين العام” لتمويل مشاريع الحروب الراهنة والمقبلة.

من ميّزات السيطرة على مجلس النواب صلاحيتاته الواسعة في الإشراف على مداخيل الدولة، وتحديد الميزانيات المختلفة والموافقة على صرفها، وبت النفقات “الطارئة” التي يتبع معظمها ميزانية وزارة الدفاع.

وصرّح بعض أركان الحزب الجمهوري بأنّ على هيكل المجلس الجديد التصدي لبعض أجهزة الدولة المركزية التي يعارضون توجهاتها، مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي، أف بي آي، ومسيرته السابقة في التصدي للرئيس السابق دونالد ترامب.

وامتداداً، سيسعى النواب الفائزون عن الحزب الجمهوري إلى تهميش دور أعضاء الحزب الديموقراطي في تركيبة لجان المجلس المتعددة، أبرزهم النائبة إلهان عمر، ومن ثم وضع قيادات الحزب الديموقراطي أمام تحدٍّ جديد، ليس في الترويج إلى أجندته فحسب، بل في التأثير على رسم الدور المقبل للكتلة الليبرالية الموسومة بـتوجهاتها “اليسارية”، وميول بعض أعضائها إلى الفكر “الشيوعي”، بحسب أدبيات التيارات اليمينية والمتشددة.

من المرجّح أن تندلع معركة حامية الوطيس بين الجمهوريين لتقرير منصب رئيس مجلس النواب، الذي سيذهب إلى الحزب الجمهوري بحكم فوزه بالأغلبية. لكن نجاحه في السباق الانتخابي أفرز كتلة من بين أعضائه تعارض تبوؤ الزعيم المفترض كيفن مكارثي هذا المنصب على خلفية الصراع الداخلي بشأن نفوذ الرئيس السابق دونالد ترامب.

وسيحتاج مكارثي إلى دعم من أعضاء الحزب الديموقراطي لتعويض أعداد مناوئيه في حزبه، وهو الذي يمثّل امتداداً طبيعياً “للوضع الراهن”، وتأييد مراكز القوى الأساسية في رأس المال المالي والصناعي له. وبناءً عليه، تبدو بوادر المعركة إعلامية من أجل تسجيل مواقف معينة تمهيداً للإعداد لجولة الانتخابات الر ئاسية المقبلة.

على مستوى الأجندات السياسية المرجو تحقيقها في المرحلة المقبلة، لا يتوقع تغلّب أعضاء الكونغرس على ولائهم الحزبي والتوازنات الراهنة، لصالح إنجاز خطوات حقيقية يبتغيها المواطن، ربما باستثناء تمويلات لوزارة الدفاع، مهما كانت هائلة، وتوافق الحزبين على استمرار الصرف العالي لبناء الجدار على الحدود الجنوبية مع المكسيك.

أهمية الانتخابات النصفية تتلخّص في أنها فتحت كوة صغيرة للاستدلال على توجهات معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2024، وخصوصاً دور كل من الرئيس جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب الذي أعلن رسمياً عن ترشحه للجولة المقبلة.

يعاني الرئيسان، فيما يخص ثقلهما السياسي لدى حزبيهما ومناصريهما، عقبات متباينة للمضي قدماً كمرشحيْ لحزبيهما. بات الرئيس بايدن عبئاً على حزبه لجملة أسباب، أبرزها تقدمه في السن وتراجع ملحوظ في قدراته الذهنية، فضلاً عن عثراته في تنفيذ وعوده الانتخابية، وتزايد منسوب مطالبة أعضاء حزبه بضرورة البحث عن مرشّح بديل لا يعاني من الترهّل الحالي.

على الرغم من أنّ الوقت ما زال مبكراً للحديث عن المتصدّرين لقائمة المرشحين المحتملين عن الحزب الديموقراطي، فإنّ بعض قادة الحزب يميل إلى التوافق على حاكم ولاية كاليفورنيا، غافين نيوسم، وخصوصاً بعد فوزه المميّز في الجولة المنتهية، وما تعرّض له من تشويه لإقصائه عن منصبه، بحسب قوانين الولاية الجارية، وتجاوز ذلك بمهارة واقتدار.

أما الرئيس السابق دونالد ترامب، فسيواجه مقاومة من نوع آخر داخل الحزب الجمهوري، خصوصاً بعد الأداء الباهت لمرشّحين دعمهم بقوة، وتحميل خطابه المستفزّ والإقصائي المتواصل مسؤولية عدم حصد الحزب نتائج أعلى كما كان متوقعاً.

جمهور الحزب الجمهوري ذاته بدأ يعي حقيقة بعض التغيرات الديموغرافية في توجهات ناخبيه، وخصوصاً أنّ عام 2024 لن يستنسخ معطيات جولة عام 2020 وما رافقها من جدل قانوني واسع واتهامات موجّهة إلى لحزب الديموقراطي لممارسته “الخداع والتزوير” في النتائج، كما يمضي الخطاب السياسي للرئيس ترامب في ترويجه.

إن جهود إقصاء ترامب المتوقعة ستكون أبعد عن السلاسة وضرورات الأعراف السياسية لحزب كان يعاني، ولا يزال، ترهّلاً ملحوظاً في نوعية مرشحيه، فضلاً عن أجندته السياسية الضيقة، الأمر الذي يشير إلى احتدام الصراعات في أقطاب الحزب ومديات الدعم التي ما زال الرئيس ترامب يتمتع بها لدى شريحة معتبرة من مؤيدي الحزب، وخصوصاً الأوساط الريفية المترامية الأطراف، وتسجيله بعض الانتقادات المشروعة ضد قادة الحزب التقليديين.

واقع الأمر يشير إلى تيقّن تيارات المؤسّسة الحاكمة، بكل تياراتها وتنوعاتها المعلنة، بعدم السماح لأي مرشّح من خارج المعادلة السياسية وتوازناتها الراهنة بتكرار ظاهرة ترامب. يشتّد يقينها للتحرّك مبكِّراً عقب استمرار جولات تحقيق لجان الكونغرس في أحداث غزوة الكابيتول، وتسليطها الضوء مجدداً على ما يمكن وصفه بـسلوك تآمري، على الرغم من أن توصياتها لن تكون ملزمة لأي طرف، فضلاً عن حقيقة تحكّم مؤيدي الرئيس ترامب في لجان مفصلية في مجلس النواب المقبل، والإشارات المتعددة التي تُطلق تباعاً عن نيّة أولئك الأعضاء تفعيل جهود التحقيق مع الرئيس جو بايدن ونجله هنتر، وخصوصاً في مستوى معادلة الترهيب التي مارسها الأول على الحكومة الأوكرانية لقاء تدفق المساعدات الأميركية إبّان توليه منصب نائب الرئيس أوباما، وما أفرزته البيانات المتوفرة في الكشف عن استغلاله نفوذه السياسي في توظيف نجله مستشاراً لدى أوكرانيا براتب شهري عالٍ.

2022-21-11-التحليل

التحليل

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

الانتخابات النصفية: فوز باهت للجمهوريين
وتحولات مرتقبة للديموقراطيين

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

أطلقت وسائل الإعلام الأميركية المختلفة العنان لتوقعاتها بفوز مرشحي الحزب الجمهوري بصورة شاملة، أطلقت عليها مصطلح “الإعصار الأحمر”، سرعان ما اصطدم بواقع أشبه بحال الانقسام العمودي في المجتمع الأميركي، بنسب متقاربة، وأتت النتائج لتعيد حال الشلل السياسي بين الحزبين، الجمهوري والديموقراطي، في رسم سياسات البلاد وإنجاز الأجندة المعلنة، ورسّختها استطلاعات الرأي المتواصلة بأن الغالبية الساحقة من الشعب الأميركي، 75%، يعارضون السياسات الراهنة، اقتصادياً واجتماعيا وارتفاع معدلات الجريمة، وهي تأتي على رأس أولويات الناخبين.

ارتفعت نداءات الاتهامات المتبادلة، خصوصاً بين أقطاب الحزب الجمهوري، لتواضع أداء مرشحيه في ولايات ودوائر انتخابية راهن عليها كثيراً، أبرزها منصب مجلس الشيوخ في ولاية بنسلفانيا الذي فاز به مرشح الحزب الديموقراطي عوضاً عن مرشح الرئيس ترامب، محمد أوز، وذلك على الرغم من رصد أموال كبيرة للإنفاق على حملة الأخير، التي عدّها المراقبون الأضخم في جولة الانتخابات النصفية المنتهية.

وجرى رصد حال من الانتعاش “الخجول” بين قيادات الحزب الجمهو ري التقليدية لما عدّوه هزيمة سياسية للرئيس السابق دونالد ترامب، وما سيتبعها من انعكاسات على مستقبله السياسي، كمرشح للحزب في الانتخابات الرئاسية المقبلة؛ وانتصار باهت لقيادات الوضع الراهن ممثلاً في قادة الحزب الكبار الذين حافظوا على مسافة بعيدة من الرئيس ترامب ومرشحيه، واصطفوا إلى جانب حاكم ولاية فلوريدا، رون دي سانتيس، الذي فاز بإعادة انتخابه، واحتمال تشكيله قطباً مناوئاً للرئيس ترامب في بنية الحزب وتوجهاته.

رئيس مجلس النواب الأسبق عن الحزب الجمهوري، نيوت غينغريتش، قال في برنامج بثّته شبكة “فوكس نيوز” في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 إن “من شبه المؤكد أن (رون) دي سانتيس سيصبح نقطة تجمّع لكل شخص في الحزب الجمهوري يريد تجاوز ترامب”.

صحيفة المال والأعمال، “وول ستريت جورنال”، بشّرت قراءها في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 بـ “تسونامي دي سانتيس في فلوريدا”، وأضافت “يمكنك أن تراهن على أن ترامب كان يراقب بحزن” فوز منافسه المحتمل على رئاسة الحزب الجمهوري والمدعوم من  قيادات الحزب التقليدية.

رافق ذلك تناغم عدد من تصريحات قادة الحزب الديموقراطي في مديح الحزب الجمهوري التقليدي، المعلن منها والمستتر، خصوصاً منذ حملة الانتخابات الرئاسية الماضية، ومنها ما قاله الرئيس جو بايدن في خصمه الجمهوري ميتش ماكونيل من أنه “رجل عاقل” وذلك في أيار/مايو 2022. رئيسة مجلس النواب عن الحزب الديموقراطي أيضاً أشادت بالحزب المقابل قائلة “بلادنا بحاجة إلى حزب جمهوري قوي. أنه أمر غاية في الأهمية”، وذلك في شباط/فبراير 2021.

جدير بالذكر ما أكده تقرير مستقل عن الحزبين، “كوك بوليتيكال ريبورت”، وفيه أن أصوات مؤيدي الحزب الجمهوري تجاوزت بنحو 6 ملايبن صوت من أصوات مؤيدي الحزب الديموقراطي في سباق انتخابات مجلس النواب، ما أسفر عن فوز الحزب الجمهوري بأغلبية “باهتة” من أصوات مجلس النواب، وما فرض تراجعاً على منافسته رئيسة المجلس نانسي بيلوسي، التي أعلنت عدم ترشحها مجدداً لأي منصب بعد تخطيها عتبة 84 عاماً.

إرهاصات الحزبين

خسارة الحزبين لفرط توقعاتهما في جولة الانتخابات السابقة تستدعي مراجعة، ولو متواضعة، من قبل استراتيجييهما، والإعداد لمرحلة الانتخابات الرئاسية المقبلة، وتجنّب ما يمكن من أخطاء سابقة سواء في الأداء العام أو لناحية تجديد دماء الزخم السياسي.

يواجه الحزب الديموقراطي معضلة شائكة في “إمكانية” إعادة ترشيح الرئيس جو بايدن، على خلفية أهليته العقلية والجسدية، وكذلك لنائبته كمالا هاريس، التي عجزت عن نيل دعم قواعد الحزب الانتخابية وتأييدها. ومصيرهما لحين بدء جولة الانتخابات المقبلة أصبحا حديث الشارع الدائم، وتفضّل قطاعات انتخابية مؤثرة استبدالهما قبل وقوع المحظور، واضطرار الشريحة القيادية التدخل في وقت لاحق.

من بين أبرز الأسماء المتداولة حاكم ولاية كاليفورنيا، غافين نيوسم، الذي فاز بولاية جديدة هناك، ويحظى باحترام وتأييد قطاعات متعددة من الناخبين على خلفية أدائه مهامه بفعالية واقتدار. وذهب البعض إلى اقتراح إقدام الرئيس بايدن على تنحية أو إقالة نائبته، كمالا هاريس، وتعيين نيوسم كنائب للرئيس، ليفسح في المجال “دستورياً” للأخير تبوأ منصب الرئاسة ودخول السباق الرئاسي مسلّحاً بتجربة يبنى عليها في البيت الأبيض.

كما يجري تداول حاكمة ولاية مشيغان غريتشين ويتمر التي فازت بإعادة ترشيحها للمنصب أيضاً، وما قد يعوّل على نفوذها في استقطاب ولايات الوسط الأميركية بالغة الأهمية لكلا الحزبين، كمرشحة محتملة للانتخابات الرئاسية المقبلة، وبقاء رموز أخرى مرشّحة، كما هي العادة، منهم أعضاء في مجلس الشيوخ، اليزابيث ووران و إيمي كلوبوشار، واستبعاد دخول المرشح الرئاسي السابق بيرني ساندرز، بعد أدائه المتواضع وانقلابه على وعوده للتيار التقدمي داخل الحزب إبّان مؤتمره السنوي.

أما الحزب الجمهوري فيواجه جملة تحديات أبرزها بقاء الرئيس السابق دونالد ترامب فاعلاً في الحياة السياسية، ومؤثراً بنسبة معتبرة في قواعد الحزب الانتخابية.

بعض أركان الحزب بشّرت بمنافسة حامية أشبه “بالحرب الأهلية” لإقصاء الرئيس السابق ترامب، وخطب ودّ مؤيّديه الكثر بغية محاصرة نفوذه على أقل تقدير، لكن “خطاب دونالد ترامب المناوئ للمؤسسة الحاكمة استطاع التغلب على القيادات التقليدية من قبل”، وفق ما جاء في أسبوعية “نيو ريبوبليك” المحافظة، في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2022.

الذراع الإعلامي المهيمن على خطاب الحزب الجمهوري وتياراته المحافظة والمتشددة، ممثّلة  في امبراطورية مالك شبكة “فوكس نيوز”، روبرت ميردوخ، اصطف مبكراً إلى جانب حاكم ولاية تكساس، الفائز الجديد، رون دي سانتيس، ناصبةً العداء للرئيس السابق ترامب، الذي اتهم منافسيه الآخرين بالتواطؤ مع قيادات الحزب التقليدية، وأبرزهم دي سانتيس وحاكم ولاية فرجينيا غلين يونغكين، اللذان يراهن عليهما تصدر قوائم الحزب الانتخابية في جولة الانتخابات الر ئاسية.

من المبكر، في علم السياسة، القفز على أهلية دونالد ترامب بإعلان نيته كمرشح رئاسي عشية انعقاد جلسات حوارية لقيادات الحزب قبل بضعة أيام، وظهر منتشياً بفوز مرشحه لمنصب سيناتور عن ولاية أوهايو، جي دي فانس، الذي حذّر بدوره قواعد الحزب من الانجرار وراء الدعايات المناوئة قائلاً: “يتكرر كل عام اصطفاف الآلة الاعلامية لإعلان الموت السياسي لترامب، لكنه يبقى أكثر الشخصيات شعبية في الحزب الجمهوري عاماً تلو آخر”، كما جاء في يومية “نيويورك تايمز”، في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2022.

ترامب جسّد نبوءة السيناتور الفائز عن ولاية أوهايو بإعلانه تأييده ترشيح نائب رئيس مجلس النواب، كيفن مكارثي، لمنصب رئيس المجلس، الذي فاز بأغلبية مريحة، مذكّراً ايضاً بالمراهنات الخاطئة لقيادات الحزب التقليدية التي “ناصبت دونالد ترامب العداء عام 2016 وخسرت بقوة”.

لا بد لأي قراءة موضوعية ومنصفة لجولات الانتخابات الأميركية، وآخرها الانتخابات النصفية للعام الحالي، أن تُدرج نتائج الانتخابات في أنها، في العموم، تصب في مصلحة الحفاظ على الوضع القائم، كما يطلق عليه رسمياً، أو لمصلحة الطبقة السياسية الحاكمة في كلا الحزبين ومموليها من رؤوس الأموال المالية والصناعية، على نحو أدق، وفي كل الجولات التي تشهد تبادل مراكز السلطة بينهما حصراً.

أما ما يشاع من أن المرحلة السياسية المقبلة ستشهد شللاً في أداء أفرع الحكومة الأميركية المختلفة، وربما ينطوي باطنها على بعض الصحة، لكن أركان الدولة وسياساتها الاستراتيجية، وخصوصاً في إدامة بسط نفوذها وهيمنتها على العالم، تمضي في أدائها غير عابئة بالتوازنات اليومية والتقلبات المتعددة في أولويات أجندة الحزبين.

بهذا الصدد، ستشهد البلاد دعماً متواصلاً لميزانيات وزارة الدفاع وإنتاج أسلحة جديدة، في ساحات الاشتباك الأرضية والفضائية ومنها الحروب الإلكترونية، وكذلك استمرار توافق الحزبين على تعزيز نظرية “تفوّق الولايات المتحدة، وقيادتها المقبلة للعالم”، على الرغم من التطورات الدولية التي طرأت على المشهد السياسي العالمي، وأفول بعض تحالفات الولايات المتحدة نفسها، مثل المجموعة الصناعية – مجموعة الدول السبع، وبروز تحالفات دولية أقوى وأمتن مثل “البريكس” و “مجموعة شنغهاي”، وتقاطر عدد من الدول العالمية الواعدة للانضمام إليها.

2022-07-11-التحليل

التحليل

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

أميركا: انتخابات نصفية واعدة للجمهوريين
ومقلقة للديموقراطيين

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

استقراء اللوحة الانتخابية للحزبين، الديموقراطي والجمهوري، واستراتيجية كل منهما مقابل الآخر، في جولة الانتخابات النصفية المقبلة، يسير بمنحى تاريخي شبه ثابت في السياسة الأميركية والذي يفيد بتفضيل الجمهور الانتخابي للحزب خارج السلطة التنفيذية (البيت الأبيض)، ويعززه ثبات استطلاعات الرأي التي يسترشد بها الحزبان، والتي تؤشر إلى غلبة الحزب الجمهوري، على الأقل في السيطرة على مجلس النواب، أما مصير مجلس الشيوخ فقد يوازي احتمالات نظيره لمصلحة الحزب الجمهوري، أو استمرار  ركود الحالة الراهنة.

البيانات الإحصائية المتوفرة، والمعتمدة بقوة من قبل الحزبين، تشير إلى أفضلية الفرص لمصلحة الحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ، إذ يستعد 14 عضواً لخوض جولة الانتخابات النصفية مقابل 21 عضواً عن الحزب الجمهوري. بيد أن الحسابات العملية لا تسير بالضرورة بشكل موازٍ لفرضيات الإحصائيات الجامدة.

في المستوى العملي، ارتكب الرئيس جو بايدن جملة من الهفوات السياسية عبّر فيها، ربما عن غير قصد ، عن عمق مأزق الحزب الديموقراطي نتيجة عزوف شرائح متعددة عن تأييد مرشحيه، واللجوء إلى عقد سلسلة لقاءات انتخابية في عدد من الولايات.

كذلك، استشعر كبار قادة الحزب بوصلة النبض الشعبي المناهضة لسياسات الرئيس بايدن، وسارعوا إلى طلب النجدة من الرئيسين باراك أوباما وبيل كلينتون للقيام بجولة انتخابية من أجل تحفيز قواعد الحزب التقليدية، قطاعي السود وذوي الأصول اللاتينية وشريحة ما تبقى من عمّال، لعل بلاغتهما الخطابية تعيد حماس المشاركة يوم الانتخابات.

خطابات الرئيس بايدن لحشد جمهور الناخبين التقليدين استفزّ عدد من الشرائح الاجتماعية، وخصوصاً اولئك المتعاطفين مع “غزوة الكونغرس”، وهم ليسوا هامشيين كما يروّج إعلامياً، عبر دقّ ناقوس الخطر  من “القوى الظلامية” على مستقبل النظام الديموقراطي الأميركي، والتي بحسب توصيفه، تقوّض كل شيء بدءاً بـ “الحريات الشخصية ومروراً بسلطة القانون، فالديموقراطية في ورقة الاقتراع هي لمصلتحنا جميعاً”.

تناغم الرئيس الأسبق باراك أوباما مع نذير المواجهة الداخلية، بين مناصري الحزبين، بصورة أشدّ سوداوية، قائلاً لحشد من ناخبي الحزب الديموقراطي في ولاية أريزونا  إن الديموقراطية الأميركية “قد لا تبقى على قيد الحياة” بعد الانتهاء من جولة الانتخابات النصفية في الولاية، مستطرداً ان نبوءته “غير مبالغ فيها” (يومية “واشنطن بوست”، 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2022).

بعض النخب الفكرية والإعلامية الميّالة إلى الحزب الديموقراطي سبقت تصريحات الرئيسين الديموقراطيين، بايدن وأوباما، باستدلالها على تاريخ الكيان السياسي الأميركي القائم علىى العنف وإخضاع الآخرين. وجاء في تغريدة لصاحبها توم نيكولز، أحد كبار محرري معهد “أتلانتيك” النافذ في صنع القرار السياسي، أن “الولايات المتحدة تواجه الخطر الأكبر لنظامها الدستوري منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضي” (يومية “وول ستريت جورنال”، 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، ص 10).

واستطردت صحيفة المال والأعمال إلى توصيف النبض الشعبي العام باعتقادها أنه بمجموعه لا يبدي حماسه المعتاد في الحملات الانتخابية، لأن “معظم الأميركيين مُنهكون ومُستنزفون من هستيريا محاكمة”، الرئيس السابق دونالد ترامب، وكذلك من هوس التغطية الإعلامية المتواصلة للجان تحقيق الكونغرس في “غزوة الكابيتول”.

استغل الرئيس جو بايدن منصبه بإبلاغ وسائل الإعلام الرئيسية نيته إلقاء خطاب للشعب الأميركي، 2 تشرين الثاني الجاري، حصر فحواه في التحذير من نفوذ الرئيس السابق دونالد ترامب، وامتداداً شرائح الحزب الجمهوري المناوءة لسياساته، ولجوء البعض إلى ارتكاب “أعمال عنف”، في الجولة القادمة، حاثاً كل المرشحين من الحزبين على “احترام نتائج الانتخابات انتصاراً للديموقراطية”. واتهم الرئيس بايدن منافسه السابق بـ “إذكاء الغضب والكراهية والعنف” لرفضه نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2020.

في اليوم التالي لخطاب الرئيس بايدن، نقلت الوسائل الإعلامية الأميركية فحوى محادثة خاصة بين الرئيس بايدن ورئيس مجلس الشيوخ، تشاك شومر بإبلاغه الرئيس أن حظوظ الحزب الديموقراطي للاحتفاظ بأغلبية مجلس الشيوخ “ضئيلة”.

جدير بالذكر أهمية مجلس الشيوخ ودوره المحوري في رسم القرارات السياسية، والتي تنبع من صلاحياته الواسعة الممنوحة للمصادقة على: سفراء السلك الديبلوماسي، والقضاة، والوزراء، وكبار القادة العسكريين والمناصب الرفيعة لمستشاري الرئيس. وربما الأهم من كل ذلك مصير الرئيس بايدن، الذي تبدو عليه حالات الإعياء والإجهاد، ما يؤشر إلى احتمال عدم استكماله لما يتبقى من ولايته الرئاسية. مجلس الشيوخ هو المخوّل بالمصادقة على شخص نائب الرئيس في حال تقدم نائبة الرئيس كمالا هاريس لمنصب الرئيس.

هناك شبه إجماع بين قادة وقواعد الحزبين بأن الرئيس جو بايدن أضحى عبئاً على مستقبل الكيان السياسي الأميركي، نظراً إلى تراجع حالته الذهنية وهفوات تصريحاته السياسية، التي غالباً ما يضطر طاقم مستشاري البيت الأبيض إلى إصدار “تصحيح” لما كان ينوي قوله، فضلاً عن سلسلة إحراجات تسبب بها خلال لقاءاته المحدودة مع زعماء دول أجنبية أمام أعين الكاميرات.

تقليدياً، دأب الرؤساء المتعاقبون على تخصيص الجزء الأكبر من حضورهم حملات الانتخابات النصفية لتحشيد شرائح انتخابية “بلغت السن القانونية حديثاً”، وزيارة ولايات متأرجحة أو تلك التي لم تكن مؤيدة لانتخاب الرئيس في السابق. بيد أن المحطات التي زارها الرئيس بايدن ونائبته كمالا هاريس، في الجولة الحالية، شذّت قليلاً عن تلك القاعدة، بحضورهما في ولايات “ديموقراطية” بغالبيتها، مثل نيويورك ونيو هامبشير وبنسلفانيا ونيو مكسيكو. الأمر الذي يدلّ على استشعار قادة الحزب الديموقراطي مأزقه الانتخابي بين قواعده التقليدية.

تباين إقرار ذوي الشأن بعدد الولايات التي ستشهد سباقاً ومنافسة محمومة بين الحزبين، بعضها حدد 6 ولايات: بنسلفانيا، ويسكونسن، مشيغان، جورجيا، إريزونا، ونيفادا (شبكة “سي أن أن”، 3 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري). البعض الآخر احتسب القائمة المشار إليها أعلاه مع إضافة ولاية نورث كارولينا. وأشار آخرون إلى احتدام التنافس في 10 ولايات، تضم: نيو هامبشير، بنسلفانيا، أوهايو، ويسكونسن، فلوريدا، أريزونا، كانساس، نيفادا، جورجيا، نورث كارولينا (استطلاع أجراته مجموعة “ماغواير وودز” للاستشارات، أيلول/سبتمبر 2022).

التقديرات الأكثر مصداقية في العرف السياسي جاءت من نشرة “بوليتيكو”، التي رست على تحديد 7 ولايات ستقرر مصير مجلس الشيوخ: بنسلفانيا، نورث كارولينا، جورجيا، نيفادا، أريزونا، ويسكونسن، ونيوهامبشير (نشرة “بوليتيكو”، 13 أيلول/سبتمبر 2022).

الغوص في تفاصيل الحملات الانتخابية المختلفة في الولايات وتوجهاتها والتي يعد بها كل فريق مؤيديه ليست ذات أهمية كبيرة، بيد أنها تشير بمجموعها إلى احتدام جولة المنافسة بين الحزبين، والميزانيات المالية العالية المرصودة للإنفاق من كليهما، مع ترجيح تفوّق الحزب الجمهوري في مجالي التبرعات والإنفاق لتصل بمجموعها إلى 13،7 مليار دولار  (وكـالـة “بلومبيرغ”، 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2022).

من بين أبرز ردود قادة الحزب الجمهوري على الرئيس جو بايدن كان كارل روف، أحد كبار استراتيجيي الحزب الجمهوري لعدة عقود من الزمن، سلّط فيها الضوء على أولويات القواعد الانتخابية للإدلاء باصواتها. وقال “قوى الجاذبية لجولة الانتخابات النصفية هي: التضخم، وتدهور الاقتصاد، والأمن الحدودي”، فضلاً عن ثبات تراجع منسوب التأييد لأداء الرئيس بايدن. وخلص بالقول إن تلك “القوى تخدم توجهات الحزب الجمهوري، وتؤهله للفوز  بمجلس النواب وربما تقلب نتائج مجلس الشيوخ” لمصلحته أيضاً (مقال رأي في يومية “وول ستريت جورنال”، 3 تشرين الثاني 2022).

2022-02-11-التحليل

التحليل

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

تقييم جاهزية القوات الأميركية ..
فرصة لمزيد من الإنفاق العسكري

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

لا يحتاج المرء، سواء من ذوي الاختصاص أو الاهتمام العام، إلى الغوص عميقاً في وثيقة رسمية أميركية بشأن “استراتيجية الأمن القومي” لسبر أغوار جاهزية القوات العسكرية الأميركية، وخصوصاً لما جاء في معرض استنتاجاتها بأن وضع القوات العسكرية الراهن لا يمكّنها من مجاراة الصين وروسيا ومواجهتهما والانتصار عليهما، ممهّدة بذلك المسوّغات السياسية لتخصيص مزيد من الأموال للبنتاغون، الذي أضحت ميزانياته التراكمية الهائلة من دون سقف محدد. وكذلك استعادة لأجواء الحرب الباردة بصورة أكثر وحشية واصطفافات متقابلة يفصل بينها الضغط على الزناد.

تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن المتكررة بشأن أولويات الاستراتيجية الكونية لبلاده تلامس جوهر أولويات المسألة بدقة، وتخفّف عبء التيقّن بصدقية الدراسة من عدمها ، إذ يحرص الرئيس على حصر الأولويات وفق معادلة ثنائية للصراع في قطبين: أنصار “الديموقراطية والاستبداد”، واستنساخ المواجهات القديمة، وما يواكبها من تبسيط مخلّ بالظروف الدولية ومتغيراتها في إرساء أفق سياسي أكثر عدالة للقوى الأخرى الصاعدة.

الوثيقة استجابت لمطالب صقور الحزبين، الديموقراطي والجمهوري، لما يرونه من إجراءات ضرورية وعاجلة لاستعادة “القيم والاستثنائية” الأميركية، تتحقق عبر “الردع المتكامل” للقدرات الأميركية العسكرية والاقتصادية، وتعزيز مبدأ “منافسة استراتيجية لتشكيل مستقبل النظام الدولي” في مواجهة ما يفرضه ظهور الصين وروسيا من تحديات لواشنطن، أوضحها مستشار الأمن القومي جيك سوليفان للصحافيين قائلاً: “من الأهمية بمكان تحديد التحديات التي تفرضها الصين قبل فوات الأوان، وإذا فقدنا الفرصة في هذا العقد الزمني فلن نكون قادرين على مواكبة ذلك”.

مفهوم “الردع المتكامل”يستند إلى تسخير مجموعة كبيرة من القدرات والإمكانيات، ليس للولايات المتحدة فحسب، بل بانضمام حلفائها وشركائها إلى جهودها في مروحة واسعة من المجالات: العسكرية، بما فيها الفضائية، والاقتصادية، التقنية والمعلوماتية، الاستخبارية والأمنية، وكذلك الحضور الديبلوماسي.

أشارت الوثيقة إلى إيران ، في سياق فقرة تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، كـ “قوة استبدادية أصغر، تطور برنامجاً نووياً يتجاوز أي حاجة مدنية ذات مصداقية”. وحافظت كوريا الشمالية على مكانتها في عداء الولايات المتحدة لها، نظراً إلى  “برامج الأسلحة الصاروخية والنووية غير المشروعة”.

في التفاصيل استندت الإدارة الأميركية إلى دراسة بحثية صادرة عن أحد أبرز مراكز الأبحاث ذات التوجه المتشدد في القضايا الدولية، مؤسسة “هاريتاج”، سارعت وسائل الإعلام المختلفة إلى التركير على أبرز نتائجها بأن أوضاع “القوات العسكرية الأميركية تواجه مخاطر متزايدة لناحية عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها للدفاع عن المصالح الحيوية الأميركية”.

واستطردت في انتقاد سلاح الجو الأميركي الذي “تميّز” بقدراته وعقيدته سابقا، والآن يصنّف بأنه “بالغ الضعف”. كما تعرّض سلاح البحرية للتصنيف الضعيف بعدما شهد أوجه في مراحل سابقة، وبسط سيطرته العالمية إذ “اضحت المحيطات والبحار بحيرات تجوبها القوات الأميركية”.

واستثنت الدراسة المطوّلة “سلاح مشاة البحرية – المارينز” من الانتقاد والتشديد على سلامته كقوة معتبرة لتحقيق مهمات الاستراتيجية الأميركية المطلوبة.

كما قفزت الدراسة، في صيغتها المعلنة، عن خطر داهم يهدد الأمن الوطني والسلم الأهلي يمثله “الإرهاب الداخلي”، وتزايد مضطرد أيضاً في حوادث إطلاق النار على مدنيين عزّل، وخصوصاً طلبة المدارس العمومية.

بالمقابل، استرشدت الدراسة بتصريحات صقور الحزبين اعتبار “داعش وتنظيم القاعدة” خطراً يهدد الأمن القومي الأميركي، ما يدلّ على نية لتوسيع رقعة الحضور العسكري الأميركي في “الشرق الأوسط”.

اللافت أيضاً ما دوّنه الرئيس الأميركي في مقدمة الوثيقة بالقفز عن متغيرات الظروف الدولية قائلاً: “في جميع أنحاء العالم، الحاجة إلى قيادة أمريكية كبيرة كما كانت في أي وقت مضى. نحن في خضم منافسة استراتيجية لتشكيل مستقبل النظام الدولي. لا توجد دولة في وضع أفضل لقيادة (العالم) بقوة وهدف من الولايات المتحدة الأمريكية “.

الإضافة الجديدة إلى جوهر وثيقة “استراتيجية الأمن القومي” هي استعادة خطاب “خوض أميركا حروب متزامنة” مع كل من الصين وروسيا، بكل ما تتطلبه من تحشيد للقدرات والإمكانيات والاستمرار في تنفيذ عمليات عسكرية طويلة الأجل. ذلك ما يخدم الصقور بين القيادات العسكرية والسياسية، والذين يعتبرون ما وصلت إليه القوات العسكرية من تراجع جاء نتيجة قرار ات الإدارات المتعاقبة لتخفيض معدلات الإنفاق العسكري، الأمر الذي “حدّ من جهود التحديث للآلة العسكرية” والنووية أيضاً، بحسب أدبياتهم وتصريحاتهم.

من بين “توصيات” الدراسة، التي يتبناها غالبية صناع القرار السياسي والعسكري والأمني، رفع عديد قوات سلاح المشاة إلى “50 لواءً” قتالياً لتنفيذ مهام “خوض حرب متزامنة على جبهتين”. وأشارت أيضاً إلى أن سلاح الجيش لديه “62% من القوات المطلوبة”، وتبلغ جاهزية ألويته نحو 25 لواء من مجموع 31.

أيضاً، تفيد الدراسة في الشق العسكري بأن أحد مكامن الضعف في القوات البرية هو انتقال عقيدتها القتالية وتدريباتها من خوض “عمليات صغيرة تكتيكية في الشرق الأوسط إلى عمليات قتالية كبيرة ومستدامة”، كما يجري في أوكرانيا، والخبرة العملياتية المكتسبة في الشرق الأوسط لا ترقى إلى المستوى المطلوب لتنفيذ مهمات متعددة تستدعي العمل الجاد تحت ضغوط الظروف الميدانية والعمل كفريق متناسق.

وضع سلاح البحرية، في نظر معدّي الدراسة، مقلق ويعاني من “ضعف شديد”، وينقصه توفر مزيد من السفن الحربية ما يتطلب فترات أطول في خدمة الطواقم الحالية لتعويض النقص. ما يحتاجه سلاح البحرية، بحسب الدراسة هو الحصول على أسطول مكون من “400 سفينة حربية، عوضاً عن 298 سفينة في ترسانته الحالية”.

وعليه، فإن الكونغرس أمام تحدي تخصيص مزيد من الإمكانيات المالية لبناء سفن جديدة  قبل حلول عام 2030 خشية تفاقم قصور الأداء العام. بالنظر إلى تواجد قطع الأسطول السادس في البحر الأبيض المتوسط، وما أفرزته الحقبة الراهنة من مخزون كبير للطاقة تحت سطح البحر يستدعي “إنشاء قوة جديدة من حاملات الطائرات”.

أما سلاح مشاة البحرية، المارينز، فقد حافظ على معدلات “رضى” معدّي الدراسة، ولديه نحو 30كتيبة تقتصر مهماتها على خوض معارك خفيفة للمشاة ولهجمات القوات البرمائية، تغطي معظم نقاط الاشتباك في العالم.

سلاح الجو لم يفلت من سهام الانتقاد، وفق تقييم الدراسة، وخصوصاً لما يعانيه من نقص في الكوادر المهنية لصيانة الطائرات، وكذلك في عدد المنتسبين إلى قيادة الطائرات بنحو 650 طياراً، ما أوجد وضعاً مقلقاً لناحية التجنيد والإبقاء على المهارات المطلوبة.

ربما يستطيع سلاح الجو في وضعه الراهن الانتصار في معركة إقليمية واحدة، بحسب الدراسة، وسيعاني من تحديات أمام أداء نظيريه الصيني أو الروسي. الاستنزاف الراهن في عديد المقاتلات وطواقم قياداتها سيعقّد إمكانية الفوز في مواجهة كبيرة في الإقليم. وتربط الدراسة مدى إنجاز مهمات “المارينز” المطلوبة باعتماده على توفير سلاح البحرية سفناً برمائية جديدة.

إذاً، القاسم المشترك في تقييم الدراسة المعتمدة رسمياً هو إعداد العامة لتقبل تخصيص مزيد من الميزانيات لشؤون فروع القوات المسلحة، وتجاهل مطلبات تحديث البنى التحتية المنهارة، على الرغم من الوعود الانتخابية بمعالجتها وإعادة ترميمها. وبررت ذلك بالقول إن الأوضاع الراهنة مقلقة نتيجة “الاستخدام المستمر للأسلحة، وتقليص الميزانيات المطلوبة، وعدم دقة تحديد الأولويات الدفاعية، والتحولات المتسارعة التي تطرأ على السياسات الأمنية، وغياب الصرامة والجدية في أركان مؤسسة الأمن الوطني”.

2022-20-09-التحليل

التحليل

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

لماذا تعاني أميركا في جاهزيتها
العسكرية لشن حروب جديدة؟

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

تتصاعد ميزانيات وزارة الدفاع الأميركية دورياً إلى أرقام فلكية، متجاوزة نسبة 10% من مجموع الدخل القومي، من دون أن ترافقها مخصصات موازية لقطاعات الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، وهي تذهب إلى الإنفاق السخي على انتشار واسع للقوات العسكرية الأميركية في نحو 800 قاعدة عسكرية في أكثر من 80 دولة حول العالم، قبل احتساب انتشار قوات عسكرية محدودة العدد، كما في الصومال وسوريا، لتصل رقعة الانتشار إلى 177 دولة، بحسب إحصائية أستاذ الانثربولوجيا في الجامعة الأميركية في واشنطن، ديفيد فاين.

انتشار عسكري وتمدد ثابت تغذيه ميزانيات تنمو سنوياً: 778 مليار دولار لعام 2022، وما لا يقل عن 813 مليار دولار للعام المقبل، يدرك الشعب الأميركي منه اليسير، والأغلب ينقصه استيعاب أبعاده وانعكاساته على المديين المنظور والمتوسط.

يتردد بين الآونة والأخرى الاعتقاد الذي كان سائداً لدى عسكريي حرب فيتنام بأن بوسع الولايات المتحدة دخول حرب على جبهتين متزامنتين: فيتنام وأوروبا. وانطلاقاً من ذلك، تدور التساؤلات عن تطور المسرح الآن شرقاً باستهداف روسيا والصين؛ الأولى في محيطها الجغرافي المباشر، والثانية في بحر الصين الجنوبي، وحرب أخرى تدور رحاها في الوطن العربي؛ سوريا والعراق واليمن وشبه الجزيرة العربية.

أفرزت الحرب في أوكرانيا جملة تحديات على قرارات البنتاغون، كنتيجة مباشرة لتوريد الأسلحة والذخائر المختلفة من مستودعات القوات الأميركية واستنزاف احتياطيها، إضافةً إلى تهالك بعض المعدات العسكرية وتوقيف أسطول المقاتلات المروحية من طراز “شينوك”، وقوامه نحو 400 طائرة.

تسارع استهلاك ذخيرة الأسلحة الأميركية، نتيجة توفيرها بكثافة إلى أوكرانيا، استدعى انتباه رئيس هيئة الأركان المشتركة، مارك ميللي، لإجراء مراجعة دورية شهرية للتيقن من عدم استنزاف الترسانة الأميركية إلى مستويات متدنية، واستبدال بعض الأسلحة المرسلة إلى كييف، كما جرى بتوفير مدافع من طراز هاوتزر-105 ملم عوضاً عن الأقوى (155 ملم)، التي تخشى القيادات العسكرية استنزافها “إلى مستويات غير مرحب بها”، بحسب بيانات البنتاغون.

وأوجز قادة عسكريون أميركيون التحديات الراهنة للترسانة الأميركية بالقول: “طلَب أوكرانيا من الذخائر  يتعاظم كما لو كانت أميركا في حرب مع ذاتها”، كما أنّ “مخزون الذخائر في المستودعات الأميركية يُستنزف بصورة مقلقة، وخصوصاً ذخائر المدفعية” (يومية “وول ستريت جورنال”، 29 آب /أغسطس 2022).

إضافة إلى ذ4استنزاف المستودعات الأميركية، تواجه المؤسسة العسكرية تحديات جديدة في آليات ونظم التوريد ودوران مصانع الأسلحة التي تتطلب زمناً ليس متوفراً الآن لإعادة تأهيل المعدات وتشغيلها، “في ظل تبدل المواصفات المطلوبة راهناً من البنتاغون” (المصدر أعلاه).

ويمضي القادة العسكريون في الإشارة إلى معضلة برزت مؤخراً في البحر الأيوني، جنوبي إيطاليا، حين اضطرت حاملة الطائرات “ترومان” إلى نقل بعض أسلحتها وذخائرها إلى متن حاملة الطائرات البديلة “يو أس أس بوش”، التي كانت ستتخذ مواقعها في تلك المياه.

من بين التحديات العسكرية أيضاً ما يخلّفه الاستهلاك المتواصل من تآكل المعدات والأسلحة،  بسبب ظروف الحرب والمناورات العسكرية. وأظهر تحقيق أجرته البنتاغون قبل عامين في حادثة غرق عربة برمائية وهلاك طاقمها في مياه مدينة سان دييغو أن السبب هو عدم الالتزام ببرنامج الصيانة المطلوبة، نظراً إلى طلب عسكري ملحّ لدخولها الخدمة.

للإضاءة على إفراط المؤسسة العسكرية في التمدد عبر العالم، تشير بيانات البنتاغون الخاصة بنشر حاملات الطائرات للمرابطة في مناطق معينة إلى معادلة 8:8:8، أي خلال خدمة مدتها سنتان، تحتاج الحاملة إلى 8 أشهر من العمل، و 8 أشهر لأعمال الصيانة وتحديث المعدات، و8 أشهر من برامج التدريب لطواقمها. وينطبق الأمر عينه على القوات والأسلحة البرمائية، ومنها التي تستضيف على متنها أحدث المقاتلات الأميركية من طراز “أف-35”.

إذاً، تصطدم الخطط العسكرية والسياسية الطموحة بقيود الواقع الميداني. مثلاً، مع غروب شهر آب/أغسطس الماضي، تم رصد مرابطة 3 حاملات طائرات أميركية في المياه الآسيوية قرب الصين: “يو أس أس ترومان” و “يو أس أس بوش” اللتان ترابطان ضمن مهام الأسطول السادس،  فيما  ترابط حاملة الطائرات “يو أس أس رونالد ريغان” قرب مياه اليابان. كما أنّ الحاملة “ترومان” في طريق عودتها إلى قاعدتها الأم لأعمال الصيانة والتحديث في مدينة نورفولك في ولاية فرجينيا، ولن تستطيع المشاركة لنحو عام كامل.

تنشر الولايات المتحدة مجموعتين من القوات والمعدات البرمائية في بحر الصين الجنوبي: “يو أس أس أميركا” و “يو أس أس تريبولي” اللتان تحمل كل منها نحو 20 مقاتلة حديثة من طراز “أف-35”.

وفي حال اشتعال ساحة حرب جديدة، في الشرق الأوسط أو الصين أو أوكرانيا، سيواجه سلاح البحرية الأميركي تحديات جديدة تقيّد قيامه بنشر حاملات نووية للطائرات في وقت متزامن في الساحات المشار إليها.

كما تواجه المؤسسة العسكرية الأميركية تحدياً في تجنيد منتسبين جدد إلى صفوفها، إذ عبّر نحو 9% من البالغين عن رغبتهم الانضمام للقوات المسلحة، وهي “أدنى نسبة منذ حرب فيتنام عام 1973″، فضلاً عن تأهل المنتسبين إلى برامج التدريب القاسية، والذين لا يزيدون عن نسبة 24% من مجموع العينة.

استعراض الخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة في حال نشوب حرب حقيقية تشارك فيها مباشرة يؤدي إلى جملة حقائق.

للمرة الأولى، تتراجع خطورة الحرب في الشرق الأوسط، بحسب أولويات البنتاغون، يعززها انتشار واسع لقوات أميركية في المنطقة، فضلاً عن توفر عدد كافٍ من القواعد والمطارات إن دعت الحاجة.

أما في حال نشوب مواجهة عسكرية مع إيران، فالأمر يتطلب إجراء تعديلات كبيرة في وضعية القوات الأميركية، أبرزها الأعداد المحدودة للقوات المتوفرة، وإعادة تموضع القوات والأسلحة البحرية في المنطقة، وضمان ملاحة السفن الحربية وحاملات الطائرات في قناة السويس، وما قد يترتب عليها من انعكاسات إقليمية، أو سحب بعض القوات البرمائية من المحيط الهادئ باتجاه بحر العرب.

ذروة التحديات بالنسبة للبنتاغون البنتاغون في هذا الصّدد تكمن في نشوب حرب مع الصين، والتي سيكون عنوانها الأبرز القطع البحرية المتوفرة والمنتشرة قرب بحر الصين الجنوبي، والاستعانة بقوات إضافية من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، استراليا واليابان، لمواجهة القوات الصينية في الجزر الاصطناعية المنتشرة في المنطقة، وإشغال الغواصات الصينية بمناورات معينة لحرمانها من استهداف حاملات الطائرات الأميركية بشكل خاص.

اتساع رقعة انتشار القوات والموارد العسكرية الأميركية كشف حدود القوة والتهديد بها، وخصوصاً عند الأخذ بعين الاعتبار وضعية القوات الأميركية المختلفة منذ نهاية حرب فيتنام، باعتمادها كلياً على نظام التطوع، وخشية القادة السياسيين من تفعيل نظام التجنيد الإجباري في أزمنة تستدعي رفع مستوى رفاهية الشعب الأميركي، وليس انخراطه في حروب لامتناهية.

هذا لا يعني، بالمقابل، الاستخفاف بالآلة العسكرية الضخمة وقدراتها التدميرية الهائلة، لكن القوة العسكرية الصرفة لا تحسم صراعاً أو اشتباكاً بمفردها، وخصوصاً في ظل تردد القادة الأميركيين، سياسيين وعسكريين، في نشر قوات برية بأعداد كافية في ساحات المواجهة المعنية، وفي الأذهان الانسحاب المذلّ للقوات الأميركية من أفغانستان.

2022-23-08-التحليل

التحليل

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

شكوك في نجاح
خطة بايدن لخفض التضخم

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

تمكّن الرئيس الأميركي، جو بايدن، من تسجيل انتصار سياسي داخلي يعوّل به على وقف تدهور شعبيته، وامتداداً حزبه الديموقراطي، قبل بضعة أسابيع على بدء جولة الانتخابات النصفية.

وأعانه الكونغرس “مرحلياً” على إقرار خطة اقتصادية تزيد قيمتها على 430 مليار دولار، منها 370 مليار دولار للبيئة و64 مليار دولار للصحة، عدّها  بايدن “انتصاراً للشعب الأميركي الذي سيرى انخفاضاً في أسعار الأدوية والرعاية الصحية وتكلفة الطاقة.”

نظرياً، تهدف خطة “قانون خفض التضخم” إلى الحد من معدلات العجز المتصاعد في الميزانية العامة، ورفد الخزينة الأميركية بنحو 258 مليار دولار سنوياً، “من خلال فرض ضريبة جديدة بنسبة 15%، كحد أدنى، على الشركات التي تتعدى أرباحها مليار دولار سنوياً”.

فضلاً عن منح إعفاءات ضريبية بمليارات الدولارات للشركات والصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة كوسيلة لضمان تصويت عضوين من الحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ إلى جانب المشروع، جو مانشين وكيرستين سينيما.

بيد أن الحلقة المركزية المفقودة تكمن في تراجع دور الدولة، أو عدم قدرتها على التحكم بموارد الطاقة وتقنين مشتقاتها ومن ثم السيطرة على تسعيرها، ما أدى دوماً إلى استفحال الأزمات البنيوية. فقد تراجعت أسعار النفط الخام من نحو 120 دولاراً للبرميل إلى حوالي 90 دولاراً، لكن لم يشهد المواطن (المستهلك بتعريف الشركات) تقليص أسعار  مشتقات الطاقة، أو تراجعها كحد أدنى.

زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، الذي امتنعت كتلته عن التصويت للمشروع، حمّل الرئيس بايدن وحزبه الديموقراطي مسؤولية ما آل إليه الاقتصاد الأميركي من “تضخم قياسي، والمشروع الموقّع، إذا أصبح قانوناً، يعني فرض ضرائب أعلى (لتمويله) وفواتير أكبر للطاقة”.

أزمات مركز النظام الرأسمالي من “تضخم يخرج عن السيطرة” ليست فريدة، بل مزمنة وبنيوية، تسعى كل الإدارات المتعاقبة على الترويج لبرامج وخطط من شأنها إبقاء جذوة الأمل مشتعلة عند المواطن العادي بأنها أزمة عابرة سرعان ما يتم التغلب عليها.

في حقبة “الكساد الكبير”، برزت أزمة نقص حاد في احتياطي الذهب، وأصدر الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت قانوناً رئاسياً يمنع بموجبه المصارف المالية من الدفع أو تصدير الذهب، آذار/مارس 1933، رافقه قانون سنّه الكونغرس، 5 حزيران 1933، يمنع بموجبه مطالبة أصحاب الديون استلام قيمتها بالذهب.

قانون المصرف المركزي، الاحتياطي الفيدرالي، آنذاك، اشترط تغطية احتياط العملة الأميركية بنحو 40% من قيمتها بالذهب. وأسفر الإجراء الرسمي عن رفد المركزي بكميات إضافية من الذهب بسعر 20.67 دولارا للأونصة آنذاك، سرعان ما رفعت الدولة سعره إلى 35 دولاراً للأونصة، وتضخم بذلك احتياطها منه بنسبة 69%.

لنقفز قليلاً في الزمن لعقد الستينيات والحرب الأميركية على فيتنام، التي تطلبت مبالغ هائلة للإنفاق الحكومي، وسعي المصرف المركزي إلى تطبيق سياسة “التضخم المصرفي” لتمويل ذلك، ما أسفر عن تراجع قيمة العملة الأميركية وزيادة طلب “الحكومات الأجنبية على استبدال ما لديها من الدولار الأميركي بالذهب”.

مع فشل الحلول المقترحة كافة للسيطرة على “التضخم المصرفي”، واستمرار نزيفٍ عرّض احتياطي العملة الأميركية نتيجة سياسات التصعيد للحروب والهيمنة الاقتصادية على موارد العالم، قام الرئيس ريتشارد نيكسون، 1971، بإصدر قرار بتحرير الدولار من تغطيته بالذهب. وذهب ابعد من ذلك اتساقاً مع تفاقم الأزمات الاقتصادية برفعه سقف الدين العام، والإقلاع الممنهج عن تبني السياسات الاقتصادية الكلاسيكية التي تعادل بين ما يرد إلى الخزينة العامة من موارد متعددة مع معدّلات الإنفاقات الحكومية، كوصفة دائمة للحد من تضخم الأسعار وازدياد العجز في ميزان التبادلات التجارية.

دشنت سياسات الرئيس نيكسون في 15 آب/أغسطس 1971، وبحسب الخبراء الاقتصاديين، فإن سماحه للمصرف المركزي تضخيم معدل الأوراق المالية المتداولة، من دون تغطية حقيقية، سبب بدء انحسار الطبقة الوسطى، مع دخول خفض قيمة العملة رسمياً، رافقه اتساع عميق للشرخ بين معدلات الدخل. تقلصت القيمة الشرائية للدولار منذئذ بنحو 85%، وبحسب خبراء الاقتصاد، فإن قيمته الحالية لا تتجاوز 15 سنتاً.

“قانون خفض التضخم” بنسخته الحالية يشكل حجر الأساس في ما أطلق عليه “النظرية المالية الحديثة”، التي تتبناها النخب السياسية والاقتصادية الأميركية على الرغم من  عدم اختبار فعاليتها، حتى نظرياً، وخصوصاً لتنافيها مع بديهيات علم الاقتصاد التي تعرف التضخم بفارق الهوة بين الطلب والعرض. لكنها توفّر مسوّغات اقتصادية لاستمرارية طبع الأوراق المالية وترفع سقف الديون العامة، وكلفتها المتراكمة أيضاً نتيجة ارتفاع معدلات الفائدة عليها، ما يضخ أموالاً هائلة دائمة في المصارف المالية الكبرى .

تخلّي أكبر اقتصاديات العالم عن معيار الذهب لدعم العملة الوطنية ، في محصلة الأمر، سمح للزعماء السياسيين بأطيافهم وميولهم الحزبية كافة تبنّي برامج ومشاريع عالية الكلفة لكسب تأييد قواعد انتخابية، ورفد المصارف الكبرى بأموال تغطيها الدولة في دوامة مستمرة يستهلك سداد الفائدة عليها موارد أساسية على حساب برامج تنموية حقيقية.

لنأخذ مثالاً من السياسات الراهنة، فقد بلغ معدل الدين العام على الحكومة الأميركية أكثر من 30 ألف مليار دولار، 30 تريليون ونيّفاٍ، من دون احتساب التزامات الدولة لبرنامج الرعاية الاجتماعية.

سياسات الحروب الدائمة، منذ فيتنام ومروراً بالحرب الأميركية على “الإرهاب” وامتداداً تمويل الحرب الأوكرانية ضد روسيا، كان لها نصيب الأسد في ميزانيات الإنفاق العام.

يحسب لإدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما رفعه معدل الدين العام، أي مستوى عجز الميزانية، إلى 8 آلاف مليون دولار، 8 تريليونات، بزيادة تعادل نحو 70% عن أسلافه. الرئيس السابق دونالد ترامب رفع السقف مرة أخرى إلى نحو 8 تريليون. أما الرئيس جو بايدن، وهو في منتصف ولايته الرئاسية زمنياً، فقد أضاف نحو 2 مليار دولار.

يعرب كبار الخبراء الاقتصاديين عن شكوكهم في قدرة وصفة الدولة الراهنة، لمزاوجة معدلات العرض بالطلب، بل يجادلون بأن سقف العرض لن يواكب سرعة ارتفاع معدلات التضخم للسيطرة عليه، أو الحد منه. معدلات نمو الاقتصاد الأميركية لسنوات طويلة من 1992 وإلى 2021 بلغت نحو 2.4%. في المرحلة المقبلة، سيتراجع معدل النمو إلى 1.7% لعام 2022 وإلى 2052، بحسب بيانات “مكتب موازنة الكونغرس” الرسمية.

لمقاربة المعضلة الاقتصادية، لن يستطيع الاقتصاد الأميركي بما يقدمه من موارد وخدمات مواكبة زيادة الطلب نتيجة ارتفاع معدلاته الناجمة عن الإنفاق الحكومي المتزايد، ونتيجة مباشرة لـ “النظرية المالية الحديثة”.

للدلالة على ما سبق من استنتاجات مؤلمة، أجرت كلية وارتون للأعمال، التابعة لجامعة بنسلفانيا المرموقة، دراسة مفصلة لقانون خفض التضخم أثناء فترة تداوله بين أعضاء الكونغرس، جاء في جزء منه أن “القانون سيرفع قليلاً معدلات التضخم لعام 2024، وتقديرنا أنه لن يترك أثراً (إيجابياً) على الناتج الداخلي العام”، بل ستتقلص مسوّغات العمل وحوافزه ما سيؤدي إلى انخفاض معدلات ساعات العمل وخفض حجم عرض الموارد المطلوبة (دراسة بعنوان “قانون خفض التضخم: تقديرات أولية لتاثيرات الميزانية والاقتصاد الشامل”، تموز/يوليو 2022، كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا).

معظم الخبراء ممن له مصلحة في كبح جماح عجلة التضخم في الشأن الأميركي يناشد صنّاع القرار باعتماد سياسة نقدية أكثر واقعية، واستخلاص الدروس القاسية من قرارات الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، والتي لا زالت مستمرة من دون إبطاء، ولجم معدلات الإنفاق وترشيد الأموال إلى اولويات التنمية.

بعبارة أخرى، يناشدونهم العودة إلى تغطية العملة الوطنية بالذهب ما من شأنه وضع حد لطباعة الأوراق المالية من دون تغطية حقيقية. ويحذرون من تنامي معدلات الدين العام التي بلغت  نحو 30 ألف مليون دولار (30 تريليوناً)، ما يعادل 130% من حجم الاقتصاد الأميركي برمته، بينما بالمقارنة بلغ معدل الدين العام في عام 1960 “أكثر بقليل من نصف الاقتصاد الأميركي”.

2022-15-08-التحليل

التحليل

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

مداهمة مقر ترامب:
دولة الأمن القومي تثأر لإهانتها


د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

سيقت جملة تكهنات رسمية لتبرير قيام جهاز “مكتب التحقيقات الفيدرالي”، أف بي آي، بدهم منتجع الرئيس السابق دونالد ترامب، مارا لاغو، في ولاية فلوريدا، “غير مسبوقة” في ظل التاريخ السياسي لأميركا، محورها اتهامه بالاحتفاظ بوثائق رسمية مصنفة “سرّية وبالغة السرّية”، وإتلاف سجلات رسمية أخرى، التي تستدعي محاكمته وتلقّيه عقوبة بشأنها.

تنبغي الإشارة إلى الظروف الخاصة المتعلقة بالرئيس ترامب قبيل مغادرته البيت الأبيض، بصرف النظر عن مزاعمه بتزوير خصومه للانتخابات الرئاسية، إذ أنه واجه حملة متواصلة من مساعي الإقصاء وجلستي محاكمه في الكونغرس، وحتى التلويح بتطبيق المادة 25 من لائحة التعديلات الدستورية، التي تفوّض نائب الرئيس إعلان عدم أهلية الرئيس مواصلة عمله، وتخوّل نائبه القيام بمهام الرئيس رسمياً، بدعم من أعضاء الحكومة الرسمية، أي إزاحة ترامب من موقعه بمستند دستوري.

من ضمن صلاحيات الرئيس الأميركي، بحسب الدستور، إصداره قرارات برفع تصنيف “السرّية” عن بعض الوثائق الرسمية التي يراها ضرورية، وهنا تكمن إحدى الثغرات القانونية التي يسعى كل فريق إلى استغلال ما تنطوي عليه من نصوص مبهمة لتدعيم وجة نظره الخاصة.

أصدر مركز الأبحاث الرسمي، “خدمة الكونغرس البحثية”، دراسة مفصّلة حول “قانون الوثائق الرئاسية”، جاء فيها أنه “يخلو من أي أدوات لتطبيقه، ولا يسمح للسلطات القضائية بمراجعته”، كما أن لجهاز الأرشيف “الصلاحية لتحديد القيود المفروضة على رئيس سابق بالتشاور معه للتوصل إلى فترة زمنية احتفاظه بتلك السجلات تتراوح بين 5 و 12 عاماً، بالتشاور معه، وفق المادة 44 الفقرة 2204 من قانون الجنايات الأميركي”. وأضاف أنه بعد انقضاء “12 عاماً تنتهي القيود المفروضة من قبل الهيئة” على تصنيفها سريّة. اللافت في نص الدراسة  أن القانون السالف الذكر لا يتضمن إنزال عقوبات جرمية بمن يزيل أو يتلف تلك الوثائق. (دراسة بعنوان “قانون الوثائق الرئاسية: مراجعة شاملة”، 17 كانون الأول/ديسمبر 2019)

الفريق المناوئ للرئيس ترامب تدحرج في توجيه اتهاماته، من “سوء استخدام الوثائق الرسمية”، إلى “إتلاف بيانات رسمية”، ثم إزاحته وثائق تتعلق بالأسلحة النووية، وصعوداً إلى تفعيل محاكمته بحسب قانون التجسس الذي يحظر على المحاكم، ومن ثم العامة، الاطّلاع على طبيعة الدلائل التي تستند إليها التهم الموجهة.

الرئيس الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية، مايكل هايدن، ألمح إلى “إعدام ترامب”، أسوة بالثنائي جوليوس وإيثيل روزنبيرغ، حزيران/يونيو 1953، بعد إدانتهما بتسليم وثائق نووية سرّية إلى موسكو، وذلك في تغريدة جوابية له للمؤرخ الأميركي الشهير، مايكل بيشلوس، في 12 آب/أغسطس 2022.

كما من صلاحيات الرئيس، أي رئيس، الاحتفاظ بوثائق رسمية بصفة خاصة لمدة 12 عاماً، باعتبارها “ملكية خاصة للرؤساء المعنيين”، تُودَع بعد ذلك في الأرشيف الوطني. القانون الناظم لتلك المسألة تم إقراره بحسب أختصاصيي القانون الدستوري عام 1955، والذي “”شجّع، لكنه لم يشترط قيام الرؤساء السابقين بإيداع تلك السجلات” في الأرشيف الوطني (مقال لديفيد ريفكين و لي كايس في صحيفة “وول ستريت جورنال”، 11 آب/أغسطس 2022).

بيد أن فضيحة ووترغيت عام 1974 استدعت استصدار قوانين جديدة للحدّ من قيام أي رئيس بإتلاف سجلات رسمية، التي كانت شرائط التسجيل آنذاك هي المقصودة. وصادق الرئيس الأسبق جيمي كارتر على قرار سجلات الرؤساء عام 1978، والذي يحيل بموجبه مسؤولية حفظ الوثائق الرسمية في عهدة هيئة الإرشبف الوطني، لكنه ينطوي أيضاً على عدد من الثغرات والنصوص المبهمة التي يستند إليها كل الرؤساء لتبرير تصرفاتهم وفق تلك النصوص.

واجهت المؤسسة الأميركية الحاكمة في التاريخ القريب بعض السلوكيات المماثلة بالتعامل مع الوثائق الرسمية من قبل مسؤولين سابقين وباتهامات مشابهة، لكن لم تتطور مسألة “العقاب” إلى قضاء المسؤول المتّهم فترة في السجن كما تنص القوانين السارية، وكما يُطالب بتطبيقه على الرئيس السابق.

من أبرز تلك الأمثلة، المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية، ديفيد بيترايوس، الذي اتُهم عام 2015 بـ “إساءة استخدام بيانات سرّية”، وعقد تسوية مع القضاء تفادى بها عقوبة السجن.

والمثال الآخر، قيام مستشار الأمن القومي الأسبق، صموئيل بيرغر، بـ “نزع وثائق رسمية تخصّ الإرهاب من مقر الأرشيف الوطني، والاحتفاظ بها”، عام 2005، والذي عقد “تسوية” مع القضاء أيضاً جنّبته عقوبة السجن.

قام الرئيس ترامب، بحسب وزارة العدل، بإزالة بنحو “15 صندوقاً” فيها وثائق رسمية والاحتفاظ بها، أرسلها إلى مقر إقامته في ولاية فلوريدا قبيل مغادرته البيت الأبيض، جرت تسوية مصير بعضها لاحقاً بتسليمه إلى هيئة الأرشيف الوطني، بعد عام من انتهاء ولايته الرسمية. حينها أخطرت الهيئة وزارة العدل الأميركية بأن المواد التي تسلّمتها تحتوي على وثائق سرّية.

عند هذا المفصل التسلسلي للأحداث برزت إشكالية: “هل قام الرئيس ترامب بنزع تصنيف السرّية عن تلك الوثائق قبل مغادرته” أم لا؟ وزارة العدل وذراعها التنفيذية مكتب التحقيقات الفيدرالي “يعتقدان” أن الوثائق التي تم تسلّمها من الرئيس ترامب “تنطوي على أدلّة محتملة لارتكابه جريمة”، نظراً إلى فرضية مواصلة احتفاظه بوثائق سرّية أخرى.

في حال استطاعت وزارة العدل إثبات شكوكها المتعلقة بتصنيف تلك الوثائق، وهو أمر من شأنه تعزيز فجوة الشرخ الأفقي والعمودي في المجتمع الأميركي، تستطيع بموجبه تطبيق المادة 2071 من قانون العقوبات، التي تنص جزئياً على أن “يفقد (المتهم) صلاحيات منصبه ويُمنع من تسلم مهام أي منصب يخضع لسلطة الولايات المتحدة”.

مؤيدو الرئيس ترامب، من ضمنهم بعض الأقطاب والقيادات في الحزب الجمهوري، يعتبرون أن ذلك هو المقصود بعينه، إي اغتياله سياسياً وحرمانه الترشح لجولة الانتخابات الرئاسية المقبلة، أقلّه إلقاء ظلالٍ من الشك حول أهليته ومصداقيته للتأثير على قواعده الانتخابية. يعتقدون أيضا أن التحقيق الجاري في مجلس النواب، بشأن اقتحام الكابيتول في 6 كانون الثاني/يناير 2021 من قبل أنصار الرئيس ترامب، هو من أجل التمهيد للحلقة التالية من إنهاء طموحاته السياسية، وحصر المسألة في تطبيق “قانون التجسّس” ضدّه، لمنع الإفصاح عن أي من الأدلة المحتملة أو تداولها.

من بين “الشكوك” التي يسوقها أنصار الرئيس ترامب أن وزارة العدل، في البداية، استندت إلى اتهامها بسوء استخدام الوثائق السرّية كحجة للحصول على قرار قضائي لإجراء مزيد من التفتيش والعبث بمحتويات مقار إقامته الخاصة، وتدبير ملف به بعض الأدلة الظنية، ربما لربط الرئيس ترامب مباشرة بالعناصر الذين دهموا مقر الكونغرس، بغية إرساء تهمة ارتكابه أو مساعدته لارتكاب جريمة ضد الدولة.

وسرَتْ مشاعر الإهانة بين أنصار الرئيس السابق، لاعتبارهم عملية الدهم تنافي نصوص الدستور لحماية حرية الفرد من “التفتيش ووضع اليد على ممتلكات خاصة”، وبذلك فإن عملية الدهم “غير قانونية”، بحسب معطياتها العملية ومسبباتها غير المعلنة إلا بعد إنجازها.

أما وقد استقرّ رأي المؤسّسة على استهداف الرئيس السابق، فقد تسارعت الاتهامات من قبل أنصاره بأن ما يجري هو “تسييس” الموسم الانتخابي المقبل، الانتخابات النصفية بعد شهرين والانتخابات الرئاسية بعد سنتين، وبأن وزارة العدل وأجهزتها ليست سوى “أدوات لجأ إليها الحزب الديموقراطي” لاستهداف المرشح الرئاسي المحتمل عن الحزب الجمهوري.

لوحظ أيضاً مدى الامتعاض الشعبي من تصرّفات مكتب الـ “أف بي آي” الأخيرة، وسجلّه الحافل بالتجسّس على الناشطين المناوئين للسياسات الرسمية، عبر حملة مكافحة التجسّس “كو إنتل برو”، واغتيال بعض قادتهم منذ عقد الستينيات الماضي. وجاءت نتائج استطلاعات للرأي أجراها معهد “غالوب” الرصين لتشهد على ذلك، بأن 66% من المواطنين فقدوا الثقة بالجهاز وبقدرته على استمرار الادّعاء بمساواة الجميع أمام القانون.

المؤرّخ والصحفي الأميركي فيكتور ديفيد هانسن أوضح بعضاً من سلوكيات مكتب التحقيقات الفيدرالي، وسوء استخدامه للصلاحيات الممنوحة له قائلاً بوضوح إن “كبار مديري الـ أف بي آي يخدعون الكونغرس دورياً، وقاموا بمسح أو تعديل الأدلّة المقدمة إلى المحاكم، ويسرّبون معلومات سرّية عمداً إلى الصحافة، وكذبوا أيضاً تحت القسم القانوني أمام المحققين الحكوميين” (صحيفة “واشنطن تايمز”، 11 آب/أغسطس 2022).

في المقابل، لا تزال استطلاعات الرأي المختلفة تفيد بتنامي شعبية الرئيس الأسبق دونالد ترامب بين جمهور الناخبين، مع فوز كبير لمناصريه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري التي جرت في بعض الولايات، ومنها ولايات حاسمة في الانتخابات الرئاسية. أما الرئيس جو بايدن، فيستمر مؤشّر شعبيته في السقوط، فضلاً عن أدائه في المناسبات العلنية التي دلّت على إصابته بمرض الشيخوخة، بحسب اختصاصيين.

أمام تفاصيل اللوحة الانتخابية بصورتها الراهنة، يبدو أن الحزب الديموقراطي مقبل على مرحلة شديدة القسوة في جولة الانتخابات الرئاسية المقبلة. نائبة الرئيس، كمالا هاريس، لا تحظى بدعم حاسم من قيادات الحزب، فضلاً عن تخبّط مواقفها بالنسبة إلى بقية الشعب. أما المرشح الرئاسي السابق ووزير النقل الحالي، بيت بوتيجيج، فهو حديث الحضور سياسياّ، ولا يتمتع بالدعم الكافي من مراكز القرار في واشنطن.

بعض المخضرمين في الحزب الديموقراطي يذهب إلى صوغ نتيجة مؤلمة بالنسبة إلى القيادات التقليدية، مفادها عدم توفر مرشح رئاسي مناسب للحزب في الجولة المقبلة، ولذا ينبغي إتاحة الفرصة للمرشح المقبل دونالد ترامب، إن استطاع البقاء سياسياً، على أن يجري البحث عن شخصية جذّابة وقوية لدخول الجولة المقبلة عام 2028.

من بين الدلائل الداعمة لمشاعر  استهداف الرئيس ترامب بدوافع سياسية علاقته المتوترة مع وزير العدل الحالي، ميرك غارلاند، الذي رشّحه الرئيس الأسبق باراك أوباما لمقعد في المحكمة العليا، واضطر إلى سحب ترشيحه نتيجة مناهضة قوية من الحزب الجمهوري.

الرئيس ترامب خاض حملته الانتخابية، عام 2016، واعداً جمهور ناخبيه بسحب ترشيح غارلاند من قائمة المرشحين للمحكمة العليا، والذي انتظر الرئيس جو بايدن ليعيّنه وزيراً للعدل.

كما تجنّب وزير العدل، غارلاند، الإجابة على أسئلة الصحافيين خلال مؤتمره الذي عقده يوم الخميس، 11 آب/أغسطس الحالي، معلناً مسؤوليته عن التوقيع على قرار موجّه إلى قاضي فيدرالي يطالب فيه بدهم مقر إقامة الرئيس ترامب. غارلاند لم يُرد الإجابة على سؤال أحد الصحفيين، طالباً تفسيره لعدم شروع وزارته في دهم مقر إقامة الرئيس الأسبق باراك أوباما بشأن حيازته لوثائق رسمية مفقودة، بل الأهم عدم متابعة وزارة العدل لوثائق الكترونية رسمية تخصّ وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، وآخرين أيضاً من طاقم الرئيس أوباما.

أحدى الأذرع الفكرية للحزب الجمهوري واليمين التقليدي، “ذي فيدراليست سوسيتي”، شنّت بدورها هجوماً لاذعاً على الأجهزة الأمنية الأميركية، مستعيدة ما سمّته “أكبر خديعة أمنية في التاريخ الأميركي المسمّاة فضيحة التجسس”، ضد الرئيس دونالد ترامب، باتهام “مسؤولي إدارة الرئيس باراك أوباما بالتآمر لشيطنة والقضاء على رئيس منافس قادم باستخدام أدلّة مصطنعة، والكذب أمام محاكم أمن سرّية، وعمليات بروباغندا إعلامية، وانتهاك عدد من القوانين”، كلها بهدف القضاء على المشاكس القادم إلى البيت الأبيض.

وحذّر قادة الحزب الجمهوري وجمهوره من تبعات عدم وضع حدّ لاتهامات باطلة بحق الرئيس السابق من قبل الأجهزة الأمنية، التي “ستصوّب سهامها ضدهم” إن سمحوا لها بالإفلات من المحاسبة (مقال بعنوان “مداهمة ترامب تؤكد تقرير (دولة) الأمن القومي لمن يُسمح للأميركيين التصويت له”، موقع “ذي فيدراليست سوسيتي”، 9 آب/أغسطس 2022).

واستندت الذراع الفكرية للحزب الجمهوري إلى “قيام القيادات العسكرية بالكذب المتعمّد على الرئيس دونالد ترامب بشأن أفغانستان، لثنيه عن سحب القوات الأميركية من هناك”. أما في عهد الرئيس جو بايدن، فقد “وجد مسؤولو (دولة) الأمن القومي فرصة مريحة برفض الانصياع لقرارات قائدهم الأعلى المفترض”، في إشارة واضحة لدور قائد هيئة الأركان المشتركة مارك ميللي معارضة القيادة السياسية، في أسطع مثال على “الانقلاب العسكري” غير المعلن.

في المحصّلة النهائية، أسهمت عملية دهم منتجع الرئيس السابق والاستيلاء على وثائق رسمية بحوزته في تبلور سلسلة من الانهيارات المجتمعية والسياسية، على السواء، ينذر بعضها بمواجهة قد تُفضي إلى عصيان مدني أو أكثر حدةً، وُجهتها الأذرع الأمنية للدولة، على خلفية انتهاكاتها للحرية الفردية، وما يشكله ذلك من صدمة قاسية في الوعي الأميركي العام.

2022-08-08-التحليل

التحليل

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

زيارة بيلوسي “المتهوّرة”
ستعزّز استعادة الصين لتايوان

  

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

منذ إعلان رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، جدول زيارتها لدول جنوب شرقي آسيا بضمنها جزيرة تايوان، تنادت تيارات المؤسسة الحاكمة الأبرز في الحزبين، والنخب السياسية والإعلامية إلى دعمها على قاعدة “الصين لا ترغب في حضورها، ولهذا عليها التشبّث بالذهاب لإغاظتها”.

أما الطرف الآخر من الطيف السياسي الواقعي، التقليدي، فقد شن حملة انتقادات محدودة في تأثيرها ومداها، وبرزت عناوين صحافية تصف الزيارة بـ “المتهورة والخطرة وغير الضرورية”. والتحذير من استغلال الزيارة كصاعق تفجير في مواجهة عسكرية مع الصين، عزّزه تحشيد البنتاغون قدرات حربية مميّزة ونوعية في آن واحد، إذ أرسل حاملة الطائرات النووية رونالد ريغان، وسفينتين برمائيتين إلى المياه القريبة من تايوان، فضلاً عن إرساله أسراباً من أحدث المقاتلات الحربية الأميركية للمرابطة في اليابان وكوريا الجنوبية.

استفزاز المؤسسة الحاكمة الأميركية للصين في هذا الظرف تحديداً، إضافة إلى ما شكله ذلك من انتقاد حاد للإدارة الأميركية على الإفراط في افتعال الأزمات، جاء في عميق إدراك أن “الخطوة” تشكل تراجعاً رسمياً عن سياسة “الغموض الاستراتيجي”، المتبعة منذ تدشين وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر سياسة الانفتاح على الصين، وزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بكين، والتزام الإدارات المتعاقبة بسياسة “الصين الواحدة”، أي إن تايوان ليست دولة معترفاً بها دولياً إلا من بعض الدول التابعة لسياسة واشنطن.

زيارة بيلوسي الرسمية، وهي ثاني أعلى مسؤول في الهرم السياسي الأميركي بعد نائبة الرئيس كمالا هاريس، وخصوصاً أن طاقمها الزائر تضمّن أعضاء من الحزبين الديموقراطي والجمهوري، أتت بعد 25 عاماً من زيارة مماثلة أجراها الرئيس الأسبق لمجلس النواب الأميركي عن الحزب الجمهوري، نوت غينغريتش، عام 1997، حينما كانت الصين تئن تحت وطأة تحدياتها الاقتصادية ومستقبلها على خريطة العالم، قياساً على وضعها الراهن كقطب عالمي في الاقتصاد والتنمية المتبادلة مع الدول والمجتمعات النامية.

اشتهرت بيلوسي بمواقفها السياسية المتشدّدة وتطرّفها في انتقاد سياسات الحكومة الصينية، وهي من أبرز صقور الساسة الأميركيين في إعلاء العداء التاريخي لكل من روسيا والصين واستثماره في كل الأزمنة والأوقات، وهي أرست أرضية تفاهم مشتركة مع التيارات المتشدّدة في الحزبين محورها “الدفاع عن حقوق الإنسان” وإدانة الصين عقب تظاهرات “ساحة تيانمن” عام 1989.

وفي إحدى زياراتها لجمهورية الصين الشعبية، عام 1991، أوقفتها أجهزة الشرطة الصينية بعد حملها يافطة “مؤيّدة لمن قضوا دفاعاً عن الديموقراطية في الصين” (مقال على موقع “شبكة إيه بي سي”، 2 آب/أغسطس 2022).

ولعل إحدى أهم المحطات المعادية للصين في مسيرة نانسي بيلوسي معارضتها دخول الصين في منظمة التجارة العالمية، على نقيض قادة كبار من حزبها الديموقراطي في التسعينيات من القرن الماضي، وعارضت بشدة أيضاً سياسات الرئيس الأسبق بيل كلينتون الهادفة إلى تعزيز العلاقات التجارية بين واشنطن وبكين.

البيت الأبيض، في سياق رد فعله على الزيارة، حافظ رسمياً على سياسة الغموض بإعلانه أنه يسعى لثني رئيسة مجلس النواب عن زيارة تايوان تحديداً، لكنّ تيقّن ذلك لم يرسُ على دليل، سواء “أكدت أم الإدارة نفت” قيامها بذلك، بل اكتفت بالإشارة إلى أن “الصين قد ترد اقتصادياً أو عسكرياً” على الزيارة.

هل استعجلت الإدارة الأميركية، في توقيت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، لجزيرة تايوان بتأجيجها وتائر التوتر مع الصين واللعب على حافة هاوية الاشتباك المباشر؟

لمراكز القوى في صنع القرار الأميركي توجهاتها “الثابتة” في السعي الدؤوب للحد من بروز منافسين للهيمنة الأميركية على المشهد العالمي، وترويج حصرية قيادة واشنطن للتطورات العالمية، ولا تجد هذه القوى غضاضة في افتعال الاشتباكات والحروب بالوكالة، كما نشهد حالياً ضد روسيا في أوكرانيا، واستفزازها الصين بشأن تايوان لتحافظ على سرديتها بأن تمدّدها العسكري في العالم هو من أجل “حفظ السلم والأمن الدوليين”.

يتردد باستمرار تقويم النخب السياسية على مستوى العالم بأن تمدّد الإمبراطورية الأميركية وهيمنة نفوذها هما في بداية أفول مسارها، ولا يختلف في ذلك عدد من النخب الأميركية نفسها، وما يجري راهناً ليس سوى صراع مستمرّ في مراكز قوى صنع القرار، طلباً لتأجيل مرحلة الأفول في أفضل الاحتمال.

وحذّر عدد من النخب الفكرية والسياسية الأميركية من المضي في مغامرات النزعات العدوانية، التي لم تلقَ آذاناً صاغية منذ بدء صراع الحرب الباردة والحروب الأميركية المتعدّدة على الشعوب النامية منذئذ.

الذراع الفكرية لوزارة الدفاع الأميركية، مؤسسة “راند”، أصدرت دراسة شاملة  بعنوان “التنافس الاستراتيجي الأميركي مع الصين”، رصدت فيها جملة قضايا محورها  “تآكل النفوذ الأمني الأميركي في منطقة آسيا والمحيط الهاديء، نتيجة للتطورات المتسارعة في قدرات جيش التحرير الوطني” الصيني، وأن سياسة “الولايات المتحدة فاقمت مديات التوتر بشأن مسائل خلافية مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي، حتى في ظل انحسار احتمال نشوب حرب” بينهما.

من بين إرشادات الدراسة التي شارك فيها “أكثر من 60 مختصاً بالشأن الصيني”، إقرارهم بـ “سوء فهم وإدراك” صنّاع القرار الأميركي لتداعيات التصعيد مع الصين ومخاطره، “وينبغي عليهم اجتراح تدابير خارج خيار الحرب لحماية المصالح الأميركية” (دراسة بعنوان “التنافس الاستراتيجي الأميركي مع الصين” مؤسسة “راند”، حزيران/يونيو 2021

كذلك وجّهت صحيفة “فورين بوليسي” خطاباً مباشراً إلى مراكز القوى قائلة: “إذا كان الهدف الأساسي (لأميركا) الحفاظ على تفوقها العالمي، فسيتعيّن عليها الانخراط في منافسة جيو-سياسية صفرية، حصيلتها صفر”، على خلفية بروز مؤشرات وثغَرٍ في بنية نظام القطب الأحادي.

أستاذ العلاقات الدولية المرموق في جامعة هارفارد، ستيفان والت، أشار مبكراً إلى أن “العالم سيشهد تسارعاً في انتقال مركز القوة والنفوذ من الغرب، إلى دول آسيوية، وخصوصاً الصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية” (مقال في صحيفة “فورين بوليسي:” 20 آذار/مارس 2020).

وفي السياق عينه، نرصد تنبّؤ  دانيال فنكلستاين، المستشار السياسي الأسبق لرئيس الوزراء البريطاني جون ميجور، متسائلاً “هل نشهد نهاية الحقبة الأميركية؟”، وهل “الدول الحرة (الغربية) اخطأت على مدى عقود في استنادها إلى فرضية تطابق مصالحها مع المصالح الأميركية” (صحيفة “تايمز” اللندنية، 8 نيسان/إبريل 2020).

وعادت النخب الأميركية بعد عام تقريباً للتحذير مجدداً من أن “الصين لا تشكل تهديداً وجودياً” للولايات المتحدة، لتدشّن نقاشاً جاداً حول مفهوم “التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة” على الصعيد العالمي (“فورين بوليسي”، 21 نيسان/إبريل 2021).

يشار إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن تبنّت سردية “خطر الصين” منذ أيامها الأولى، واعتمدها حجر زاوية في وثيقتها “إرشادات مرحلية للأمن القومي الاستراتيجي”، آذار/مارس 2021، التي أتى في جزء منها أن “الصين، على نحو خاص، تمضي بسرعة لتأكيد حضورها بحزم، فهي ليست سوى منافس قد تتوفر لديه القدرة على مزج عناصر قوته الاقتصادية والديبلوماسية والعسكرية والتقنية لتشكيل تحدٍ مستدام لنظام عالمي مستقر ومفتوح”.

واكب ذلك جهد شبه حاسم لدحض السردية الرسمية في تحديد طبيعة التهديد، للأستاذ في جامعة ديوك، بروس جنتلسن، قائلاً بصريح العبارة: “يجري تضخيم تهديد الصين بطرق شبيهة بالتهديد السوفياتي إبّان الحرب الباردة، وبالإرهاب في أعقاب 11 أيلول/سبتمبر (2001)، وتأتي كلها بنتائج عكسية لاستراتيجية السياسة الخارجية، وحرف الأنظار عن السياسات الداخلية بطرائق خطرة” (“فورين بوليسي”، 20 تموز/يوليو 2022).

أنصار السياسة الأميركية الواقعية، على المستوى الدولي، يقرّون بخطأ بوصلة السياسة الأميركية ضد الصين تحديداً، وما تطوّرات قدراتها العسكرية، التي أشارت إليها بعمق دراسة “راند” سالفة الذكر، إلا “استجابة للجهود الأميركية ببناء ترسانة ضخمة من النظم الهجومية والدفاعية. فالصين تتبع خطوات أميركا لا العكس” (نشرة “بوليتن لعلماء الذرة”، 4 آب/أغسطس 2022).

إجراءات الرد الصيني على استفزاز بيلوسي تبدو كمن يبلور الشروط الميدانية واللوجستية لتمرين استعادة تايوان الى الصين الموحّدة ، صحيح انها تكتفي حاليا بعقوبات إقتصادية جزئية ومناورات عسكرية بالذخيرة الحية وشبه الحصار التام، إلا أنّها تمارسه كتمرين على الغزو الشامل عندما تجد الوقت ملائماً. لا تزال القيادة في بكين تفضّل الوحدة مع تايوان بالوسائل السلمية، ولكنها تعلن بخطواتها للعالم أن هذا “الواجب التاريخي”سيتحقق عاجلاً أم آجلاً.

2022-28-07-التحليل

التحليل

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

شبكة الكهرباء الأميركية
ترهّل ومأزق متجدد

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

تصاعدت في الآونة الأخيرة، تحذيرات رسمية أميركية، ومن عديد الخبراء والمختصين، من نقصٍ في إمداد توزيع التيار الكهربائي، لا سيما في المدن الصناعية والمراكز الاقتصادية الكبرى، يفاقمه ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة في عموم القارة الأميركية، بشكل خاص، في ظل ازدياد الطلب على طاقة التبريد في فصل الصيف.

حال شبكة التوزيع على نطاق الأراضي الأميركي لا تبشر بالأمل، في المديين القصير والمتوسط، بل تعدّ الأزمة مركّبة تتحكم بها عدة عوامل: ذاتياً، يمكن تعريفها بالبنيوية ترتبط بسيطرة “القطاع الخاص” ومصالحه في مراكمة الأرباح وتراجع استثماراته في البنى التحتية التي تعود إلى ما ينوف عن 4 عقود زمنية؛ وموضوعياً، كوارث طبيعية ببروز تشققات هيكلية في أحدى أهم وأبرز منشأة لتخزين التيار الكهربائي وتوليده، “سد هوفر” في ولايات الغرب الأميركي، والذي أطلق عليه “سد المعجزة” في إبّان مرحلة تصميمه وإنشائه على نهر كولورادو على ضفتي ولايتي أريزونا ونيفادا، خلال مرحلة “الكساد الكبير” التي اجتاحت الولايات المتحدة بين عامي 1931 و  1936.

“سد المعجزة” شكّل تحدياً هندسياً آنذاك؛ نظراً إلى العوامل المعوّقة التي واجهها علماء الطبيعة، والجيولوجيا، وتنبؤاتهم بأنه “لن يصمد وستزيله قوى الطبيعة عاجلاً أم آجلاً” واعتماد تقنيات لم يتم التثبت من فعاليتها. جرى تصميمه باعتماد نظام السدود القوسية التي توزّع حجم قوة الضغط الناشئة من المنتصف إلى الصخور على جانبي السد، لتخفيف سرعة اندفاع المياه مع جسم السد، فضلاً عن طبيعة المناخ الصحراوي الذي تسببت حرارته المرتفعة في سرعة تصلّب طبقات الإسمنت وإسهامها في إضعاف متانة البناء الخراساني. وتم ابتكار حل هندسي يتيح تمديد أنابيب لضخ الماء البارد نسبياً بين المواقع المراد صب الخرسانة بها وتمكين التحام طبقات الإسمنت المختلفة بشكل متناسق (معلومات مستقاة من موقع “هيئة استصلاح الأراضي” الرسمية (Bureau of Reclamation)، المشرفة على مشاريع ضخمة متعددة في 17 ولاية في الغرب الأميركي).

اندلع حريق بعد انفجار هائل في محوّل كهربائي لـ “سد هوفر”، يوم 20 تموز/يوليو الجاري، وشوهدت أعمدة الدخان الكثيفة تتصاعد من منشأة السد الذي توفّر مولّداته الطاقة الكهربائية لمحطات تغذية في ولايات نيفادا وأريزونا وكاليفورنيا، ويعدّ أيضاَ أكبر خزان مياه لتوليد الطاقة والري في البلاد (بيان “هيئة استصلاح الأراضي” الأميركية).

تعطّل ايصال التيار الكهربائي إلى المنازل والمؤسسات العامة، نتيجة انفجار السد، لم يكن المشهد الأول في انكشاف تشققات شبكة التوزيع الضخمة في الأراضي الأميركية وترهّل أدائها، إذ تتكرر حوادث انقطاع التوصيل بصور مطابقة لما سبقها ويسبقها من تجارب، من دون معالجة وافية وملموسة لتحديث البنى التحتية، إلا في حالات استثنائية.

في مثل هذه الأيام من صيف العام الماضي، رصدت يومية “واشنطن بوست” انقطاعاً متواصلاً للتيار الكهربائي في ولايات أقصى الشمال الغربي، واشنطن وآيداهو وأوريغون، إضافة إلى كاليفورنيا ونيفادا ومشيغان في أواسط البلاد، ما دفعها إلى القول عن الانقطاع المستمر بأن يشكل “ناقوساً للحال المهترئة لشبكة توزيع التيار الكهربائي الأميركية، والتي تمضي في مسارها العملي دائماً وهي على حافة” الهاوية (“واشنطن بوست”، 29 حزيران/يونيو 2021).

وأضافت الصحيفة أن درجة حرارة الصيف العالية، بما تشكله من ضغوط إضافية على استخدام التيار الكهربائي، لم تكن هي مصدر انقطاع التيار في ولاية تكساس في شهر شباط/فبراير من شتاء العام عينه، مثلاً، بل سبقتها ولاية كاليفورنيا في انقطاع شبه شامل للطاقة الكهربائية في عام 2020.

وفنّدت الصحيفة مزاعم حاكم ولاية تكساس عن الحزب الجمهوري، غريغ آبوت، في 8 حزيران/يونيو 2021، بأن إدارته “صادقت على تنفيذ وإنجاز كل الإجراءات المطلوب اتخاذها لمعالجة قصور أداء شبكة الكهرباء في تكساس”، بأن ذلك لم يكن دقيقاً، ولم يصمد تطمين الحاكم أكثر من أسبوع، ليتبيّن أن شيئاً من ذلك القبيل لم يتحقق.

يشار إلى أن أحدث البيانات المناخية تشير إلى ارتفاع درجة الحرارة في ولاية اكساس لنحو 115 درجة فهرنهايت (46 درجة مئوية)، وتسببت في انقطاع متزايد للتيار الكهربائي (وكالة “رويترز”، 22 تموز/يوليو 2022).

أقرّت الناطقة باسم “هيئة استصلاح الأراضي”، باتي آرون، بجسامة المعضلة الناجمة عن تراجع منسوب مياه السد نتيجة الجفاف العام الذي “نشهد استمراره لنحو 23 عاماً في حوض نهر كولورادو وبحيرة ميد، والتي انخفض منسوب مياهها بنحو 28%”. وبلغ معدّل انحسار ارتفاع المياه نحو 140 قدماً منذ عام 2000، أي ما يعادل ارتفاع ثمثال الحرية في نيويورك، بحسب تقرير وكالة “رويترز”.

من خيارات معالجتها لأزمة الجفاف، افادت “هيئة استصلاح الأراضي” بضرورة تقليص حجم استهلاك الفرد للمياه في المناطق الحضرية المكتظة، مثل جنوبي ولاية كاليفورنيا ومدينتي لاس فيغاس وفينكس، فضلاً عن خفض حجم المياه المخصصة لري الأراضي والمحاصيل الزراعية، وما ينطوي عليه من تفاقم أزمة في نقص المواد الغذائية المعروضة ويواكبه ارتفاع ملحوظ في الأسعار.

في جانب المعلومات، شبكتي كهرباء الولايات المتحدة وكندا مترابطتان، وما تتأثر به أحداهما تتأثر به الأخرى وإن بنسب متفاوتة، بيد أن قطاع الكهرباء الأميركي مملوك بالكامل لعدد ضئيل لا يتجاوز 10 من الشركات الخاصة، والتي “تعمل باستقلالية عالية عن بعضها بعضاً”، وتشرف عليها بشكل محدود وزارة الطاقة الفدرالية، توّلد بمجموعها 4.12 تريليون كيلو وات، بنسبة 61% من مصادر أحفورية و19% من الطاقة النووية، و 20% من مصادر متجددة كالرياح والطاقة الشمسية تتصدرها ولاية كاليفورنيا (“هيئة معلومات الطاقة الأميركية”، لعام 2021).

تتضمن شبكات التوزيع الأميركية “أكثر من 7000 مفاعل لتوليد الطاقة، ومئات الآلاف من الأميال الناقلة لخطوط كهربائية عالية التوتر ونحو 55،000 محطة ناقلة” (أسبوعية “يو أس نيوز آند وورلد ريبورت”، 23 أيلول/سبتمبر 2016).

تم تصميم شبكة التوزيع الأميركية لمدة لا تتجاوز 50 عاما، بحسب الخبراء، قبل إدخال تحديثات وإنشاء محطات بديلة موازية لاستيعاب تزايد الطلب على توفير التيار الكهربائي، بل هناك أجزاء منها يفوق عمره 100 سنة، وفق بيانات “المجمّع الأميركي للهندسة المعمارية” وتقييمه، تعززها بيانات صادرة عن “وزارة الطاقة الأميركية” التي رصدت ارتفاعاً ملحوظاً بنسبة 124% في منسوب انقطاع تام للتيار الكهربائي في عموم الولايات المتحدة التي تستهدف نحو 500،000 مشترك على الأقل. واضاف المجمّع العلمي أن تراكم تلك الحالة المأساوية هو نتيجة مباشرة لتقدم عمر شبكات التوزيع وانحسار إجراءات تحديثها.

عند احتساب تراجع نسبة “مخزون الطاقة” للاحتياجات الطارئة لدى الشركات المعنية التي تبلغ نحو 2.3% في ولايات الشمال الأوسط مقابل تنامي الطلب بنسبة 1.7%، وتبنى عليه نماذج موازية في مناطق الكثافة السكانية الأخرى، يقترب المرء من عمق حجم التحدي الذي وصل إلى “مستوى متقدم من المخاطرة” للقسم الغربي من الأراضي الأميركية (تقرير “شركة اعتماد كهرباء أميركا الشمالية”، بتاريخ أيار 2022).

وعبّرت يومية “وول ستريت جورنال” عن الحالة المأساوية لشبكة توليد الكهرباء بعنوان صادم “شبكة توليد الكهرباء الأميركية لا يعوّل عليها تصاعدياً”، فقد ارتفع معدل انقطاع التيار إلى نحو 180 حالة في عام 2020، في حين سجّل أقل من 10 حوادث في عام 2000 (“وول ستريت جورنال”، 18 شباط/فبراير 2022).

المجلة الأميركية المتخصصة بالعلوم الطبيعية اصدرت حكماً أقسى من يومية المال والأعمال بعنوان مباشر “تكرار حوادث انقطاع التيار في أميركا هي أكثر من أي دولة متطورة”، استناداً إلى بحث علمي قدمه مهندس كمبيوتر وكهرباء في جامعة مينيسوتا، تموز/يوليو 2014 (مجلة “بوبيولار ساينس”، 17 آب/أغسطس 2020).

وأوضح تقرير المجلة أعلاه أن إنشاء معظم خطوط الشبكة الراهنة تم في عقد الخمسينيات من القرن الماضي بعمر افتراضي لنحو 50 عاماً، لم يواكب متطلبات التمدد وزيادة الطلب على الطاقة، واكتفى المشرفون عليها بإضافة ما يحتاجونه من مولدات ومعدات أخرى قديمة.

تصطدم سبل معالجة انقطاع التيار الكهربائي المزمنة مع الأولويات السياسية الراهنة، ليس لأجندة الرئيس جو بايدن فحسب، بل لعموم المؤسسة الحاكمة بتركيز أولوياتها على محاربة روسيا لاستنزافها في أوكرانيا، والصين أيضاً. وتراجعت، حكماً، وعود الرئيس الأميركي بإيلاء مسألة مكافحة تلوث البيئة أهمية الصدارة، وتجديد العمل باتفاقيات باريس للمناخ، التي انسحب منها سلفه الرئيس دونالد ترامب.

في السياق عينه، تتقلّص أيضاً طموحات حملة الرئيس بايدن الانتخابية في الاستثمار بالسيارات الكهربائية والتراجع التدريجي عن الاعتماد على مصادر طاقة ملوّثة، وفي ظل ارتفاع مطّرد لكلفة مصادر الطاقة، حال أقرّ بها وزير الطاقة الأميركي، بيت بوتيجيج، بأن طاقة شبكة الكهرباء الراهنة لن تتحمل مزيداً من ضغط مطالب تزويد السيارات الكهربائية بالطاقة.

من الخيارات “المرّة”، التي وضعت المؤسسة الحاكمة نفسها أمامها، إعادة التجديد لشركات التنقيب والحفر عن النفط والغاز، وصرف الأنظار عن التعهدات المتتالية للمسؤولين بالاستثمار في مصادر “طاقة نظيفة”، وذلك أسوة بما يجري لحلفاء واشنطن في دول الناتو التي أضحت على مفترق طرق مؤلم لتوفير الغاز قبل حلول فصل الشتاء، وندوب خيارات البحث عن بدائل طاقة وفيرة ورخيصة لمصادر الطاقة الروسية.