2023-20-11-التقرير الأسبوعي

صمود غزة أدخلها الانتخابات الأميركية
بايدن: “لا مكان لحماس”

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

يعاني الرئيس جو بايدن وكبار مستشاريه من سلسلة أزمات داخلية هم صانعوها، وترهّل مكشوف في إنجازات سياساته الخارجية، وتداخل أولويات الاستراتيجية الأميركية لتفرض اختيارات عاجلة كانت إدارته ترغب في ترحيلها إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، خصوصاً في ملفَي أوكرانيا وتايوان. بيد أن اندلاع الصراع في قطاع غزّة فرض التحرك الفوري على أعلى المستويات و”تجميد” الملفات الأخرى في الوقت الحالي.

بعد سبات شتوي أدلى الرئيس الأميركي جو بايدن برأيه “خطياً” محاولاً الإجابة على سؤال لا يزال مطروحاً بقوة، وهو “ماذا تريد الولايات المتحدة من غزة”، انطلاقاً من رفضها الثابت لفرض وقف إطلاق النار، وتصوّرها لمرحلة إعادة البناء بعد أن تضع الحرب أوزارها، كما تصفه النخب السياسية والفكرية.

بداية، مقال الرئيس بايدن في صحيفة “واشنطن بوست”، نُشر يوم السبت وليس الأحد الذي يستقطب جمعاً  أكبر من القرّاء الأميركيين، رمى إلى مخاطبة الجمهور الأميركي الداخلي وبعث الطمأنينة في مفاصل الكيان السياسي الأميركي، لجملة أسباب:

أبرزها، حالة التململ داخل أروقة الإدارة ومرافق الحكومة الأميركية المختلفة معارضةً سياسة البيت الأبيض في دعمه اللامحدود لـ”إسرائيل”. وذهبت صحيفة المال والأعمال “وول ستريت جورنال” إلى وصف المعارضة لسياساته بـ “التمرّد” بعد رصدها عرائض جماعية موقعّة من “ما لا يقلّ عن 500 عنصر عامل في الدوائر الحكومية – من ضمنها مجلس الأمن القومي ووزارة العدل، وأكثر من 1000 موظّف في الوكالة الدولية الأميركية للتنمية”، مُطالبة الرئيس بايدن التدخّل لوقف إطلاق النار في غزة. هذا إلى جانب حالات استقالة مسؤولين وآخرين داخل وزارة الخارجية احتجاجاً على مسار السياسة الأميركية (افتتاحية “وول ستريت جورنال”، 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2023).

في زاوية أشدّ عمقاً وقلقاً للإدارة وللحزب الديموقراطي معاً، وهي تجذّر حالة الغضب الشعبي العام واتساعها في الشارع الأميركي، واحتجاجاته المستمرة في طول وعرض البلاد دعماً لغزة ومطالباً بوقف إطلاق النار، والتوعّد أيضاً بالقصاص من الرئيس ومؤيديه في الكونغرس في جولة الانتخابات العام المقبل.

جدير بالذكر ما عاناه عضو مجلس النواب السياسي المخضرم آدم شيف، في حملته الانتخابية لمقعد في مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا، في مدينة ساكرامنتو، بمواجهته مباشرة من قبل معارضين لتأييده سياسة “الإبادة الجماعية” في غزة، ما اضطره إلى المغادرة المبكرة وإنهاء الجلسة وسط هتافات تدينه (يومية “بوليتيكو”، 18 تشرين الثاني / نوفمبر 2023)

كما تنبغي الإشارة إلى بروز عنصر فريق احتجاجي جديد وله تأثيره البالغ في الشأن العام الأميركي، ألا وهو انضمام المئات وربما آلاف المتظاهرين من اليهود الأميركيين، معظمهم من النساء، إلى النشاطات الاحتجاجية بعنوان مشترك على قمصان سوداء موحّدة، وهتاف “وقف إطلاق النار الآن”.

وأخذت الدوائر الرسمية المعنية علماً بدخول نحو “450 متظاهر يهودي” مقر مجلس النواب الأميركي، في 18 تشرين الأول / اكتوبر 2023، باليافطات دعماً لغزة، واعتقال عدد منهم، وقد أطلق سراحهم فيما بعد. وتكرّر المشهد عينه في أكثر من مناسبة، ورفع المتظاهرون شعارات مطالبة بوقف إطلاق النار. ونقلت وسائل الإعلام عن إحداهن قولها: “نطالب الحكومة الأميركية بوقف تمويل حملة إسرائيل للإبادة الجماعية للفلسطينيين” (صحيفة شؤون الكونغرس “رول كاول Roll Call -“، 16 تشرين الثاني / نوفمبر 2023).

أمام هذه اللوحة القاتمة أمام مرشحي الحزب الديموقراطي، من صحوة جماهيرية شبه منظّمة وتصاعد المواجهات السلمية إلى داخل أروقة صنع القرار، يصبح من العسير على الحملات الانتخابية المقبلة للحزبين تفادي وجهة بوصلة السياسة الأميركية  أو تجاهل مسؤوليتها المباشرة عن عدم التحرّك لفرض وقف إطلاق النار، كما هي الرسالة الموحّدة التي تلقّاها الجميع.

الرئيس جو بايدن لا يزال المرشح الأول للحزب الديموقراطي، إن لم يحصل أي تدخّل بخلاف ذلك لإنقاذ الحزب من تداعيات بقائه. بالمقابل، الرئيس السابق دونالد يتصدر أعلى نسب التأييد من مؤيدي الحزب الجمهوري، على الرغم من ملاحقاته القضائية المتعددة لتهميشه والإطاحة “السلمية” بشخصه.

وقد ينبئ ذلك بإعادة جولة انتخابات عام 2020 السابقة، رغم تغيّر الظروف المحلية والدولية في ملفات شتّى. ومن جانب آخر، من الجائز أن يشهد الحزب الديموقراطي تراجعاً ملحوظاً في نسبة تمثيله في مجلسي الكونغرس، الشيوخ والنواب، فضلاً عن منصب الرئاسة.

كما أن حالة الرئيس بايدن العقلية أضحت عاملاً مقلقاً للناخب العادي وهو يرى رئيس أقوى بلد في العالم عاجزاً عن السير بخط مستقيم لخطوات معدودة دون السقوط أرضاً أو الارتطام بحاجز وهمي، وتصريحاته المزدوجة التي سرعان ما يتدخّل مستشاروه للتنصّل منها. إضافة إلى كل ذلك في الشأن العام فإن النخب السياسية والفكرية اعتبرت تصريحاته بعد انفضاض لقاء القمة مع نظيره الصيني انتهاكاً للكياسة الديبلوماسية، و”فجّة” في لغتها، وغير موفقة في زمانها، حين أعاد توصيف الرئيس شي جين بينغ بـ”الديكتاتور”.

وقد أفادت أحدث استطلاعات للرأي، التي أجرتها صحيفة “نيويورك تايمز”، باعتقاد نحو 62%  من الناخبين الأميركيين أن الرئيس بايدن لم يعد كفؤاً ذهنياً لتبؤّ منصب الرئيس، مقابل 54% يعتبرون الرئيس ترامب مؤهّلاً للمنصب. تداعيات نتائج الاستطلاع أعلاه ستشكّل “هزّة تكتونية في عموم مفاصل الحزب” الديموقراطي، كما وصفها مستشار الرئيس أوباما السابق ديفيد آكسيلرود.

نتائج الانتخابات الأولية، التي جرت مطلع الشهر الجاري في عدد من الولايات، معطوفة على نتائج استطلاعات للرأي تشير بمجملها إلى انتقال الحزب الديموقراطي من مركز مريح نسبياً، خصوصاً في الولايات المتأرجحة، أريزونا وجورجيا ومتشيغان ونيفادا وبنسلفانيا،  إلى تراجع فوري في تأييد تلك الولايات، خصوصاً في ولاية لويزيانا، التي فاز بها بايدن سابقاً، إذ فاز بها مرشّحان عن الحزب الجمهوري لمنصبي وزير الداخلية والمدعي العام للولاية، فضلاً عن معارضة متنامية من الجالية العربية والإسلامية الكبيرة في ولاية متشيغان بشكل خاص.

تميّزت أجواء الانتخابات الرئاسية الأميركية السابقة، 2020، بترسيخ حالات الانقسام والاصطفاف السياسي لكلا الفريقين، الديموقراطي والجمهوري، واتهامات متبادلة بينهما بلجوء أحدهما إلى “العصيان المدني” وربما المسلّح، الأمر الذي أيقظ المؤسسة الأمنية بفروعها المتعددة إلى تحديث خططها لمواجهة أي ترجمة عملية لأي من تلك الاحتمالات، ودقّت ناقوس الخطر مراراً بأن تقويض النظام السياسي الأميركي و”فرادة أميركا في قيادة العالم” لن يواجه بالسكوت، بل باستخدام “كل الإمكانيات والموارد المتاحة” لتلافي ذلك.

مرة أخرى، تتجدد بعض تلك التهديدات وربما تحت عناوين متعددة لكنها تؤدي إلى المنبع ذاته: أزمة بنيوية داخل النظام السياسي وتحكّم “أقلية نخبوية”، سياسية ومالية وإعلامية، بمفاصل القرار في مواجهة تزايد أعداد الشرائح الاجتماعية المهمّشة وانخفاض منسوب حصتها من الثروة العامة وبرامج التنمية المطلوبة بشدة، وابتعادها تدريجياً عن توفير “الدعم اللامحدود” إلى أوكرانيا، ومن ثم انتقال تلك الأموال إلى “إسرائيل” بينما الأوضاع الداخلية تستشري فقراً وتدهوراً.

سير الانتخابات المقبلة، للرئاسة الأميركية وأعضاء مجلسي الكونغرس، سترسل إشارات غاية في الوضوح عن تخلّي الدولة عن واجباتها في حماية السلم والأمن الداخليّين، ودخول ملف تأييد “الإبادة الجماعية” وعدم الدفع بمبادرة لـ”وقف إطلاق النار” ستشكّل عوامل ضغط إضافية على مرشّحي المؤسسة الرسمية.

2023-03-10-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

أميركا: تفادٍ مؤقت لإغلاق الحكومة
والأزمة مرشّحة للتكرار

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

إعلان “مذهل” توصّل إليه طرفا الصراع في الكونغرس بالموافقة على مشروع تمويل قصير الأجل لعمل الحكومة، لمدة 45 يوما، ما يتيح فرصاً أوسع للبحث عن حلول لجملة من القضايا الخلافية، أبرزها بند تمويل أوكرانيا، وقيمته 40 مليار دولار، كما طالب به الرئيس جو بايدن والذي تم ترحيله إلى مرحلة زمنية أبعد.

المذهل في الموضوع، بحسب توصيف الإعلام الأميركي، سرعة الاتفاق في الدقائق الأخيرة قبيل انتهاء المدة الزمنية؛ لحاجة الطرفين إلى إنقاذهما من مأزقهما المتصاعد بين القواعد الانتخابية، واختلال دخل ما يقرب من 4 ملايين موظف حكومي لو استمرّ عناد الطرفين، فضلاً عن تعطيل عمل مصلحة الضرائب الفدرالية لرفد الخزينة المركزية.

ليست هي المرة الأخيرة التي تواجه فيه إقرار الميزانية العامة معارضة نفر ضئيل لبعض تفاصيلها، بل يمكن القول إن المسألة أضحت طقساً سنوياً عند انتهاء السنة المالية الرسمية في 30 أيلول/ سبتمبر من كل عام. فمنذ بدء جدل التهديد بإغلاق الحكومة في اللحظات الأخيرة الحاسمة عام 1990، تم التوصل إلى حل مرحلي باعتماد الكونغرس “قراراً مكملاً” للميزانية يجسر الهوة الزمنية الفاصلة بين السنة المنقضية والجديدة.

وشكّل عام 2019  المرة الأخيرة التي أغلقت فيها مرافق الدولة، باستثناء الدوائر والخدمات الضرورية، نتيجة خلافات داخلية بشأن بعض البنود المدرجة لتمويلها، واستمرت 34 يوماً، إذ أضحت أطول مدة في تاريخ الكيان السياسي الأميركي تغيب فيها الخدمات الحكومية بكاملها عن التداول، ليصل تعدادها نحو 10 حالات إغلاق منذ عام 1976، طالت رؤساء جمهوريين مثل رونالد ريغان وديموقراطيين مثل بيل كلينتون الذي شهد عهده إغلاقاً استمر 21 يوماً.

بداية، استطاع فريق الحزب الجمهوري الضغط على خصمه الديموقراطي وموافقته على اقتطاع نحو 2 تريليون دولار من البنود المخصصة “للرعاية الصحية والأمن الاجتماعي” وبعض البرامج الأخرى، في الجولة الأولى من المفاوضات الشائكة.

هذا بالرغم من تبجّح قادة الحزب الديموقراطي بعدم المغامرة ببرامج الرعاية الصحية والاجتماعية، التي تشكل مجتمعة جوهر أجندة الحزب ومبرر وجوده إلى حد بعيد.

في المحصلة العامة، حظي رئيس مجلس النواب كيفين مكارثي على أكبر حجم من الأضرار السياسية، نتيجة “تهاونه”  مع مطالب الخصم الديموقراطي، كما أشيع، وتعرضه أيضاً لانتقادات إضافية من “كتلة اليمين المحافظ” في الحزب وتمرّد نحو 20 عضواً عليه، ومغامرته في حتمية مواجهة مطلبها بالاستقالة، وهو احد الشروط التي وافق عليها العام الماضي عقب 15 محاولة لإعلان فوزه بالمنصب.

وأفردت إحدى كبريات الصحف مساحة واسعة لتغطية مصير رئيس مجلس النواب “لانقلابه الاستراتيجي المعاكس” في اللحظة الأخيرة بتبنّيه مبادرة استطاع فيها الحصول على دعم “معظم الأعضاء” من الحزبين لتفادي شبح الإغلاق بالموافقة على تمديد التمويل لمدة 45 يوماً (صحيفة “واشنطن بوست”، 30 أيلول / سبتمبر 2023).

وأردفت الصحيفة أن “كتلة القبان” المشكّلة من “أقصى اليمين الجمهوري كانت منكبة على التخطيط لأيام عدة بغرض إطاحة رئيس مجلس النواب من منصبه، فضلاً عن غيظهم الشديد من توسله الدعم من أصوات الديموقراطيين” لتفادي الإغلاق.

يشار إلى أن منصب رئيس مجلس النواب كان يتطلب مبادرة من 5 أعضاء في السابق لإزاحته أو عزله، لكنه وافق على تخفيض العدد إلى عضو أوحد، خلال مشارواته الماراثونية مع أعضاء الكتلة المتراصة مطلع العام الحالي قبل موافقتهم على انتخابه رئيساً.

بند دعم أوكرانيا تصدّر الجدل السياسي/المالي في الدورة الحالية للكونغرس، نتيجة جملة عوامل داخلية، اهمها رفض كتلة النواب الجمهوريين المتشددين لإدراجه، ونجحوا في وقف المفاوضات بين قادة الحزبين، وكذلك لانقشاع غيمة التغطية الإعلامية المضلِّلة لمجريات الحرب في أوكرانيا والتي ترجمت بعزوف قطاعات من الأميركيين عن تحمل تبعات الحرب.

صرّح الرئيس جو بايدن بعد إعلان الاتفاق بأنه “لا يمكن تحت أي ظرف من الظروف أن نسمح بقطع الدعم الأميركي لأوكرانيا؛ تبعه بيان مشترك لكبار قادة الحزبين في مجلس الشيوخ يؤكدون فيه عزمهم “ضمان استمرار الحكومة الأميركية تقديم الدعم لأوكرانيا”. من أبرز الموقّعين كان زعيم الأقلية الجمهورية في المجلس ميتش ماكونول.

ونتيجة للفوارق البسيطة لسيطرة الأغلبية من الحزبين على مجلسي الكونغرس، الجمهوريون بنسبة ضئيلة والديموقراطيون بفارق صوت واحد، فإن أي إجراء بشأن أوكرانيا، أو أي مسألة خلافية أخرى، يحتاج إلى توافقهما عليها.

وعليه، من المرجح أن نشهد تكراراً لطقوس الجذب والتهديد بالإغلاق مجدداً، خلال الأسابيع القليلة المقبلة، والتي لا تبشّر بجاهزية الطرفين تقديم تنازلات “قاسية” لبعضهما البعض، بل قد يشتدّ الخلاف بين أعضاء الحزب الجمهوري بوتيرة أعلى نتيجة الشعور بالخيبة من تصرفات رئيس مجلس النواب كيفين مكارثي.

2023-26-09-التقرير الأسبوعي

العلاقات السعودية الأميركية:
إغراءات واشنطن باتفاق دفاعي مقابل التطبيع

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

تعتبر الحكومات الأميركية المتعاقبة أن جوهر علاقاتها مع الكيان السياسي في السعودية هو “علاقة أمنية طويلة الأجل”، لكنها دوما ما كانت تشهد بعض التجاذب، لخشية الأخيرة من تراجع مكانتها في الاستراتيجية الكونية الأميركية، إذ سرعان ما “تتطوع” لتقديم العون المالي، والبشري عند الضرورة، كقطب مساعد لبسط الهيمنة الأميركية، كما شهدت ساحات عالمية عديدة امتدادا من أفغانستان وليس انتهاء بنيكاراغوا والبوسنة (الاقتباس من تقرير لوزارة الخارجية الأميركيةبعنوان “علاقات الولايات المتحدة مع السعودية”، بتاريخ 11 أيار/مايو 2022).

وفي وقت لاحق، عدّلت الخارجية الأميركية مبتغاها من العلاقة مع السعودية بأنها تتشاطر والأهداف الأميركية في “رسم القضايا السياسية والأمنية، ومكافحة الإرهاب، والاقتصادية وقضايا الطاقة، بما في ذلك ابتكار الطاقة النظيفة، لتعزيز رؤيتنا المشتركة لشرق أوسط أكثر سلامًا، وأمنًا وازدهارًا واستقرارًا”. (تقرير وزارة الخارجية بعنوان “‘علاقة الولايات المتحدة والسعودية: 8 عقود من الشراكة”، 6 حويران/يونيو 2023).

بالمقابل، يجزم الجانب الرسمي السعودي بأن العلاقة مع الولايات المتحدة تستند إلى “أسس راسخة مبنية على الاحترام والتعاون المتبادل والمصالح المشتركة”، خصوصاً بعد انخراطها وقبولها في مجموعة G-20 الصناعية، وعقب زيارة الملك سلمان لواشنطن في أيلول/سبتمبر 2015 (تقرير لوكالة الأنباء السعودية، واس، 15 تموز/يوليو 2022).

تطورت طبيعة العلاقات اطراداً باقتراب الرياض من واشنطن بوتائر أسرع وتقديم معدلات أكبر من “الـخدمات”، وأنها لا تكلّ عن جهود تطويع الإقليم وما بعده للاصطفاف وراء “السيّد الأميركي”، بدءاّ بنقل مصر من مرحلة “الجمهورية العربية المتحدة” إلى الصلح المنفرد مع عدوّها القومي، و”تسويق” تبعيتها للاقتصاد الأميركي بالقضاء تدريجياً على مكتسبات آليات التصنيع في القطاع العام وإعلاء نهم الاستهلاك عوضاً عن التنمية الداخلية.

شددت واشنطن على اختزال العلاقة مع الرياض، منذ مطلع الألفية الثانية، إلى مستويات “ترتيبات أمنية” في الإقليم، ولاتزال السعودية تحتل المرتبة الأولى كأكبر مشترٍ للمعدات العسكرية الأميركية في العالم. ولم تعد واشنطن تولي الأهمية السابقة لمصادر الطاقة في الجزيرة العربية بعد بلوغها المرتبة الأولى عالميا في استخراج وتصدير النفط.

دخلت العلاقات الثنائية بين الرياض وواشنطن أطواراً متعددة منذئذ، نتيجة تطورات القوة العسكرية والاقتصادية الأميركية، وشهدت بعض التجاذب إلى أن بلغت مرحلة تعرّضها إلى هزات وارتجاجات بعد صعود ولي العهد محمد بن سلمان، وانضمام الرياض إلى مجموعة “أوبك +” التي تضم روسيا لخفض انتاج النفط بمعدل مليوني برميل يومياً.

مسار صعود ولي العهد السعودي دشّنه بإبعاد الطاقم “القيادي التقليدي” في الرياض، والموالي بالكامل لواشنطن ولندن، عن مراكز القوى وصناعة القرار، وما لحقه من تداعيات نتيجة اغتيال جمال خاشقجي، في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2018، والتي على أثرها أصدر الرئيس الأميركي جو بايدن جملته الشهيرة بأن السعودية تحت “وصاية” محمد بن سلمان أضحت “منبوذة” عالميا، متوعّدا بمعاقبته.

بيد أن المصالح الأميركية العليا اقتضت تراجع الرئيس بايدن بعض الشيء عن معارضته لتصرفات ولي العهد الجديد، وما لبث أن قام بزيارة رسمية للقاء الأخير في جدة لتهدئة العلاقات المتوتّرة، في 16 تموز/يوليو 2022، أسفرت عن “توقيع اتفاقية بشأن شبكات اتصالات السعودية، ووافقت الرياض على فتح مجالها الجوي أمام الرحلات الجوية المدنية الإسرائيلية مقابل السيطرة السعودية على جزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر، كما تم تمديد الهدنة في اليمن لمدة شهرين آخرين. ومع ذلك غادر بايدن جدّة من دون اتفاق بشأن تعزيز إنتاج النفط أو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهما هدفان رئيسيان للزيارة”، بحسب مراكز الأبحاث المقربة من الرياض.

على الرغم مما شهدته الفترة الزمنية القريبة من انفراج نسبيّ في العلاقات بين الرياض وطهران، إلا أن الأولى ما زالت تطرق ما استطاعت من أبواب في مراكز القوى العالمية للتحذير من “امتلاك إيران سلاحاً نووياً”، غير عابئة بتأكيدات وفتاوى صدرت عن المرشد الأعلى يحرّم فيها اقتناء أسلحة نووية.

ويأتي ذلك في سياق دعم “مخاوف إسرائيل” من فقدانها المركز الأوحد نووياً في عموم المنطقة، لتبدأ الرياض باتخاذ خطوات موازية وإعرابها عن “حتمية تطبيع العلاقات مع تل أبيب”، طمعاً فيما تعتقده أنه إمكانية تسخير نفوذ اللوبي الصهيوني في أميركا لخدمة سياسة ولي العهد.

ومن أبرز التطورات في هذا الشأن كانت مقابلة متلفزة مع الأمير الشاب، سُجّلت مسبقاً، أجراها باللغة الإنكليزية التي يتقنها “بطلاقة”، مع شبكة “فوكس نيوز” وهي المنبر الرئيسي لتيار اليمين الأميركي المتشدّد، وللمحافظين الجدد على السواء.

موعد البث جاء بعد وقت قصير من لقاء الرئيس الأميركي جو بايدن مع بنيامين نتنياهو، اثناء وجودهما في نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، الأمر الذي طغى على مقابلة الأمير السعودي في وسائل الإعلام.

اللافت في تلك المقابلة كان خفّة اهتمام وسائل الإعلام الأميركية المختلفة، واكتفت معظمها بنقل تسريب شبكة “فوكس نيوز” لمقتطفات منها قبل موعد البث، باستثناء إطراء الشبكة عينها والترويج للمقابلة بأنها “المقابلة الأولى التي يجريها مع شبكة إخبارية أميركية رئيسية منذ عام 2019” (موقع “فوكس نيوز” الإلكتروني، 18 أيلول/سبتمبر 2023).

ربما أهم وأخطر ما جاء من تصريحات في المقابلة المذكورة ، طمأنة ابن سلمان للمتلقي الأميركي، وامتداداَ الغربي، بعزمه تطبيع العلاقات مع “تل أبيب” والتي “يقترب منها يوماً بعد يوم”، بحسب المادة الإعلامية المنشورة، وذلك في سياق نهج ولي العهد في “العلاج بالصدمة” (معهد “كارنيغي”، 27 تشرين الأول/أكتوبر 2020).

أيضاً، وجّه ابن سلمان سهام انتقاداته لإيران من زاوية رجائه لواشنطن بمعاملته أفضل عما ذي قبل، خصوصاً بطرحه سابقاً على الرئيس بايدن خلال زيارته المذكورة لجدّة طالباً المساعدة الأميركية لإنشاء بنية تحتية للأبحاث النووية، “أسوة بإيران” التي “إن امتلكت القنبلة النووية فبنبغي على الرياض حيازتها أيضاً”.

معظم مراكز الأبحاث والنخب السياسية الأميركية تحذر دوماً من “انتشار الأسلحة النووية” في الشرق الأوسط، مع إقرارها بأن “إسرائيل تمتلك أكثر من 200 رأس نووي”، لكنها لا تخضع للمساءلة أو المراقبة.

بيد أن المقابلة المذكورة لا تشكل المرة الأولى التي يتم فيها “طلب مسؤول سعودي” الحصول على قنبلة نووية. إذ قال ابن سلمان في تصريحات أجراها مع شبكة “سي بي أس” الأميركية عام 2018، إنه إذا طوّرت إيران قنبلة نووية فستفعل المملكة العربية السعودية الشيء نفسه في أسرع وقت.

وتبعه رئيس جهاز الاستخبارات السعودية الأسبق الأمير تركي الفيصل بتصريح مماثل لشبكة “أم أس أن بي سي” الأميركية قائلاً: ” يتحتم علينا القيام بكل ما هو ضروري للدفاع عن أنفسنا، بما في ذلك تطوير قنبلة نووية، لمواجهة احتمال وجود إيران مسلحة نوويًا” (موقع “سي أن أن” الإلكتروني العربي، 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2021).

أميركياً، لم يُرصد أي تحوّل لافت في الموقف الرسمي من “عدم انتشار الأسلحة النووية”، باستثناء “إسرائيل”. وأبعد ما تذهب إليه دوائر صنع القرار في واشنطن هو التماهي مع “النموذج الإماراتي”، إذ يجري تطوير قدرات نووية دون تخصيب اليورانيوم، بل الحصول عليه من الخارج بكميات تتناسب مع التطبيقات المدنية. يشار أيضاً إلى أن “النموذج الإماراتي” يحظى بتأييد الثنائي واشنطن وتل أبيب، وديمومة التنسيق بينهما.

في الشق القانوني الصرف، يقيّد القانون الفيدرالي 22 ساري المفعول السلطة التنفيذية الأميركية من نشر التقنية النووية ويعتبره “تهديداً مميتاً للأمن والمصالح الأميركية، وكذلك لاستمرار التوجّه العالمي نحو إرساء السلام والتنمية الدوليين”.

لكن في ظل الصراع الكوني بين الولايات المتحدة من جهة، وكلّ من روسيا والصين اللتين تتقدّمان بثبات في شبه الجزيرة العربية، قد تنحو باتجاه تحوّل الرياض شرقاً لتبرم صفقة مماثلة مع الصين التي ستعطي شروطاً أفضل للسعودية.

ربما أفضل الخيارات المتداولة بشدة في العاصمة الأميركية يتمحور حول عقد معاهدة دفاع مشترك مع الرياض لكن بشروط أميركية تبقي على “تفوّق الأسلحة الإسرائيلية”.

تسارع ادارة بايدن لتحقيق اختراق بالتوصّل الى تطبيع سعودي – إسرائيلي وتلوح بتقديم مغريات لولي العهد للإقدام عليها، لكن شروط السعودية لا تزال تواجه عقبات في الداخل الأميركي، ولطبيعة تكوين حكومة نتنياهو العاجزة عن تقديم الحد الأدنى الذي يمنح السعودية الغطاء الذي تحتاجه لتسويق التطبيع، لا يبدو أن فرص بايدن متاحة بشكل وافٍ لتحقيق هكذا إنجاز لتوظيفه في الانتخابات الرئاسية  المقبلة .

2023-14-09-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

العالم أمام تحدّي محاسبة أميركا على
استخدامها قنابل عنقودية ويورانيوم منضب

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

يأتي مخزون الولايات المتحدة من اليورانيوم المنضب في المرتبة الأولى عالمياً، إذ بلغ 480 ألف طن لعام 2002 (بحسب بيانات وزارة الطاقة الأميركية)، وقد استخدمته كسلاح في حرب الخليج الأولى، “عاصفة الصحراء” عام 1991، وأطلقت ما لا يقل عن 300 طن متري، أي ما يعادل 10 آلاف صلية، في أنحاء العراق كافة، (صحيفة “ذي غارديان” اللندنية نقلاً عن تقرير منظمة “السلام العالمي” في هولندا، 19 حزيران/يونيو 2014).

ورصد “برنامج الأمم المتحدة للبيئة” نشر الولايات المتحدة وحلفائها نحو “170 إلى 1700 طن” من اليورانيوم المشعّ خلال غزوها للعراق. أما حصة سوريا فقدّرتها البنتاغون بـ “آلاف الطلقات من ذخيرة اليورانيوم المشعّ” أطلقت خلال الغارات الجوية عليها عام 2015.

مدينة الفلوجة العراقية كانت هدفاً مستمراً للقوات الأميركية، ليس بالذخائر المشعة فحسب، بل في تخزينها وتفجيرها في تربتها، بمكوّناتها النووية والكيميائية والنفايات الطبية والبشرية كافة ، بدءاً من “عام 2003 ولغاية 2011”. وشهدت القاعدة الجوية في بلد العراقية “حرق نحو 90 ألف عبوة بلاستيكية يوميا”، وما ينتج عنه من سحابات دخان كيميائية ضارّة (أسبوعية “نيوزويك”، 4 نيسان/إبريل 2016).

التدقيق في أحدث البيانات الأميركية الخاصة بمخزونها من “فائض اليورانيوم المنضب” لا يأتي بجديد، بل يلاحظ المرء تلاعب الأجهزة الرسمية، من وزارة الطاقة وهيئاتها المختلفة، في عدم الكشف عن حجم المخزون المتزايد واستخداماته، بحسب تقرير لجامعة هارفارد العريقة (“اليورانيوم المنضب، دمر القطاع الصحي: العمليات العسكرية وتلوّث البيئة في الشرق الأوسط”، 22 أيلول/سبتمبر 2021).

يندر أن نجد من يجادل للدفاع عن نهج الولايات المتحدة وحلفائها بإخفاء الحقائق العلمية الموثقة لاستعمال هذه الأسلحة، والأثار السلبية على السلامة العامة للإنسان والحيوان والتربة والمياه الجوفية لمديات طويلة. بل تسخّر واشنطن نفوذها الهائل لدى المؤسسات الدولية ذات الصلة لعدم حظر أو تقييد استخدام تلك الأسلحة، وما يترتب عليها من مساءلة أممية وخطوات عقابية.

يشار إلى أن الاتفاقية الدولية الخاصة بحظر استعمال اسلحة تقليدية معينة، لعام 1980، نصّت على ان “يحظر استخدام أساليب أو وسائل حربية يقصد بها او يتوقع منها ان تسبب للبيئة الطبيعية إضراراً واسعة النطاق وطويلة الأمد وشديدة الأثر “.

الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التابعة للأمم المتحدة، أشارت عام 2009 إلى أن الدراسات التي أجريت في يوغوسلافيا السابقة والكويت والعراق ولبنان وسوريا وليبيا بشأن بقايا اليورانيوم المنضب أنه “لا يشكل خطراً إشعاعياً لسكان المناطق المتضررة أو البيئة”، وذلك على نقيض الحقائق العلمية المتوفّرة والتي تؤكد أن استنشاق غبار اليورانيوم المنضّب يشكل أخطاراً صحية، بما في ذلك السرطان والعيوب الخلقية للأجنّة البشرية.

وصرّحت الناطق باسم البنتاغون سابرينا سينغ بأن “مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها – Centers for Disease Control” ذكرت بأنه لا يوجد دليل على أن ذخائر اليورانيوم المنضّب تسبّب السرطان، كما أن منظمة الصحة العالمية أفادت بأنه لم تسجّل زيادة في حالات السرطان بعد التعرض لليورانيوم المنضّب.

بينما حذّر تقرير سابق صادر عن البنتاغون عام 1993 من ارتفاع نسبة إصابة الجنود بالسرطان بنسبة عالية حين تعرّضهم لغبار اليورانيوم المنضّب، بالرغم من نسبة سميّته المتدنية نحو 40% . كما بيّنت دراسة أجرتها “إدارة شؤونالمحاربين”، بعد حرب الخليج الثانية، أن 67% من أطفال الجنود الذين ولدوا بعد الحرب يعانون من تشوّهات خلقية.

مناسبة هذه المقدمة الكاشفة للمخاطر هي إعلان الحكومة الأميركية عن تزويد أوكرانيا بشحنات جديدة من قذائف اليورانيوم المنضب، من عيار 120 ملم مخصصة لدبابات “أبرامز M1A2” الأميركية، لاستخدامها ضد الدروع الروسية، لتنضم إلى شحنات أخرى من القذائف العنقودية سلمتها لكييف أيضاً.

إجرائياً، يستند الرئيس بايدن في مواصلته تمويل حزمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا إلى تفويض السحب الرئاسي، الذي يسمح للرئيس بنقل المعدات والأفراد من دون موافقة الكونغرس خلال حالة الطوارئ.

علمياً، فاليورانيوم المنضّب هو عبارة عن نفايات نووية مشعّة عالي الكثافة، وصفته “الوكالة الدولية للطاقة النووية” بأنه يُستخدم في صنع الأسلحة لأنه عالي الكثافة ويشتعل ذاتياً نتيجة طاقة حركية عالية، ترافقه سحابة حارقة من المعادن والغبار، ويصبح أكثر حدة عندما يخترق الصفائح المدرعة.

عند استخدام سلاح اليورانيوم المنضّب، ينتج عنه غبار “أكسيد اليورانيوم المشع”، الذي يبقى عالقاً في الجو، وينتقل مع الرياح إلى مسافات بعيدة، ويبقى نشطاً نحو 4.5 مليارات سنة، بحسب بيانات “هيئة ضبط الطاقة النووية – Nuclear Regulation Commission” الأميركية.

توقيت الإعلان الأميركي أعلاه يعود إلى مطلع العام الحالي، يناير /كانون الثاني، عندما وافق البيت الأبيض على تزويد أوكرانيا بنحو 31 دبابة من طراز “أبرامز” الأميركية، التي ستطلق الذخائر المشعّة لتعزيز قدرات أوكرانيا على مواصلة هجومها المضاد ومواجهة الدبابات الروسية.

يشار إلى أن “البنتاغون” حثت الساسة الأميركيين على تذخير دبابات “أبرامز” بقذائف اليورانيوم المنضّب، والتي يستخدمها الجيش الأميركي بانتظام وتطلق بسرعة عالية “بما يمكنها من اختراق الدرع الأمامي للدبابة الروسية من مسافة بعيدة”.

التوقيت يندرج أيضاً في صميم الأهداف السياسية الأميركية لتمكين أوكرانيامن  إحراز تقدّم ملحوظ في ساحة المعركة، وتعزيز وضع كييف التفاوضي إن عقدت محادثات السلام.

ما ينتظر أوكرانيا ومحيطها الجغرافي، بعد أن تضع الحرب أوزارها، هو حجم الأضرار الهائلة لتربتها ومياهها الجوفية نتيجة الذخائر المشعّة، فضلاً عن عدد لا يحصى من عبوات وقذائف عنقودية لم تنفجر والتي لا زالت تحصد أرواح أطفال يمارسون نشاطاتهم اليومية في فيتنام وأفغانستان والعراق وليبيا ولبنان وسوريا.

برامج الأمم المتحدة لتخصيص الميزانيات والخبرات المطلوبة لنزع التلوث من البيئة تبقى أسيرة موازين القوى الدولية الراهنة، ويتعثر أداؤها في الأماكن والبلدان التي لا تخضع للهيمنة الأميركية بالكامل، مثل جنوب لبنان، على سبيل المثال.

والمطلوب أممياً هو إعادة صياغة نظم وإجراءات علمية لمعالجة التلوّث البيئي من مخلّفات الحروب، الأمر الذي لا يبشر خيراً في المدى المنظور نظراً لتفاقم الصراع وحدّة الاستقطاب الدولي.

2023-05-09-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

انقلاب الغابون: نموذج سياق تحرري
إفريقيا أمام امتحان نزع التبعية للغرب

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

اقترنت ظاهرة الانقلابات العسكرية في الدول النامية، بدور أميركي بارز في أغلبها، سواء لناحية التخطيط المسبق أو لجني مكاسب اقتصادية وسياسية ودعم الصفوف الأولى للانقلابات المتعددة، نظراً لتمثيلها شرائح اجتماعية واقتصادية محلية وثيقة الصلة بالغرب، وتحديداً مؤسستي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، كمنفذ إجباري لتكريس تبعية البلاد للهيمنة الغربية.

الميول السياسية لمعظم قادة تلك الانقلابات في القارات النامية الثلاث، آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، تميّزت بإجراءات أمنية مفرطة القسوة داخلياً، وحكم استبدادي فاشي الطابع، وافتتاح سجون ومعتقلات لكل فئات الشعب المتنوّرة، واكبه تراجع ملحوظ في عملية التنمية المحلية وفتح أسواقها أمام المؤسسات الاقتصادية والمالية الغربية، والأميركية بشكل مباشر.

في أوج الحرب الباردة، خصوصاً في الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، برزت انقلابات “مموّلة” أميركيا، وامتداداً بريطانياُ، مثل تركيا واليونان وإيران واندونيسيا، ودعمها نماذج الحكم الأشد يمينية وتطرفاً في كل من البرتغال وإسبانيا، في ظل معادلة الصراع الكوني على النفوذ العالمي في مقابل الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي السابق.

الولايات المتحدة في عموم القارة الإفريقية، وخصوصاً جنوب الصحراء الكبرى، ناصبت العداء لمعظم مجتمعاتها القبلية وحركات التحرر والاستقلال الوطني الوليدة، وفاقمت سياساتها بدعمها نظامي التفرقة العنصرية في كل من جنوب إفريقيا وروديسيا (زمبابوي) امتد لمرحلة متأخرة بعد نهاية الحرب الباردة.

وبعد استتاب نسبي للأمن الداخلي في دول أواسط إفريقيا، هي 7 دول منها الغابون، بحسب تعريف بنك التنمية الإفريقي، سارعت واشنطن إلى تكبيل تلك الدول بمعاهدات أمنية وعسكرية، ونيل موافقتها لإنشاء قواعد عسكرية أميركية متعددة المهام والبنى التحتية، وتوسيع رقعة انتشارها امتداداً من القرن الإفريقي إلى معظم الدول الإفريقية الأخرى.

شهدنا في الآونة الأخيرة بزوغ نزعة تحررية في بعض دول غربي إفريقيا، عنوانها الانفكاك من تبعية فرنسا، وإلغاء الاتفاقات السابقة التي تمنحها قواعد عسكرية، والتوجه نحو تصويب بوصلة التنمية المحلية التي لن يكتب لها النجاح من دون القضاء على النفوذ الفرنسي، سياسياً واقتصادياً، في المرحلة الأولى.

راقبت واشنطن انتكاسات فرنسا المتتالية في “مستعمراتها السابقة”، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ونسجت علاقات وثيقة بالمقابل مع معظم البنى العسكرية في تلك الدول، تدريباً وتسليحاً، ولم يسجّل استهداف مباشر لحضورها حتى الآن.

كما أخذت علماً لتباين الموقف الفرنسي الذي دان بشدّة حالة انقلاب النيجر في مقابل عدم تعرّضه سلباً لمجموعة ضباط انقلاب الغابون، ورفضت باريس طلب الضباط مغادرة السفير الفرنسي أراضي البلاد، ما اضطر المحكمة العليا إلى اتخاذ قرار بترحيله عنوة ونزع حصانته الديبلوماسية.

وعبّرت النخب السياسية والاقتصادية الأميركية عن رضاها لما حلّ بالوجود الفرنسي في دول الساحل الإفريقي، إذ شكّل “الانقلاب ضربة جديدة للمصالح الفرنسية في إفريقيا. وحظر قادة الغابون تصدير الخشب الخام ما يعني إلغاء فرص عمل في فرنسا” (صحيفة “نيويورك تايمز” 30 آب/ أغسطس 2023).

موقف واشنطن الرسمي من انقلاب الغابون تحديداً  كان “مهذّباً” ديبلوماسياً بإعراب الناطق باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي عن “قلق” بلاده العميق من قادة الانقلاب. وفي موقف موازٍ أُطلق العنان لتصريحات بعض مسؤوليها لتسجيل “تحفظات” رسمية على نتائج الانتخابات الأخيرة في الغابون، وكذلك عدم رضاها عن رفض الرئيس المخلوع علي بانغو إشراف فرق أممية على سير الانتخابات التي كانت نتائجها سبباً مباشراً لتوقيت الانقلاب.

أوفدت واشنطن نائبة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند إلى جنوب إفريقيا لبحث عدد من الملفات المشتركة، ومنها حشد دعم بريتوريا لمساندتها في الغابون، وقد قوبلت باهتمام متواضع وتقييم ينبئ بجهلها أوضاع القارة السمراء وإرهاصاتها.

وقال مسؤول في حكومة جنوب إفريقيا: “عملت مع الأميركيين أكثر من 20 عاماً، ولم ألمس ردود أفعال مستميتة (مثل نولاند)، وفوجئت تماماً برياح التغيير التي تعصف بالمنطقة”.

للدلالة على تكيّف واشنطن، وربما تحضيراً لدور ما هناك، أفاد “معهد السلام الأميركي”، التابع لوزارة الخارجية، بضرورة “مبادرة المجتمع الدولي إلى إيلاء أولوية دعمه لتأييد إجراءات إصلاحية في مؤسسات الغابون الرسمية، والتي لا زالت ضعيفة، ودورها التاريخي كان في خدمة النخب” الحاكمة (“معهد السلام الأميركي”، 31 آب/أغسطس 2023).

تثير الولايات المتحدة تنامي حضور كلِّ من روسيا والصين في القارة الإفريقية، وتبني عليه خطابها السياسي وتوجهاتها “لتقويض” نفوذ منافسيها هناك.

يشار إلى حجم الاستثمارات الاقتصادية الضخمة، خصوصاً من الصين، والتي بلغت نحو 155 مليار دولار في الدول الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى في السنوات القليلة الماضية. في المقابل، كبّلت الولايات المتحدة العديد من الدول الإفريقية بقواعد عسكرية بذريعة مناهضة التيارات والمجموعات المتشددة، وإبرام اتفاقيات تمنحها حصانة من تطبيق السيادة الوطنية.

في المقابل، استضافت روسيا مؤتمراً لزعماء الدول الإفريقية أو من ينوب عنهم، أسفر عن اتفاقيات لزيادة التبادل التجاري، ووعود من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتصدير الحبوب الروسية إلى إفريقيا مجاناً لإعانتها على تجاوز حالات المجاعة المتعددة.

اللافت في تداعيات انقلاب الغابون هو تعزيز بعض القادة الأفارقة المحليين أمنهم الشخصي، وبالتالي استدامة نظام الحكم. وقد خطا رئيس رواندا بول كيغامي على عجل بهذا الاتجاه بإقالته نحو 100 من كبار الضباط لتحصين موقعه الرئاسي من تحديات مفترضة.

من المبكّر حالياَ إصدار أحكام عن توجهات قادة الانقلاب محلياً ودولياً، نظراً إلى شح المعلومات الموثقة، باستثناءا ما يتم تداوله بأن “الغابون بلد غني بالنفط”، ولضبابية الأوضاع الانتقالية، التي أدى على أثرها رئيس مجموعة الضباط “ضمن لجنة المرحلة الانتقالية”، بريس أوليغي نغيما، اليمين الدستورية كرئيس مؤقت للبلاد، معرباً على الفور عن عزم مجموعة الضباط على التصدي لأي تدخل عسكري، وخصوصاً من رؤساء دول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا “إيكواس”.

2023-30-08-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

المحيطات ملك للبشرية جمعاء وليست
ملكاً خاصاً لليابان ونفاياتها المشعّة

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

زلزال عنيف هزّ الساحل الشرقي لليابان يوم 11 آذار/مارس 2011، بلغت قوته 9 درجات على مقياس ريختر، تلاه موجات تسونامي ضخمة دمّرت 3 مفاعلات في محطة فوكوشيما داييتشي النووية. أودت الحادثة بحياة نحو 18 ألف شخص، وانهار  في إثرها الجدار الإسمنتي الخارجي للمفاعل “نتيجة انفجار الهيدروجين الناجم عن انخفاض مستوى مياه التبريد”، بحسب التصريحات الرسمية اليابانية.

وأخطرت اليابان العالم مؤخراً بنياتها تصريف “المياه المُعالجة” في المحيط الهاديء. نحو مليون طن من المياه الملوثة بالإشعاع، على 3 دفعات، تمتد لنحو 3 عقود، ستصرف في المحيط، مستندة إلى إجراءات تم الاتفاق عليها مع الوكالة الدولية للطاقة النووية التي “ستدرس عناصر الأمان الرئيسية” في الخطة المعدة.

وستضطلع الوكالة الدولية أيضاً بمراقبة المصادر والبيئة ورصدها للتيقن من البيانات التي تنشرها اليابان وضمان تطابقها مع معايير الأمان الصادرة عنها.

توقيت إعلان اليابان، بالتزامن مع الذكرى ألـ 78 لمأساة هيروشيما، واكبه تنامي تحذيرات دولية متعددة بشأن القلق من انزلاق الحرب الدائرة في أوكرانيا إلى دخول السلاح النووي مسرح العمليات، وما قد ينطوي عليه من دمار شامل للحضارة البشرية.

وجدّدت الأمم المتحدة، على لسان أمينها العام أنطونيو غوتيريش، تحذيراتها من أهوال الطاقة النووية، إذ قال في رسالة أمام نصب السلام التذكاري في هيروشيما: “شبح الحرب النووية الذي كان يلوح في الأفق خلال الحرب الباردة قد ظهر من جديد. وتهدد بعض الدول، بشكل متهور، باستخدام أدوات الإبادة هذه من جديد”.

ارتفع منسوب الجدل الدولي والإدانة أيضاَ لإعلان اليابان وتداعيات إطلاق المياه المشعّة على الثروة السمكية في المحيط الهادئ بالدرجة الأولى، وما ينطوي عليها من انتشار الإشعاعات في المياه الدولية الأخرى. أكبر خطورة ، كما يصفها المختصون، تكمن في توفر عنصر التريتيوم بعد إجراءات المعالجة.

الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصدرت تقييمها للمسألة المثارة، فحواها “أن المياه سيكون لها تأثير إشعاعي ضئيل في الإنسان والبيئة. وتبرر اليابان إجراءاتها بحاجتها إلى المساحة الجغرافية التي تشغلها الخزانات الحالية لبناء منشآت جديدة لإخراج المحطة من الخدمة بأمان، لكنها، وبالتوافق مع الوكالة الدولية، غير قادرة على إزالة جميع العناصر المشعة قبل ضخها عبر الأنابيب إلى المحيط.

علمياً، التريتيوم الذي يعرف أيضا بالهيدروجين الثقيل، هو نظير مشعّ للهيدروجين “ونظير مستقل لا يتحلل”، تحتوي نواته على بروتون وإثنين من النيوترونات، وتبلغ وزن كتلته 3 أضعاف وزن الهيدروجين العادي “المستقر”. ويستخدم في استخراج الطاقة النووية بواسطة الاندماج النووي.

تكمن أخطار التعامل معه في عدم توفر وسائل تقنية لإزالته من المياه الملوّثة حالياَ وخطر تسربه. يتفكك التريتيوم عن طريق انبعاث جسيمات بيتا، بعمر نصف يبلغ 12.3 سنة، أي لا يتبقى سوى نصف كمية من التريتيوم بعد انقضاء 12.3 سنة بسبب الاضمحلال الإشعاعي.

لا تجمع الأوساط العلمية والمختصة بدراسات النواة على رأي موحّد بهذا الشأن. بعض علماء الجيولوجيا يؤكد: “نظرياً، يمكنك شرب هذه المياه”، نظراً إلى معالجتها عند تخزينها وتخفيف تركيزها عبر مزجها بمياه المحيط قبل اطلاقها.

الأستاذة الجامعية إميلي هاموند والخبيرة في قانون الطاقة والبيئة في جامعة جورج واشنطن تؤكّد: ” التحدي الذي نواجهه مع النويدات المشعة (مثل التريتيوم) هو أنها تطرح سؤالاً  لا يستطيع العلم الإجابة عليه بشكل كامل: عند التعرض لمستويات منخفضة للغاية منه، ما الحد الذي يمكن اعتباره “آمناً”؟

مختبر البحث والتطوير التابع لسلاح البحرية الأميركية U.S. Naval Research أصدر بياناً في كانون الأول/ ديسمبر 2022، أكّد فيه “عدم اقتناعه” بالبيانات اليابانية المتداولة (موقع شبكة “بي بي سي”، 22 آب/أغسطس 2023).

ربما العامل الأخطر في جهود اليابان لمعالجة المياه المشعّة وتصريفها هو أن “النتائج والاستنتاجات التي يخلص إليها استعراض الوكالة ليست ملزمة قانوناً للحكومة اليابانية، لكنها ستساعد على تزويد المجتمع الدولي بالمعلومات ودعم الهدف العام المتمثِّل في تعزيز الشفافية”.

كما أن “معايير الأمان الصادرة عن الوكالة توضع بالتشاور مع جميع الدول الأعضاء في الوكالة، وتجسِّد توافقاً دوليًّا في الآراء حول ما يشكِّل مستوى عالياً من الأمان لحماية الناس والبيئة من الآثار الضارة للإشعاعات المؤيِّنة”. (موقع الوكالة الدولية للطاقة النووية).

تباين تصريحات مسؤولي الوكالة الدولية للطاقة النووية، كما ذكرنا أعلاه، لا تبعث على الارتياح بل تعزّز الاتهامات ضدها بأن قراراتها “مسيّسة”، و”تحابي السياسة الأميركية” في المجمل العام، وتنحاز ضد الدول والمجتمعات غير النووية.

على الرغم من عدم تطابق إعلان اليابان تصريف المياه الملوّثة مع هول الأسلحة النووية، فإن الولايات المتحدة “تخشى” من تطور تقنية “الذكاء الاصطناعي” إلى شن هجمات نووية “بصورة مستقلة”.

وطالب عدد من أعضاء الكونغرس بإدخال تعديل إلى قرار تفويض الحرب يشترط على البنتاغون بلورة إجراءات من شأنها إيلاء أولوية قرار إطلاق الأسلحة النووية إلى تدخل من العنصر البشري (نشرة “ميليتاري تايمز – Military Times، 4 آب/أغسطس 2023).

الترسانة النووية الأميركية التي تأتي في المرتبة الثانية بعد روسيا تضم “أكثر من 5 آلاف قنبلة نووية، بينها نحو 1700 رأس نووي في وضع الإطلاق الاستراتيجي على متن صواريخ باليستية عابرة للقارات وقاذفات ثقيلة”، بلغت ذروتها عام 1968 بامتلاك أكثر من 31 ألف رأس نووي (بيانات “اتحاد العلماء الأميركيين”، 31 آذار/مارس 2023).

في هذا الشأن، لفت مركز أبحاث أميركي مرموق الأنظار إلى “خطر وقوع صراع نووي غير متعمّد بين الولايات المتحدة وروسيا ؛ صراع يبدأ حين يخطئ أحد البلدين في تأويل ما حدث على أنه مؤشر استفزاز أو هجوم نووي” (دراسة بعنوان “الإنذارات الكاذبة، أخطار حقيقية؟”، موقع مؤسسة “راند”، 2016).

حديثاً، جددت واشنطن، ومعها طوكيو ودول أخرى، تحذيراتها من تنامي القدرات النووية الصينية، واعتبار الأمر تهديداً يستدعي التعامل معه، مع العلم ان كلاً من اليابان وكوريا الجنوبية “تتمتعان بحماية المظلة النووية الأميركية”  كمصدر حماية لهما يعززانه بوجود عدة قواعد عسكرية أميركية في أراضيهما.

موافقة واشنطن الضمنية حليفتها اليابان لتصريف المياه الملوّثة إشعاعياَ تأتي في سياق استراتيجيتها العليا لـ “محاصرة” الصين واحتوائها ، والإضرار باقتصادها بكل السبل. ويمكن اعتباره امتداداً لسياسة “العقوبات الاقتصادية” الأميركية ضد مناوئيها وخصومها الدوليين.

2023-12-08-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

انقلاب النيجر: طرد الاستعمار القديم
وواشنطن تعدّ غزواً عسكرياً بالوكالة

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

إعلان “قوات الأمن والدفاع” في النيجر عزل الرئيس محمد بازوم واحتجازة في القصر الرئاسي، يوم 26 تموز/يوليو 2023، وإغلاق حدود البلاد، جاءا صادمَين لعدد من محطات صنع القرار في الولايات المتحدة، والتي تكهّنت طويلاً بطلب الدول الإفريقية مغادرة القوات الفرنسية أراضيها، بينما ما زالت النيجر تستقبل القوات الأميركية بناءً على “ترتيبات” سابقة بين واشنطن والرئيس بازوم.

تُّوج نجاح “الانقلاب” السلمي بعقد مؤتمر قمة روسية-أفريقية في اليوم التالي في سان بطرسبرغ، بحضور واهتمام لافتين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومندوبين عن “قوات الأمن والدفاع” النجيري ونحو 49 من القادة الأفارقة، بينهم 17 رئيس دولة.

لا يُعتقد ان هناك رابطاً مباشراً بين الحدثين، سوى في المغزى والرسائل، التي اراد المشاركون ايصالها إلى العالم بكل وضوح: إفريقيا تدخل عصراً جديداً تمارس فيه سيادتها وحماية ثرواتها وطرد فرنسا الاستعمارية، بالإضافة إلى صدى لقاء سان بطرسبرغ المدوّي، إيذاناً ببزوغ عالم متعدد الأقطاب، وقطع اختلال التبادل التجاري السابق بين إفريقيا وأوروبا الاستعمارية، وإبداله بصيغة أكثر عدلاً وإفادة بين الدول الإفريقية وروسيا، تحت عنوان “سيادة الغذاء”.

ولم يفت مراعاة روسيا لتاريخ الاتحاد السوفياتي السابق بدعم حركات التحرر في إفريقيا، بصورة خاصة، وأعادت إحياء “جامعة باتريس لومومبا للصداقة بين الشعوب”، في 5 شباط/فبراير 2023، لتعزيز الدور التاريخي لهذا الصرح في “تطوير العلاقات التعليمية والعلمية الدولية، وتدريب الكوادر الوطنية في الدول الصديقة لدولة روسيا الاتحادية”، كما جاء في إعلان الخارجية الروسية.

ما يهمنا في هذا التطور هو تسليط الضوء على طبيعة “الرد” الأميركي على انقلاب قاده عسكريون انطلاقاً من دوافع وطنية، بحسب معايير المؤسسة الإعلامية الأميركية، واستقراء ما في جعبة واشنطن، التي قادت تاريخيا كل الانقلابات المعادية لطموح الشعوب، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، آخرها انقلاب باكستان على رئيس الوزراء المنتخب عمران خان.

بدايةً، لا نستطيع الجزم بمعرفة أجهزة الاستخبارات الأميركية مسبّقاً بالانقلاب، بحيث تشير الدلائل المتعدّدة إلى عكس ذلك، يعززها تقاسم المهمّات بين الدول الغربية في أفريقيا: فرنسا في مستعمراتها السابقة، والولايات المتحدة كطرف داعم بوجود 3 قواعد عسكرية أميركية في النيجر، على الرغم من إقرار البنتاغون بوجود قاعدة وحيدة هناك، وقاعدة أخرى للطائرات المسيّرة.

الثابت أن الولايات المتحدة أدانت رسمياً الانقلاب، وكذلك حليفتاها بريطانيا وفرنسا، وطالبت بإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها، وحمّلت روسيا و”مجموعة فاغنر” مسؤولية التمدد في أفريقيا لمقارعة الوجود الأميركي.

الشخصية الرئيسية في الانقلاب كانت رئيس الحرس االرئاسي، عبد الرحمن تشياني، بدعم عدد من كبار قادة الجيش والقوات المسلحة، الأمر الذي يدلّ على تفاقم حالة تذمّر عامة في اوساط القادة العسكريين، أبرز أسبابها انصياع الرئيس بازوم لتنفيذ متطلبات فرنسا، بينها حق طلب تدخلها عسكرياً في بلاده، علاوة على تدهور الأوضاع الأمنية، وانتشار الاتجار غير المشروع بثروة الذهب الوطنية.

لم تُخفِ واشنطن نياتها في التدخل العسكري وإعادة الرئيس المعتقل وإبرام معاهدات عسكرية وأمنية جديدة تحابي المصالح الأميركية، لكن ما يمنعها في هذا الظرف بالتحديد جملة عوامل، لولاها لشهدنا تكرار الغزوات في ليبيا والعراق.

بين تلك العوامل، حساسية المسألة الداخلية من جراء استنزاف حرب أوكرانيا لموارد الدولة من دون أفق مرئي، وتفشي حالات العنف والانتحار بين جنودها العائدين من حروب أفغانستان والعراق، والانتشار العريض للقوات العسكرية الأميركية عبر العالم، وتكثيف حضورها في مواجهة الصين وروسيا، والجاهزية القتالية المشكوك فيها للقوات الأميركية، بعيداً عن الضخ الإعلامي الدعائي.

بشأن حالة الجاهزية، تُبلغنا مجلة “نيوزويك” فشل التكتيكات القتالية الأميركية في أوكرانيا، استناداً إلى تقرير داخلي للبنتاغون، من ضمن ما ذكره حالة الذهول بين القادة الاستراتيجيين الأميركيين بسبب عدم تحقيق أي تقدم ملحوظ ضد روسيا، وربما “التدريبات القتالية لم تنجح بالقدر أو المستوى الذي كان متوقعاً”، مضيفاً أن القوات الأوكرانية “طرحت جانباً الأساليب القتالية الأميركية، وطبقت التكتيكات التي تعرفها جيداً”، والعائدة إلى الحقبة السوفياتية (أسبوعية “نيوزويك”، 10 آب/أغسطس 2023).

والنتيجة الصادمة التي أثارتها المجلة الأميركية،- جاءت بصيغة سؤال وجواب: “إذاً، لماذا نشهد فشلاً للتكتيكات الحربية الأميركية في أوكرانيا؟”. وجواب المجلة المباشر “لأن القتال الحقيقي ضد روسيا لا يشبه أي فيلم تُخرجه هوليوود، عنوانه الجندي الأميركي يطلق النار بغزارة”.

أمام تلك الاعترافات الصادمة، والتي ليست متاحة للتداول بسهولة، ما يتبقى من خيارات لواشنطن لبسط سيطرتها على مناطق العالم هو “القتال بالإنابة”، أي تجنيد قوات من دول أخرى تدور في فلك واشنطن للقيام بالمهمة، وهي تنفذ ذلك حالياً في أوكرانيا.

ونتيجةً لهذه الأسباب مجتمعة، بالإضافة إلى الدعم الشعبي لعناصر الانقلاب، أوكلت مهمة “التصدي للانقلاب وعكس مساره” إلى مجموعة من الدول الأفريقية المجاورة للنيجر، بعد تعثر فرنسا في القيام بالمهمة، تحت مسمّى اقتصادي هذه المرة “المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا” – “إيكواس”. تأسست المجموعة عام 1975 بعضوية 15 دولة، ومقرها عاصمة نيجيريا أبوجا، وانسحبت موريتانيا من العضوية عام 2001.

وعليه، تزخر وسائل الإعلام الأميركية بعنوان مشترك “إيكواس توافق على التدخل العسكري في أقرب وقت ممكن”، نقلاً عن رئيس ساحل العاج، الحسن واتارا، عقب اجتماع المجموعة لتدارس الخطوة المقبلة بإيعاز من واشنطن.

الإعداد للتدخل العسكري المنشود سيستغرق “نحو 6 أشهر”، بحسب قائد عسكري رفيع في “إيكواس” لصحيفة “وول سترتيت جورنال،  بتاريخ 11 آب/أغسطس 2023، وسط أنباء رصدت وصول “معدات عسكرية أوروبية إلى نيجيريا”. وانضمت روسيا سريعاً إلى دعم قادة النيجر الجدد بإصدارها تحذيراً لدول “إيكواس” بعدم التدخل عسكرياً لما ينطوي عليه من مخاطر بحرب طويلة الأمد وتدهور الاستقرار في منطقة الساحل الإفريقي.

وطبّقت نيجيريا وصفة التدخل بقطعها التيار الكهربائي عن النيجر، وسارعت الجزائر إلى تدارك الموقف وتوريد الطاقة “مجاناً” إليها.

أرفقت واشنطن موقفها المعلن بإعادة الاعتبار إلى الرئيس السابق بإرسال نائبة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند، للقاء قادة الانقلاب و”الاطمئنان” على صحة الرئيس المعتقل. استقبلها قادة النيجر الجدد بمقاطعتها ورفض اللقاء المباشر معها، وعدم السماح لها برؤية الرئيس السابق، بل التحدث إليه هاتفياً. وأقصى ما حصلت عليه هو لقاء مع الجنرال موسى سالو بارمو “الذي نصّب نفسه وزيراً للدفاع”، وهو الذي “عمل مع القوات الخاصة الأمريكية في النيجر عدة أعوام”، أرفقته بإعلان وقف المساعدات الأميركية المقررة للنيجر.

بعض النخب السياسية الأميركية عدّ زيارة نولاند تمهيداً لاستدراج القادة الجدد بتصفية الرئيس المعتقل كي يتوافر لها مبرر التدخل العسكري المباشر. لكن يقظة القادة وحنكتهم أفشلتا مرامي نولاند المشهورة بتوزيعها الحلوى في ساحة “ميدان” في كييف عقب انقلاب أطاح رئيسها المنتخب عام 2014.

لم تتراجع حظوظ الوصفة الأميركية المفضّلة بالتدخل العسكري، بالرغم من العقبات الواردة أعلاه، لكن خطابها اليومي يزخر بالتمسك بالديموقراطية وإعادة “الرئيس المنتخب”، ريثما تنضج بعض الظروف قيد الإعداد، ضمن سقف الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة.

لكن تمدد خطابها العدواني ضد روسيا والصين معاً قد يدفعها إلى التريث في تطبيق ذلك مباشرة، وإيلاء المهمة للقوات النيجيرية تحت سيطرة رئيس البلاد الموالي لواشنطن، بولا تينوبو، الأمر الذي يعزز هدف وصول المعدات العسكرية الغربية إلى نيجيريا في ظلّ هذا الظرف المتوتر.

2023-08-08-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

روسيا تتحدى “الناتو” غرباً
والحلف يكرّس البلطيق “بحيرة الناتو”

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

استكملت روسيا مناوراتها البحرية الأخيرة، درع المحيط 2023، في مياه بحر البلطيق، بمشاركة نحو 30 سفينة حربية وأسطول دعم عماده 20 قطعة و 6،000 عنصر. وأعلنت  وزارة الدفاع الروسية أن من بين مهام المناورة “تحريك قوات إلى منطقة البلطيق”، وضمناً إلى جيب كالينينغراد، ما سجّل ارتفاعاً في منسوب التوتر لدى قادة حلف “الناتو” والقلق أيضاً، خصوصاً بعد إقراره عضوية كل من فنلندا والسويد المتشاطئتين عليه، واعتباره المناورات تحدياً لسيطرته نظراً لاعتباره المنطقة “بحيرة للناتو”.

تفاقمت الأوضاع مجدداً عقب اتهام بولندا لجارتها بيلاروسيا بانتهاك طائراتها المروحية أجواءها، والتي لم تسجّل أجهزة راداراتها للأجسام الطائرة استشعارها بالسرعة المطلوبة. كما أرسلت بولندا “تحذيراً” لمجموعة “فاغنر”، المرابطة في أراضي جارتها، من السعي لاختراق حدودها متنكّرين “بزيّ مهاجرين مدنيين أو هيئة حرس حدود بيلاروسيين”، بحسب تصريح رئيس وزراء بولندا ماتيوز موراويكي، 28 تموز/يوليو 2023.

في واشنطن، نفى المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي عِلم واشنطن بأي تهديد يشكله وجود قوات “فاغنر” في بيلاروسيا على بولندا أو أعضاء آخرين في حلف “الناتو”، مستطرداً أن الإدارة الأميركية “تراقب الوضع من كثب”، بالتزامن مع بدء بولندا نشر أكثر من 1000 جندي بالقرب من الحدود المشتركة مع بيلاروسيا. (وكالة “رويترز”، 1 آب/أغسطس 2023).

أنظار طرفي الصراع، روسيا وحلف الناتو، مشدودة نحو  ممر “سوفالكي” الاستراتيجي، الفاصل بين دول البلطيق وأوروبا، والذي تم انتزاعه من ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى ومنح الحلفاء جزءاً منه إلى بولندا، ولا يزال مصدر توتر العلاقات البلدين إلى الآن.

ويشكّل الممر مصدر قلق إضافياً لأطراف الحرب الدائرة في أوكرانيا، إذ ستعزل السيطرة عليه دول البلطيق الثلاث، بولندا وليتوانيا وبيلاروسيا، عن بقية دول الناتو. كما يفصل الممر بيلاروسيا عن مقر اسطول بحر البلطيق الروسي في كالينينغراد. أما السيطرة عليه فتمنح القوات الروسية وحليفتها البيلاروسية ميزة استهداف وعرقلة أي امدادات عسكرية تتحرك براً من بولندا إلى ليتوانيا.

سعت بولندا لاستغلال مكانتها الفريدة لدى حلف الناتو بمطالبته إنشاء قاعدة عسكرية قوامها فرقة مدرّعة، وأرجأ الحلف قراراً بهذا الشأن لخشيته من تمدد رقعة انتشاره وصعوبة الدفاع عنها لاحقاً، واستعاض عنها بإجراء مناورات عسكرية متتالية بالقرب من الممر.

لدى حلف “الناتو” وجود عسكري دائم في محيط الممر الاستراتيجي، يضم: لواء الذئب المدرّع الميكانيكي، والفوج 185 من سلاح المشاة الأميركي، يعاونهم نحو 400 عنصر من سلاح الفرسان الملكي البريطاني. وفي المحيط القريب، يرابط نحو 40،000 عسكري تابع لقيادة حلف “الناتو” بالإضافة إلى عدد من الوحدات العسكرية البولندية التابعة لقيادة الحلف. كما “وعد” رئيس الحلف يانس ستولتنبيرغ بتعزيز القوات العسكرية بنحو 300 ألف عنصر  كجزء من “قوات رد الحلف” على المخاطر.

وأشد ما يخشاه صنّاع القرار في واشنطن مطالبة روسيا بممرّ مباشر من بيلاروسيا إلى كالينينغراد، الأمر الذي “قد يفك ارتباط دول البلطيق بحلف شمال الأطلسي” (مقالة بقلم أحد أعمدة المحافظين الجدد روبرت كايغان في “واشنطن بوست”، 21 شباط/فبراير 2022).

تتضاعف أهمية ممر سوفالكي الضيق، وطوله 60 ميلاً، بوجود “المنتجعات الصحية والبحيرات الساحرة والتاريخ العنيف”، وفيه قضى الزعيم النازي هتلر معظم سنوات الحرب العالمية الثانية متحصناً في أحد مخابئه. وتزخر الأدبيات الأميركية بشكل خاص بالإشارة إلى “وجود نحو 30 ألف جندي روسي في بيلاروسيا”، مزودين بأسلحة هجومية وبطاريات صواريخ أس-400، للدلالة على “إحدى أبرز أوراق الضغط التي يملكها الرئيس الروسي” ضد الغرب بشكل عام في حال اندلاع مواجهة مع حلف “الناتو.”

تحضيراً للمعركة المقبلة بشأن ممر سوفالكي، نظرياً على الأقل، تكشف الدوائر العسكرية الأميركية نيّاتها بتعالٍ وعنجهية مطالبة الإدارة  بـ “ضمان الوجود الدائم للدروع والطيران القتالي والحرب الإلكترونية والطائرات المسيّرة والمهندسين ووحدات الدفاع الجوي. كما يجب على إيطاليا وإسبانيا وفرنسا – نظرا لحجمها العسكري وأهميتها في التحالف – الالتزام بتركيز وحدات قابلة للتشغيل المتبادل بحجم كتيبة قوامها 800 جندي في قواعد دائمة في بولندا أو ليتوانيا أيضًا” (دراسة صادرة عن “كلية الحرب التابعة لسلاح الجيش الأميركي”، 19 تموز/يوليو 2020).

كما تعوّل أيضاً على “استمرار وحدة حلف الناتو” في مواجهة روسيا، على الرغم من التصدع داخل دول الحلف بدرجات متفاوتة، وبروز تحديات أكثر جرأة للنفوذ الأميركي والغربي بشكل عام، خصوصاً في إفريقيا.

يوضح الخبير في الشؤون الروسية ومدير برنامج “أوراسيا” في معهد “كوينسي”، أناتول ليفين، عوامل أربعة لاستمرار “وحدة” الناتو: حالة الاقتصاد الأوروبي؛ مخاطر التصعيد إلى حرب نووية؛ تراجع الثقة بانتصار أوكرانيا؛ إقدام روسيا على وقف إطلاق النار (وكالة “دوتشي فيلي” الألمانية، 25 شباط/فبراير 2023).

بيد أن التحركات الأخيرة لروسيا باتجاه تعزيز مواقعها في كالينينغراد ومواردها العسكرية أيضاً ستعرقل  قدرة حلف الناتو على فتح جبهة استنزاف جديدة طويلة الأمد، على غرار أوكرانيا، وذلك بالرغم من الدعوات الرغائبية في واشنطن تحديداً لـ ” التحسين السريع للبنية التحتية ذات الصلة عسكريًا في منطقة سوفالكي، وتعزيز صفوف قوات الحلفاء بشكل كبير ودائم في شمال شرق أوروبا، كما يجب على التحالف أن يأخذ في الاعتبار مستويات القوة الروسية والقدرات العسكرية المزعزعة للاستقرار الموجودة في كالينينغراد وبيلاروسيا، وأن يقترب من مطابقتها على الأقل من الناحية النوعية من أجل ردع موسكو” (نشرة “فورين بوليسي”، 3 آذار/مارس 2022).

2023-02-08-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

أميركا وكوريا الشمالية:
أزمة مرشّحة للتصعيد

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

 ليس من العسير استكشاف طبيعة السياسة الخارجية الأميركية وإدراك مراميها بشأن شبه الجزيرة الكورية، جذرها هو العداء المتأصّل بسبب عدم قدرة واشنطن على حسم “الحرب الكورية” ببسط سيطرتها على الكوريتين، في خمسينيات القرن الماضي. والأهم أن واشنطن أحجمت منذ تلك اللحظة عن إبرام اتفاق ينهي “وقف إطلاق النار لعام 1953” بمعاهدة سلام رسمية.

وشهدت المنطقة منذئذ سلسلة تهديدات أميركية، بعضها رفيع المستوى، بغزو كوريا الشمالية التي ما فتئت تُطوّر إمكاناتها الذاتية للدفاع عن نفسها، أبرزها نجاحها في دخول “نادي الدول النووية”، على الرغم من أن القراءة الاستراتيجية الأميركية تتعامل مع السلاح الجديد وكأنه امتداد للمظلة النووية الصينية، بالقرب من النفوذ الأميركي في اليابان بصورة خاصة (نبأ بعنوان “الصين تقول زعيم كوريا الشمالية تعهّد بنزع السلاح النووي”، وكالة “رويترز” للأنباء، 27 آذار/مارس 2018).

الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون تدارس ومستشارية توجيه ضربة عسكرية استباقية، تستهدف المفاعل النووي لكوريا الشمالية في يونغ بيون، في أيلول/سبتمبر 1994، وسارع بعض العقلاء في واشنطن إلى احتواء الأزمة المفتعلة بإيفاد الرئيس الأسبق جيمي كارتر إلى العاصمة بيونغ يانغ، ولقاء الرئيس كيم إيل سونغ. وسُوّي الأمر بتجميد الزعيم الكوري للبرنامج النووي لنحو عقد من الزمن.

وصرّح الرئيس كارتر بعد عودته أنه أدرك تماماً ما يريده الزعيم الكوري متمثّلاً بإنهاء حالة الحرب عوضاً عن “اتفاق وقف إطلاق النار”، وإنهاء الحصار الاقتصادي الأميركي على بلاده، “مقابل تعاونه” المشار إليه (مقابلة أجرتها الاستاذة الجامعية كريستين آن مع الرئيس كارتر في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2018، في مقر مركز كارتر للدراسات بمدينة أتلانتا).

جدير بالذكر ما يردّده صقور السياسة الأميركية، أبرزهم السيناتور اليميني ليندسي غراهام، بأن على كوريا الشمالية التخلّي عن سلاحها النووي قبل توقيع إعلان السلام مع الولايات المتحدة.

وما زاد الأمر تعقيدا هو الدور المطلوب أميركياً من كلا الكوريتين في الحرب الأوكرانية الجارية، إذ تمارس واشنطن أقصى ما لديها من وسائل ضغط على كوريا الجنوبية لتوريد أسلحة وذخائر مدفعية إلى كييف، نظراً لشح الإمدادات الموعودة من ترسانة دول حلف الناتو، ووفرة الأسلحة المطلوبة في ترسانة سيؤول. وبالمقابلتسوق الاتهامات لكوريا الشمالية بأنها توّرد أسلحة ومقاتلين لدعم الجيش الروسي هناك.

وعليه، وجّهت دعوة لرئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول للمشاركة في قمة حلف الناتو الأخيرة في فيلنياس، والاطلاع عن كثب على احتياجات الحرب الأوكرانية. وبحسب الخبراء العسكريين فإن المراهنة على دخول ترسانة سيؤول لمجريات الحرب “قد يغيّر نتائجها”، وذلك بخلاف مبدأ البلاد بعدم تسليح أي من أطراف الحرب، وساهمت في إرسال معونات إغاثية إلى كييف بقيمة 200 مليون دولار.

وتزيد اللوحة السياسية تعقيدا بالنسبة لكوريا الجنوبية بعد تخطيها بنجاح حجم تبادل تجاري رفيع المستوى مع روسيا قبل نشوب الحرب الأوكرانية، وليس مستبعداً استغلال واشنطن لتلك الخاصية كي تضغط عبر سيؤول على موسكو. وأقر مسؤول رسمي في سيؤول أن “الجانب الروسي أوضح لنا بشدة بأن (توريد) الأسلحة هو خط أحمر، وفي حال تجاوزناه سنواجه بالرد” (مقابلة مع شبكة “بي بي سي” البريطانية 8 تموز/يوليو 2023)

معالم الاستراتيجية الأميركية في شبه الجزيرة الكورية، وامتداداً بحر الصين الجنوبي، اتضحت منذ بدء ولاية الرئيس جو بايدن بتعزيز “التعاون العسكري والاستخباراتي” بين حلف أميركا واليابان مع كوريا الجنوبية وإجراء مناورات عسكرية مشتركة معها، توّجتها بإدخال قطع بحرية نووية وغوّاصات قادرة على إطلاق صواريخ عابرة للقارات إلى مياهها.

خلفية استراتيجية واشنطن أعلاه ليست بدافع تعزيز سبل “ردع كوريا الشمالية” في جوارها، كما يتردّد في وسائل الإعلام، بل هي رسالة أبعد لاحتواء الصين. وعليه، تجمع النخب الأميركية أن إدراك طبيعة السياسة الأميركية في شبه الجزيرة الكورية ينبغي النظر إليها من زاوية “صعود الصين لتحديها للولايات المتحدة” في شبه الجزيرة الكورية وعموم المنطقة الآسيوية، عبر تطويق سواحلها بمعدات عسكرية متقدمة (دراسة بعنوان “الصين تنظر إلى شبه الجزيرة الكورية: ثنائية التحوّل”، نشرت في دورية “غلوبال بوليتيكس آند ستراتيجي”،  26 تشرين الثاني/نوفمبر 2021).

وحذرت الدراسة إدارة الرئيس بايدن أن سياسة “الاحتواء” المتبعة ترفع منسوب التوتر مع الصين في شبه الجزيرة، بما أن تعزير التعاون بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة يؤدي إلى تحفيز الصين في مواجهة كوريا الجنوبية باتباعها ديبلوماسية القوة القسرية، والتي ستنعكس على صراع أميركا مع الصين”، وقد يؤدي إلى تخفيف مدى تحفّظات الأخيرة على كوريا الشمالية، كما نشهد في “رفع الصين لمعدلات عدم تعاونها مع عقوبات الأمم المتحدة على كوريا الشمالية”.

 

كوريا الشمالية

شهد مطلع العام الجاري سلسلة تصريحات متبادلة من رئيسي الكوريتين، عقب استئناف الجار الجنوبي لمناورات عسكرية مشتركة مع أميركا، وتعثّر المحادثات الديبلوماسية مع الجار الشمالي. فرئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون استهل العام الجديد بتعهّد بلاده زيادة “هائلة في الترسانة النووية ” بما يشمل الإنتاج الضخم لأسلحة نووية تكتيكية، وصواريخ باليستية عابرة للقارات”، وأن الولايات المتحدة “تُشكّل نسخة آسيوية من حلف الناتو”.

أما رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول فقد حذّر من أن “المظلة النووية الأميركية لم تعد تكفي لطمأنة” بلاده، على خلفية زيارته الرسمية للبيت الأبيض وإعلان الرئيس جو بايدن إرسال بلاده “غواصات محملة بصواريخ باليستية نووية” للرسوّ هناك للمرة الأولى منذ عقود. ونوّه إلى اعتقاده بأن “واشنطن لن تتدخّل لحمايتهم في حال هجوم” من كوريا الشمالية، إذ شهد العام المنصرم إطلاق “بيونغ يانغ عدداً قياسياً من الصواريخ بمعدل اختبار واحد كل شهر تقريباً” (وكالات، 2 كانون الثاني/يناير 2023).

أما بشأن ترسانة الكوريتين العسكرية، فقد عملتا بشكل مستقل على تعزيز مخزوناتهما من الأسلحة والذخائر “والدخول في تحالفات مضادة، تحضيراً لأي عمل عسكري مقبل” منذ انتهاء الاشتباكات المسلحة عام 1953.

وحطّ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في بيونغ يانغ، قبل أيام معدودة، والتقى بالرئيس الكوري، وزارا معاً معرضاً للأسلحة الباليستية، ما أثار شكوك واشنطن بأن الجانبين اتفقا على صيغة لتوريد الأسلحة من كوريا الشمالية إلى روسيا، عمادها قذائف المدفعية وأسلحة خفيفة مضادة للدروع مع ذخائرها.

وقبل الزيارة أعلاه بأيام قليلة، أجرت روسيا والصين مناورات عسكرية مشتركة في مياه بحر اليابان “لتعزيز سبل حماية طرق الملاحة البحرية ودمج تكامل عملياتهما العسكرية”.

آفاق المرحلة المقبلة لا تدعو إلى الارتياح، بل إلى توتير متبادل بين الأقطاب الثلاثة الرئيسية: أميركا وروسيا والصين. ولا يلوح في الأفق أي نية أميركية تغاير المسار التقليدي بإدامة حالة الحرب في شبه الجزيرة الكورية.

أما المساعي المتعثّرة التي قامت بها واشنطن باتجاه بيونغ يانغ، بعد انقضاء 3 عقود، كان سقفها الأدنى “نزع السلاح النووي” من كوريا الشمالية، وإصرار رؤسائها المتعاقبين على عدم “التعايش مع بيونغ يانغ النووية”، والتخلّي عن مساعٍ سابقة فرضتها الظروف الدولية لإجراء “حوار رفيع المستوى” مع حكومة كوريا الشمالية.

ومع دخول عنصر استدامة الحرب الأوكرانية، نظراً لعزم واشنطن على إدماء روسيا و”الحاق هزيمة استراتيجية بها”، معطوفاً على اشتداد التصريحات الكلامية في جولة الانتخابات الرئاسية المقبلة، فالأجواء تنذر بمزيد من التوتر وإعلاء الصدام بدلاً من نزع فتيل الانفجار.

وعزز وزير دفاع كوريا الشمالية القراءة السوداوية للأزمة المتدحرجة بقوله: “الولايات المتحدة ستواجه أزمة لا يمكن تصورها ولم يسبق لها مثيل، إذا حاولت توجيه ضربة نووية ضد كوريا الشمالية” (خطاب في احتفال الذكرى السبعين لهدنة الحرب الكورية، 29 تموز/يوليو 2023).

2023-26-07-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

التعقيدات الانتخابية
في المشهد السياسي الأميركي

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

من خصائص دورة الانتخابات الرئاسية المقبلة أنها ستشهد انتخاب كل أعضاء مجلس النواب البالغ عددهم 435، إضافة إلى 34 مقعداً في مجلس الشيوخ من مجموع 100 مقعد، ما يؤشر على دورة انتخابية حامية بين مرشحي الحزبين في ظل أوضاعهما الداخلية التي لا تبعث على الارتياح لكليهما.

تدل المؤشرات الأولية على عزم الرئيس جو بايدن خوض الجولة المقبلة لولاية رئاسية ثانية، متغاضياً عن جملة عوامل وتحذيرات من أقرانه بأن قراره يمثل مغامرة في مستقبل الحزب الديموقراطي، وربما يكلفه خسارة المنصب. أما الحزب الجمهوري، فلا يزال الرئيس السابق دونالد ترامب يتبوأ المرتبة الأولى بين عددٍ من الراغبين في خوض الانتخابات.

لم يعد خافياً على أحد تكوّن شبه إجماع بين الناخب العادي والنخب المختصة، مفاده عزم الحزب الديموقراطي على إثارة جملة عقبات “قانونية” الطابع تهدف إلى تنحية الرئيس السابق ترامب وحرمانه من أداء أي دور سياسي في المستقبل، وتستند إلى تعديل دستوري بالغ القدم يعرف بالفصل 3 من المادة الرابعة عشرة من التعديلات الدستورية، التي تنص على أن”المسؤول رسمي لا يجوز له، بعد أدائه القسم، الانخراط في حالة عصيان أو تمرّد” ضد النظام السياسي.

لكن المادة نفسها تتيح لمجلسي الكونغرس التصويت بنسبة ثلثي الأعضاء، بصورة منفصلة، على إلغاء العمل بذلك الفصل، كما أنها لا تنصّ على مرتبة “المسؤول الرسمي” وهناك ضبابية في تطبيقها على رئيس البلاد. لا ريب في أن الجدل المرافق لتلك الصيغة الفضفاضة سيُطرح على أختصاصيي القانون، وسيستغرق فترة زمنية غير محددة، نظراً لطبيعة المرحلة وخصوصيتها.

وفي حال افتراض نجاح جهود تنحية الرئيس ترامب بفترة زمنية قصيرة بعد فوزه بترشيح مؤتمر الحزب الجمهوري العام المقرر انعقاده في 15 تموز/يوليو 2024، فستشهد البلاد  تحديات غير مسبوقة في تاريخ كيانها السياسي.

والجدير بالذكر ثبات الرئيس ترامب في المرتبة الأولى بين منافسيه من الحزب الجمهوري. أحدث استطلاعات الرأي، أجرته جامعة هارفارد العريقة، وبعد توجيه إدانة رسمية أخرى له في نيويورك، أفاد بأن ترامب يحظى بتأييد 52% من مجموع أصوات الناخبين، في حال عُقدت الانتخابات الرئاسية حالياً، وسيفوز ويتفوّق على منافسه الرئيس جو بايدن بنسبة 45% في مقابل 40%.

أما الرئيس جو بايدن، فقد نال معارضة 68% من مجموع الناخبين القلقين من تدهور حالته الصحية، وأحياناً الذهنية. وتشكل تلك النسبة العالية ضعف معدّل النسبة التي سجّلها عام 2020، بحسب الاستطلاع. وقد أشار إلى تدنِّ ملحوظ بين الناخبين في نظرتهم إلى المؤسسات الرسمية والثقة بها، وخصوصاً وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي التابع لها (شبكة “أن بي سي”، 27 حزيران/يونيو 2024)

ما يقلق النخب السياسية الحاكمة في الحزبين هو “تردّد” منافسي الرئيس ترامب من مرشحي الحزب الجمهوري وانصياعهم إلى مشيئته، وهم الذين “لا يتحلّون بالشجاعة لمواجهته مباشرة وتوعية الجمهور بأنه يشكّل خطراً محدقاً ثابتاً على النظام الديموقراطي الأميركي”، (يومية “ذي هيل”، 24 تموز/يوليو 2024).

جولة الانتخابات الرئاسية الراهنة تُنذر بتكريس حالة الانقسام الشديدة بين مختلف أطياف المجتمع الأميركي، ويجد المرء سيلاً لا بأس به من تحذيرات متواصلة من قبل النخب السياسية والفكرية بهذا الشأن، مع إقرار ملتوِ أحياناً بتفاقم الأوضاع الاقتصادية للمواطنين، والتي تشكل الركن الأساسي لتوجهات كل الناخبين.

العامل المتجدد في الصراع السياسي الحالي يسلط الضوء على “ضلوع” الرئيس بايدن بما ينسب تلقيه أموالاً من “دولة أجنبية” خلال توليه منصب نائب الرئيس الأميركي، وكذلك تفاقم قضية نجله هنتر وما يساق بأن وزارة العدل ضمن تركيبتها الحالية “منحته طوق نجاة” لا يستطيع المرء العادي المتهم بأقل من ذلك التمتع به.

كما أن قطب اليمين المتشدد في الحزب الجمهوري لا يفوّت فرصة لمطالبة رئيس مجلس النواب كيفين مكارثي بالشروع في ترتيبات محاكمة الرئيس بايدن، وهو الذي بدأ يتساوق مع التوجه من دون الحسم.

أما بشأن وضع الحزب الديموقراطي قبيل بدء الجولة الانتخابية رسمياً، فهو يشهد جملة صراعات داخلية، أبرزها عدم تنحي الرئيس بايدن قبل الانتخابات التمهيدية ووجود مرشحيْن عن الحزب لا يحظيان بدعم المؤسسة الرسمية نظراً إلى مواقفهما “المتقدمة” عنها، هما نجل السيناتور السابق وحامل الإسم نفسه روبرت كنيدي، والمؤلفة ماريان ويليامسون المعارضة بشدة لهيمنة شركات النفط الأميركية، لعدم امتثالها لتدابير الحفاظ على البيئة ودور الوقود الأحفوري في أزمة المناخ.

وضع نائبة الرئيس كمالا هاريس الراهن لا يبعث على ارتياح أقطاب الحزب الديموقراطي، هم يحبّذون غيابها عن المشهد لسوء أدائها وما تسببت به من أضرار ألحقتها مبكراً بالحزب الديموقراطي، فضلاً عن معارضة شديدة لها من بقية الناخبين، لكن دورها الرسمي كرئيس لمجلس الشيوخ، بحسب الدستور، له أهمية بالغة في حسابات التوازنات السياسية، إلى حين.

أحداث جولة الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 1968 تعود بقوة إلى الواجهة الآن، إذ أسفرت عن اغتيال المرشح الأقوى للحزب الديموقراطي، روبرت كنيدي، وتمسّك قيادة الحزب بنائب الرئيس آنذاك هيوبرت همفري، على الرغم من تمتع منافسه يوجين مكارثي بدعم عريض من القوى الناشئة التي رأت أنه مرشّح ضد استمرار الحرب الأميركية على فيتنام، وعلى الرغم من الانقسام الحاد في قواعد الحزب أثناء انعقاد مؤتمره العام في شيكاغو داخله وخارجه. وفي النهاية، أدت تلك الحسابات “الضيقة” إلى خسارة الحزب الرئاسة وفوز الجمهوري ريتشارد نيكسون.

الانقسامات السياسية ليست حصراً على مرشّح بعينه، لكن تردي الأوضاع الاقتصادية الراهنة، داخلياً وعالمياً، أعادت تساؤلاً “مكروهاً من المؤسسة الحاكمة”: لماذا يجري ضخ مليارات الدولارات في أوكرانيا، فيما تعاني المرافق الاقتصادية نقصاً شديداً في الموارد  فاقم فعالية البنى التحتية وترديها؟

لكن التاريخ لا “يكرر نفسه”، بل تتشابه الأحداث، وليس بالضرورة النتائج، وخصوصاً إغفال القوى النافذة للاستجابة للدروس المطلوبة من تجاربها السابقة. بعبارة أخرى، المؤسسة الأميركية الحاكمة بقطبيها، الديموقراطي والجمهوري، ماضية بقوة إلى تعزيز هيمنتها العالمية، وقرار الصدام مع القوى الصاعدة والمنافسة تم اتخاذه على أعلى المستويات، ولم يعد سراً.

المرشّح الأوفر حظاً سيواصل اتباع الأولويات السياسية الراهنة، المتمثّلة بالحفاظ على رقعة انتشار عسكري عريضة عبر العالم، وتوتير الأجواء وتقريبها من حافة الصدام مع المنافسين الكبار.

وفي حال استطاع الرئيس ترامب المضي إلى النهاية والفوز بالمنصب الرئاسي، فالأولويات الأميركية المرسومة في الاستراتيجية الكونية لن تشهد تغييراً جوهرياً، بل “إعادة انتشار” ربما، وتوزيع أدوار الأطراف المؤيدة، وخصوصاً دول “حلف الناتو”.