التحليل 08-23-2014

:التحليل

انتفاضة فيرغسون والمواجهة في مزرعة بندي

غليان اميركي تحت الاستقرار المخادع

ظاهرة عسكرة اجهزة الشرطة

          “تجييش اجهزة الشرطة،” او عسكرتها كما اطلق عليها، لم يأتِ عابرا ودون تخطيط. بل كانت الظاهرة ثمرة للعدوان الاميركي واحتلال العراق، 2003، تجسدت عبر اقرار الكونغرس في دوراته المتعاقبة تدفق “ميزانيات غير محددة السقف لشؤون الأمن الداخلي،” مباشرة عقب احداث الحادي عشر من ايلول 2001، فضلا عن حثه البنتاغون “للتبرع” بفائض الاجهزة والمعدات والذخائر، التي بقيت في حوزته بعد انسحابه المتتالي من افغانستان والعراق، لاجهزة الشرطة وخاصة في المدن الكبرى، بصرف النظر ان “توفرت الحاجة لذلك ام لا.” رافق المعدات العسكرية الحديثة المتاحة لاجهزة الشرطة غياب مراقبة حقيقية لتوغل الاجهزة الأمنية مما زاد من معدلات “اعتداء القوات الخاصة للشرطة (طواقم سوات) بمعدل 137 حادث في اليوم .. فريق من قوات الاقتحام يعتدي على بيت آمن ويغرق قاطنيه والاحياء المحيطة بالارهاب،” ثبت في عديد من المناسبات انه ارتكب فعلته ضد عنوان وهدف خاطيء

          للدلالة على الميزانيات الهائلة المرصودة، اوضحت صحيفة “لوس انجليس تايمز،” 28 آب 2011، ان “الاجهزة الأمنية المحلية والفيدرالية تنفق ما معدله 75 مليار دولار سنويا على شؤون الأمن الداخلي.” منظمة “الاتحاد الاميركي للدفاع عن الحريات المدنية” اصدرت تقريرا لها في هذا الشأن في شهر حزيران 2014، تحذر فيه من “تجييش” الاجهزة الأمنية اذ “اضحت الولايات المتحدة في هذه الايام لوحة مفرطة في العسكرة، عبر رصد برامج انفاق على الصعيد الرسمي من شأنها ايجاد الحوافز لاجهزة الشرطة المحلية وتلك التابعة للولايات لاستخدام اسلحة هجومية غير مبررة وتكتيكات استنبطت للتطبيق في ميدان المعارك العسكرية”

          نشر عدد من الصحف الاميركية (نيويورك تايمز وكريستيان ساينس مونيتور) مؤخرا تقارير متتالية نقلا عن احصائيات وزارة الدفاع، البنتاغون، توضح فيها “بعض” الاسلحة التي تلقتها اجهزة الشرطة منذ عام 2006، التي بلغت”435 عربة مدرعة، 533 طائرة، 93,763 بندقية هجومية، و432 شاحنة مدرعة مقاومة للالغام .. مركبات برية وبحرية وطائرات .. اسلحة ومعدات للرؤية الليلية واجهزة الكمبيوتر، البزات الواقية من الرصاص والاقنعة الواقية من الغاز، وبضع مئات من معدات كواتم الصوت، و 200,000 طلقة رصاص من عيارات مختلفة.” وذلك في اعقاب مصادقة الكونغرس على برنامج لنقل المعدات العسكرية الثقيلة من ثكنات الجيش الى اجهزة الشرطة، بلغت قيمتها نحو 4.3 مليار دولار. في الجانب الاقتصادي، يقدر الخبراء ان “الشركات والمصانع والموردين والمنتفعين” من تلك “الهبة” سيرتفع معدل حجم سوق تبادلها التجاري ليبلغ نحو 31 مليار دولار مع نهاية العام الجاري

          الجهاز الفيدرالي المختص بالاشراف سنويا على تسليح اجهزة الشرطة المدنية الاميركية، مكتب دعم اجهزة تطبيق القانون – ليسو، اوضح في نشرته نهاية عام 2011 حجم المعدات التي نقلها من وزارة الدفاع الى اجهزة الشرطة بالقول “مثّل عام 2011 سنة قياسية لمعدل نقل ملكية المعدات من مخزون القوات العسكرية الاميركية الى اجهزة الشرطة المنشرة في البلاد،” تجاوزت قيمتها 500 مليون دولار للعام المذكور

          ظاهرة العسكرة ليست وليدة اجواء ايلول 2001، بل هي نتاج هاجس الدولة بكافة اجهزتها “لبسط الأمن والنظام” التي ولدتها المظاهرات والاحتجاجات الشعبية لنيل المساواة والحقوق المدنية والقضاء على الممارسات العنصرية في عقد الستينيات من القرن الماضي؛ واتخذت عناوين متعددة منذئذ “الحرب على المخدرات،” و “مكافحة الفقر” ابان عهد الرئيس الاسبق رونالد ريغان التي لم تسفر الا عن زيادة معدلات الفقر وتوسيع الهوة الاجتماعية بين شريحة الاثرياء والمحرومين. المحصلة العامة ادت الى عسكرة العقلية الاميركية وتوجيه كافة اسلحتها وممارساتها “ضد الاقليات والمناطق الفقيرة بصورة لا تتناسب مع حجمها الاجتماعي” وابعاد ارهاصاتها واحتجاجاتها عن التداول العام

          واوجز الصحافي الشهير، غلين غرينوولد، الظاهرة الأمنية الاميركية بالقول ان “شبكة التجسس والأمن الداخلي الهائلة، والحواجز الاسمنتية واجهزة التدقيق في الهوية بالغة التطور اضحت أمرا واقعا وباقية في حياتنا اليومية .. على غرار المجمع العسكري الصناعي الذي تبلور الى ظاهرة ثابتة وقوية في المشهد الاميركي”

شراكة وثيقة بين اجهزة الأمن الاميركية و”اسرائيل”

          تم الكشف مؤخرا عن العلاقة العملية الوثيقة بين جهاز الشرطة في مدينة فيرغسون و”اسرائيل” التي استضافت رئيس قسم شرطة المدينة، تيموثي فلينتش، لحضور دورة “لمكافحة الارهاب .. واستيعاب الاساليب القاسية التي تطبقها اجهزة الشرطة هناك،”  وقام الصحفي الشهير غلين غرينووالد بنشر نص الدعوة الموجهة بتاريخ 25 آذار 2011

الترابط بين اساليب بالغة القسوة لشرطة مدينة فيرغسون وممارسات جيش الاحتلال الصهيوني لم تغب عن بال الاهالي والمراقبين واصحاب الضمائر الحية، الذين وصفوها بأنها “تعيد الى الذاكرة مشاهد ما يحدث في غزة،” اي ان اجهزة الشرطة “تفكر وتتصرف وترتدي زي جيشٍ غازٍ محتل مدجج بالسلاح” يواجه مواطنين عزلا خرجوا للتظاهر سلميا احتجاجا على اوضاعهم الاقتصادية المزرية، بالدرجة الاولى، وعلى تهميشهم اجتماعيا. واشاد العديد منهم على مواقع التواصل الاجتماعي بارشادات الفلسطينيين في قطاع غزة يشاركونهم خبرتهم في كيفية التغلب على عبوات القنابل المسيلة للدموع

          وجاء في الوثائق ان جهازي الشرطة في مدينة سانت لويس الكبرى (العاصمة) تلقيا تدريباتهما من قبل “القوى الأمنية الاسرائيلية،” واللذين تصدت قواتهما للمتظاهرين السلميين منذ البداية بقسوة وبشاعة حفزت المراقبين على تسليط الاضواء على البعد “الاسرائيلي” في عسكرة الاجهزة الأمنية الاميركية، فضلا عن اعتداءات شرطة ميزوري على اطقم الصحافيين دون مبرر – كما يجري معهم في فلسطين المحتلة

          في التفاصيل ايضا، رعى “المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي – جينسا،” وهو منظمة اميركية، سلسلة دورات تدريبية لاجهزة الشرطة وارسال اطقمها الى “اسرائيل” للتدرب، كان احدهم مساعد رئيس جهاز الشرطة في فيرغسون، جوزيف موكوا، في شباط 2008، والذي اعتلى منصب رئيس الجهاز في مدينة سانت لويس لاحقا قبل اضطراره للاستقالة بعد الكشف عن تورط جهازه وقرينته في استخدام السيارات المصادرة لاغراضهم الشخصية

          واوضحت نشرة صادرة عن “المعهد اليهودي” المذكور طبيعة برامج التدريب التي بدأت منذ عام 2002 “شارك فيها نحو 100 من رجال الشرطة،” قائلة ” راقب الاميركيون الاساليب والتقنيات التي تسخدمها قوات الشرطة الاسرائيلية في الحيلولة دون وقوع عمليات انتحارية والتفاعل معها ومع انماط اخرى من الارهاب تضمنت سبل ابطال مفاعيل المتفجرات، الطب الشرعي، السيطرة على الحشود الجماهيرية، وتنسيق الخطاب مع الاجهزة الاعلامية وعموم الشعب”

          ويمتد اخطبوط الاختراق “الاسرائيلي” للاجهزة الأمنية الاميركية ليشمل “عصبة مكافحة التشهير اليهودية،” اذ اوضحت ان رئيس جهاز شرطة مدينة سانت لويس سالف الذكر، تيموثي فلينتش، استجاب لدعوة العصبة والمشاركة في “الندوة  القومية لمكافحة الارهاب” التي امتدت طيلة اسبوع كامل “حضره عدة رؤساء لاجهزة الشرطة الاميركية للتعرف عمليا على التكتيكات والاستراتيجيات الاسرائيلية مباشرة من قادة كبار في جهاز الشرطة الاسرائيلية، وخبراء آخرين في اجهزة الاستخبارات والأمن الاسرائيلية، وجيش الدفاع الاسرائيلي” ايضا، حسبما افاد موقع العصبة الالكتروني. اضافة لما تقدم، “يدعى” ضباط عسكريون “اسرائيليون” لتقديم المساعدة والمشورة لاجهزة الأمن في المطارات ومراكز التسوق الاميركية

بعد الكشف عن التكتيكات “الاسرائيلية” التي اعتمدها جهاز شرطة مدينة سانت لويس، اصدر حاكم الولاية، جاي نيكسون، اوامره بسحب المسؤولية من الشرطة وايكالها لشرطة الطرقات السريعة التي تتبع امرته مباشرة

          عضو الكونغرس الجمهوري المشاكس عن ولاية ميتشيغان، جستين أماش، علق على الممارسات القمعية “الاسرائيلية” في فيرغسون قائلا “المشاهد والتقارير الواردة من فيرغسون مرعبة. هل هي ساحة حرب ام مدينة اميركية؟ الحكومة (المركزية) تصعد وتيرة التوترات القائمة باستخدامها معدات وتكتيكات عسكرية.” (13 آب 2014). كما اوضحت “مؤسسة حرية الصحافة” الرصينة ان الاساليب العسكرية المطبقة “لا تستهدف المتظاهرين فحسب، بل اولئك الذين ينقلون الصورة اعلاميا ايضا”

          السؤال البديهي الذي يتبادر الى الذهن هو كيف استطاعت الاجهزة الامنية “الاسرائيلية” اختراق وممارسة نفوذها على المؤسسة الأمنية الاميركية

          بداية، التسيق بين الطرفين لم يكن وليد اللحظة، بيد ان المهام المضاعفة المترتبة على اجهزة الشرطة عقب هجمات الحادي عشر من ايلول 2001 شكلت حافزا للجانب الاميركي التوجه نحو دول اخرى ومنها “اسرائيل” لاكتساب مهارات في “مكافحة الارهاب.” واستغل “المعهد اليهودي – جينسا” و”عصبة مكافحة التشهير” هاجس الاميركيين للأمن وفرصة لتوددهما لدى الاجهزة الأمنية الاميركية المختلفة، ووفرتا رحلات مجانية “لزيارة اسرائيل” لشريحة كبار الضباط في تلك الاجهزة، فضلا عن عقد مؤتمرات ذات طابع أمني في الولايات المتحدة تتحملان كامل تكلفتها من سفر واقامة وتعويضات

          وتدريجيا جرى نسخ الطبائع “الاسرائيلية” من قبل المدعوين، لا سيما قاعدة تمييز وفصل قوات الشرطة عن محيطها السكاني وعدم انتمائها له، والتصرف وفق ما تتطلبه قوة احتلال من افراط في القسوة لتوفير الهدوء بصرف النظر عن الكلفة المرافقة. تعزز هذا الفهم الملتوي لدى اجهزة الشرطة في مدن واحياء تعج بالاقليات والافارقة الاميركيين، مثل مدينة فيرغسون، التي يقطنها اغلبية من السود بينما جهاز الشرطة غالبيته العظمى من البيض

          المنظمات الاهلية ولجان الحقوق المدنية رصدت منذ زمن ارتفاع معدلات قسوة ووحشية قوى الشرطة في تعاملها مع الفئات والاحداث المختلفة، فضلا عن تنامي مشاعر عدم ثقة المواطنين باجهزة الشرطة والأمن، مما يجسد “الاساليب الاسرائيلية العدائية التي تدربوا عليها. وجاء في احدث استطلاع للرأي، اجري في الفترة من 11 الى 14 آب الجاري، جاءت النتيجة بنسبة 43% تدين ارتفاع معدلات استخدام قوى الشرطة للاسلحة الفتاكة، مقابل معارضة 32%

تفسخ نسيج المجتمع الاميركي

السمعة المشوهة لاجهزة الشرطة ليست الا واحدة من جملة ازمات يعاني منها المجتمع الاميركي، لتنضم الى مشاعر القلق وعدم الثقة من اداء الحكومة الاميركية باكملها. واوضح استطلاع للرأي اجرته شبكة (سي ان ان) للتلفزة، مطلع الشهر الجاري، ان نسبة لا تتعدى 13% من الاميركيين يضعون ثقتهم بالحكومة المركزية، وهي ادنى نسبة مسجلة منذ نصف قرن من بدء الاهتمام بذلك البعد الشعبي. واضافت نتائج الاستطلاع ان نحو 10% من الاميركيين لا يثقون مطلقا بالحكومة، وهي اعلى نسبة للآن، بينما عبر نحو 76% من المستطلعة اراؤهم عن بعض الارتياح ومشاعر الثقة النسبية بعض الاحيان، والتي جاءت في المرتبة الثانية منذ بدء التوثيق

ادرك الرئيس اوباما تدهور الاوضاع الاقتصادية وتجلياتها على مجمل السياسة الاميركية، وتراجع تحقيق “الحلم الاميركي” في تحقيق الازدهار والنمو كما اطلق عليه. وقال في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز، منتصف شهر تموز 2013، ان “التدهور مستمر منذ نحو 20 او 30 عاما، وقبل وقوع الازمة المالية” عام 2008. واضاف ان “اتساع الهوة وعدم مساواة الدخل فضلا عن التداعيات التي خلفتها الازمة المالية قد اسهمت جميعها في تهتك النسيج الاجتماعي وتقويض حلم الاميركيين بالفرص الممنوحة”

المجتمع الاميركي منهك بفعل ثقل هموم الحياة اليومية، وتزداد معدلات الاستقطاب والتطرف، لا سيما “في وجهات النظر السياسية والمعتقدات الدينية.” بل قفز عامل تراجع الدخل الى مرتبة اعلى من العامل العرقي في التجمعات التي تمارس الفصل العنصري، كما هو الحال في معظم الولايات الجنوبية

اضافة لما تقدم، لا يزال المجتمع يعاني من ارتفاع معدلات البطالة، وبطء الاداء الاقتصادي، وتقلص الطبقة الوسطى، وتعاظم مشاعر المواطنين بأن بلدهم “يديرها حفنة ضئيلة من النخب السياسية والاقتصادية.” اما الفصل العنصري وسوء معاملة السود من قبل اجهزة الشرطة المختلفة فحدث ولا حرج. اذ جاء في تقرير لمكتب التحقيقات الفيدرالي عام 2012، جرى على امتداد سبع سنوات، ان معدل قتل مواطن اسود البشرة على يد رجل شرطة ابيض بلغ مرتين في الاسبوع

جدير بالذكر ان التقارير الصادرة عن هيئات حكومية ومنظمات شبه رسمية ينبغي النظر اليها بحذر شديد لتحيزها وتغاضيها عن التصريح والالمام بكافة جوانب الحدث، لا سيما “في عدد الضحايا السود العزل من السلاح.” وجاء في تقرير نشرته اسبوعية “مذر جونز،” 15 آب 2014،شككت فيه بكافة التقارير الرسمية قائلة “لسنا على يقين من قيام اي هيئة (حكومية) تقصي حوادث اطلاق الشرطة النار والتي تؤدي لمقتل المدنيين العزل بصورة منتظمة وشاملة.” وجاء في دراسة صادرة عن منظمة حقوقية للسود بتاريخ 13 نيسان 2014، “حركة مالكولم اكس الشعبية،” ان معدل مقتل شاب/ة من السود على يد رجال الشرطة من البيض بلغ ضحية واحدة كل 28 ساعة، استنادا الى احصائيات عام 2012 الذي شهد مقتل 313 مواطن اسود

فيرغسون ومزرعة بندي في نيفادا

الغالبية العظمى من المتظاهرين في مدينة فيرغسون هم من السود – الافارقة الاميركيين، يميلون للتيارات السياسية الليبرالية؛ بينما مؤيدو المزارع بندي، نيسان 2014، غالبيتهم الساحقة من البيض ينتمون للتيارات السياسية المحافظة والمتشددة – باستثناء الحارس الشخصي الاسود لبندي. في كلتا الحالتين، ارتدى رجال الشرطة بزاتهم العسكرية القتالية وامتشقوا الاسلحة المعدة لقتال الجيوش

يحفل التاريخ بأمثلة وقوع حدث ما يشعل النار في الهشيم، يطلق ثورة اجتماعية في بعض الاحيان. في فيرغسون، تضامن عدد من التيارات السياسية الليبرالية واليسارية مع المحتجين وشاركوهم “صحوتهم” ضد السلطة؛ بينما مؤيدو بندي جلهم جاء من صفوف الميليشيات اليمينية الذين يتقاسمون العداء الفطري للسلطة المركزية وكانوا على اهبة الاستعداد للدخول في مواجهة عنيفة مع الاجهزة الأمنية الفيدرالية

تنامي مشاعر عدم الثقة من الحكومة المركزية، بكافة تجلياتها، وازدياد وتيرة المواجهات قد تدخل الاحتجاجات في دوامة عنف يصعب السيطرة عليها خاصة اذا حظيت بامتداد ودعم شعبي اوسع، مما ينذر بامكانية ان تجد السلطات نفسها في مواجهة اضطرابات مدنية رئيسة في المستقبل المنظور. لا يستطيع احد التنبؤ بزمن ومكان اشتعال فتيل المواجهة او القوى المنخرطة، بيد لا ينبغي التغاضي عن الحجم الواسع للمتضررين من السلطة المركزية، عند الاخذ بعين الاعتبار التمثيل العرقي الواسع والامتداد الجغرافي وتبلور الوعي السياسي لدى فئات شعبية واسعة

تسارع الاضطرابات في فيرغسون معطوفة على مشاركة قوى شعبية كبيرة من خارج المنطقة الجغرافية اذهل السلطات المركزية التي بذلت كل ما بوسعها لاحتواء الازمة واعادته الى المربع المحلي، وحققت نجاحا آنيا في هذا الشأن. التنازلات الشكلية التي قدمتها، دور اكبر للسلطة المركزية في اجراءات التحقيق والتلميح الى دخولها طرفا في الادعاء القضائي، حالت دون تكرار المشهد في مدن ومراكز سكانية كبيرة تقطنها اعداد معتبرة من الافارقة الاميركيين: فيلادلفيا، شيكاغو، بلتيمور، لوس انجليس، ونيويورك. ادركت السلطة قبل خصومها انها لو تركت الامور على عواهنها فان رقعة الاحتجاجات ستشتعل سريعا كالنار في الهشيم يصعب السيطرة عليها او احتوائها

القوى المهمشة والاقليات المتضررة قد تلجأ للمشاركة في الاحتجاجات التي تجد ارضيتها الخصبة في طيف واسع من القوى السياسية والعرقية، لا سيما بعد توغل التيارات الرسمية اليمينية والليبرالية في اقصاء الاقليات و”المهاجرين غير الشرعيين” دون وازع، واطلاقها العنان للقوى العنصرية والميليشيات اليمينية اخذ زمام المبادرة ضد القوى الاخرى. حينها، سيلجأ الرئيس اوباما الى تعبئة شاملة لقوى الحرس الوطني المختلفة “لمساعدة” الاجهزة الأمنية المختلفة – التي شهدت فيرغسون اولى تجلياتها. قد يعلن ايضا حالة الطواريء في المناطق المشتعلة، كما شهدته فيرغسون، بيد ان ما يحول دون ذلك الخيار هو الثمن السياسي المرتفع وامكانية مفاقمة الامور ودفعها الى حافة الانفجار عكس ما يريد

القانون الاميركي يساوي بين اعلان الاحكام العرفية وحق الفرد المثول امام القضاء والدفاع امام ظروف الاعتقال، مما يدخل عامل القضاء في النظر باحقية ومشروعية الاعتقال. كما ان الدستور الاميركي يخول السلطة المركزية تعليق العمل بحق مثول المتهم امام القضاء، الفقرة التاسعة من المادة الاولى للدستور، “لا يجوز تعليق حق المثول امام المحكمة، الا في حالات التمرد او الاعتداء على السلامة العامة كما يقتضى ذلك.” اي ان الدستور يجيز اعتقال السلطات لأي كان واحتجازه دون توفر الدلائل على خرقه للقانون

المساعي التي بذلها الرئيس اوباما واركان حكومتة، لا سيما في ايفاده وزير العدل شخصيا للاشراف على التهدئة لا ينبغي ان يقودنا الى الاستنتاج بأن الامور عادت الى وتيرتها السابقة؛ فالاضطرابات قد تشتعل في منطقة اخرى في اي لحظة نظرا لأن عوامل التفجير متأصلة في البنية السياسية ذاتها. اضافة لنضوج الظروف الموضوعية لعوامل الانفجار، هناك ايضا بلورة للظروف الذاتية للقوى المتضررة، وان تبدو هامشية للبعض: التشكيلات المختلفة بين السكان الافارقة الاميركيين، خاصة اعادة انتاجها لتنظيم “الفهود السود الجديد” في مدن الكثافة السكانية الكبرى ولديها اسلحة خفيفة؛ والقوى الفوضوية التي برزت بقوة اثناء احتجاجاتها المتكررة والعنفية احيانا ضد سيطرة رأس المال والبنك وصندوق النقد الدوليين، اغلب اعضائها من الفاشيين البيض اختصاصها المظاهرات والعصيان المدني لا سيما امام مؤتمرات الدول الصناعية الثمانية ويتقنون ميزة التعامل مع وسائل التقنية الحديثة اذ قاموا بشن هجمات الكترونية ضد مواقع مدينة فيرغسون الرسمية؛ والميليشيات اليمينية المدججة بالاسلحة. كل من تلك القوى تشكل تحديا بحد ذاتها للسلطة المركزية، حتى وان لم تتشارك او تتقاسم الاهداف فيما بينها

ربما تشكل الميليشيات اليمينية اكبر تهديد للسلطات المركزية نظرا لاعدادها الكبيرة واتساع رقعة انتشارها في عموم الولايات المتحدة، والاسلحة المتعددة التي بحوزتها، سيما وان عددا لا باس به من اعضائها يتقنون استخدام السلاح بكافة انواعه والتكتيكات العسكرية  نظرا لخبرتهم اثناء فترة ادائهم الخدمة العسكرية. اجراءات التحقيق في احداث المواجهة مع السلطة المركزية في محيط مزرعة بندي اشارت الى ضلوع قناص محترف من صفوف الميليشيات والذي اشترك في العدوان على العراق واكتسب مهارة معتبرة، وقام بتوزيع عدد من القناصة تحت امرته على اماكن عدة من المزرعة. الاساليب القتالية التي اظهرتها المجموعة تفوقت على القوة المركزية المنوطة بالسيطرة على الاحداث هناك، مما دفع بالمشرفين في السلطة المركزية الى التراجع وسحب رجالاتهم خشية تطور الاوضاع الى الاسوء

في هذا الصدد، حمل مسؤولون رسميون تلك الميليشيات مسؤولية التعرض لشبكة توزيع الكهرباء في كاليفورنيا، العام الماضي، والذي لا يزال التحقيق جارٍ فيه من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي، والذي استنتج ان الفعلة طبقت عن سبق اصرار وتصميم ونفذت بحرفية عالية

الازمة الاجتماعية تعرّي العنصرية الاميركية الممنهجة

التباينات والاختلافات الجوهرية بين تلك القوى المتضررة من السلطة المركزية قد تجد قاسما مشتركا للتعاون فيمابينها لتحقيق مآربها مع احتفاظ كل منها باستقلاليته عن الآخر. التاريخ البشري حافل بمشاهد وامثلة عديدة لتقاطع المصالح والاهداف بين قوى متضادة في الجوهر والبنية والاسلوب

من نافل القول ان الاجهزة الامنية الاميركية راكمت تجربة معتبرة في تصديها للاضطرابات المدنية، بصرف النظر عن الاساليب القاسية المستخدمة، لا سيما منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية بكثافة في عقد الستينيات من القرن المنصرم. وتجدر الاشارة في هذا الصدد الى اصدار سلاح الجيش الاميركي كراسا بعنوان “تكتيكات الجيش الاميركي: الاضطرابات المدنية، في شهر نيسان من العام الجاري؛ والذي يفصل التجهيزات والتدابير المنوي اتخاذها في حال اندلاع “اعمال شغب واسعة النطاق” في الولايات المتحدة مما يستدعي تدخل القوات العسكرية “لاستخدام اسلحة فتاكة” والتعامل مع الحشود المكثفة للمحتجين. اللافت ايضا في نصوص الكراس انها تلقي جانبا “بالحقوق الدستورية للمواطنين الاميركيين التي تعتبر لاغية وباطلة في ظل حالة الطواريء”

محصلة النظرة الموضوعية بعد كل ما تقدم تشير بقوة الى ان الاوضاع الداخلية الاميركية لا زالت تنعم بالاستقرار النسبي، والاحتجاجات التي اندلعت في فيرغسون تم السيطرة عليها وحالت دون انتشارها لمناطق اخرى، للحظة، لكنها لا زالت تشكل بؤرة اشتعال يصعب التنبؤ بمآلاتها. تلك الاحداث الشعبية، وهي كذلك في فيرغسون، تحاكي ما شهده الاتحاد السوفياتي السابق من احتجاجات توسعت بسرعة واطاحت بالنظام السياسي برمته. ايضا كانت يوغوسلافيا واحة من الاستقرار ومحطة مفضلة يقصدها السياح من كل اماكن المعمورة، لكنها انزلقت سريعا وشهدت اضطرابات مدنية في عقد التسعينيات من القرن المنصرم، اذكاها عنصر التدخل الخارجي من حلف الناتو حتى استطاع من تقسيمها وتشظيها

عند استحضار هذه الخلفية، يمكننا القول ان اندلاع مواجهات واضطرابات واسعة النطاق، بين المواطنين بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم والاجهزة الحكومية في الشق الغربي من الولايات المتحدة هو امر في طريق التطور، وينذر بتشكيل تهديد اضافي للنسيج الاجتماعي الاميركي

التحليل 08-16-2014

:التحليل

 

الموقف الاميركي: عرقلة واحتواء داعش وانقاذ الحلفاء الاكراد

        بعد طول ترقب وانتظار لسبر اغوار مخططات “داعش” لم تحرك فيها الولايات المتحدة ساكنا خاصة للمجازر الموثقة التي ارتكبها في الموصل ومحيطها، وما لبثت ان سارعت اميركا استحضار الخيار العسكري عندما لاح خطر تهديد داعش للسيطرة على مدينة اربيل، تاج المخطط الصهيوني لتقسيم العراق الى كانتونات متعددة؛ وبات على بعد 50 كلم من تخومها. وشكل تقدمه واندفاعه “نكسة استراتيجية” لمشروع فصل اقليم كردستان عن الوطن الأم، سيما لتوارد معلومات تفيد بأن داعش لديه خلايا نائمة في اقليم كردستان

        في خطوة اخرى ذات دلالة، تزامن اعلان الرئيس اوباما شن غارات جوية متواصلة في العراق مع توزيع “داعش” منشورات باللغة الانكليزية في قلب العاصمة البريطانية وعلى بعد امتار قليلة من مقر السفارة الاميركية في لندن. الاعلان وزع بكثافة في شارع “اكسفورد” الشهير والمركزي، وبالقرب من حديقة “هايد بارك،” مبشرا بقيام دولة “الخلافة الاسلامية” داعيا الجمهور الى شد الرحال والهجرة الى هناك اذ ان “فجر عصرٍ جديدٍ بدأ بالفعل.” المنشورات المذكورة قد لا تكون ذات تأثير كبير في السياق العام للحرب الدائرة على وحدة ما تبقى من العراق، الا انها مؤشر على جرأة وعمق تأييد القاعدة الشعبية التي يتمتع بها داعش في الغرب

        برر الرئيس اوباما اعلانه بدء الغارات الجوية على العراق، الذي قد يستغرق “بضعة أشهر،” بانه ضروري “لحماية المصالح الاميركية” هناك. المغيب في اعلانه هو تحديد ماهية المصالح الممثلة في امتيازات شركات النفط الاميركية الكبرى، اكسون موبيل وشيفرون، واستثماراتها الضخمة في اقليم كردستان في تحدي سافر لحكومة بغداد. الناطق باسم البنتاغون، جون كيربي، اوضح اهداف الغزو الاميركي المتجدد بالقول “القوات العسكرية الاميركية ستمضي في مهامها بالمواجهة المباشرة ضد داعش اينما نجده يهدد قواتنا ومنشآتنا”

صحيفة نيويورك تايمز لمحت الى حجم “المصالح” الهائلة بالاشارة الى تواجد “عدة آلاف من الاميركيين،” في اربيل، ولا شك ان عددا لا بأس به منهم ضباطا في وكالة الاستخبارات المركزية. صحيفة الغارديان البريطانية علقت بالقول ان الاميركيين “لم يستطيعوا البقاء خارج (العراق). بالكاد مضى عامين على انسحاب القوات الاميركية من العراق، والآن عادوا للقتال مرة اخرة. وجاء الرئيس اوباما في المرتبة الرابعة على التوالي من الرؤساء الاميركيين الذين صادقوا على العمليات العسكرية في العراق” بمعزل عن تفويض من الامم المتحدة. (عدد 13 آب الجاري)

بعبارة اخرى، جاء تطبيق “سياسة الحرب الكونية على الارهاب” مفتوحة الأجل استكمالا للمخططات السابقة لفرض السيطرة الاميركية المطلقة على موارد المنطقة، وهذا يدحض مزاعم اركان الادارة الاميركية، لا سيما سفيرتها لدى الامم المتحدة، سامانثا باور، التي ما برحت تردد تقديس “مبدأ مسؤولية الحماية” للاميركيين اولا، دون ان يرف لها جفن على حجم الضحايا الابرياء الذين تسببت السياسات الاميركية بابادتهم، صغارا وكبارا

القتال في العراق والعين على سورية

مجلة “الايكونوميست” الرصينة عنونت غلاف عددها الأخير “العودة الى العراق،” معلنة تأييدها السافر لتجدد الغارات الاميركية لعرقلة تقدم “داعش،” وبعد نجاحها قد تجد “الولايات المتحدة مهمتها تختزل في تنفيذ غارات جوية متباعدة لمعاقبة واحتواء داعش.” وحثت زعماء الدول الغربية قاطبة “على ضرورة تهيئة الرأي العام في بلدانهم لخوض عمليات عسكرية طويلة الأجل في ذاك الجزء من العالم”

الاخطر ان تقرير المجلة يمهد الارضية لاستكمال الغارات الجوية في سورية، قائلة “من غير المرجح ان تتمكن الولايات المتحدة من تدمير او احتواء الظاهرة الجهادية، في المدى البعيد، دون اعداد نفسها للتدخل في سورية؛” بحجة ملاحقة تشكيلات داعش. جاء ذلك بالتساوق مع تصريحات وزيرة الخارجية السابق هيلاري كلينتون التي تصر في تصريحاتها الاخيرة انه كان يتعين على الولايات المتحدة قصف الاراضي السورية قبل العراق. واضافت الايكونوميست “عاد الاميركيون للقتال البري، وستطول اقامتهم لفترة مقبلة”

النخب الفكرية الاميركية ممثلة بأحد اهم اركنها، مجلس العلاقات الخارجية، حث رئيسه ريتشارد هاس الادارة الاميركية على “القيام بشن غارات متواصلة ضد داعش في كل من العراق وسورية. الحدود القائمة ليست ذات أهمية .. الهدف هو وقف (اندفاع) داعش وايضا انجازه بوسيلة من شأنها تفادي ان تصبح ايران هي المستفيدة.” (مقال نشرته يومية “فاينانشال تايمز” البريطانية في 12 آب)

ما تقدم من عرض كان ضروريا للدلالة على النوايا الحقيقية المبيتة للادارة الاميركية، ليس في العراق فحسب، بل ابقاء سورية في صلب دائرة استهدافها. ضمن هذا السياق ينبغي قراءة تأجيج الخلافات الداخلية لنظام ارست الولايات المتحدة أسس المحاصصة الطائفية، ورمت بعرض الحائط نتائج الانتخابات “الديموقراطية” الاخيرة التي صدعت العالم بها واصرت على الاطاحة برئيس الوزراء نوري المالكي لتصفية حسابات سابقة معه وعلى رأسها: اصراره على رحيل كافة القوات الاميركية من العراق عام 2011، ورفضه عرضا اميركيا لبقاء قوات عسكرية في العراق قوامها 10 آلاف عسكري على الاقل؛ وموقفه المؤيد لسورية وحكومتها في محاربة قوى المعارضة السورية المسلحة المدعومة اميركيا. كما ان البعد الاقتصادي لم يكن غائبا عن اللوحة لا سيما في “العطاءات النفطية” التي اقدم عليها العراق والتي “لم تحفظ لواشنطن حصة الاسد” لشركاتها كما رغبت

هذا الصراع الخفي بين نوري المالكي، بصفته الرسمية وفق صلاحياته كرئيس للوزراء كما صاغها الدستور الذي وضعته اميركا، ينبغي اخذ عناصره بعين الاعتبار للتوقف على حقيقة التوجه الاميركي في تشظي العراق والحيلولة دون تحقيق شبح سقوط الاقليم الكردي، وتسليحه ودعمه برا وجوا

هشاشة الوضع العسكري للاكراد

 اقرت صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير مطول، 14 آب، بحرفية قوات داعش “اذ تتسم الجماعة بالدهاء والتطور ولديها بنية تحتية فاعلة قد تستمر لسنوات قادمة.” واضافت ان الغارات الجوية المكثفة التي تشنها الولايات المتحدة “قد توقف توسع داعش لكنها لن تلحق به الهزيمة”

واكد عقم القصف الجوي مدير العمليات في هيئة الاركان المشتركة، الفريق ويليام مايفيل، بالقول ان “المأزق يشير الى انتفاء الفعالية من الغارات الجوية المحدودة كالتي شنت في الايام القليلة الماضية لوقف اندفاع داعش وتوغله عميقا داخل الاراضي الكردية.” (تصريح لصحيفة “ستارز آند سترايبس” للشؤون العسكرية)

واضاف مايفيل ان بلاده “تنوي توفير اسلحة فعّالة والتي باستطاعتها تدمير العربات العسكرية الاميركية ومعدات ثقيلة اخرى” استولى عليها داعش، اذ ان “قادة القوات الكردية اشتكوا ان الاسلحة الخفيفة لدى قواتهم عاجزة عن اختراق المدرعات الاميركية.” ومضى بالقول ان المعدات الاميركية وحدها لن تفي بالغرض سيما وان قوات البيشمرغة الكردية تستخدم صواريخ مضادة للدروع روسية الصنع، من طراز 14.5 و 12.5 ملم، مما “يتعين على الولايات المتحدة الاستعانة بحلفاء اقليميين مثل مصر لتوفير ذخائر اضافية روسية الصنع”

لا يساور القادة العسكريون الاميركيون الشك في تواضع فعالية الدعم الاميركي للاكراد بالاسلحة والذخيرة، بل يدركون انه يتعين عليهم نشر مزيد من القوات الخاصة في المناطق الكردية في تباين فاصل مع وعد الرئيس اوباما بأنه “لن يرسل قوات تنخرط في القتال البري” هناك؛ ومقاربة مديات الدعم المطلوب دون المجازفة بدخول قوات عسكرية غربية لانجاز المهمة، سيما وان تجربة التدخل في العراق عام 2003 لا تزال ماثلة حية التي استوجبت تدخل قوات اميركية خاصة كثيفة في الجانب الكردي آنذاك، عقب تراجع تركيا توفير اراضيها كقاعدة انطلاق للغزو الاميركي. الجهد القتالي الاكبر كان من نصيب القوات الاميركية والغربية، لا سيما الكتيبة الثالثة للقوات الاميركية الخاصة، وسخرت قوات البيشميرغة الكردية لمهام تطهير حقول الالغام ودعم القوات

في اثناء المواجهات مع الجيش العراقي آنذاك، اشتبكت القوات الخاصة الاميركية مع القوات المدرعة العراقية، لا سيما وحدات “القبعات الخضر” التي استخدت قذائف مضادة للدروع من طراز “جافلين” بدعم من سلاح الجو؛ بينما بقيت قوات البيشميرغة في الخلف تنتظر انتهاء الاشتباك. واصدر القادة العسكريون اوامرهم لبعض عناصر القوات الخاصة التراجع خلف الخطوط لاعانة القوات الكردية والتي استهدفت بغارة جوية اميركية عن طريق الخطأ

الاداء العسكري المتواضع للاكراد امام داعش، حفز الولايات المتحدة لتبؤ مركز صدارة التصدي المباشر. تجد القوات الاميركية نفسها تكرر تجربة الماضي القريب بالاعتماد المتزايد على تشكيلات قواتها الخاصة في هذا الشأن، عوضا عن القوات التقليدية المجهزة لتلك المهام. تلك هي المعضلة التي تواجه الرئيس اوباما وصناع القرار: الالتزام العلني بعدم انخراط القوات البرية في القتال، ومأزق التصدي الفعال لداعش والاحتفاظ بالسيطرة على الارض وهي من مهام القوات التقليدية. بل ان افضل ما تسطيع الولايات المتحدة تحقيقه في المواجهة ضد داعش هو التوصل لحالة تجميد الاوضاع كما هي عليه، بيد ان تلك المغامرة ليست مضمونة النتائج

اللوبي الكردي في واشنطن

منذ زمن بعيد وظف اقليم كردستان موارد كبيرة لانشاء ما يسمى “باللوبي الكردستاني” في واشنطن، لاستدرار عطف صناع القرار ودعم مآربه في تحقيق استقلال الاقليم والتحكم بموارده النفطية. في هذا السياق برز اسم السفير الاميركي الاسبق في بغداد بعد الاحتلال، زالماي خليل زاد، برفقة المستشار الاسبق لمجلس الأمن القومي الجنرال جيمس جونز، كثنائي معتبر للترويج لمصالح اقليم كردستان لدى الدوائر الاميركية. بالاضافة للثنائي المذكور، دأبت قيادة اقليم كردستان على الاستثمار في عدد من الشركات والمؤسسات الاميركية المختصة بالعلاقات العامة وذات النفوذ في اروقة الكونغرس، من أهمها مكاتب محاماة ضخمة، “باتون بوغز،” تنفق عليها بضع ملايين من الدولارات سنويا (راجع تقرير يومية “فورين بوليسي” عدد 13 آب الجاري)

واوضح التقرير المذكور ان جهود اللوبي “اثمرت في اعلان البيت الابيض بدء حملة قصف جوي في مناطق الاقليم” ضد قوات داعش، “ونتيجة مباشرة للعلاقات الخاصة التي تربط واشنطن بقادة دولة كردستان المستقلة عمليا ..” بل “بدأت الحكومة الاميركية الوفاء بالتزاماتها بتسليح الاكراد .. الذين يتمتعون بدعم عدد من الاصدقاء المؤثرين في واشنطن.” من هؤلاء “الاصدقاء” يبرز عضوي الكونغرس الجمهوري جو ويلسون، ولاية ساوث كارولينا، والممثل السابق عن ولاية تنسي لينكولن دايفيس، اللذين اسسا “التجمع الكردي الاميركي،” عام 2008 كحاضنة لاستقطاب دعم “مسؤولين سابقين في الحكومة الاميركية تشمل وزارتي الخارجية والدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية، اضافة لمسؤولين سابقين في الحزبين الجمهوري والديموقراطي”

لم يعد سرا ان خليل زاد يمتلك استثمارات نفطية واقتصادية اخرى في اقليم كردستان، اضافة لرفيقه جونز. بل ان عددا من كبار القادة العسكريين السابقين “يحتفظون بمصالح واستثمارات مباشرة في حقول النفط الكردية .. او تسجيلها عبر زوجاتهم” تفاديا للاحراج والمسائلة القانونية، وفق ما اوضحه المسؤول السابق في البنتاغون مايكل روبين

واضاف تقرير “فورين بوليسي” انه اكتشف لاحقا ضلوع السفير الاميركي السابق لدى بغداد، بيتر غالبريث “في استثمارات ضخمة في احد آبار النفط الكردية عبر شركة نفط نرويجية،” ويشغل حاليا منصب “مستشار رئيسي في شركة استشارات يملكها خليل زاد، اضافة لمنصب المدير التنفيذي “للمجلس الاميركي الكردي التجاري”

اميركا تطيح بالمالكي ليصعد مساعده العبادي

كلف البرلمان العراقي بتوفير المسوغات القانونية للاطاحة بزعيم الكتلة الاكبر فيه، نوري المالكي، برفضه ترشيحه لولاية ثالثة جديدة لمنصب رئاسة الوزارة، وأتى بمساعده حيدر العبادي كحل مفضل روجت له واشنطن. واسفر التجاذب والصراع المتصاعد الى قبول المالكي تنحيه لصالح مساعده كي يجنب حزبه والبلاد ازمة سياسية هي في غنى عنها سيما وان الاولوية الراهنة تنصب على حشد الجهود لمواجهة داعش

وسارع الرئيس اوباما واركان ادارته الى تهنئة العبادي، وتلاه تهاني جاءت من طهران على لسان رئاسة مجلس الأمن القومي. وارفق اوباما وحكومته رسائله بالتشديد على ضرورة توسيع هامش آلية الحكم وافساح المجال امام مشاركة اقوى “للسنة والاكراد،” عملا بنصوص الدستور الطائفي. الثابت ان القوى الكردية فقدت حوافز انخراطها في الحكومة بشكل اوسع على ضوء التطورات الاخيرة واحياء طموحات قادتهم بالاستقلال واعلان الدولة. اما “السنة” ممثلين بالعشائر العراقية التي دعمت داعش في بداية الأمر، نكاية بحكومة المالكي، فمن المرجح تبديلهم لمواقعهم بعد رفضهم لنمط حكم داعش الاستبدادي

نظريا، ستحظى حكومة العبادي بدعم اميركي، ليس لمصلحة العراق بالضرورة، بل لارساء مظاهر الاستقرار في البداية، كما اوضح وزير الخارجية جون كيري بقوله ان بلاده “على اتم الاستعداد للنظر بتوفير دعم سياسي واقتصادي وأمني لمساعدة الحكومة العراقية الجديدة”

في الشأن العسكري استدرك كيري موضحا ان الولايات المتحدة “ستراقب ما سيطلب منها مستقبلا من وسائل الدعم من الحكومة وستنظر فيها تباعا،” مستبعدا انخراط مزيد من القوات العسكرية الاميركية. هذا التوجه يقود الى الاستنتاج ان الولايات المتحدة لن تترك العراق “يعيد ترتيب اوضاعه سلميا” في اطار الدستور “الفيدرالي” الذي صاغته له، بل الثابت ان اميركا ليست معنية بالحفاظ على وحدة العراق وضمان سيادته على اراضيه

خصوم الرئيس اوباما من الحزب الجمهوري، بشكل خاص، وبعض اركان الحزب الديموقراطي يتهمونه بأن سنوات ولايته “شهدت تراجعا جديا للقوة (العسكرية) الاميركية عبر العالم .. وضروة اعادة الاعتبار لقوة وهيبة الولايات المتحدة. اسبوعية “تايم” حرضت قراءها على ان “الرئيس اوباما يميل للتردد بعوضا عن اللجوء لاستخدام القوة العسكرية، والنتيجة ازمات متلاحقة.” وكأن التدخلات العسكرية والاقتصادية والاغتيالات بطائرات الدرونز هي اوجه “التراجع

تلك القوى، وهي مؤثرة ولها اوزان معتبرة، ما برحت تستعيد اخفاق السياسة الاميركية في سورية، وترى ان الغارات الجوية ضد داعش ما هي الا وسيلة الرئيس اوباما لاستعادة هيبة اميركا في العراق، “واضحت بديلا عن فشله في سورية”

التحليل 08-09-2014

:التحليل

قراءة اولية في الجوانب العسكرية للعدوان على غزة

          هل انتصرت المقاومة الفلسطينية؟ الاجابة مدوية برسم اميركا وبريطانيا، كما سيتضح لاحقا، وعودة نتنياهو منكسرا يجر ذيول الخيبة وانحسار الغطرسة وحالة من الارتباك والتخبط

قبل الاعلان عن هدنة وقف اطلاق النار لمدة 72 ساعة، ساد قلق معلن بين الاوساط الاميركية، في المؤسسة الحاكمة والنخب الثقافية والسياسية والاعلامية على السواء، لحجم الخسائر العسكرية “الاسرائيلية” وتواضع اداء القبة الحديدية وعدم قدرة الكيان الصهيوني على حسم نتيجة عدوانه على قطاع غزة ضمن المهلة الزمنية القصيرة الممنوحة، حتى بعد تمديدها، ودخول قوات “النخبة” من قواته الخاصة والمفاجآت الميدانية التي تكبدتها على ايدي المقاومة الفلسطينية

          جريدة “نيويورك تايمز” قالت بصريح العبارة ان المقاومة “حققت نصرا كبيرا،” عدد 6 آب الجاري. واوضحت ان صواريخ المقاومة اغلقت مطار اللد “شريان الحياة للعالم الخارجي،” لأول مرة دون ان تستطيع “اسرائيل” الرد ميدانيا سوى تدمير منازل المدنيين والحاق مزيد من الخسائر البشرية بينهم، مما “يؤكد على قدرة المقاومة الحاق اضرارا اقتصادية باسرائيل”

         النشرة العسكرية الاسبوعية المتخصصة، جينز، اشارت في عنوان مقالها الى “المقاومة الفلسطينية تكبد القوات الاسرائيلية خسائر بالغة في غزة،” عدد 1 آب الجاري، وان نحو 40% من جنودها القتلى لقوا حتفهم نتيجة اصابتهم بالقذائف الصاروخية المضادة للدروع “بالرغم من تكتم الناطق العسكري على كيفية مقتل الجنود” (عدد 30 تموز). واوضحت ان العامل الحاسم في الاداء المقاوم “يعود الى تطبيق تكتيكات حزب الله اللبناني .. واستخدام اساليب واسلحة متطورة نسبيا لتوريط القوات الاسرائيلية في قتال يجري على مسافات قريبة واستطاعت تكبيد (الغازي) خسائر كبيرة”

وكشفت ايضا ان المقاومة الفلسطينية اطلقت 3،712 قذيفة صاروخية، بمعدل 128 صاروخا يوميا على امتداد 29 يوما قبل استئناف المعركة، منها نحو 356 صاروخ اطلقت على القوات البرية المتوغلة في قطاع غزة؛ وان القبة الحديدية  “اعترضت نسبة صواريخ اقل من جولة عامود السحاب،” عام 2012.  واضافت ان زخم اطلاق الصواريخ في المواجهة السابقة آنذاك سجل معدلات اعلى اذ بلغت اطلاق 188 صاروخا في اليوم

         وفندت الاسبوعية المختصة، جاينز، اداعاءات “اسرائيل” بان خططها الحربية حققت اهدافها مشيرة الى اضطرارها تعديل تعريفها للاهداف المقصودة: القضاء على حركة المقاومة المسلحة، ثم تدمير الانفاق التي لم ترد في الخطاب السياسي كهدف للعدوان. بل إن صمود المقاومة في غزة لفترة طويلة لم يكن متوقعاً لدى أوساط صناع القرار.ونُقل عن احد القادة العسكريين “الاسرائيليين” قوله ان هدف القضاء على المقاومة المسلحة “سيتطلب بقاء (اسرائيل) في القطاع نحو سنتين،” مع ما يرافقه من تراكم سيل الخسائر بين صفوف الجنود الذين سيصبحون هدفا سهلاً لحرب العصابات، فضلا عن الخسائر المادية في جانب العربات المدرعة وناقلات الجند، مما اضطر الكيان الصهيوني الى سحب ناقلة الجند المدرعة اميركية الصنع من طراز M-113 من ارض المعركة في وقت مبكر من “حربه البرية” عقب الفتك باحداها ومصرع جنديين احدهما يحمل الجنسية الاميركية. (راجع تقرير المركز بتاريخ 25 حزيران 2014)

         الآلة الاعلامية “الاسرائيلية” وامتداداتها الغربية كرست صورة “الجيش الذي لا يقهر” في الزمن الغابر، منذ بداية الاعتداءات على قطاع غزة في خمسينيات القرن المنصرم، واعتماده استراتيجية القوات المدرعة القادرة على تدمير كل شي في طريقها، مرورا بعدوان عام 1967 والاجتياحات المتتالية للجنوب اللبناني، وانتهاء بانكفائه عن ارض الجنوب وانتصار المقاومة في 25 أيار 2000؛ وبدء عصر الانكسارات والهزائم “الاسرائيلية” في كافة المواجهات التي تلتها: 2006، 2008/2009، 2012 و2014

         جهد الخبراء العسكريون، خاصة في الدول الغربية، الى تبرير تعثر القوات البرية “الاسرائيلية” المدرعة في رمال قطاع غزة بأنه يعود الى استراتيجيتها المستندة الى القتال بالمدرعات في بيئة رملية مفتوحة بدلا من حرب المدن

         يشير اولئك القادة العسكريون الى “عدم استيعاب القوات الاسرائيلية لدروس الحروب السابقة، بينما اثبت المقاتل الفلسطيني تكيفه مع الظروف المستجدة واتقان الدروس المستفادة من تاريخ المواجهات .. لا سيما في مجالات التدريب واستخدام الاسلحة الخفيفة التقليدية.” كما اقر هؤلاء باتخاذ المقاومة الفلسطينية زمام المبادرة في الميدان وعدم انتظار العدو ليأتي اليها، بخلاف ما كان عليه الأمر في عدواني الرصاص المصبوب (2008/2009) وعامود السحاب (تشرين الثاني 2012). في الاخير، نالت الغارات الجوية الصهيونية من نائب قائد كتائب القسام، احمد الجعبري، واغتالته مبكرا. اما في العدوان الراهن فقد تحصن القادة العسكريون بالانفاق عميقا تحت الارض وحافظوا على السيطرة والتحكم في سير العمليات والتوجيهات العسكرية، عززها سبل الحماية التي وفرتها الوحدات اللوجستية استعدادا لخوض معركة طويلة الأمد

         من الثابت ايضا ان المقاتلين الفلسطينيين طبقوا الخبرة المستفادة لأهمية سلامة نظم القيادة والتحكم اثناء المعركة، وبقيت على ما هي عليه لا يمسها سوء بالرغم من اشتداد القصف “الاسرائيلي” برا وجوا وبحرا، بل حافظت المنظومة على تماسكها وابقاء شبكة الاتصالات فيما بينها صالحة للعمل وادامة الاتصال مع الوحدات الصاروخية والقوات الخاصة؛ واستطاعت شن هجمات ناجحة خلف خطوط القوات المعتدية في ظل القصف المكثف، وكبدتها خسائر عالية لم تعهدها من قبل

         في هذا الصدد، نقلت نشرة “جاينز” المذكورة على لسان احد القادة العسكريين السابقين من الفلسطينيين، برتبة لواء شارك في معارك عام 1982، قوله ان ما حققته المقاومة في قطاع غزة من اصابات في صفوف العدو فاق ما تكبدته “القوات الاسرائيلية” في كافة المواجهات التي دارت في الجنوب اللبناني مع الفلسطينيين وحلفائهم مجتمعة

         ابداع المقاتل الفلسطيني تجسد في الاستفادة القصوى من انشاء الانفاق التي سبقه اليها المقاتل الفيتنامي واللبناني، واضحت جزءاً لا يتجزء من منظومة الدفاع عن ارض وشعب وكرامة القطاع. وشاع بين الاوساط الاعلامية والاستخبارية نبأ “اعتراض القوات الاسرائيلية” لمجموعة من المقاتلين في منتصف شهر تموز الماضي بعد خروجهم من احد الانفاق مما ادى الى استعجال القيادة العسكرية للدخول في حرب برية

         قيل حديثا عقب تطور حرب المدرعات في الحرب العالمية الثانية ان افضل وسيلة لالحاق الهزيمة بهجوم مدرع هو في انجاز دفاع في العمق باستطاعته استدراج العربات المدرعة الى مناطق الفناء المحقق. الأمر الذي طبق نبوءته بامتياز المقاتل الفلسطيني في العدوان الجاري. في المقابل لم يستوعب القادة “الاسرائيليون” الأهمية التكتيكية التي توفرها شبكة الانفاق للمقاتل، اسوة باستخفاف القيادة الاميركية من عبقرية وابداعات المقاتل الفيتنامي، ووجدت عرباته المدرعة نفسها مطوقة بوابل من النيران المباشرة في مساحة جغرافية ضيقة تعسر عليها المناورة والالتفاف. ووجد قادة العدوان انفسهم امام معادلة تراكم الخسائر البشرية وتحول مدرعاته الى توابيت حديدية مما دعاهم الى اتخاذ قرار بالانسحاب من جانب واحد

         برع الفلسطينيون في التكيف مع ظروف حرب العصابات، وشكلت الصليات الصاروخية المتتالية للمستعمرات والمنشآت “الاسرائيلية” نصرا معنويا ونفسيا هائلا، بيد ان فعالية السلاح في الشق العسكري كانت متواضعة، اذ الحق خسائر بشرية طفيفة قياسا بحجم ووتيرة القصف التي لم تتوقف. بل سجلت قذائف الهاون قصيرة المدى نجاحا في الاراضي المغتصبة المحيطة بالقطاع افضل مما سجلته الصواريخ متوسطة المدى. وفاجأت المقاومة باستراتيجيتها الصاروخية عدوها، لا سيما عند اطلاقها لصواريخ آر-160 التي هرع على اثرها المستعمرون الصهاينة في وسط وشمال فلسطين المحتلة الى الملاجيء. يتميز ذلك الجيل من الصواريخ “غير الموجهة” بعدم الدقة في اصابة الهدف، بيد ان تلك الخاصية المتواضعة كان لها اثرا نفسيا معنويا هائلا في صفوف “الاسرائيليين” واربك نمط حياتهم المعتادة. ولعل اهم النتائج برهنه المقاتل الفلسطيني واستراتيجيته القتالية في التصدي الفعال “لاسرائيل” في حرب غير متكافئة، وصمود غير متوقع اربك القيادات السياسية والعسكرية وخلط الاوراق

         كما سجلت استراتيجية المقاومة نصرا مؤزراً في مواجهة “القبة الحديدية،” التي استطاعت التغلب عليها باطلاق صليات كثيفة دفعة واحدة من الصواريخ اربكت نظم التحكم والاطلاق المرافقة لها. وذهبت الى اقصى مدى في التحدي باعلانها ان صواريخها ستنطلق باتجاه المدن والتجمعات الصهيونية في ساعة معينة، 9:00 مساء، غير آبهة بالقبة الحديدية، ووصلت اهدافها دون اي معوقات تذكر – كما شهد بذلك معظم المراقبين والمراسلين الصحفيين

         اطاح الخبراء في الاستراتيجية والاسلحة العسكرية بمزاعم “اسرائيل” حول فعالية القبة الحديدية، كما سبق وتناولها تقرير المركز بتاريخ 18 تموز. وجاء على لسان استاذ العلوم والتقنية في معهد ماساتشوستس التقني – إم آي تي – المرموق، تيد بوستول، قوله ان “معدل اعتراض صواريخ القبة الحديدة كان متدنيا جدا – وربما بحدود 5% او أقل.” ومضى موضحا ان المهمة المنوطة بأي منظومة صاروخية تكمن في “تصدي الصاروخ المعترض للرأس الامامي المتفجر للصاروخ القادم وتدميره. اما وان اصطدم رأس الصاروخ المعترض بالجزء السفلي من الصاروخ القادم، فكل ما يستطيع انجازه هو الحاق الضرر بانبوب المحرك الصاروخي، الذي هو عبارة عن انبوب فارغ .. وعمليا ليس له اي تأثير على حصيلة المواجهة” بين الجسم المتفجر والجسم المعترض

         تشير تقديرات الجانب “الاسرائيلي” للترسانة الصاروخية للمقاومة، بكل انواعها، الى امتلاكها نحو 10 آلاف صاروخ، حسبما جاء في تقرير عسكري بتاريخ 5 آب الجاري؛ اطلق “او تم تدمير” نحو الثلث منها – 3,356 مقذوف. واضاف ان شبكة الانفاق استهلكت نحو 1,800 طن من الاسمنت المسلح غطت مساحة بطول 3 كلم؛ وزعم تدمير 32 نفقا امتد 14 منها الى داخل اراضي فلسطين المحتلة، ونفقين يقعان على بعد 500م من الشريط الحدودي

مؤشرات على الجولة المقبلة من الحرب

         يجمع الخبراء العسكريون على ان استراتيجية الانفاق ادخلت عنصرا اضافيا في المعركة وضاعفت من صراع الارادات: الطرف المعتدي سيمضي في جهوده للتحقق منها وتدميرها؛ والطرف المقاوم سيزيد من مرونة حركته وتكتيكاته كي يبقي تهديده قائما ضد القوات البرية الغازية والنيل من معنوياتها، على اقل تعديل، واستدراجه باستمرار لخوض معارك يحسن اختيار مكانها وزمنها والسيطرة على نتائجها لا سيما فيما يتعلق بأسر مزيد من الجند والاحتفاظ بجثث قتلاه

         في الحرب ضد الانفاق، التي جربها الاميركيون في فيتنام وفشلوا في القضاء عليها رغم عدم التكافؤ في القوات والمعدات والتقنيات، ستخصص “اسرائيل” امكانيات تقنية اضافية للقضاء عليها، بدءا باستخدام الانسان الآلي، الروبوت كما يروج له اعلاميا،  وتطوير سلاح “قنبلة الباريوم الحرارية،” التي تعمل على تكثيف عنصر الاوكسجين المتوفر في المحيط لاحداث موجة متواصلة من الانفجارات الضخمة شديدة الحرارة، من شأنها الفتك بكل ما يتواجد في دائرة الانفجار من بشر ومعدات، وتفريغ المحيط من الاوكسجين بالكامل

         استمرار المواجهة المباشرة في قطاع غزة لن ينحصر على نطاق القطاع فحسب، بل بدأت شراراته تمتد الى الضفة الغربية والتي وضعتها فصائل المقاومة ضمن سلم اولوياتها لاشعال مواجهات اخرى بشّر البعض بها بانها ستكون الانتفاضة الشعبية الثالثة تستنزف قوات الاحتلال، النظامية والاحتياط، وتضطره للانتشار والاشتباك على جبهتين مفتوحتين في آن واحد. بصرف النظر عن الوجهة التي ستتخذها المواجهات المرتقبة في الضفة الغربية، محدودة ام شاملة، فانها ستضاعف من مأزق الكيان الصيهوني المسكون بهاجس الأمن الوجودي، وعدم غض الطرف عن انتقال المواجهات الى المحتل من فلسطين عام 1948

         في المدى الاقليمي الابعد، تدرك “اسرائيل” ان عليها الاخذ بعين الاعتبار الترسانة الصاروخية الاكبر لدى المقاومة في لبنان وتحت تصرف حزب الله، والتي تقدرها الاستخبارات الغربية بان تعدادها يبلغ نحو 100،000 صاروخ – اي عشرة اضعاف ما يتوفر في قطاع غزة، فضلا عن نوعية ودقة اصابة افضل

         حقائق المواجهة مع حزب الله في تموز 2006 لا تزال ماثلة في اذهان القادة والمؤسسات العسكرية الغربية و”الاسرائيلية.” اطلق الحزب آنذاك نحو 4,200 صاروخ بمعدل 100 صاروخ يوميا معظمها من طراز كاتيوشا الذي يحمل رأسا متفجرا زنته 30 كلغم، ويبلغ مداه نحو 40 كلم. اصاب ما نسبته 22% منها المدن والتجمعات السكانية في شمال فلسطين المحتلة، والباقي انفجر في مناطق خالية. واستخدم الحزب اضافة لتلك الترسانة صواريخ متوسطة المدى من طراز فجر-3 ورعدد-1، اللذين يعملان بالوقود السائل من صنع ايران

         تقديرات الاستخبارات “الاسرائيلية” المستحدثة تشير الى ان حزب الله يمتلك نماذجا اكثر تطورا من هذين الصاروخين، فجر-3 وفجر-5، تصل مدياتها الى 60 كلم و 100 كلم، على التوالي؛ اضافة لعدد كبير من الصواريخ وقاذفات الهاون عيار 107 ملم و 122 ملم التي يصل مداها الى 25 كلم على الاقل، باستطاعتها الوصول الى عدد من المدن والتجمعات السكنية في شمالي فلسطين المحتلة. اما اعتماد “اسرائيل” على القبة الحديدية لمواجهة ذلك فيتطلب منها اعادة انتشار بطارياتها بالقرب من الحدود الشمالية والمجازفة بتخفيف عدد البطاريات المنشورة بالقرب من قطاع غزة

التحليل 08-01-2014

:التحليل

العدوان على غزة

في حسابات واشنطن السياسية والانتخابية

          تبرز فعالية السياسة الخارجية للولايات المتحدة، او تراجعها، عند كل نقطة انعطاف او أزمة دولية من شأنها ان تترك بصماتها على ملفات اخرى، والعدوان الصهيوني على قطاع غزة ليس استثناء عند الغوص في حيثيات ومقومات تجليات السياسة الاميركية، ليس من زاوية الميل لاطلاق احكام على ثوابتها في معاداة الأمة العربية وتطلعات شعوب العالم التواقة للتحرر، بل رصد العوامل والمتغيرات، ان وجدت

          صمود المقاومة الفلسطينية وتوحد ادائها ميدانيا، بكافة فصائلها، نزع الكثير من الاقنعة عن الانظمة والقوى الاقليمية وزاد في وتيرة تعريتها وتبعيتها وانقيادها لقرار السياسة الاميركية المعادية لطموحات شعوبها. وعلى الرغم من أهمية تسليط الاضواء في هذه الايام على العدوان الصهيوني وادواته المحلية والاقليمية، في ظل تسجيل المقاومة انتصارات جديدة ومفاجآت ميدانية لم ترد في عقول واذهان الدِّ اعدائها، الا ان متطلبات التحولات السياسية المرتقبة في المشهد السياسي الاميركي تستدعي ايضا بعض الاهتمام لمعاونة المهتمين في هذا الشأن على استكمال ادوات التحليل الموضوعية في المرحلة المقبلة

          درجت العادة اعتبار مرحلة سيطرة المحافظين الجدد برئاسة جورج بوش الابن بانها شكلت “القفاز الحديدي” لتجليات السياسة الخارجية؛ وفاز الرئيس اوباما بولايتيه الرئاسيتين لتوجهه في استخدام “القفاز الحريري،” او القوة الناعمة، بعد كل ما لحق السياسة الاميركية من عثرات وهزائم وتراجعات على ايدي سلفه. اما المحصلة العامة للحقبتين فتشير بقوة الى انكماش الدور التقليدي للسيطرة الاميركية عبر العالم، وبروز قوى واطراف تتمتع بعناصر القوة الاقتصادية والعسكرية المنافسة، وعزمها على تحدي هيمنة “القطب الواحد”

          يدرك صناع القرار في الاستراتيجية الاميركية ما آل اليه الأمر على المستوى الدولي، يتبادلون الاتهامات بين اقطاب الحزبين الحاكمين، من جانب، وداخل اقطاب كل مجموعة مؤثرة من صقور وحمائم، وتشكيل اجماع حول عدم المساس بهيبة الآلة العسكرية واتخاذ التدابير الكفيلة بضرورة تكيّف عناصر القوة، في المؤسسات العسكرية والاستخباراتية والأمنية، مع متطلبات الازمة المالية. فضلا عن الاجماع بعدم المساس بالميزانيات المقررة والطارئة للكيان الصهيوني، لعل ابرزها موافقة مجلس الشيوخ “بالاجماع” على منح “اسرائيل” مبلغا اضافيا بقيمة 225 مليون دولار، في الساعات الاخيرة قبل انفضاض جلساته يوم الأول من آب وذهاب اعضائه الى قضاء اجازتهم السنوية

          ومن ناحية اخرى، تبرز مسألة السياسة الخارجية مجددا كأحد ساحات الاستقطاب في الخطاب السياسي اليومي، سيما وان المجتمع الاميركي على عتبة خوض انتخابات ممثليه في مجلسي الكونغرس، انتخابات نصفية، في شهر تشرين الثاني / نوفمبر المقبل

          في هذا الصدد، نود التوكيد على ان نتائج الانتخابات المقبلة سيكون لها انعكاس مباشر على السياسة والعلاقات الاميركية في عموم الوطن العربي. في البعد الشعبي الاميركي، تعاظمت درجة اهتمامه في الشؤون الخارجية منذ غزو الولايات المتحدة لكل من افغانستان والعراق، وتبلور في مطالبته بتراجع الولايات المتحدة عن دورها الأمني كشرطي حماية منتشر في عموم الكرة الارضية

          كما اعرب قطاع واسع من الشعب الاميركي عن امتعاضه واحباطه من سياسات الرئيس باراك اوباما التي اعتبرها “امتداد لسياسات الحرب المفتوحة على الارهاب،” التي دشنها سلفه جورج بوش الابن. مشاعر الاحباط الواسعة جاءت نتيجة وعود قطعها المرشح الرئاسي اوباما في مناهضته الحروب العدوانية، وبادله الجمهور بتأييده على قاعدة تميزه عن سياسات بوش، والتي سرعان ما تبنى نقيضها. وتنامت حدة المعارضة العلنية للرئيس اوباما تدريجيا لتبنيه ورعايته شن الحرب على الآخرين بطائرات الدرونز، وانكشاف المدى التجسسسي الذي تمارسه الاجهزة الحكومية على المواطنين الاميركيين، فضلا عن الحلفاء الاوربيين

          حالة الانقسام المشار اليها اعلاه ستفرض على مرشحي الرئاسة لعام 2016 تخفيف وطأة السياسات الخارجية الكارثية، في حال بوش الابن، في الخطاب السياسي، وتنامي مشاعر الكثيرين بعدم الثقة بالمؤسسات السياسية ونخبها على ضوء سياسات الرئيس اوباما، واصطفاف بعض المؤهلين للترشيح الرئاسي، هيلاري كلينتون مثالا، الى فريق المعارض لسياسات اوباما “في سورية وروسيا؛” وصفها بعض العارفين في قيادة الحزب الديموقراطي بأنها “تطمح لرسم دور وسطي بين سيرتي (الرؤساء) بوش الابن واوباما .. تمكنها من اطلاق سهامها نحوهما بالتساوي.” وفي الجانب الآخر، الطامع للترشيح عن الحزب الجمهوري، راند بول، “يلقي الاتهامات على الرئيسين .. اللذين حافظا على المضي بسياسات خارجية فاشلة”

انتخابات تنذر بهزيمة

          هذه المقدمة كانت ضرورية للاشارة الى ان الانتخابات النصفية المقبلة ستجري على قاعدة استفتاء على سياسة القاطن في البيت الابيض، بصرف النظر عن انتمائه السياسي؛ وعليه فهي تنذر بنتيجة قاتمة للحزب الديموقراطي وحرصه للاحتفاظ باغلبية الاصوات في مجلس الشيوخ. ودرجت العادة ان يعطي الناخبون اصواتهم للحزب البديل في ظل الظروف السائدة، او النأي بانفسهم عن المشاركة بمجملها

          وعليه، فان لب المعركة الانتخابية ستجري وفق قاعدة السيطرة على احد مجلسي الكونغرس، في الحد الادنى لكل فريق، بيد ان توجهات القاعدة الانتخابية حافظت على ثباتها بتأييد الحزب الجمهوري ووضعه في موقع مريح للاحتفاظ باغلبية المقاعد في مجلس النواب، وربح صافي مرتقب لنحو 6 مقاعد اضافية في مجلس الشيوخ، مما يؤهله التحكم بالسلطة التشريعية بأـكملها

مفاصل النظام السياسي الاميركي

من المفيد بمكان التذكير بعمل السلطات المختلفة المكونة للنظام السياسي الاميركي الذي يستند الى اتمام العمل بفصل السلطات عن بعضها، ويعرف بالتمثيل الديموقراطي؛ اذ يخول الدستور الكونغرس بمجلسيه سن القوانين والشرائع، السلطة التشريعية؛ اما الرئيس – السلطة التنفيذية – فمهمته تقتصر على تطبيق السياسات المتفق عليها. وعليه، الرئيس لديه صلاحية المصادقة على قرارات الكونغرس، بعد فوزها باغلبية الاصوات، كي تصبح سارية المفعول. ايضا يملك الرئيس صلاحية الغاء مشروع القرار المقدم باستخدام حق الفيتو عليه، مفسحا المجال امام مجلسي الكونغرس اعادة النظر بالصياغة المطلوبة كي تنال موافقة الرئيس

          في ابعاد قرارات التحكم بمفاصل النظام السياسي الاميركي يبرز دور شريحة فاحشة الثراء، 1%، ممثلة للمصالح الاقتصادية والاحتكارات الكبرى، الاوليغارك، وتمارس نفوذها عبر آليات متعددة، احداها يعرف بجماعات الضغط، اللوبي، التي تمارس دورا مرئيا على اعضاء الكونغرس لسن تشريعات وقوانين مرضية لها. ومن بين الآليات ايضا سياسة “الباب الدوار” التي تلغي الفوارق بين ممارسة النشاط السياسي والارتهان لارباب العمل، ليصبح الممثل في الكونغرس من صنع الشريحة الاشد نفوذا في العملية الاقتصادية ويتم توجيهه وفق ما تقتضيه مصالحها الخاصة، لا سيما فيما يخص تبني سياسات اقتصادية ومصرفية محددة والتي عادة تأتي على حساب مصالح 99% مما يتبقى من الشرائح الاجتماعية، ونهب الموارد العامة تحت غطاء الخصخصة والسوق الحرة

الشريحة الضيقة المتحكمة، تستغل ثراءها الفاحش رشوة للسياسيين، وتقف بالمرصاد امام بروز تيارات سياسية جادة خارج صيغة “تبادل الحزبين مقاليد الحكم،” ولا تتورع عن استخدام ما لديها من امكانيات هائلة لتهميش صعود قوى جذرية او ليبرالية تناصبها العداءوسن قوانين جديدة لحرمانها من الحصول على نسبة معتبرة في الانتخابات تمكنها من ارسال ممثليها الى الكونغرس، كما جرى مع “حزب الخضر” وتجمعات سياسية اخرى تمثل المهمشين والاقليات العرقية

فيما يخص اللحظة الراهنة والتوازنات السياسية بين الحزبين، اسهمت سيطرة الحزب الديموقراطي على اغلبية مجلس الشيوخ باستصدار قوانين وتشريعات موازية لاهداف الرئيس اوباما، والتي لولاها لانحصرت خياراته اما في استخدام صلاحية “الفيتو” ضدها او المصادقة عليها بكل ما ينطوي عليها من ثغرات سعى لتفاديها. ويتجلى التراشق بين سلطات الرئيس ومناهضيه في الحزب الجمهوري بحرمانه من المصادقة على تعيينات للتمثيل الديبلوماسي بات يشكو منها علانية

نظرة على انتخابات نوفمبر

تجمع احصائيات استطلاعات الرأي على توثب الحزب الجمهوري لتحقيق نسبة تمثيلية اعلى في مجلسي الشيوخ والنواب، في الدورة الانتخابية المقبلة. يتمتع الجمهوريون بوضع مريح في ولايات ثلاث: ساوث داكوتا، مونتانا، وويست فرجينيا؛ وتفوق نسبي في خمس ولايات اخرى: اركنساس، لويزيانا، نورث كارولينا (التي فاز بها المرشح الرئاسي ميت رومني 2012)، ايوا وميتشيغان

نسبة الاحباط بين الشعب الاميركي لسياسات الرئيس اوباما في ازدياد مضطرد، مما يضاعف التحديات امام الحزب الديموقراطي في الاحتفاظ بأغلبية مقاعد مجلس الشيوخ الراهنة. واسهم استطلاع للرأي اجرته شبكة (سي ان ان) للتلفزة في الدلالة على حجم واتساع قاعدة المعارضة الشعبية للرئيس اوباما وسياساته، اذ اعرب غالبية بلغت 53% تأييدهم لسؤال افتراضي بأنهم سيصوتون لميت رومني في الظرف الراهن. يذكر ان الرئيس اوباما فاز بنسبة 52% من مجموع الاصوات الشعبية في جولة الانتخابات الرئاسية الاخيرة

يدرك قادة الحزب الديموقراطي ومسؤوليه عن استراتيجية الحزب الانتخابية عمق المأزق المشار اليه، وامكانية خسارتهم لبعض المقاعد، لكنهم يبذلون جهودهم لتقليص حجم الخسارة الى خمسة مقاعد صافية في مجلس الشيوخ، الأمر الذي يتيح لهم الاحتفاظ باغلبية ضيقة فيه. وهذا يتطلب حشد الجهود والامكانيات الانتخابية وتوظيفها في خدمة المرشحين المرجح فوزهم، وربما انتهاج خطاب انتخابي يشير الى تعارض المرشح المعني مع الرئيس اوباما، وهي استراتيجية مجربة من قبل الحزبين تؤتي اكلها في معظم الحالات، وتتطلب قدرا عاليا من الحذر لعدم الانجرار الكامل وراء النبض الشعبي المعارض. اذ تشير اللوحة الانتخابية الراهنة الى 10 ولايات معارضة لسياسات الرئيس بصورة صارخة، ويركز قادة الحزب الديموقراطي جهودهم على خمسة منها: ساوث داكوتا، مونتانا، ويست فرجينيا، الاسكا واركنساس

انخرط الرئيس اوباما في جولة لجمع التبرعات للحزب الديموقراطي شملت 11 محطة في مناطق متعددة من الولايات المتحدة، بينما حضر نائب الرئيس جو بايدن 5 حملات تبرع، وشاركت زوجة الرئيس، ميشيل اوباما، في حملتين؛ فضلا عن رسائل الدعم السياسي والظهور العلني للرئيس لدعم مرشحين معينيين لا سيما في ولايات اركنساس وكولورادو ونورث كارولينا

بروز زوجة الرئيس في الحملات الانتخابية يؤشر على سياسة الحزب الديموقراطي في اعادة تجييش القاعدة الانتخابية لا سيما بين قطاع المرأة، واستغلال الفوارق الاجتماعية والاقتصادية لما اصبح يعرف بحملة الخصوم في “الحرب على المرأة،” و “المساواة الاقتصادية،” او توزيع عادل للموارد الاقتصادية. يضاف الى ذلك جهود الرئيس والحزب الديموقراطي في محاباة “المهاجرين غير الشرعيين،” وجلهم من دول اميركا اللاتينية، وحل الوضع الشاذ لعدة ملايين منهم واتاحة الفرصة لهم للمشاركة في الانتخابات المقبلة

انضمام بضعة ملايين من الاصوات الانتخابية المرجح ذهابها لصالح الحزب الديموقراطي اثار حفيظة خصومه في الحزب الجمهوري مهددين برفع دعوى قضائية ضد الرئيس وتوجيه تهمة التقصير في اداء مهامه المنصوص عليها دستوريا. المضي بالدعوى سلاح ذو حدين، اذ من شأنه استنهاض القواعد الشعبية المناهضة لسياسات الحزب الجمهوري ومشاركتها بقوة اكبر في الجولة المقبلة

ساكن البيت الابيض، في سرّه، يرحب بارتكاب خصومه تلك الحماقة التي ستضخ دعما اضافيا في تعزيز مواقع الحزب الديموقراطي. علنا، علق احد مستشاري الرئيس للشؤن الانتخابية، دان فايفر، قائلا لصحيفة لوس انجليس “اي خطوة (قضائية) بهذا الشأن ستثير صداما كبيرا مع الحزب الجمهوري وممثليه في الكونغرس .. وستضاعف من ردود الفعل الغاضبة ضد الجمهوريين.” عقلاء الحزب الجمهوري، وهم قلة، يميلون لتوخي الحذر من الاقدام على المضي قدما بالتهديد، مدركين للتوازنات السياسية والانقسامات الراهنة في مجلسي الكونغرس، وتشتيت جهودهم الانتخابية بافتعال معركة جديدة خاسرة سلفا

انعكاسات فوز الحزب الجمهوري على المنطقة

السيناريو التالي يستند الى فرضية فوز الحزب الجمهوري باغلبية مقاعد مجلسي الكونغرس، النواب والشيوخ، في الجولة الانتخابية المقبلة. من المرجح ان تدفع هزيمة الحزب الديموقراطي الى اصطفاف قادته في الكونغرس الى جانب اللوبي المؤيد “لاسرائيل” وبلوغه مديات اعلى مما هي عليه راهنا – ان كان باستطاعة المرء ادراك ذلك، وابراز مشاعر عدائية اوسع ضد الفلسطينيين تحديدا. في هذا الصدد، يبرز السيناتور اليهودي عن ولاية نيويورك، تشاك شومر، الذي يحتل المرتبة الرابعة في صفوف قادة الحزب الديموقراطي، ولديه فرصة واقعية كبيرة لشغل منصب زعيم الاقلية الديموقراطية في مجلس الشيوخ

زعيم الاغلبية الديموقراطية الحالي، هاري ريد، قد لا يحتفظ بمنصبه او موقعه ويغادر الساحة السياسية، مفسحا المجال لتبوأ شومر منصب المركز الاول في التراتيبية القيادية؛ بل سيصبح اليهودي الارفع منصبا في الحكومة الاميركية. شومر، بدوره، ارسل مذكرة للرئيس اوباما، بدعم عدد آخر من زملائه في مجلس الشيوخ، يناشده التحلي بصلابة الموقف ضد الفلسطينيين. وجاء فيها “لا يمكننا تحمل التهديدات الناجمة عن الصواريخ وشبكة الانفاق التابعة لحركة حماس ذات هدف اوحد وهو قتل واختطاف الاسرائيليين، وينبغي اطلاق قدرات اسرائيل اتخاذ ما تراه ضروري لازالة تلك التهديدات .. اي صيغة لوقف اطلاق النار يتم التوصل اليها تستدعي انشاء وضع يشعر فيه المواطنين الاسرائيليين بانهم غير معرضين لمواجهة الهجمات الارهابية الفظيعة”

في بعد الاصطفافات السياسية، ابدى زعماء الحزب الجمهوري معارضتهم الصارخة لسياسات الرئيس اوباما نحو مصر وقيادتها الجديدة، على وجه الخصوص، وابدوا تأييدهم لاستمرار تدفق الدعم والاعانة للحكومة المصرية الجديدة. في حال فوز الحزب الجمهوري باغلبية مقاعد مجلس الشيوخ، سيصعد السيناتور جون ماكين تلقائيا لمنصب رئيس لجنة شؤون القوات المسلحة، وسيستغل صلاحياته الموسعة للدفع باتجاه توفير مزيد من الوسائل القتالية لقوى المعارضة السورية المسلحة. بالاضافة الى ممارسة قيادة الجمهوريين السيطرة والتحكم بالمصادقة على تعيين ممثلين ديبلوماسيين للولايات المتحدة، كما تقتضي صلاحياتها الدستورية، والدخول فيمواجهة جديدة مع مرشحي الرئيس اوباما في هذا الشأن – الأمر الذي تحدث به الرئيس بمرارة في الاول من آب الجاري

اما في درجة الميل لدعم “اسرائيل” فمن غير المرجح ان ينافي الجمهوريون سياساتهم السابقة، بل الثابت ان الكونغرس في ظل القيادة الجديدة سيحافظ على سياسات الولايات المتحدة الداعمة “لاسرائيل” بلا حدود، واستمرار دعم الحكومة المصرية الراهنة وفق ما تقتضيه اتفاقيات كامب ديفيد بغية المحافظة على سريان مفعولها قائما

أفاق المواجهة المقبلة بين اوباما والكونغرس

استنادا الى التجارب السابقة بين الحزبين، ليس مستبعدا ان تشهد التجاذبات والاصطفافات المتجددة التهديد باغلاق عمل المرافق الحكومية، مرة اخرى، ثمرة لتضاد رأي الحزبين في توزيع الميزانية السنوية العامة، وسيتسلح الجمهوريون بالنصوص الدستورية التي تعطي الحق للكونغرس لاقرار بنود الميزانية واتخاذ ما يراه مناسبا من قيود وتدابير للتيقن من آليات الصرف كما ينبغي

ومن المرجح ايضا ان يقدم مجلس النواب سن تشريعات جديدة تحد من نفوذ الرئيس الرئيس اوباما في مجالات متعددة: صلاحيات تجسس وكالة الأمن القومي، برنامج الرعاية الصحية الشامل، تحديد صلاحيات هيئة الضرائب؛ وسترسل الصيغ المقرة الى الرئيس للمصادقة عليها ووضعه في موقف حرج ليس امامه من خيار الا الانصياع او استخدام صلاحية الفيتو. بالمحصلة، ستتعطل المرافق الحكومية، باستثناء وزارة الدفاع والاجهزة الأمنية والاستخبارية، كما اسثنيت في التجارب السابقة

جبان البيت الابيض مشارك في مذابح قطاع غزة

          لا نجد ضرورة في ابراز الثوابت لمعاداة الولايات المتحدة تطلعات الشعب الفلسطيني والامة العربية في التحرر والتخلص من التبعية والوكلاء المحليين. الرئيس الاميركي، منذ بدء العدوان، اصطف الى جانب العدو الصهيوني كما هو متوقع، وبالاتساق مع ركائز السياسة الاميركية. استعادة جملة التصريحات الرسمية الاميركية والاجراءات الميدانية، لا سيما لناحية التسليح والتمويل والدعم السياسي للعدو الصهيوني، لن يقدم جديدا  في هذا الشأن

موقف حلفاء الولايات المتحدة الاقليميين يفضح اصطفافهم لجانب قوى العدوان ويدل على حقيقة الموقف الاميركي، لمن لا يزال يكابر ويجافي الحقيقة. لعل ادق توصيف لضلوع اولئك وتواطؤهم في العدوان جاء في تعليق الصحافي البريطاني في يومية “الغارديان،” ديفيد هيرست، مؤخرا واصفا ردود فعل المسؤولين السعوديين بانها بمثابة “دموع التماسيح”

          وتجدر الاشارة الى ما نوه له عدد ضئيل من اصحاب الضمير باثارة البعد الاقتصادي في العدوان على غزة، نستعرضها من باب الاستزادة والتذكير

          سواحل قطاع غزة تحوي بداخلها مخزونا هائلا من احتياطات النفط والغاز لطبيعي، سبق لشركة بريطانية، بي جي جي، الحصول على موافقة من السلطة الفلسطينية، عام 1999، وان فازت بعقود التنقيب عن الغاز لمدة تصل 25 عاما. واسفرت اعمال التنقيب الاولى للشركة عن التوصل الى تقديرات لحجم المخزون بمعدل 1،600 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي؛ ولم تحسن السلطة الفلسطينية استغلال الأمر لتعزيز الاكتفاء الذاتي في الجانب الاقتصادي، وابقت المخزون رهينة تجاذبات القوى الكبرى والاقليمية ومن بينها “اسرائيل”

          بروز حركة حماس بعد الانتخابات النيابية دفعها لرفض شروط الاتفاقية الموقعة مع الشركة البريطانية، مما اثار حفيظة اطراف كثيرة تضررت من ذاك الاجراء: فلسطينية واقليمية ودولية. وفي هذا الصدد يستطيع المرء تفهم اجراء “اسرائيل” بحرمان الصيادين في قطاع غزة من الابحار خارج دائرة ضيقة حددتها باقل من 3 كلم؛ واطلاق العنان لاستغلال الثروة الطبيعية المكتشفة لصالحها

          يضاف لذلك البعد ما ورد في الاسبوع الرابع من العدوان الصهيو-اميركي على غزة من سماح الادارة الاميركية “لاسرائيل” التزود بذخائر من المخزون الاستراتيجي الاميركي المقام على اراضي فلسطين المحتلة، المعروف “المخزون الاحتياطي للذخير الحربية – اسرائيل،” منذ عقد التسعينيات من القرن المنصرم ويتبع قيادة القوات الاميركيةفي اوروبا. يتضمن المخزون “قذائف صاروخية وعربات مدرعة وذخائر مدفعية،” وغيرها من الاسلحة والذخائر غير المعلنة. الاجراء يدل على ضراوة المعارك والغارات الجوية والبرية والبحرية على قطاع غزة، من ناحية، وحقيقة الدرو الاميركي في ادامة أمد العدوان وتكبيد مزيد من الخسائر البشرية، في الجهة المقابلة

التحليل 07-25-2014

:التحليل

العدوان على غزة الصامدة

نتنياهو في مأزق وكيري يجهد لانقاذه من الهزيمة

          نجحت المقاومة الفلسطينية، بكافة تشكيلاتها، في استراتيجيتها لاستدراج جيش الاحتلال الصهيوني الى حرب برية وفق قوانين “حرب العصابات،” وكبدته خسائر بشرية ومادية لا يستهان بها، سيما عند الاخذ بالحسبان ان جيش الاحتلال دفع بافضل قوات النخبة لدية، لواء غولاني للقوات الخاصة. وفرضت عليه التراجع مكرها عن غطرسته المعهودة والاعلان عن خسارته “34” عسكريا (والرقم في ازدياد متسارع)، فضلا عن اقراره بباكورة انجاز المقاومة وتدميرها عدد من احدث مدرعاته، الميركفاة، والابرز أسر احد جنوده كما وعدته المقاومة قبيل العدوان، وارباك حركة الملاحة الجوية من والى مطار اللد

          التحقق من حجم الخسائر البشرية في جانب جيش الاحتلال سابق لاوانه، مع دخول العدوان يومه الثامن عشر، مع الاشارة الى ان مصادر المقاومة تؤكد مقتل ما لا يقل عن 80 جنديا ونحو 360 جندي من الجرحى في الحد الادنى، قيل انها الاكبر في خسارته اليومية العسكرية ميدانيا منذ حرب تشرين 1973. الخسائر البشرية بين الشعب الفلسطيني هائلة بكل المقاييس نظرا لأن العدو “الاسرائيلي” يدرك ان المدنيين هم الخاصرة الرخوة في المسيرة الشاملة لحرب التحرير. لكن عزم الشعب الفلسطيني، بقواه ومؤيديه، على المضي في التصدي للعدوان يدفعه للقول ان ضحاياه هم جزء من ضريبة التحرير ويتمنى نيل الشهادة

          عند كل مواجهة حقيقية مع جيش الاحتلال، منذ تحرير الجنوب اللبناني في أيار 2000 وامتدادا لسلسلة المواجهات المتعددة، يلاحظ مبادرة قيادته السياسية والعسكرية السعي للتوصل لوقف اطلاق النيران، خلافاً لمواجهاته السابقة التي كان العرب هم الطرف الذي يستجدي وقف العدوان، يجري طلبه تارة بوساطة “عربية” وتارة بدخول اطراف دولية اخرى وهذه المرة سينتهي به الأمر الى التسليم بالعناصر الاساسية لشروط قوى المقاومة،واهمها فك الحصار بشكل فوري ونهائي

          وضع الجبهة الداخلية عند العدو الصهيوني لا يطمئن مؤيديه، قياسا على ما اعتاد عليه من صلف وغرور واستهانة بالعرب. اذ سريعا ما اعلن عدد من الجنود والطيارين امتناعهم الخدمة والمشاركة في هذا العدوان، بعضهم قدم للمحاكمات العسكرية، وهم من تربى على عقيدة عسكرية ترمي لحسم سريع للمعركة الأمر الذي اخفق فيه، وتتصاعد الاصابات البشرية بين صفوفه. ويدرك جمهور المستعمرين حجم الاصابات التي تلقاها في مؤسساته ومنشآته، ولم تسلم من التهديدمنشآته النووية كرسالة سياسية غير مسبوقة. ومما فاقم المأزق عند قادة الكيان استهتار المؤسسة العسكرية بمصير الجندي الاسير لدى المقاومة الفلسطينية، برفضه الاعتراف بذلك في بداية بالأمر ومن ثم الاقرار بأنه مفقود الى ان تلقى صفعة معنوية من ذوي الاسير الذين اقروا بوقوعه في قبضة المقاومة

من شأن جملة العوامل التي وردت اعلاه الاسهام في تنامي قلق جمهور المستعمِرين من مستقبل ومصير المواجهة الراهنة، والضغط على “بقرته المقدسة” في المؤسسة العسكرية بوقف العدوان حتى يتسنى له العودة لممارسة حياته الطبيعة بدلا من المكوث في الملاجيء ونزوح عدد لا بأس به من مستعمريه في منطقة النقب الى مناطق اخرى، وتقطع سبل العودة للذين قصدوا السياحة خارج فلسطين المحتلة

مناورات مغلفة بهدنة انسانية

          في المستوى الدولي، استجابت ادارة الرئيس اوباما لاستجداءات قادة الكيان من سياسيين وعسكريين، وباشرت منذ اليوم السادس عشر لبدء العدوان على غزة “اعادة صياغة المبادرة المصرية .. ومعالجة البعد الاقتصادي في غزة شريطة وقف اطلاق الصواريخ؛” وسارعت بارسال وزير الخارجية جون كيري للمنطقة سعيا للتوصل لوقف اطلاق النار. تعثرت المساعي السياسية على الفور برفض قوى المقاومة شروط الاستسلام المطروحة، والاصرار الجمعي على فك شامل للحصار وفتح المعابر توطئة لأي جهد وساطة

          وعليه، جل المشروع الاميركي في هذا الصدد ينصب على انتزاع موافقة قوى المقاومة لوقف اطلاق النار، اوضحه وزير الخارجية في مؤتمره الصحفي المشترك مع وزير خارجية مصر، ويستند الى عاملين: وقف اطلاق النار لدوافع انسانية تمتد من 5 الى 7 أيام، يليها عقد لقاءات منفصلة بين الجانبين في مصر لمناقشة المطالب الاخرى خلال 48 ساعة

الآلة العسكرية تستمر بالتدمير

          زجت “اسرائيل” بحوالي 5 ألوية قتالية في عدوانها على قطاع غزة، معززة بغارات سلاح الطيران وقصف مدفعي من البوارج الحربية في عرض البحر، وطواقم اسلحة المدرعات والهندسة المنوطة بمهمة تحديد وتدمير الانفاق. واجهت قوى العدوان مقاومة شرسة مدروسة وفق اسس عسكرية يغلب عليها طابع الاحتراف، واوقعت ولا تزال خسائر بشرية مباشرة بين صفوفه، ودفعته للمراوحة في الحيز الجغرافي المفتوح في محيط القطاع وابطاء حركة طواقم قوات الهندسة في التقدم ولجوئها لتدمير المباني السكنية تميهدا لتقدم قوات المشاة

            M-113 العربات المدرعة باتت احد الاهداف المفضلة لقوى المقاومة، سيما ما يستخدمه جيش الاحتلال من نماذج عربات قديمة لنقل الجنود هي من صنع اميركي، طراز  التي فتك بها ثوار فييتنام في عقد الستينيات من القرن المنصرم. هيكل العربة مكون من مادة الالومنيوم لخفة استخدامها في الانزالات الجوية وباستطاعتها مقاومة ذخيرة الاسلحة الخفيفة،لا تصلح لقتال حرب الشوارع ولا تستطيع الصمود امام القذائف الصاروخية او الاسلحة المضادة للمدرعات

          لفتت وسائل الاعلام الاميركية انظار الجمهور الى حصيلة مواجهة قتال الشوارع التي دارت رحاها في غزة مع المقاومة الفلسطينية بعد اصابةاحدى عرباته المدرعة اصابة مباشرة بقذيفة مضادة للدروع ادت لمقتل 7 جنود صهاينة كانوا على متنها لشن العدوان، اثنين من جنودها كانوا من حملة مزدوجي الجنسية “الاميركية الاسرائيلية.” يشار الى ان حدثا شبيها جرى في قطاع غزة عام 2004 تم فيه تدمير عربات مدرعة لنقل الجند اسفر عن مقتل 11 جنديا صهيونيا دفعة واحدة

          جدير بالذكر ان طبيعة الاصابات التي استهدفت العربة M-113 جاءت من اتجاهات متعددة، من الخلف والجوانب، مما يؤشر على قدرة رجال المقاومة نصب طوق ناري حول عدد من الوحدات الصهيونية الغازية

          اولى نتائج تدمير عربة الجند المدرعة تجسدت في رفض نحو 30 عنصرا من جنود الاحتياط الصهاينة اعتلاء عربة M-113 ان كانت وجهة سيرها نحو غزة، مما حدا بقادته العسكريين اخراج كافة نماذج تلك العربة من ساحات القتال عاجلا. وعلق قائد الجبهة الجنوبية لجيش الاحتلال، سامي ترجمان، قائلا ان جيشه “كان على علم بالثغرات التقنية في عربة M-113 لكنه لم يحصل على الموارد اللازمة لتوفير حماية تامة لكل جندي ينخرط في قتال غزة.” وتتالت في اعقاب ذلك طلبات وتوسلات المؤسسة العسكرية لتخصيص الحكومة مزيد من الموارد المالية الاضافية لشراء عربات قتالية احدث

          بعد خروج عربات مدرعة ناقلة للجند من ارض القتال عمد قادة جيش الاحتلال الى تعويض مفعولها بتكثيف اشد للغارات الجوية والقصف المدفعي والبحري باستهداف منازل المدنيين واتساع الرقعة لتشمل احياء سكنية باكملها، ورمي الحمم النارية على المشردين مما يفسر ارتفاع هائل في عدد الشهداء والجرحى بلغت نحو 6500 مدني، مع بدء اليوم التاسع عشر للعدوان، ومحاصرة بلدة خزاعة بعد ارتكاب سلسلة مجازر فيها

          بيد ان قوات الاحتلال لم تستطع التقدم او التوغل داخل حدود قطاع غزة بالرغم من الكتلة النارية الهائلة وتسخير الموارد البرية والجوية والاقمار الاصطناعية لتيسير تقدم مخططاتها المتعثرة، واستغلال قوات المقاومة مناطق التدمير والانقاض كدروع حامية لاستمرار الاشتباك مع الوحدات الغازية. واكتشف قادة العدو ضراوة المقاومة وابتكارها اساليب متجددة واضطر للاقرار بفعالية شبكة الانفاق وصعوبة اكتشافها وتدميرها

احد الصحافيين الصهاينة تندر بتلك الشبكة قائلا ان “غزة استطاعت التمدد ببناء طابق تحت الارض .. انها غزة السفلى،” وشبهتها صحيفة “وول ستريت جورنال” الاميركية بانها “كشبكة مترو انفاق تحت الارض تربط شبكة اخرى من منشآت تصنيع الاسلحة وممرات اسفل الحدود البرية مع اسرائيل على بعد حوالي 2 ميل.” زعم قادة الكيان العسكريين انهم تعرفوا على 10 فتحات انفاق فقط في حي الشجاعية

صعوبات التقدم الميداني الناجمة عن وجود شبكة الانفاق فرضت على “قادة اسرائيل” اعادة النظر باساليبهم الراهنة لاكتشاف الانفاق. واوضحت صحيفة “تليغراف” البريطانية ان “نخبة من القوات الخاصة من وحدة تلبيوت (حي تل البيوت في القدس المحتلة) عكفت على تطوير نظم لاستشعار الانفاق، بلغت كلفتها نحو 59 مليون دولار، واجرت تجارب عملية عليها” في تل الربيع. واستدركت ان “النظام فائق التطور يستخدم مجسات خاصة واجهزة ارسال لا يزال في طور الابحاث والتطوير، وان نجحت كافة التجارب فبالامكان دخوله الخدمة خلال عام من الزمن”

من بين المؤسسات “الاسرائيلية” العاملة في هذا المجال، برزت شركة “ماغنا” التي تصنِّع اجهزة مراقبة يجري نشرها على الحدود مع مصر، وكذلك تزود بها المنشآت النووية اليابانية. وحثت الشركة قادة الكيان على حفر نفق بطول 70 كلم على امتداد الحدود مع غزة مزود بنظام انذار حساس من شأنه “توفير اخطارات اولية لاي نشاطات حفر تتقاطع مع النفق، ان كان اسفله او اعلاه”

ردود الفعل الاميركية

اصدرت قوى المقاومة مذكرة تحذير لحركة الطيران المدني الدولية المتجهة من والى مطار اللد، منذ بدء المواجهة دشنتها بقصف عاصمة الكيان الصهيوني، تل الربيع، بعدة صواريخ. في مرحلة لاحقة من اشتداد العدوان اطلقت صاروخا وقع على بعد مسافة قريبة من محيط المطار مما دفع بهيئة الطيران الفيدرالية الاميركية اصدار اخطارعاجل لشركات الطيران الاميركية المسيرة لرحلات مباشرة الى مطار اللد بتدهور الاوضاع الأمنية، واقتداء معظم شركات الطيران الاوروبية بالمثل؛ بيد ان الرحلات المتجهة من عدة مطارات عربية، عمان والقاهرة والدوحة، الى مطار اللد لم تطبق اجراءات السلامة المقترحة. يشار في هذا الصدد الى ان يعض الشركات الاميركية طبقت اجراءات احترازية بعدم الوصول لمطار اللد قبل اصدار هيئة حماية سلامة الطيران انذارها

على الفور تحرك نتنياهو حاثا ذراع “اسرائيل” المتمثل بمنظمة ايباك ممارسة نفوذها والتدخل العاجل لالغاء قرار هيئة الطيران المدني نظرا لما يمثله من مخاطر سياسية واقتصادية ومعنوية على بنية الكيان بأكمله. الرئيس الاميركي اوباما ليس في عجله من امره لاثارة مسألة الغارات الجوية مع نتنياهو لادراكه ان الاخير يتكيف مع سياسته في الاغتيالات بطائرات الدرونز، التي لا تزال تحصد الارواح البريئة؛ في آخر حصيلة لها اغتالت 26 مدنيا في باكستان في غضون ايام معدودة

“استخدام القوة المفرطة” اصبح اتهاما بدون معنى توجهه واشنطن نحو خصومها، وتطبقه بحذافيره الى جانب حليفتها “اسرائيل” بتكرار الاغارة على ذات المواقع الآهلة بالسكان المدنيين لايقاع اكبر عدد من الاصابات بينهم. ولم تصمد الادارة طويلا امام المطالب بضرورة انتقادها لانتهاكات “اسرائيل” نظرا لادراكها انها تنفذ اسلوب الاغتيالات الخسيس عينه في مناطق متفرقة من العالم

تراكم كلفة العدوان “الاسرائيلي” على غزة حفز قادة الكيان على طلب مساعدات مالية عاجلة بقيمة 225 مليون دولار، اضافة لمبلغ 621 مليون دولار صادق عليها مجلس الشيوخ يوم 17 تموز الجاري؛ ويبدو انها الصيغة المضمرة لتسديد نفقات العدوان من قبل “الوسيط النزيه”

في مستوى الحركة السياسية، افلحت جهود وزير الخارجية جون كيري باعادة تغليف عناصر “المبادرة المصرية،” وعقد مؤتمرا صحفيا في القاهرة بمشاركة وزير الخارجية المصري، سامح شكري، قدم فيه عرضا بوقف اطلاق النار بدءاً من الساعة 7:00 صباح يوم السبت، لمدة 12 ساعة نزولا عند طلب “هدنة انسانية.” والحقه ببند اضافي يقضي بعقد اجتماع دولي في باريس لبحث تفاصيل وقف اطلاق النار

فور انفضاض المؤتمر الصحفي المشار اليه ابلغ بنيامين نتنياهو لكيري “موافقته،” ومعارضة طاقم حكومته، لا سيما كتلة وزرائه الموصوفون بالمتطرفين والتي تسعى لاعلاء الحل العسكري واعادة احتلال قطاع غزة. وهذا يعزز ما ورد سابقا بأن العدو الصهيوني درج على استجداء طلب وقف اطلاق النار في كل مواجهة منذ اندحاره عن الجنوب اللبناني، ويكرره الآن في قطاع غزة مما يلفت النظرلفشل مخططاته في انزال ضربة قاصمة بالمقاومة الفلسطينية. الاوساط السياسية الصهيونية وصفت المقاومة الفلسطينية بأنها “غير معنية بالامتثال لوقف اطلاق النار” كونها تحقق نجاحات ميدانية، وان مديات “صواريخها يصل الى عمّان،” اي ابعد مدى من مدينة طبريا. تريثت قوى المقاومة قليلا قبل ان تعلن موافقتها على “هدنة 12 ساعة برعاية هيئة الامم المتحدة”

اجتماع باريس “الشكلي” ستحضره الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والمانيا وقطر وتركيا، وستغيب عنه مصر (صاحبة المبادرة). اعلان كيري من القاهرة جاء بمثابة التفاف على “المبادرة المصرية،” رغم اقتادئه بعناصرها، وتحجيم دور مصر اقليميا عبر استبعادها واستبعاد المقاومة الفلسطينية – هدف المبادرة والاجتماع

من ضمن ما تؤشر عليه حركة كيري، ولعله الأهم في كافة محطات جولته، هو تيقن الولايات المتحدة من عدم قدرة “اسرائيل” تحقيق اهدافهما الاقليمية – تحجيم والقضاء على المقاومة – وان قوتها التدميرية لا تحقق النصر المنشود بل تراكم الضحايا والقنابل الموقوتة المعادية لسياستها. وربما فقدت اميركا الثقة بوكيلتها واسرعت وتيرة حركتها “لانجاز ما عجزت عن تحقيقه اسرائيل عسكريا” قبل فوات الاوان، سيما لانشغالها في ملفات اخرى ملتهبة، واعادة الاعتبار لمسار المفاوضات الذي ما يلبث ان ينطلق الا وسرعان ما يتعثر ويتراجع

التحليل 07-18-2014

:التحليل

حروب المعتدي لن تحل ازماته

قراءة اولية في خيار الحرب البرية على قطاع غزة

دشنت الحكومة الاميركية هاجسها الدائم “دعم اسرائيل” بطلب مجلس الشيوخ، 17 تموز، تخصيص مبالغ اضافية “عاجلة” قيمتها 621 مليون دولار تحت سقف تعزيز وتطوير اداء منظومة الدفاع الصاروخي – القبة الحديدية؛ تلاه اعلان “اسرائيل” عن بدء “الاجتياح البري لقطاع غزة بقصف مدفعي ثقيل شاركت فيه قوات مشاة ومدرعاتوهندسة ومدفعية واستخبارات بإسناد جوي وبحري .. العملية ستستمر من أسبوعإلى 10 أيام تقريباً ..” وتضمن “تعليمات لضرب الانفاق (..) التي تتوغل من قطاع غزة  .. والتسلل الخطير الى اراضي اسرائيل..”  كما جاء في البيان الرسمي الصادر في القدس المحتلة مساء ليلة الخميس، 17 تموز الجاري

           ما نحن بصدده هو اماطة اللثام عن اسراف التوقعات ولي عنق الحقائق والمبالغة، في الجوانب السياسية والعسكرية، خاصة في ضوء حالة الاسترخاء والتخلذل الرسمي، عربيا واقليميا ودوليا، وميل وسائل الاعلام لتلقف كل ما يصدر من تضخيم كما يحدث في كل الحروب دون استثناء

    منذ بدء العدوان “الاسرائيلي” على قطاع غزة هللت وسائل الاعلام الاميركية و”الاسرائيلية” الى فعالية منظومة القبة الحديدة في اعتراض الصواريخ المتجهة لمواقع وتجمعات المستعمرين الصهاينة والمؤسسات الرسمية؛ تخللها اشارات باهتة تفند تلك المزاعم، ابرزها جاء على لسان استاذ العلوم والتقنية في معهد ماساتشوستس التقني – إم آي تي – المرموق، تيد بوستول، اذ قال ان “معدل اعتراض صواريخ القبة الحديدة كان متدنيا جدا – وربما بحدود 5% او أقل”

          واضاف بوستول في احدث دراسة له نشرها يوم 15 تموز الجاري انه سيثبت صدقية ما توصلت اليه ابحاثه السابقة، عام 2012 بعد العدوان على غزة، وكذلك نتائج مماثلة للعدوان الجاري، 2014، التي بمجموعها تدل على ان “اداء القبة الحديدية بعد عام ونصف تقريبا ربما لم تتحسن؛” مستدركا ان ابحاثه لا زالت جارية. واوضح ان المهمة المنوطة بأي منظومة صاروخية تكمن في “تصدي الصاروخ المعترض للرأس الامامي المتفجر للصاروخ القادم وتدميره. اما وان اصطدم رأس الصاروخ المعترض بالجزء السفلي من الصاروخ القادم، فكل ما يستطيع انجازه هو الحاق الضرر بانبوب المحرك الصاروخي، الذي هو عبارة عن انبوب فارغ .. وعمليا ليس له اي تأثير على حصيلة المواجهة” بين الجسم المتفجر والجسم المعترض

          الخبير العلمي في شؤن الطاقة النووية، جون مكلين، ذهب ابعد من زميله بوستول بالقول ان “القبة الحديدة عبارة عن سلاح لحملات العلاقات العامة،” اذ ان كلتاهما يستند الى احدث ما تنتجه التقنية الحديثة من وسائل وابتكارات. واضاف ان تلك الحملة من شأنها “تحويل مجرى الاهتمام (العالمي) بعيدا عن الكلفة البشرية للغارات والقصف الاسرائيلي لقطاع غزة”

          الصحف الصادرة في الكيان الصهيوني صباح الثامن عشر من شهر تموز الجاري اوردت الاحصائيات “المخيفة” التالية: عدد الصواريخ التي اطلقته المقاومة الفلسطينية بلغ 1,344 صاروخا؛ رصد 263محاولة اعتراض. اي ان النسبة “القصوى” لا تتعدى 19.56% وهي نسبة ادنى بشدة من زعم الاجهزة الرسمية بانها تراوحت بين 84 و 90%

          في ذات اليوم، حذرت صحيفة “هآرتس” الحكومة بأن عليها “التفكير مرتين، عشر مرات، مئة مرة (قبل ان تقرر) دخول قوات برية الى قطاع غزة ..” في اعقاب استدعاء الحكومة الصهيونية لمزيد من قوات الاحتياط، 8,000 عنصر، ليبلغ مجموعها نحو 70,000 جندي تحت السلاح

          وجاء في معظم تقارير الصحف المذكورة ان القيادة العسكرية للكيان الصهيوني “تقدر بأن العملية (البرية) ستؤدي الى تصعيد اطلاق الصواريخ على اسرائيل في المدى القصير .. ضباط الجيش الاسرائيلي الكبار هم اقل الناس رغبة في الحرب “

          في البعد السياسي، تم الترويج للغزو البري “المحدود” للقطاع بأنه ثمرة رفض حركات المقاومة الفلسطينية لما سمي بالمبادرة المصرية لوقف القتال، والتي وافقت عليها “اسرائيل” فور الاعلان عنها وسعيها لوضع خصومها في مواجهة الجانب المصري، الذي قيل انه يتحرك بمباركة اميركية. الرفض الفلسطيني القاطع للمبادرة جاء لخلوها من اي ضمانات توقف العدوان وتردعه مستقبلا، وتهميش المطالب المطروحة من ضرورة فتح جميع المعابر وزانهاء الحصار على القطاع، فضلا عن اعادة “اسرائيل” كافة المعتقلين الذين تحرروا بصفقة شاليط، وعدم العودة لصيغة “الهدوء مقابل الهدوء” تعين المعتدي وتخلو من ضمانات حقيقية

          البعد المستحضر في “المبادرة” هو اعادة الاعتبار الى السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، ليقطف ثمار صمود وتضحيات غيره واستعادة بعض اوجه سلطته على القطاع ابرزها وضع طواقم قواته الأمنية على معبر رفح “فيلادلفي” المشترك مع مصر

          كذلك لا يجوز اغفال البعد السياسي والاعتبارات الداخلية في مصر التي لا زالت تواجه تجليات “التنظيم الدولي للاخوان المسلمين،” ومقره في تركيا بدعم وتأييد من امارة قطر اللتين تجهدان لاستعداة “مجد” سلطة حكم الاخوان القصيرة، من جانب، والاهم ان الاثنتين تحتفظان بعلاقات مميزة وعلنية مع “اسرائيل” وتسوقان نفسيهما كاطراف باستطاعتها لعب دور الوسيط بين “حركة حماس واسرائيل،” سيما وان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خال مشعل، يقيم في قطر ويكن وداً جماً لحزب الحرية والعدالة الحاكم في تركيا، ويجهد هو الآخر نيابة عن “التنظيم الدولي للاخوان” لانتزاع ورقة المقاومة واحتضانها من مصر “واحراج نظام السيسي شعبيا واعلاميا واقليميا،” طمعا في تكريس “السيطرة الفعلية لحماس على قطاع غزة”

          قوى المقاومة استبقت كل تلك المؤشرات الرامية الى وأد تضحياتها واتخذت زمام المبادرة ونجحت في اقصاء كل من تركيا وقطر، للحظة، ورفضت اختزال المقاومة بفصيل بمفرده، ، وتصر على دور اساسي لمصر لاعتبارات عدة لا يجوز اغفالها او القفز عليها

          في هذا الصدد نشير الى ما صرح به الناشط والباحث الدكتور ابراهيم علوش: “.. ما سبق قد يضع أنصار المقاومة ومناهضي الصهيونية في معضلة سياسية، فهم لا يمكن أن يؤيدوا إغلاق معبر رفح أو حصار غزة بطبيعة الحال، ولا يمكن أن ينجروا خلف المشروع “الإخواني”-القطري-التركي في الإقليم، ولا يمكن أن يرضوا بأن يدفع الشعب العربي الفلسطيني مجدداً ثمن الصراعات الإقليمية، ولا بأن يتعرض أمن مصر أو أي دولة عربية للتهديد، ولا بأن تُشن حملات ضد جميع الفلسطينيين في بعض وسائل  الإعلام المصرية دون أي تمييز.. فالموقف المبدئي يجب أن يكون أولاً وقبل كل شيء دعم المقاومة ومناهضة العدو الصهيوني بلا تحفظ، كثابت لا محيد عنه، وهو ما يمثل مصلحة قومية عليا تصغر أمامها كل التناقضات الأخرى.   كذلك لا بد من الإصرار على وقف التطبيع وإغلاق السفارات وإعلان بطلان المعاهدات مع العدو الصهيوني، ومنها معاهدة كامب ديفيد، ولا بد من التعامل مع الصراع مع العدو الصهيوني كمسالة أمن وطني مصري لأن كل ما يجري في الإقليم من صراعات وفتن وتفكيك وقلاقل يخدم العدو الصهيوني.  ولا بد من تقديم كل وسائل الدعم للشعب العربي الفلسطيني في مواجهة العدو الصهيوني، في غزة وفي غيرها، ومن ذلك تسهيل حركة الأشخاص والبضائع عبر معبر رفح وغيره طالما العدوان الصهيوني مستمر”

          وحذر من ان “الموقف المبدئي يجب أن يكون أولاً وقبل كل شيء دعم المقاومة ومناهضة العدو الصهيوني بلا تحفظ، كثابت لا محيد عنه، وهو ما يمثل مصلحة قومية عليا تصغر أمامها كل التناقضات الأخرى. كذلك لا بد من الإصرار على وقف التطبيع وإغلاق السفارات وإعلان بطلان المعاهدات مع العدو الصهيوني، ومنها معاهدة كامب ديفيد، ولا بد من التعامل مع الصراع مع العدو الصهيوني كمسألة أمن وطني مصري لأن كل ما يجري في الإقليم من صراعات وفتن وتفكيك وقلاقل يخدم العدو الصهيوني. ولا بد من تقديم كل وسائل الدعم للشعب العربي الفلسطيني في مواجهة العدو الصهيوني، في غزة وفي غيرها، ومن ذلك تسهيل حركة الأشخاص والبضائع عبر معبر رفح وغيره طالما العدوان الصهيوني مستمر”

حيثيات العدوان على غزة

          زفت الدقائق الاولى من صباح السبت، 19 تموز، ثمرة اشتباكات عنيفة دارت مع قوات “الجيش الذي يقهر ويذلّ،” وبدء حرب عصابات حقيقية ضد قوات غازية، امام عدو لم يحصد سوى المزيد من الضحايا المدنيين، اطفالا وشيوخا، نساء ورجالا، وافناء عائلات بأكملها. وحمل بيان صادر عن سرايا القدس، الذراع العسكري لحركة الجهاد الاسلامي، ما يلي: “سرايا القدس تستولي على رشاش الدبابة المستهدفة (ميركفاه بصاروخ مضاد للدروع) في بيت حانون واعتراض مكالمة لاسلكية تؤكد وجود قتلى بين الجنود” من القوة الغازية؛ كما استولت على عتاد عسكري يعود لعدد من الجنود الصهاينة في احد محاور الاشتباك؛ وفجرت دبابة ميركافاة ثانية في بيارة “ابو رحمة” ببيت حانون شمال القطاع. سبق البيان سلسلة صليات من صواريخ قوى المقاومة على تجمعات ومستعمرات فلسطين المحتلة

          كما تواترت تصريحات قادة الكيان الصهيوني، ساسة وعسكريين، تتوعد سكان القطاع بالويل والثبور وعظائم الامور، بأن “الهجوم البري قد يمتد بشكل اوسع ..” الصحف الصهيونية الصادرة عشية التوغل البري اشارت الى حالة الانقسام والارتباك في الصف القيادي قائلة “كل من (رئيس الوزراء بنيامين) نتنياهو، (ووزير الحرب موشيه) يعلون ورئيس الاركان (بيني) غانتس لم يرغبوا الدخول في عملية برية، لكنهم انجروا اليها ..” وحثت “هآرتس” حكومة نتنياهو اسراع الخطى “للبحث عن شريك (فلسطيني) شجاع للتسوية .. اذ ان افضل شريك للتسوية هو مروان البرغوثي”

          يجمع الخبراء العسكريون الغربيون على ان زخم الاندفاع “الاسرائيلي” سيأتي على منطقة بيت لاهيا، في الشمال من القطاع، والتي انطلقت منها الكمية الاكبر من الصليات الصاروخية طمعا في القضاء عليها او تحديد قدرتها، وتوسيع المسافة الجغرافية الفاصلة بين مصدر الاطلاق والهدف في المستعمرات المحيطة بقطاع غزة. ما يجهله ويقر به هؤلاء واقرانهم في الجانب الصهيوني هو مواقع التصنيع وتخزين صواريخ المقاومة، والتي عجزوا عن الفتك بها او تحديد مواقعها بشكل دقيق

          ولجأ الاعلام الصهيوني، كعادته، الى التطمين المخادع لمستوطنية بانه قضى على نحو 60% من مخزون وورشات تصنيع الصواريخ، وزعم ان قدرة المقاومة الفلسطينية لا تتعدى انتاج 30 صاروخا شهريا،” والتي وفق اعلاناته باطلاق 1,344 صاروخا؛ اي ان تعويضها ذاتيا سيستغرق نحو 44 شهرا!

          احدث اعلان صادر عن كتائب القسام، الذراع العسكري لحركة حماس، اوضح ان الصناعات العسكرية الفلسطينية اعدت نحو ربع مليون قنبلة يدوية وضعت تحت تصرف “فتيان الشعب الفلسطيني ليرجموا بها العدو.” واضاف الاعلان انه تم تعويض كافة خسائر العتاد منذ بدء المواجهة بالكامل، مما يرسل خطابا صريحا الى كل المعنيين بأن العدوان واجه الفشل تلو الفشل، والمعركة البرية التي بدأت وتنتظرها قوى المقاومة سيحد من فعالية سلاح الطيران الى حد كبير

          في المحصلة، رفضت كافة فصائل المقاومة بشدة ما يروج لتفعيل الهدنة، بصيغتها عام 2012، واصرت على حقها في الزام الطرف المعتدي وحلفائه بشروط المقاومة، محذرة من تجاوز دورها والقفز على تلبية المطالب الانسانية

استجابت دولة الاكوادور الصديقة سريعا الى نداءات الشعب الفلسطيني واستدعت سفيرها من تل الربيع احتجاجا على العدوان “الاسرائيلي” على الشعب الفلسطيني فور بدء “الاجتياح البري؛” وتتصاعد موجة الاحتجاجات والتظاهرات المؤيدة لفلسطين عبر العالم، والدول الغربية بشكل خاص، يقابلها صمت مروع في الدول الاقرب جغرافيا لفلسطين

التحليل 07-11-2014

:التحليل

غزة تقاوم وتصمد

 نتنياهو يصعّد واوباما يغطي ويرصد الانتخابات النصفية

لا ينبيء العنوان بشيء جديد او مغاير للتحولات التاريخية التي شهدها مسار الصراع العربي  الصهيوني على ارض فلسطين. الفارق الساطع هذه المرة هو في وحدة وصلابة رد المقاومة الفلسطينية الممنهج على مراكز ومقرات ومؤسسات استراتيجية للكيان الغاصب، اوضح تعبيراتها تجسد في صعود الفلسطينيين اسطح منازلهم واكواخهم المتهالكة للمشاهدة والاحتفال بوصول صواريخ المقاومة الى اهدافها تحدث العلع في اوساط المستعمرين الصهاينة وهم يهرولون للاختباء في اقبية الملاجيء، يرافقهم تصريحات قادتهم الفاشيين يعدونهم “باستئصال شأفة المقاومة،” بعد اضطرارهم في كل مرة الى استدارة دباباتهم وفوهات مدافعهم تراجعا وتقهقرا

        جولة جديدة دشنتها “اسرائيل” بغطرسة وصفاقة واجرام معهود: قيام ذراعها من المستعمرين بخطف شاب عربي واضرام النار بجسده حيا،ً وارسال حمم طائراتها المقاتلة اميركية الصنع لتدك شعب يرزح بأكمله تحت الحصار في غزة، في ظل استمرار حرص السلطة الفلسطينية على العودة للتفاوض واستمرار التنسيق الأمني، وتسجيل اميركا احتجاجها شفويا ضد “الجيش الذي يقهر ويذل” لاعتدائه وخطفه شاب فلسطيني آخر صادف حمله للجنسية الاميركية وتعذيبه بمشهد مروع صورته الكاميرا

        في الفضاء الاوسع ، وبعد اقرار للمسؤولين الصهاينة ان قطاع غزة وخلال ايام العدوان الخمسة الاولى المتواصلة تعرض لما يفوق 900 غارة جوية بطائرات اميركية الصنع والذخيرة، والقاء حممها بزنة نحو 1000 طن من المواد المتفجرة، وتدمير اكثر من 200 منزل تدمير كامل ونحو 6000 منزل تدمير جزئي، وخسائر بشرية، شهداءً وجرحى، تتزايد باضطراد. امام هذا المشهد كرست الحكومة الاميركية مواقفها العدائية بالوقوف امام استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يدين العدوان الصهيوني، سبقه تصريحات متكررة لمسؤولين كبارا عبرت عن عدم رغبة او توفر ارادة للتدخل الاميركي بنية وقف العدوان. بل تجاهل الرئيس اوباما المستجدات والتطورات الاقليمية ومضى زائرا يجول في عدد من المدن الاميركية توسلا لتبرعات مالية تعين الحملات الانتخابية لمرشحي الحزب الديموقراطي

        وبهذا اثبت الرئيس اوباما انه ليس في عجلة من امره لوقف العدوان سيرا على خطى اسلافه السابقين واتساقا مع الاستراتيجية الاميركية المعادية للشعوب المطالبة بحريتها واستقلالها. بل لم يدب فيه الحماس لاستقبال شخصي للعاهل الاردني الزائر، الملك عبد الله الثاني، وارجأ الأمر الى نائب الرئيس جو بايدن ليستضيفه على مأدبة افطار صباحي باجواء عائلية، مرسلا بذلك رسالة لمن يعنيهم الأمر ان الظروف الميدانية والسياسية لم تنضج بما فيه الكفاية بعد كي تدخل الولايات المتحدة بثقلها لانقاذ “اسرائيل” بدافع التهدئة وحقن الدماء

        وعليه يستطيع المرء تلمس حقيقة اولويات الرئيس اوباما بالالتفات الى حملة تبرعات دشنها منذ شهور اربع لتعزيز فرص المرشحين عن حزبه الديموقراطي، بعد بضعة شهور، وارجاء القضايا الاخرى ذات الابعاد الاستراتيجية ابرزها العدوان على غزة. هذا الاستنتاج يعززه نتائج استطلاعات للرأي اشارت بثبات تدهور شعبية الرئيس اوباما وتدني الاداء الاقتصادي وتهديد ماثل لخسارة الحزب الديموقراطي زعامته لمجلس الشيوخ، وتراجع الاهتمام الرسمي بالشؤون الخارجية بشكل عام

        ادرك الرئيس اوباما اخيرا ان معركته لكسب اصوات المستقلين خاسرة كانعكاس لتدهور الحالة الاقتصادية، ويضاعف مهامه ومهام مرشحي حزبه لادامة لحمة القاعدة الحزبية. ويسعى اوباما جاهدا لبناء تحالف قاعدة انتخابية اوسع امتدادا دلالة على الاستراتيجية الجديدة للبيت الابيض بالاستدارة لصقل سياسات داخلية

        في الشأن الداخلي ايضا، تواصلت ازمات الرئيس اوباما بتسديد المحكمة العليا هزيمة اضافية لبرامجه الداخلية واصطفافها الى جانب اصحاب المصالح الكبرى التي طالبت بتقييد حرية العامل والموظف التمتع بمزايا نظام الرعاية الصحية تخص توفير وسائل منع الحمل، الأمر الذي قد يترجم انتخابيا بتضخم صفوف العامل النسائي في صفوف الحزب الديموقراطي احتجاجا على تدخل “السلطات العليا” بامورهن الخاصة والشخصية. كما استشاط اقطاب الحزب الجمهوري غضبا من سياسة الرئيس اوباما “المتساهلة” مع موجات الهجرة “غير الشرعية” نحو الولايات الجنوبية المشتركة حدوديا مع المكسيك، واتهامه باسترضاء القاعدة الانتخابية للجالية اللاتينية؛ مع ادراك الطرفين ان تجمعات انتخابية بعينها لا تلعب دورا مفصليا في تقرير النتائج الانتخابية، ولجوء قادة الحزب الديموقراطي برئاسة اوباما الى فرط الاعتماد على القوى الانتخابية المنظمة، اهمها الجالية اليهودية، التي تتميز بحسن تنظيمها وتعبئتها ومشاركتها الاكبر في الانتخابات من غيرها. جدير بالذكر ان اليهود يشكلون نسبة تتراوح بين 2 – 2.5% من عموم الشعب الاميركي، تقطن اغلبتهم المطلقة بنسبة 94% في 13 ولاية من مجموع الولايات الخمسين

        توزيع اصوات الجالية اليهودية يذهب بغالبيته لصالح الحزب الديموقراطي، تقدر احدث الدراسات ان 70% منهم يميلون للصف الديموقراطي، مقارنة مع نسبة 49% من عموم الاميركيين يؤيدون الحزب. النسب المذكورة تشير الى اهمية وحساسية الفوز باصوات اليهود بالنسبة للرئيس اوباما والمرشحين الديموقراطيين، لا سيما في الولايات التي تصنف حاسمة: اوهايو وفلوريدا وبنسلفانيا

        مرجعية الاصوات اليهودية، فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية بشكل خاص، طرأ عليها بعض التغيرات في المراحل الاخيرة، وان لم تكن حاسمة وقاطعة الا انها تدل على تعديل بعض المسلمات السابقة لمن يهتم بحسبان الاصوات. اشارت احدث استطلاعات معهد “بيو” ان غالبية اليهود ينظرون الى انفسهم كمواطنين اميركيين اولا، واهتمامهم “باسرائيل” يحتل المرتبة الثانية مع ملاحظة تراجع حدة الانتماء للطائفة اليهودية – وفق استطلاعات “بيو.” واضاف “بيو” ان نحو 71% من اليهود غير المتدينيين يتزاوجون خارج الطائفة اليهودية، ونحو 60% منهم لا يمارسون شعائرهم داخل المعبد. هذه الشريحة بالذات هي التي يراهن عليها الحزب الديموقراطي لاستقطابها يعززها اعراب 54% من اليهود الاميركيين عن تأييدهم لمدى الدعم الاميركي “لاسرائيل”

        النسبة المتبقية من اليهود، 46%، هي التي يرمي اوباما لاستقطابها في ظل توارد معلومات بان قطاعها الاوسع بات يميل لتأييد الحزب الجمهوري سيما وانها الشريحة الولادة بين اليهود، وبعضها لا يكن تأييدا للرئيس اوباما ويعارض سياساته “المتشددة نحو اسرائيل”

        شريحة الارثوذوكس او المتدينيين من اليهود هي الاكثر نموا وتشكل نحو 12% من مجموع الجالية اليهودية في اميركا؛ مع الاشارة الى ان الجيل الفتي تحت سن الثامنة عشر ويشكل 75% من مجموع اليهود. الجزء الاكبر من هذه الشريحة هو الاميل لتأييد الحزب الجمهوري لدوافع اقتصادية وتجارية بالدرجة الاولى، ويتجمهرون في المدن الرئيسة. على سبيل المثال، يميل نحو 33% من شريحة الارثوذوكس الكبيرة في مدينة نيويورك لتأييد الحزب الجمهوري

        في التفصيل ايضا، اعتبر نحو 40% من اليهود القاطنين مدينة نيويورك انهم من الارثوذوكس، مقارنة بنسبة 33% اجريت قبل نمحو عقد من الزمن. بلغة الاحصاء، ان استمرت تلك الظاهرة بالتصاعد فان شريحة الارثوذوكس من اليهود ستشكل كتلة متراصة وثابتة الدعم للحزب الجمهوري، نظرا لتأييدهم البرنامج المحافظ للحزب في الابعاد الاجتماعية والسلوكية والاقتصادية، والدينية ايضا. سجل عام 2012 تصويت 86% من اليهود الارثوذوكس لصالح الحزب الجمهوري، مقارنة مع نسبة 28% تأييدا للحزب من غير الارثوذوكس. بالمقابل صوت نحو 72% من غير الارثوذوكس اليهود للرئيس اوباما وحاز على نسبة تأييد 14% فقط من اصوات الارثوذوكس اليهود

        يهمنا الاشارة في هذا الصدد الى التزام شريحة الارثوذوكس اليهود بالسياسة “الاسرائيلية” كأولوية على ما عداها من قضايا، وربما هذا ما يفسر نأي الرئيس اوباما بالنفس عن الاهتمام بالعدوان على غزة، دون تجاهل البعد الاستراتيجي في السياسة الاميركية المعادية لقضية العرب المركزية

دور التقنية المتطورة في العدوان على غزة

        في ظرف زمني قصير لا يتجاوز عشرة اعوام يتعرض قطاع غزة لعدوان “اسرائيلي” شامل باشتراك اسلحة الطيران والبحرية والمشاة، وتتصدى فصائل المقاومة الفلسطينية المختلفة بسلاحي التصميم والارادة البشرية والصواريخ المتواضعة، بل فاجأت بتطور دقتها وعمق امتداداتها الاصدقاء قبل الاعداء. وتدريجيا صعدت المقاومة الفلسطينية تنويع صواريخها بدءا بقصيرة المدى المصنعة محليا، وصولا الى المديات التي تصل لنحو 160 كلم من طراز 302 سورية الصنع (كما نقلت مجلة الايكونوميست البريطانية واكدتها مصادر المقاومة)، وكذلك الاشد قدرة تدميرية من طراز ام-75 محلية الصنع التي تحمل رأسا متفجرا بزنة 100 كلغم، استهدفت منطقة مفاعل ديمونا وتل الربيع

        تصدت “القبة الحديدية” لعدد محدود من الصواريخ التي اصابت اهدافا في عمق فلسطين المحتلة، امتدادا من المستعمرات المحيطة بقطاع غزة وصولا الى حيفا ومرورا بتل الربيع والخضيرة، ولم تسلم القدس المحتلة من دقة التصويب. بل اصابت مطار اللد، مطار بن غوريون، للمرة الاولى في تاريخ الصراع العربي الصهيوني مرات اربع

        اعتاد الكيان الصهيوني على المفاخرة بفعالية القبة الحديدية، بل المبالغة المفرطة فيها بالزعم انها تراوحت بين 84 و 90% من الدقة. الارقام الصادرة عن هيئاته العسكرية والرسمية تدحض ذلك. في مطلع اليوم الخامس للعدوان، اوردت وكالة “أ ب” الاميركية للانباء  ان مجموع ما اطلقته المقاومة الفلسطينية من مختلف الاعيرة بلغ 420 صاروخا اعترضت “القبة الحديدية” 90 صاروخا. اي ما يعادل 21%. في اليوم الذي سبقه، اوردت الانباء اطلاق 117 صاروخا اعترضت “القبة الحديدية” 19 صاروخا؛ اي نسبة 16%

        نشرت “اسرائيل” 7 بطاريات صواريخ للقبة الحديدية بالمنطقة المحيطة مباشرة بقطاع غزة، ورغم كثافتها فان اداءها كان بالغ التواضع وفق الارقام الرسمية المنشورة، فضلا عن الكلفة العالية للبطارية (50 مليون دولار) وصواريخها (40،00 – 100,000 دولار). واستدعت ايضا 40،000 من جنود الاحتياط للخدمة الفعلية دلالة على نواياها باطالة أمد العدوان لكن قادتها من سياسيين وعسكريين يترددون في اتخاذ قرار الاجتياح البري الذي يلوكونه يوميا في ظل مناخ تبادل الاتهامات بين قادة الاجهزة الاستخباراتية والعسكرية لشح وفشل جمع المعلومات عن اسلحة ومواقع المقاومة

        في الشق الاميركي، الانتظار والترقب يلازم الحركة السياسية مع رشح معلومات عن نقاشات داخلية عالية المستوى تشير الى عدم تفضيل الجانب الاميركي لاجتياح “اسرائيلي” بري، في الوقت الراهن، والمماطلة باطالة القصف الجوي لالحاق اكبر قدر من الخسائر البشرية طمعا في تبلور معطيات مغايرة عما تنبيء به النتائج الميدانية، في ظل تعطيل حركة الملاحة المدنية في مطار اللد وخضوع ما لا يقل عن 3 ملايين مستوطن يهودي في اقبية الملاجيء

التحليل 07-04-2014

:التحليل

:أميركا في ذكرى الاستقلال

مكابرة، ارتباك، وتصدع في بنى مؤسسات الدولة

          يشب الفرد الاميركي منذ نعومة اظفاره متشبعا بنموذجية واستثنائية نظام بلاده السياسي ويزج به باتجاه انه النظام الامثل والافضل في العالم مرجعيته نصوص الدستور وفصل السلطات فيما بينها، من ناحية، وبين السلطة الدينية، بل لما يتميز عن نظام اسلافه في الامبراطورية البريطانية؛ واحتكاره الميزات والخصوصيات والتحكم بمقدرات الشعوب البشرية

          في ذكرى احتفال الولايات المتحدة “باستقلالها” عن اصولها الامبراطورية وزهوها بنص دستوري يعطي مواطنيها الحق في اسقاط الحكومة التي تنتهك حرياتهم، برزت حديثا مؤشرات تدل على تصدع آليات الحكم والاجهزة المتعددة وتوارث التوازنات فيما بينها، بالتوازي مع تنامي مشاعر جماعية ضد استغلال الحكومة لنفوذها للحد من الحريات المدنية المصانة بدلا من تعزيزها وحمايتها. مؤشرات استطلاعات الرأي، التي ابتكرتها القوى النافذة في السلطة لتشريع تدخلها في الوقت الانسب لخدمة مصالحها، تشير مؤخرا بوتيرة ثابتة الى حالة الاحباط العامة من القادة والمؤسسات السياسية، وانحراف مؤسسة المحكمة العليا عن رسالتها في الانتصار لاولوية النصوص الدستورية على الممارسات المُخِلّة بالتوازن والاصطفاف الى جانب فريق ضد آخر، مما استدعى قوى كيرة وشرائح متضررة الى الاحتجاج والتظاهر باستمرار ضد توجهاتها المقيدة للحريات

          في الجانب التقني البحت، اصدرت المحكمة العليا قرارات اربعة متتالية، الاسبوع الماضي، ارضيتها المشتركة ان ادارة الرئيس اوباما “تجاوزت نطاق صلاحياتها الدستورية” وقوضت مساحة الحرية، ليس صونا لنصوص الدستور كما تفترض مهمتها ومبرر وجودها، بل اصطفافا لجانب القوى المناهضة لسياسات الادارة الداخلية، ابرزها برنامج الرعاية الصحية الشامل – اوباما كير، ومصالح الشركات والمصالح الاقتصادية الضخمة. ايضا، عززت قرارات المحكمة العليا جنوح القوى الاجتماعية المحافظة  توجيه غضبها واحباطها السياسي نحو ما تصر على تسميته “الهجرة غير الشرعية” لمواطني دول اميركا الوسطى واللاتينية الى الاراضي الاميركية، واحتجاز الناجين من عذاب الرحلة، صغارا وكبارا من الجنسين، في معسكرات اعتقال لاذلالهم قبل اعادتهم قسرا الى المناطق الحدودية المشتركة مع المكسيك. بالمقابل، سارع الرئيس اوباما، في ذكرى الاستقلال، الى ترويج “تاريخ البلاد الغني كدولة مكونة من المهاجرين تمتثل لسلطة القانون ..” التي تشكل احدى ثوابت الخطاب الرسمي الاميركي، داخليا وعالميا

          الاحتجاجات الشعبية تدل على تنامي الشرخ الاجتماعي، بجذوره السياسية والاقتصادية، مما يستدعي التساؤل ان كان المجتمع الاميركي على ابواب انشقاق اوسع وتصاعد موجات الاحتجاج. المرجح الاكبر ان المشهد الاميركي مقبل على تنامي وتيرة الاحتجاجات والتظاهرات يعززها تفاقم الفروقات الاجتماعية والاقتصادية وتراجع مساحة الحريات وتنامي المعارضة للمتضررين من سطوة الأجهزة الأمنية التي لا زالت اسرار تدخلاتها في صغائر الحياة اليومية للمواطنين تتوارد باضطراد. اوضاع وصفها استاذ القانون في جامعة هارفارد، لورنس لَسيغ، بالقول “يعتقد الاميركيون من كافة انتماءات الطيف السياسي ان النظام السياسي الاميركي محطم ومعطل. ما ينوف عن 90% منا (كمواطنين) يرجح جذر الفشل الى دور المال الطاغي على السياسة” والسياسيين. واضاف محرضا المواطنين على التحرك ان مراكز القوى في “واشنطن معطوبة ولن تبادر لاصلاح نفسها – يتعين على المواطنين القيام باتخاذ مبادرات” لوضح حد لفساد رأس المال والسياسيين

          تنوعت المساهمات والتحقيقات الساعية لاماطة اللثام عن آليات نظام الحكم الاميركي، قلة منها لامست جوهر النظام وتركيبته والغوص في القوانين الاجتماعية والتاريخية الناظمة، ولجأ الجزء الاكبر منها الى اطلاق الاحكام الجاهزة والمعلبة طمعا في التغني بمحاسن النظام مقارة بالنظم الاخرى، لا سيما في عدد من الدول النامية ومن ضمنها الدول العربية، في حين تنعدم ارضية المقارنة العلمية بين نظم معظمها جيء به لتأدية وظيفة او جملة وظائف محددة خدمة للنظام السائد ومفاضلة النمط الغربي والاميركي تحديدا

          بجرعة واقعية وموضوعية تدعمهما دقة السرد والتحليل سنسلط الضوء للتعرف النقدي على كنه الآليات والعلاقات الناظمة بين المواطنين الاميركيين والسلطة السياسية وتقديمه للجمهور بمقاربات واقعية  لما اضحى ملموس لديه من اتضاح الشرخ الفاصل بين الدعاية والواقع

سلطات حكومية محدودة، فصل بين السلطات وسيادة مشتركة

          تركيبة النظام الاميركي تقف على دعامة “فصل” السلطات عن بعضها وتعزيز مبدأ الحكم بالتوافق والشراكة بين المكونات الثلاث: التنفيذية (الرئاسة)؛ والتشريعية (الكونغرس بمجلسيه)؛ والقضاء (ممثلا بالمحكمة العليا)، درءا لاحتكار السلطة من قبل احداهن على حساب الاخريتين. مسألة السيادة “الوطنية والقومية” هي ايضا مسألة مشتركة بين الحكومة المركزية وسلطات الولايات المحلية والشعب، تم التوصل الى صيغتها بعد صراع التجربة والخطأ استمر لنحو 15 عاما قبل رسوّ الاختيار على الصيغة الراهنة

          صيغة الحكم الاولى اضحت تعرف بمجلس “الكونغرس القارّي” الذي التأم يوم 5 أيلول 1774 وانتخب “بيتون راندولف” رئيسا له الذي بات الرئيس الاول للاتحاد الاميركي. ورغم اضطلاعه بالسياسة الخارجية وصلاحيات شن الحروب، الا ان سلطته الحقيقية كانت محدودة الطابع نظرا لطبيعة تكوين المجلس كاطار جامع “لدول (ولايات) سيادية” تحد من سلطاته الا اذ توصلت الى اجماع فيما بينها

          مع نشوب الحروب وامتدادها في تلك الفترة اثبتت صيغة “الكونغرس القارّي” عن قصورها وعمق مواطن ضعفها، مما استدعى “المسؤولين” استبدالها بنظام يحتكم الى اعلان مواد كونفدرالية، الذي رسم حدود السلطات المتاحة في ايدي الحكومة المركزية، مقابل اقراره بمبدأ السيادة التامة للولايات المحلية على اراضيها؛ واستمر العمل بتلك الصيغة نحو عقد من الزمن، 1779 الى 1788

          عقب اكتشاف مواطن ضعف بنيوية في تلك الصيغة تم التوصل الى طرح مشروع دستور، الذي بعد المصادقة عليه اضحى دستورا معتمدا لغاية الزمن الراهن. بيد ان ذلك لم يبدد مخاوف الولايات المحلية من تمركز السلطات الحقيقية بيد الحكومة الفيدرالية، الى ان تم التوصل الى وضع بعض الكوابح القانونية في النص، والتي بمجموعها ارست ارضية التوترات وتعارض الصلاحيات التي نشهدها حاليا بين السلطات المركزية والمحلية

          من بين تلك الكوابح تم اضافة بند على الدستور يقر بسيادة المواطنين / المحكومين مقارنة مع الصيغ السابقة التي ارست مبدأ السيادة لسلطات الولايات المحلية، عززها فقرة افتتاحية الدستور التي تنص على “نحن افراد الشعب الاميركي ..،” اثارت جدلا في مراكز القوى اذ اعتبرت بانها تقوض نطاق نفوذها. للدلالة قال احد “الاباء المؤسسين،” باتريك هنري، تندرا بتلك الافتتاحية “ماذا تعني ’نحن الشعب‘ في الديباجة؟ الصيغة التي نحن بصددها هي اتحاد كونفدرالي بين الولايات؛” شاطره الرئيس المقبل للبلاد، صموئيل آدامز، قائلا “اجد نفسي امام عثرة منذ البداية. نحن عبارة عن اتحاد كونفدرالي بين ولايات”

          وعليه، ارسيت قواعد النظام السياسي على اركان توافقية بين سلطات توزعت على عدة هيئات على خلفية الاعتقاد السائد آنذاك بانها الصيغة الامثل لحماية حقوق الشعب والولايات، مع الاخذ بالاعتبار انه لا يشكل صيغة كفؤة وفعالة لنظام الحكم، بل يحجم نفوذ السلطات المركزية من مراكمة سلطات اخرى

:بالنظر الى صيغة التوازنات المنشودة بين السلطات المختلفة نجد التالي

:الحكومة الفيدرالية تستمد سلطاتها من الدستور

الرئيس يطبق القوانين الناظمة ويمارس السياسة الخارجية الى جانب موقعه كقائد اعلى للقوات المسلحة؛

مجلس النواب يتحكم باقرار الميزانيات ومنوط به التقدم بميزانية مقترحة وفرض الضرائب؛

مجلس الشيوخ الذي يعد الممثل الاول للولايات اضحى يمارس دوره كمجلس تشريعي اعلى صلاحياته تتضمن اقرار القوانين والمصادقة عليها؛

.المحكمة العليا وظيفتها تقتصر على اضفاء التفسير الدستوري على القرارات والاجراءات والتيقن من امتثالها لنصوصه

.سلطة الولايات المحلية منصوص عليها دستوريا عززتها مادتي التعديل العاشرة والحادية عشر

:صلاحيات الشعب

          تشمل الصلاحيات الفردية ممارسة حق الانتخابات لاختيار ممثليهم في مستويات الحكم المختلفة: قوميا ومحليا ومناطقيا، ورد ذكرها نصا صريحا بالدستور واعلان حقوق المواطنين (مواد التعديل الدستورية 1 الى 10)، تشمل حريات العبادة والتجمهر والتعبير واقتناء الاسلحة، وتحرم ايواء الجنود (الهاربين) ابان زمن السلم، والحصانة ضد التفتيش الشخصي، وحقوق المتهمين لاجراءات محاكمة عادلة بحضور وكيل قانوني ومحاكمة امام هيئة محلفين، وحظر العقوبات المفرطة، والاقرار بأن كافة الصلاحيات الاخرى غير المنصوص عليها لصالح الحكومة الفيدرالية او مجالس الولايات المحلية هي ملك الشعب

          تجدر الاشارة الى ان اعلان الاستقلال ونصوص الدستور الاميركي بهما اقرار ان “السيادة هي بيد الشعب في نهاية المطاف .. وان الحكومات تستمد سلطاتها من موافقة المحكومين .. واينما نجد ان نظام الحكم  اصبح يهدد الغايات المقصودة، فمن حق الشعب النهوض لتغييره او ازاحته، وتنصيب حكومة جديدة”

اعيدت المصادقة على هذا النص من قبل المحكمة العليا عام 2008 اثناء البت في قضية مرفوعة ضد السلطات المحلية في واشنطن العاصمة، اذ اكدت العليا على “حق الشعب اقتناء السلاح كاحد عناصر الدستور الهامة بحكم انه اوفر قدرة لمقاومة الاستبداد.” نظريا، توفر النصوص الحقوقية للشعب الاميركي التمتع بصلاحيات غير متوفرة في عدد من الدول والنظم الاخرى، ويتم استحداث وادخال النص في الخطاب اليومي كوسيلة تذكر الاميركيين “بتفوق” نظامهم السياسي ودلالة على فشل المساعي المتتالية للهيئات الحكومية الحد من انتشار السلاح الفردي في المواطنين الاميركيين

في هذا السياق، تنبغي الاشارة الى سعي الحكومة المركزية، وخاصة السلطة التنفيذية ممثلة بالرئاسة، بثبات واصرار على تركيز السلطات بيدها، ومضت قدما دون استشارة السلطة التشريعية، بل حاولت الاستيلاء على صلاحيات تخص الحكومات المحلية حصرا، الى جانب جهودها لتقييد مجال الحريات العامة. الامر الذي اثار غضب قواعد شعبية متعددة

الرئيس اوباما في مواجهة المحكمة العليا

تلجأ السلطات التنفيذية، المركزية والمحلية في الولايات، الاحتكام للمحكة العليا للبت في مسألة استقواء السلطة المركزية وتعديها على صلاحيات الآخرين، اتساقا مع نصوص الدستور المركزي. يشار الى ان تسليم الحزب الديموقراطي بسطوة اليمين واقطابه من المحافظين الجدد على السلطة التشريعية، ابان فترة الرئيس جورج بوش الابن بشكل خاص، اخل بمعادلة التوازن المرجوة وادى لاحقا الى اصدار العليا عدد من القوانين بعيدة المدى المناهضة للرئيس اوباما وحزبه، على الرغم من دعمه وترشيحه لقاضيين من اعضائها خلال ولايته الرئاسية. ومنذ مطلع عام 2009، تعرضت ادارة الرئيس اوباما الى ما لا يقل عن عشرين قرار هزيمة على ايدي العليا، وفقا لما ذكره السيناتور عن تيار حزب الشاي، تيد كروز

وقال كروز “ان صافي خسارة الرئيس اوباما من معدل قرارات العليا بالاجماع هو ضعف المعدل تقريبا لما تكبده سلفه الرئيس بوش وما يعادل 25% مما لحق بالرئيس الاسبق بيل كلينتون

امتدادا لهذا السياق، اصدرت المحكمة العليا قرارا بالاجماع، 9 مقابل 0، اعتبرت ان الرئيس اوباما تجاوز حدود صلاحياته الدستورية عند لجوئه لتعيين ثلاثة مسؤولين خلال فترة اجازة الكونغرس ليتفادى خضوعه للابتزاز السياسي. اهمية القرار تكمن ايضا في تأييده لحق مجلس الشيوخ الدستوري التصويت على مرشحين لمناصب حكومية رفيعة

واتبعت قرارها بصدمة اخرى للحكومة والاجهزة الأمنية اذ صوتت بالاجماع ايضا على قرار يحد من صلاحيات الحكومة واجهزتها تفتيش الهواتف الشخصية دون توفر امر قضائي مسبق يسمح بذلك نصاً، وفشل ادارة الرئيس اوباما انقاذ مشروعها للسطو على صلاحيات اضافية تقيد الحريات الفردية.  واستندت المحكمة الى نص مادة التعديل الدستوري الرابعة التي تحصن المواطنين من تلك الممارسات – التفتيش دون اجازة قضائية

كما قضت المحكمة العليا ببطلان جهود الادارة الاميركية الزام العمال بعضوية نقابتهم وتسديد رسوم العضوية عند اعتراضهم على توجهاتها السياسية؛ وقضت ايضا بحق المواطنين المناوئين للاجهاض التجمهر والاحتجاج على مقربة من المستوصفات الطبية التي يتم الاجهاض تحت سقفها بذريعة التمتع بحرية الرأي

 ومن بين القرارات المثيرة للجدل صادقت المحكمة العليا على حق الشركات والمؤسسات الخاصة برفض ضم وسائل منع الحمل كجزء من برنامج الرعاية الصحية، كما ينص عليه “اوباما كير،” بدافع انها تتناقض مع المعتقدات الدينية لاصحاب تلك المصالح

في المسائل الداخلية الصرفة، اصطفت العليا بقراراتها الى جانب السلطات المحلية في الولايات تعزيزا لسيادتها على قراراتها عند تعارضها مع القرارات المركزية، مما اعاد عقارب الساعة الى الوراء بضعة عقود في مسألة صلاحيات الدولة المركزية لتطبيق بعض مواد قانون التصويت، مثلا، واقرت بمعارضته للنصوص الدستورية

انحسار هيبة الحكومة المركزية

تسارع وتيرة قرارات المحكمة العليا ومناهضتها لتوجهات الادارة الاميركية الراهنة قوّض مقام ووقار الاداء الحكومي والحق اضرارا جمة بسمعة الرئيس اوباما تحديدا، مما اسهم في انخفاض معدلات شعبيته في استطلاعات الرأي التي اجريت مؤخرا واعتبره احدها “اسوأ رئيس اميركي على مدى 70 عاما”

وتتالت الاخبار السيئة تباعا للرئيس اوباما مع اصدار يومية “انفستر بيزنس ديلي” نتائج استطلاع اشرفت عليه يفيد بأن 59% من الاميركيين يحملون الرئيس اوباما مسؤولية أزمة تفاقم “الهجرة غير الشرعية” للاراضي الاميركية؛ و 56% يحملونه مسؤولية تدهور الاوضاع الأمنية في العراق نتيجة قراره بالانسحاب؛ و 65% منهم يعتقدون ان ادارته تجهد لاخفاء الممارسات والتدابير الخاطئة التي اقدمت عليها مصلحة الضرائب باستهدافها منظمات سياسية مناوئة لها في الرأي

امعانا في احراج الرئيس اوباما والاداء الحكومي العام، اصدر معهد غالوب الشهير نتائج استطلاعات للرأي منتصف الاسبوع  مشيرة الى ان 79% من الشعب الاميركي اعربوا عن اعتقادهم بأن الفساد يستشري في عموم الاجهزة الحكومية، مسجلا ارتفاعا بنحو 20 نقطة عن ذات الاراء المستطلعة عام 2006، مما يحيل الولايات الى احتلال مرتبة مرتفعة بين الدول المشهورة بالفساد. بالمقارنة، افادت الاستطلاعات ان نسبة المؤيدين للرئيس لم تتعدى 29%، بينما بلغت 36% في مطلع ولاية الرئيس اوباما. اما الكونغرس فلم يحظى الا على نسبة 7% من الرضى الشعبي، بينما حصدت المحكمة العليا نسبة 30% من الرضى، هي الاعلى من بين كافة المؤسسات الرسمية

ترافقت نتائج الاستطلاعات مع انخفاض نسبة الاميركين الذين يقرون بمركزية بلادهم في مجال الحريات الفردية المتاحة بين الشعوب الاخرى، وانخفض معدل الزهو بالامتيازات بينهم الى نسبة 79% عام 2013 مقارنة مع 91% عام 2006 وفق احصائيات معهد غالوب سالف الذكر

تداعيات الانحسار على المشهد الاميركي

النظرة الموضوعية لما يمور تحت سطح التحولات الاميركية تؤشر على هشاشة النسيج الاجتماعي بمعدلات مقلقة تفوق توقعات الكثيرين. تتمثل عوارضها في: انخفاض حاد في معدلات مستوى المعيشة؛ تنامي القلق من تقلص مساحة الحريات؛ فضلا عن تصاعد معدلات الاحساس الشعبي بفساد الاجهزة الحكومية التي تتآكل مكانتها باضطراد

في هذا السياق لا بد من الاشارة الى تصاعد موجة الاحتجاجات سيما التي شهدتها ولاية كاليفورنيا حديثا باقدام نحو 200 مواطن على التعرض باجسادهم لمنع سير ثلاث حافلات كانت تنقل “مهاجرين غير شرعيين” والالقاء بهم على الجانب الآخر من الحدود المشتركة مع المكسيك، تعبيرا عن مشاعر الاحباط التي تنتاب الطبقة الوسطى في المجتمع من الاولويات المقلوبة للشريحة السياسية؛ مذكرا بحادثة مربي البقر “بندي” في ولاية نيفادا وتصدي مسلحين من مؤيديه الى ممثلين الحكومة المركزية؛ فضلا عن توالي معلومات تفيد بتشكيل ميليشيات خاصة من سكان الولايات الجنوبية، تكساس واريزونا، تجوب المناطق الحدودية المشتركة بحثا عن الموجات البشرية من”المهاجرين غير الشرعيين

تصدع النسيج الاجتماعي، كما تدل التجارب التاريخية، لا يوقف تدهوره الا خطوات وتدابير تراجعية تبادر اليها الحكومات المركزية؛ اما تجاهل الامر فسيؤدي الى تصاعد الاحتجاجات وانزلاق الاوضاع من سيء الى اسوأ – كما دلت تجربة القيصر الروسي نيقولاس الثاني وغيره

السؤال الذي يتبادر الى الذهن هو هل سيقدم الرئيس اوباما بالابتعاد عن بعض الممارسات التي حصدت توبيخا له من قبل المحكمة العليا وانهيار معدلات شعبيته بين المواطنين؛ الاجابة بالنفي هي الاكثر ترجيحا سيما وانه اعلن عن نيته الاقدام على تعديل قانون الهجرة من جانب احادي، بموازاة تدابير اخرى وعد بها مع ادراكه بعدم تقبل الشعب لها. الأمر الذي سوف يؤدي الى تغذية مسببات الاحتجاج

من العسير الجزم بالمدى المرئي الذي يمكن الرئيس اوباما الذهاب به، بيد ان الثابت هو عقم المضي في المسار الراهن دون المجازفة بتداعيات سلبية تدهم البنية الحكومية والمجتمع بشكل عام

التحليل 06-27-2014

:التحليل

في مئوية الحرب العالمية الاولى

البؤر الساخنة تنذر باندلاع حروب جديدة

        يصادف اليوم الاول من رمضان 1435 ه، السبت 28 حزيران 2014، الذكرى المئوية لحادثة ادت لاندلاع الحرب العالمية الاولى، وفق الروايات الرسمية لمراكز النظام الرأسمالي، التي تحددها بعملية اغتيال فرانز فرديناند، الدوق الاكبر والوريث لعرش الامبراطوية الهنغارية النمساوية، تتلطى وراءها لتحجب الصراع المرير بين مراكز رأس المال للسيطرة وبسط الهيمنة والنفوذ. اذ اثبتت حادثة اغتيال فردية على قدرتها في استدراج عدد من القوى الكبرى الى حرب طاحنة ادت لهلاك ملايين البشر وتدمير مجتمعات بأكملها اسست تداعياتها لحالات عدم الاستقرار الراهنة والسيطرة والنفوذ الاجنبي على مقدرات وخيرات الشعوب الاخرى. كما ادى حادث الاغتيال الى سقوط القيصرية في روسيا واندلاع الثورة الاشتراكية التي ارست عناصر الحرب الباردة بعد عدة عقود من الزمن؛ وبروز الفاشية بقيادة هتلر في المانيا وسعيه للسيطرة على الشعوب الاخرى مما ادى الى اندلاع حرب كونية ثانية اشد قسوة وايلاما ودمارا من سابقتها

        اتسمت الفترة الزمنية التي اغتيل فيها فرديناند بعصر ساد فيه السلم بين الدول والقوى العالمية، مع الاخذ بعين الاعتبار ان الدولتين الجارتين فرنسا والمانيا لم تشتبكا في حرب منذ عام 1870؛ كما شهد تقارب بين القوى الاوروبية الاخرى: بريطانيا والمانيا وروسيا القيصرية نظرا لتشابك العلاقات بين العائلات التي حكمتها آنذاك

        في الرواية الرسمية، شكل اغتيال فرديناند نقطة فاصلة غيرت سمات العصر: اشتعلت منطقة البلقان وتنافست الدول الاستعمارية الاوروبية على بسط نفوذها وسيطرتها على موارد الشعوب الاخرى، ممثلة بالمناطق الواقعة تحت سيطرة الامبراطورية الهنغارية النمساوية والامبراطورية العثمانية والامبراطورية الروسية. فالاولى استغلت الحادثة لبسط سيطرتها ونفوذها على مناطق اخرى في البلقان، وطالبت سراييفو عاصمة الدولة الصربية، مكان حادثة الاغتيال، بتقديم تنازلات مذلة والتي ادى رفضها الخضوع لجارتها الى اعلان الحرب عليها، وكرت السبحة بعد ذلك باعلان الحرب على دول اقل شأنا ونفوذا مهدت الارضية لاندلاع الحرب الكبرى

        الامبراطورية الروسية، حليفة صربيا، اعلنت من جانبها الحرب على الامبراطورية الهنغارية النمساوية؛ تلتها المانيا باعلان الحرب على روسيا؛ وفرنسا اعلنت الحرب على جارتيها لدعم حليفتها الروسية؛ واعلنت بريطانيا الحرب على المانيا بعد غزو الاخيرة لبلجيكا في طريقها لاحتلال فرنسا

        من شأن الباحثين والمؤرخين النظر باوجه الشبه بين ظروف الأمس واليوم، وما باستطاعتنا مقارنته بما يحدث في الوطن العربي من حروب وتمزيق وتفتيت مبرمج للمجتمعات وتفكيك الدول الوطنية. آنذاك، عرف عن منفذ الاغتيال صربي الاصل، غافريلو برينسيب، انتماءه السياسي المتطرف؛ اليوم، تعج المنطقة بالتشدد السياسي والديني وتكفير الآخر وقلب للاولويات مما قد يؤدي الى اشعال فتيل الانفجار الشبيه بحادث سراييفو. البلقان آنئذ كانت على برميل بارود قابل للانفجار؛ الوطن العربي برمته يجلس على برميل بارود يشتعل بنزاعات وصدامات تتزايد وطأتها وحدتها بوتيرة متسارعة، وكذلك لموقعه الجيوسياسي المميز وتضارب مصالح الدول الكبرى والصغرى في السيطرة الحصرية على موارده ومستقبله

:عند توجهنا لالقاء نظرة على جملة من السيناريوهات التي من شأنها ان تشكل فتيل انفجار واسع في الاقليم نجد ما يلي

مضيق هرمز

        تعاظمت اهمية وحيوية مضيق هرمز بالنسبة للتجارة العالمية وتدفق النفط الخام وتعبره 20-30 ناقلة نفط يوميا، بمعدل ناقلة كل 6 دقائق في ساعات الذروة، محملة بنحو 40% من صادرات النفط المنقول بحراً على مستوى العالم. وسبق ان هددت ايران مرارا باغلاق المضيق في حال تعرضت اراضيها لعدوان غربي-“اسرائيلي” وسارعت الاوساط السياسية والتجارية الدولية الى نفخ نذير الحرب ان تفاقمت الاوضاع

        جملة عناصر واحداث من شأنها اشعال فتيل الانفجار واغلاق المضيق، ابرزها تحرك اميركي – “اسرائيلي” –  اوروبي مشترك يتعرض لجهود ايران النووية، على رأسها شن “اسرائيل” هجوم على المنشآت النووية الايرانية – والذي سيقتضي ضوءا اخضرا اميركيا بالضرورة. بالمقابل سترد ايران باطلاق وابل من الصواريخ والقذائف الباليستية ضد مصدر العدوان ترافقه باغلاق المضيق امام الملاحة التجارية وحركة الاسطول الاميركي في مياه بحر العرب والخليج العربي، وتعزيز مواقعها العسكرية الراهنة في جزر الطنب وابو موسى

        سيرد حلف الناتو بالاشتراك مع اميركا بنشر قوات عسكرية مهمتها اعادة فتح المضيق امام حركة الملاحة، والتي بمجموعها تستطيع الحاق اضرارا مادية جسيمة في الجانب الايراني الذي سيلجأ لتوسيع رقعة الاشتباك باستهداف مواقع ومصالح غربية اخرى في الاقليم: القواعد العسكرية الاميركية وآبار النفط في دول الخليج اضافة الى “اسرائيل” التي سترد بدورها بقوة ولا يستبعد لجوئها لاستخدام رؤوس نووية ضد ايران

        يتوقع الخبراء الاستراتيجيون بقاء كل من روسيا والصين خارج ساحة الصدام في بداية الأمر، ومن المرجح انخراط سورية وحزب الله، حلفاء ايران، في القتال بشن هجمات صاروخية وربما عمليات توغل في منطقة الجليل المحتل من فلسطين. حينئذ لا تملك “اسرائيل” خيارا سوى الرد وتوسيع رقعة الاشتباك من سواحل البحر المتوسط الى مياه الخليج العربي

        تجمع كافة الاطراف ان تداعيات مثل ذلك الاشتباك ستكون هائلة بكل المستويات، وقد تشهد نتائج شبيهة بتلك التي سادت ابان الحرب الكونية الاولى من سقوط نظم وعائلات حاكمة تستبدل بنظم اشد جذرية وتوجها. في مستوى الخسائر البشرية يتوقع ان ترتفع لاعداد ضخمة نتيجة دخول اسلحة دمار شامل متعددة وانتشار ردود الفعل الى خارج حدود الاقليم

آفاق حدوث انقلاب محلي في احدى دول مجلس التعاون

        العائلات الحاكمة في مجمل دول الخيلج العربي تتداول الحكم بالوراثة ويزداد الشرخ اتساعا بين امتيازاتها شبه المطلقة واوضاع مواطنيها المتردية، ويذكرنا التاريخ الحديث بعدة محاولات انقلاب قامت ضدها وفشلت، بيد ان ذلك لا يعني ان المحاولات قضي عليها او تم وأدها

        العائلات الحاكمة في “السعودية” والبحرين هي الاكثر عرضة للانقلابات التي سيرحب بها حين وقوعها وستنال اعترافا رسميا من ايران، على الاقل، التي قد تحرك بعض وحداتها العسكرية لدعم وتعزيز السلطات الجديدة. الخطوة الايرانية المفترضة قد تدفع دول الخليج الاخرى الى ادخال قواتها ايضا “استجابة لنداء الاخوة في العائلة الحاكمة” للسيطرة على منابع النفط، وقد تتحرك القوات العسكرية للدول الغربية تحت ستار “المحافظة على تدفق منابع النفط” للاسواق الاوروبية، مما سينجم عنه اندلاع حرب تقليدية واسعة تشمل كافة منطقة الخليج

        تعدد الاطراف المنخرطة ومصالحها المختلفة في القتال يعزز الشكوك بأن طبيعة الحرب قد تخرج عن سيطرة القتال بالوسائل التقليدية، وتتجه نحو مزيد من التصعيد فيما لو نجحت ايران باغلاق مضيق هرمز ليس امام حركة الملاحة فحسب، بل لاعاقة اي تعزيزات لقوات حلف الناتو لصالح القوى التقليدية في الخليج. الابقاء على هذا الشكل من الصراع يستبعد انخراط “اسرائيل” وتراجع احتمالات تطور الصراع الى ادخال السلاح النووي ارض المعركة

العراق، سورية وداعش

        ما يشهده العراق من اندلاع واسع للقتال يحمل بين ثناياه امكانية تطوره الى قتال وازمة كبيرة، تنخرط فيه اطراف متعددة، لا سيما الاكراد وداعش وايران، وحكومتي سورية والعراق، فضلا عن القوى المتشددة وداعميها الاقليميين والدوليين التي تتطلع للسيطرة على اهم مرتكزات الهلال الخصيب جغرافيا وسياسيا

        محصلة الواقع الميداني تشير الى عدم قدرة طرف بمفرده على حسم نتيجة المعركة: فحلف ايران وسورية والعراق يسيطر على العواصم والمدن الكبرى، اما المناطق الريفية الاوسع فهي خارجة عن سلطة الدولة المركزية. تنظيم داعش استطاع السيطرة على مساحات كبيرة من الاراضي في العراق وسورية، بيد ان فكره الاقصائي المتشدد لم يسعفه في احراز قاعدة دعم كان يرجوها بين السكان، مما يعد في العلم العسكري هزيمة صافية. بعض القوى المتشددة والتكفيرية الاخرى تجد ملاذا ودعما لها في انظمة ودول الخليج العربي ولم تستطع ترجمة نفوذها المادي الى انتصارات ميدانية تنسبها لنفسها. المستفيد الاكبر في المرحلة الراهنة هو الاكراد ممثلين بحكومة الاقليم الكردي في العراق يستغلون الفرصة لتعزيز مدى نفوذهم وقبضتهم على باقي مناحي كردستان العراق طمعا في انشاء دولة مستقلة على انقاض العراق بعد تفكيكه

        جدير بالذكر ان تنظيم داعش يشن حربه على جبهتين متزامنتين في العراق وسورية معا، وتعثرت مسيرته عن التقدم في ارض السواد، مما حفز الاستراتيجيين من القادة العسكريين القول ان من مصلحة تنظيم داعش تحويل قواه وموارده العسكرية الى الساحة السورية بغية الحاق الهزيمة بالميلشيات السورية الاخرى والحكومة السورية على السواء، والتحول ثانية الى العراق بقوة اضافية بعد تحقيقه اهدافه في سورية

        ممارسات تنظيم داعش في كل من العراق وسورية لا تدل على توفر نية لديه توخي نصائح القادة العسكريين، بل وسع دائرة توغله وتفجيراته غربا للساحة اللبنانية، مزهواً بالكم العالي من الاسلحة والعربات والمعدات التي غنمها من الجيش العراقي عند بدء غزوته. تطور فريد على الجبهة الاعلامية دفع مشغلي وممولي داعش الى التحذير من اخطار تمدده في الاقليم، بالتساوق مع طرفي مواجهته الرئيسيين سورية والعراق، الامر الذي سيعزز طرفي الصراع من دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا والاردن، من جانب، وروسيا وايران من جانب آخر الى ضخ المزيد من وسائل الدعم والقتال لابقاء الصراع مشتعلا في سورية وحصد مزيد من الارواح والدمار – الانجاز الوحيد الذي حققه معسكر خصوم سورية

        تحذير الدول الداعمة لتنظيم داعش من خطر تمدده وتهديده لعواصمهم ينذر باتساع رقعة الحرب التقليدية في الاقليم، خاصة في ظل مؤشرات تدل على وضع داعش نصب عينيه منطقة الحدود العراقية مع الجزيرة العربية بالتزامن ايضا مع دعوات قوى وتيارات مناهضة للحكومة العراقية بضرورة توفير الدعم والحماية لداعش مما اثار هلع الاجهزة الأمنية “السعودية” وبقية دول الخليج لادراكها مسبقا انها لن تستطيع الدخول في اشتباك داخل حدودها نظرا للتعقيدات الاجتماعية والولاءات العشائرية التي رسختها منذ زمن بدل الولاء للوطن. وعليه سارع الاردن الى التحرك العاجل و”تحصين” حدوده مع العراق تحسبا لأي طاريء

        تصاعد اوجه الصراع يرجح تدخل الكيان الصهيوني الى مستويات ابعد مما ثبت حتى الآن بتوفير دعم واسناد لوجستي لقوى المعارضة السورية تستغل فرصة انشغال الجيش العربي السوري في محاربة الارهاب وتدفعه خارج جبهة الجولان توطئة لانشاء منطقة عازلة هناك تحمي الكيان الصهيوني. في هذا الصدد، واستنادا الى ان اولويات الكيان الصهيوني ودول مجلس التعاون بالاضافة الى تركيا والاردن هي في تقويض اسس الدولة والكيان السوري، فليس من المستبعد ان تقدم مجتمعة على محاربة تنظيم داعش مجددا في العراق ودعمه لحصر نطاق عملياته في سورية، وربما في لبنان لخلط الاوراق مجددا هناك وابقاء جذوة الصراع ملتهبة

كردستان العراق

        اطماع تركيا في العراق وخيراته ليست وليدة اللحظة، بل لا زالت المناهج التربوية التركية تحت ظل حكومة “حزب الحرية والعدالة” تشير الى محافظة الموصل كمقاطعة تركية ينبغي عودتها لحضن الدولة. الأمر الذي اسهم في توقيت دعمها الراهن لحكومة اقليم كردستان العراق لانشاء كيانه المستقل مقارنة مع موقف تركيا الثابت سابقا بالتهديد بغزو المنطقة في حال اقدم الاكراد على مثل تلك الخطوة درءا لمطالبة اكراد تركيا بالمثل

        المتغيرات الاقليمية والتطورات الدولية ستقف حاجزا مانعا امام اعلان دولة كردية مستقلة بشكل رسمي، بيد ان عدد من الاطراف ابرزها تركيا والكيان الصهيوني ستواصل دعمها لتوطيد استقلال كردستان العراق غير عابئة بالمناخ الدولي لاعتقادها ان ذلك يقوض وحدة وتماسك العراق. وجود تنظيم داعش وتداخله مع المناطق الكردية قد يدفع بحكومة اقليم كردستان الى التفاهم معه بشأن وقف اطلاق النار وحفزه لتسخير قواته الى جبهات اخرى بمواجهة تركيا وايران، وبالتالي مواصلة تهديده لكل من بغداد ودمشق

سورية: انهيار او انقلاب او اغتيال الرئيس الاسد

        خصوم سورية الاقليميون والدوليون اعربوا بصريح العبارة عن سعيهم للاطاحة بالرئيس الاسد اغتيالا، منذ بدء الازمة، وفشلوا في ذلك؛ استنادا الى ادراك القوى الكبرى المحركة لقوى الارهاب لأهمية ومحورية سورية بقيادة الرئيس الأسد والتزامها الصارم بوحدة الأمة ودعمها اللامحدود لقوى المقاومة لا سيما المحيطة بفلسطين المحتلة – اقليم سورية الجنوبي. اما جدلا فان غياب الرئيس الاسد تحديدا دون غيره من القادة العرب عن الساحة سيوفر الفرصة التي انتظرها خصوم سورية وقد يؤدي الى اشعال فتيل صراع اشمل في الاقليم، شبيه بالظروف التي ادت الى غياب الدوق الاكبر  فرانز فرديناند، نظرا لتعقيدات الوضع الدولي وبروز قوى مؤثرة خارج السيطرة الاميركية والغربية، من جانب، وانكفاء القوة الاميركية التقليدية من جانب آخر، فضلا عن هشاشة اوضاع حلفائها الاقليميين في دول الخليج العربي وازمة الكيان الصهيوني، اليد الضاربة تقليديا

        المعارضة السورية المرتهنة للخارج وتشكيلاتها المسلحة، لا سيما تنظيم داعش، لا تزال تأمل في غياب الرئيس الاسد، بصورة او باخرى، بيد ان مشغليها الاقليميين والدوليين     سيحتفظون بالقرار والتحكم، وربما سيكون المستفيد الاكبر من بينها هو تنظيم داعش نظرا للامكانيات والموارد الواسعة التي تقع تحت سيطرته، ليس اقلها آبار ومنابع النفط في سورية. وعليه، ستذهب خطط المشغلين لتدريب وتسليح مزيد من قوى المعارضة ادراج الرياح امام قوات داعش التي لن تسمح لأحد بمنافستها. هذا السيناريو يفترض ايضا قيام الكيان الصهيوني التحرك لقضم مزيد من الاراضي السورية وانشاء منطقة عازلة مترامية الاطراف

الاوضاع في مناطق اخرى من العالم

        لا يجادل احدٌ في ترابط الاوضاع الدولية بعضها ببعض، تشهد عليه صراعات القوى الكبرى ابان الحربين العالميتين. في الحرب الكونية الاولى صعد نجم المانيا، لا سيما في افريقيا، عند توقيع اتفاقيات الهدنة بين القوى المتصارعة، ونقلت سيطرتها على مستعمرات في المحيط الهاديء الى حليفتها اليابان، بينما ركزت الدول الاوروبية الاخرى ومن ضمنها الولايات المتحدة جهودها الميدانية على غزو صربيا وتفتيتها بغية تشتيت انظار القوى السوفياتية الصاعدة في الداخل الروسي، الى جانب اهداف اخرى

        ما اشبه اليوم بالامس البعيد، اذ ساهم سعي الغرب في زعزعة استقرار الشرق الاوسط الى تعزيز روسيا غربا واستعادة اراضيها من اوكرانيا؛ فضلا عن ان توسع حلف الناتو في اوروبا الشرقية حفز روسيا على استعادة مجدها ابان الحقبة السوفياتية. نشر حلف الناتو لقوات عسكرية في الشرق الاوسط سيؤدي بروسيا اعادة النظر وتحريك اولوياتها نحو اوكرانيا ودول بحر البلطيق، عملا بالمفهوم الاستراتيجي ان الفراغ الجيوسياسي غير مسموح به

        ايضا، استغلت الصين فرص انشغال الغرب والولايات المتحدة لتعزيز نفوذها في مياه بحر الصين الجنوبي ولامست الاشتباك عسكريا مع كل من اليابان والفيليبين وفييتنام، ادراكا منها ايضا ان تنامي حدة الصراع في الشرق الاوسط سيتطلب من الولايات المتحدة تحريك عدد من حاملات طائراتها من المياه الآسيوية الى منطقة الخليج العربي، مما سيزيح الخطر الاكبر من امام الصين لبسط سيطرتها ونفوذها هناك

        الأمر عينه ينطبق على كوريا الشمالية التي ستنتهز فرصة انشغال اميركا في الشرق الاوسط لتعزيز دائرة نفوذها في الاقليم

        الاحداث الداخلية الاميركية ايضا من شأنها التأثير بمسيرة التطورات في الشرق الاوسط نظرا لتشابك المصالح وتعدد الاطراف، وتضعضع مكانة وصدقية الرئيس اوباما داخليا، والاعتبارات المتعددة التي ينبغي ان يأخذها بالحسبان قبل الاقدام على اي خطوة، سيما وانه لا يشذ عن سير اسلافه من الرؤساء الذين سعوا لتعويض مآزقهم الداخلية بمغامرات خارجية – تصدير الازمة. في هذا السياق ينبغي النظر الى تصريحات الرئيس اوباما الاخيرة بتخصيص نحو نصف مليار دولار لتدريب وتسليح قوى المعارضة السورية المصطفاة، وهي التي تكبدت هزائم ميدانية لن تستطيع تعويضها في المدى المنظور

        يدرك الرئيس اوباما بدقة مدى معارضة الشعب الاميركي لمغامرات عسكرية جديدة تستند الى نشر قوات عسكرية خاصة في المنطقة العربية التي اذاقتها طعم الهزيمة العلقم بعد هزيمتها في فييتنام. بيد ان صراع القوى والمصالح الداخلية قد يدفعه لاتخاذ مواقف اشد خطورة تنذر بمزيد من الاشتباكات الدائمة، تيمنا بنصائح الليبراليين الجدد من امثال وولفوويتز، وابقاء جذوة الصراع مشتعلة لعقود مقبلة

        نزعة المغامرات تلك هي التي ادت لنشوب حربين كونيتين وسلسلة اعتداءات وغزو للدول والكيانات الوطنية الاخرى: الامبراطورية الهنغارية النمساوية اخفقت في تقدير رد فعل صربيا على انذارها؛ المانيا ايضا اخفقت في تقدير حليفتها بتوفيرها دعم غير مشروط لمغامرات الامبراطورية؛ الامبراطورية الاميركية اخفقت مرارا وتكرارا في تقدير وجهة حروبها التي اعتقدت، جازمة ربما، ان باستطاعتها حسمها خلال بضعة اشهر على ابعد تقدير، ولا زالت تئن من سوء تقديراتها في فييتنام وافغانستان والعراق – وسورية لا تزال شاهدة على سوء التقدير والغطرسة الاميركية

التحليل 06-20-2014

:التحليل

محنة اوباما

استنزاف وتهديد العراق بالتقسيم ووقف تمدد داعش

ادعت بعض الدوائر الاميركية بالمفاجأة من سرعة تمدد تنظيم “داعش” مما حفز الدعوات المطالبة بما يتعين القيام به اميركيا، وحسم الرئيس اوباما الجدل سريعا بقطع الطريق على دعاة الانخراط الواسع بالحرب، اذ اكتفى بارسال معونات استخبارية معززة بنحو 300 عنصر من القوات الخاصة ومشاة البحرية، المارينز، لاحكام طوق الحماية الأمنية حول السفارة الاميركية – الاضخم في العالم؛ والعمل “خلف خطوط” الاشتباك بمهام تدريبية واستشارية تقدم للقوات العراقية

واضح اوباما ان بلاده على استعداد لانشاء غرف عمليات مشتركة مع العراق في بغداد وشمالي العراق؛ وارسل وزير خارجيته للمنطقة للتشاور مع “الحلفاء” الاقليميين والاوروبيين. سبق الاعلان نشر قطع بحرية في مياه الخليج العربي، من بينها حاملة طائرات تعمل بالطاقة النووية جورج اتش دبليو بوش (الاب)، وسفينة قتال برمائية تتأهب للتدخل واخلاء الرعايا وحماية المصالح الاميركية عند الحاجة

لم ينتهي الجدل في واشنطن واستعراض سبل التدخل، واعرب عدد من اقطاب معسكر الحرب عن خيبة أمله لضعف التواجد العسكري الاميركي، مجددا مطالبه النظر في خيارات عسكرية اخرى؛ بينما تتجه بعض دول الخليج العربي الى البحث عن حلول سياسية وديبلوماسية للأزمة. قبل الدخول في هذا المسعى، من المفيد استعراض “استراتيجية داعش” في الاقليم

يجمع الخبراء العسكريون ان تنظيم داعش يطبق قوانين حرب العصابات بحذافيرها، ويبدو انه اليوم في المرحلة الاخيرة من مخططه للاطباق على مراكز الدولة المركزية والاشتباك مع قوات الجيش العراقي التقليدية بمجموعات ووحدات عسكرية صغيرة لتحقيق ذلك. التقديرات المتداولة حول حجم الجسم العسكري لداعش تتراوح بين 5،000 الى 20،000 عنصر، مدربين جيدا رغم ضآلة حجمه مقارنة مع تعداد الجيش العراقي الذي اشرفت القوات الاميركية على تدريبه وتجهيزه

تفكك وانحلال وحدات الجيش العراقي في بداية هجوم داعش شهدت تراجعا في الايام  القليلة الماضية مما استدعى “داعش” للتريث وتعزيز انجازاته الميدانية. وسارعت وحدات الجيش العراقي لملء الفراغ السابق وتوطيد خططها الدفاعية. في هذا الصدد، يزعم البعض ان ايران ارسلت نحو 2،000 مقاتل من قوات فيلق القدس لحماية بغداد، الأمر الذي فندته التصريحات الاميركية الرسمية

“داعش” ماضٍ بتصريحاته المهددة للاستيلاء على بغداد، مما يتعذر لحينه امتلاك القدرة لتحقيقه مع استمرار القتال في المناطق الاخرى شمالي العاصمة؛ بل لم يستطع الاستيلاء على مصفاة بيجي، اكبر مصافي النفط العراقية، الواقعة على مسافة قريبة الى الشمال من بغداد، على الرغم من الحشود الكبيرة التي خصصها لتلك المهمة

الاوضاع الميدانية في محيط بغداد غير مستتبة بالنسبة لتنظيم داعش مما اضطره للدفاع عن مواقعه السابقة عوضا عن دخول العاصمة كما أعلن، واضطراره تحريك بعض وحداته لشن هجمات على الطريق الرئيس بين بغداد وسامراء؛ ويزهو بسيطرته الراهنة على مدن تقع غربي العاصمة، كرمة والفلوجة، وما توفره له من فرص لنصب الكمائن او شن هجوم وهجوم مضاد انطلاقا من تلك المواقع

استراتيجية تنظيم “داعش” وحلفاؤه، من واقع تجربته السابقة في العراق، تستند الى تفادي الاشتباكات الدموية في شوارع العاصمة واستنزاف القوى المدافعة عبر شن هجمات خاطفة عليها. وقعت تفاصيل تلك الاستراتيجية بأيدي القوات الاميركية عقب اغتيالها ابو مصعب الزرقاوي عام 2006، وكان يحمل خريطة بدائية لمسرح العمليات؛ ونشرت القوات الاميركية تفاصيل خطة “احزمة بغداد” ابان ذروة اشتباكها مع تنظيم القاعدة والدولة الاسلامية في العراق عامي 2007 و 2008. اقتضت خطة الزرقاوي الاستيلاء والتحكم في المحافظات البعيدة واحزمة بغداد، او المناطق الاساسية المحيطة بالعاصمة. ومن ثم تستخدم الدولة الاسلامية في العراق مواقعها الجديدة للتحكم بطرق الوصول الى بغداد، وتوزيع الاموال والاسلحة وتجهيز السيارات المفخخة وادخال المقاتلين للمدينة. كما تشير الخطة الى نشر قواذف وصواريخ محمولة مضادة للطائرات تستهدف اسقاط الطائرات المروحية الاميركية المحلقة في سماء بغداد

خيارات اميركا

توالت الاتهامات تباعا ضد الرئيس اوباما والريبة في امتلاكه العزيمة السياسية المطلوبة لاتخاذ قرار بالتدخل؛ بينما يدرك وطاقمه الاستشاري تنامي معارضة الشارع الاميركي للتدخل مرة اخرى في العراق وهو ما كان يعارضه اوباما سابقا ايضا. اما حقيقة الأمر فتدل على مديات عالية من  المراهنات امام صناع القرار والخشية من ارتداد الغضب العام ضد الرئيس وتحميله مسؤولية تدهور الاوضاع

تشير المعطيات المتوفرة الى ان “الدولة الاسلامية في العراق والشام” تتأهب لخوض صراع كبير، ربما يشبه الاوضاع السائدة عام 2007 التي استدعت الرئيس السابق جورج بوش الابن الى ارسال وحدات قتالية اضافية للعراق لاخماد شعلة المقاومة. للتذكير، تطلب الأمر انخراط ما ينوف عن 130،000 جندي اميركي يعززهم بضع مئات الالاف من قوى الأمن العراقية التي بالكاد استعادت السيطرة على محافظات الانبار وصلاح الدين وديالى ونينوى وبغداد وما اصطلح على تسميته بـ “مثلث الموت.” استغرقت المواجهة الجديدة ما ينوف عن السنة بدعم مباشر من سلاح الجو الاميركي والطائرات المقاتلة في سلاح البر وشن غارات مداهمة  استهدفت مواقع القيادة والتحكم ومراكز التدريب والقواعد التابعة للدولة الاسلامية في العراق

الاحتواء كان آنئذ، اما الآن فالعراق يخلو من تواجد قوات اميركية هامة، بل لو توفر قرار نشرها فان تموضعها سيستغرق وقتا ربما يطول. تستطيع الولايات المتحدة الاعتماد على نحو 500 عنصر من قوات مشاة سلاح البحرية، المارينز، المرابطة على متن السفن الحربية في مياه الخليج العربي، بيد ان تلك القوة مهما بلغت درجات تعزيزها لن يكون بوسعها تحقيق اي تقدم في عراق مترامي الاطراف، او توفير الحماية لبغداد، فما بالك بالتصدي لداعش وفرض تراجع عليه

كما باستطاعة الولايات المتحدة حشد قوات محمولة جوا على عجل من الفرقتين 82 و 101 والتي باستطاعتها الانتشار خلال ايام معدودة. بيد ان تلك القوات تعتمد على تسليح خفيف للمشاة اما معداتها الثقيلة ستستغرق مدة اطول للوصول الى العراق، فضلا عن التحديات والمعوقات اللوجستية. الأهم ان ارسال قوات للعراق سيتطلب موافقة الكونغرس على المهمة، الأمر الذي تجنبه الرئيس اوباما بحنكة خشية تكرار اخطاء قرار الانخراط في السابق

الخيار الآخر المتداول هو قيام الولايات المتحدة بشن غارات جوية مكثفة بالطائرات القاذفة العملاقة ب-52 و ب-2، تستهدف التشكيلات القتالية لداعش ومقراته الرئيسة وخطوط امداده. نظريا، بامكان القدرة النارية المدمرة والهائلة وقف تقدم تجمعات داعش على بغداد؛ بيد ان حقيقة الأمر تشير الى ان استخدام السلاح المذكور لن يؤتي ثماره الا مع تشكيلات قتالية كلاسيكية واهداف تقليدية ثابتة. وعليه، عند افتراض دخول القاذفات المعركة فان اقصى ما تستطيع تحقيقه هو ابطاء تقدم داعش وليس الحاق الهزيمة به

كما باستطاعة القوات الاميركية شن غارات جوية استئصالية واستخدام صواريخ كروز وطائرات دون طيار – درونز، والتي من شأنها تخفيف التداعيات والاحتجاجات الداخلية وايضا تقليص الكلفة العسكرية. تدرك القيادة العسكرية الاميركية ان تجاربها السابقة في باكستان وافغانستان واليمن والصومال ومناطق اخرى ان استخدام سلاح الطيران لا يجوز الاعتماد عليه كبديل عن ادخال قوات برية لتحديد ادق للاهداف ترسل احداثياتها للطيران. الصواريخ المحمولة المضادة للطائرات التي استولت عليها داعش من مخازن الجيش العراقي ستشكل عقبة امام استخدام الطيران والمروحي بشكل خاص

تواجه الولايات المتحدة ايضا عقبات سياسية في المنطقة ان لجأت الى ادخال بعض مواردها العسكرية دون القوات البرية الى الساحة الملتهبة مما سيضاعف اعتمادها على ايران ونفوذها في العراق كقوة اساسية هامة لاعادة الاستقرار هناك. وعبر وزير الخارجية الاميركي جون كيري عن رغبة الادارة بذلك قائلا  ان واشنطن “منفتحة على اجراء محادثات” مع طهران ان رغبت ايران بالمساهمة لانهاء موجة العنف واستعادة ثقة الحكومة العراقية. وترك كيري الباب مفتوحاً امام نشر قوات عسكرية او اجراء مشاورات مع ايران قائلا انه “لا يستثني اي من الخيارات البناءة”

بالمقابل، اعرب السيناتور جون ماكين عن عميق شكوكه من مجرد امكانية الحديث مع طهران قائلا “انه النظام الايراني ذاته الذي درّب وسلّح اشد المجموعات الشيعية خطورة، واستمر بحض رئيس الوزراء المالكي تبني اجندة طائفية على حساب جهود المصالحة الوطنية، ووفر الصواريخ التي اطلقت على السفارة الاميركية في بغداد، ورعى اعمالا ارهابية في عموم منطقة الشرق الاوسط والعالم قاطبة، ويستمر في استخدام الاراضي والاجواء العراقية لايصال اسلحة ومقاتلين لدعم (الرئيس) بشار الاسد في سورية “

وحث ماكين الادارة الاميركية على “تقليص حجم التدخل الايراني في العراق على الفور، بدل تشجيعها، وهذا يستدعي فعلا اميركيا حازما للحط من الدولة الاسلامية في العراق والشام ووقف هجومها في العراق”

يخشى صقور الحرب في اميركا ان تؤدي الغارات الجوية الاميركية، دون مرافقتها بقوات خاصة على الارض، الى ان يصبح سلاح الجو جزءاً من القوات العسكرية لايران، كما يزعمون

الحل الوسط بالنسبة لبعض القادة العسكريين الاميركيين يكمن في تعزيز العمليات الجوية وادخال اعداد محدودة من وحدات القوات الخاصة في العراق لتنسيق الغارات الجوية وتدريب القوات العراقية والقيام بعمليات سرية. ويصر هؤلاء على ان تخضع تلك القوات للقيادة العسكرية وليس لوزارة الخارجية، عبر السفارة، التي تشرف حاليا على ادارة المصالح الاميركية هناك، وتوسيع نطاق مهامها وعدم حصرها بمهمة دعم الحكومة العراقية بل سيجري استخدامها لدعم الاكراد، تعبيرا عن الوفاء لما قدموه للقوات الخاصة الاميركية من تسهيلات في العدوان الاميركي على العراق عام 2003. تطبيق هذا التصور يفرض على قيادة داعش تحويل بعض قواته من نطاق عمليات بغداد الى حماية الجبهة مع الاكراد

يناشد بعض ضباط الاستخبارات الاميركية المتقاعدين الادارة شن غارات هجومية على الفور تستهدف تدمير الآليات والعربات المدرعة الاميركية التي غنمها داعش من القوات العراقية “مما يعود بالفائدة على جبهتي سورية والعراق”

ويستطرد هؤلاء بالقول انه يتعين على الادارة الاميركية تغيير سياستها نحو سورية والتوجه للتصدي لداعش الذي ينمو بسرعة وباستطاعته السيطرة على مساحة كبيرة ممتدة من بغداد الى الحدود مع السعودية وشاطيء المتوسط ايضا

الاردن والسعودية قلقين من امكانية تمدد داعش ووصوله الى حدودهما المشتركة وما يترتب عليهما من تدابير يتخذانها  لمواجهته عسكريا وسياسيا، وربما تعديل بوصلة سياستهما الداعمة للمعارضة المسلحة في سورية. السعودية قلقة ايضا من تدهور الاوضاع الأمنية في المنطقة الشرقية المطلة على الخليج العربي والغنية بالنفط نتيجة سياساتها المعادية لطموحات شعب الجزيرة العربية

على الرغم من الانجازات التي حققها داعش الا انه من غير المرجح ان يستطيع السيطرة على بغداد او الاحتفاظ بالمساحات الشاسعة لفترة طويلة، علما انه يدرك عمق الخلافات العقائدية بينه وبين بعض حلفائه من “المقاتلين السنة،” مما يؤشر على وضع يسود فيه الجمود لمدة طويلة. بل قد تشتعل اشتباكات داخل اطرافها على اسس عرقية وطائفية، واندلاع مواجهات شاملة في العراق على تلك الخلفية مع سعي “القوات السنية والشيعية” تطهير مناطقها من الطرف الآخر. ولم تترك داعش فرصة الا ووثقت فيها عمليات اغتيال وقتل جماعي قامت به لأناس خارج طائفتها في المناطق التي سيطرت عليها

تجمع الدوائر الغربية المختلفة، لا سيما الاجهزة الاستخبارية، ان “الاكراد على ابواب افضل فرصة تاريخية لتشكيل دولة خاصة بهم،” آخذين بعين الاعتبار تدني قدرة كل من العراق وسورية لافشالها “بل ان كردستان قوية تشكل تهديدا لداعش، تركيا ستناهض المشروع لكن سعيها لوأده سيواجه عقبات عدة سيما وهي اكبر مستثمر اجنبي في المناطق الكردية في العراق .. وهددت سابقا بغزو كردستان  ان اعلنت استقلالها، وربما عدلت عن ذلك”

القوات الكردية المسلحة، البيشمركة، لا تعاني من مقتل انتشارها على مساحات جغرافية واسعة، وسارعت للتقدم والسيطرة على المناطق التي اخلاها الجيش العراقي قبل وصول داعش وبعضها متنازع عليها، لا سيما مدينة كركوك والمناطق المحيطة بها الغنية بالنفط

جدير بالذكر ان القوات الكردية احجمت عن الوقوف بوجه قوات داعش المتجهة جنوبا انطلاقا من اراضيها، اذ تتموقع القوات الكردية بالقرب من شبكة الطرق المؤدية من الموصل الى بغداد، وكان بامكانها قطع وسائل اتصال قوات داعش ووقف توجهه الى بغداد

الخلاصة

اعتادت الولايات المتحدة ان تبسط نفوذها وتستخدم قوتها واعتبرت لاعبا اساسيا في الاقليم، بالمقابل يبدو الرئيس اوباما منفصل في عزلة، ويتهمه خصومه بأنه على غير استعداد للنظر بمساعدة حكومة المالكي بقوة عسكرية تكفي لهزيمة او مواجهة داعش في سورية او العراق

اوباما غير راغب بتوفير سبل دعم تعزز استقلال وسيادة العراق، والارجح انه سيخصص عدد محدود من القوات لاستعادة استقرار البلاد، مما يؤشر على نيته او عدم اعتراضه الجدي على تقسيم العراق نتيجة “امر واقع” في المدى القريب على الاقل