2023-10-05-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

متاعب الهجرة إلى أميركا:
تدابير عسكرية لأزمة إنسانية

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

حرّكت إدارة الرئيس بايدن مواردها سريعاً صوب الحدود الجنوبية مع المكسيك قبيل تكهّنات بتدفق غير مسبوق من لاجئي أميركا اللاتينية قبل انتهاء مفعول المادة 42، في 11 أيار/مايو الحالي، من القانون المؤقت للرعاية الصحية للمهاجرين الذي أفرزته جائحة وباء كورونا، والذي يفتح كوة ضئيلة في قانون الهجرة الرسمي لاستقبال المصابين ومعالجتهم والسماح لهم بالبقاء “المؤقت”، باستثناء بتّ  قضايا اللجوء السياسي.

وقد جنّدت على الفور نحو 1،500 عنصر من القوات العسكرية الرسمية ليتخذوا مواقع مانعة على امتداد الحدود الجنوبية، وعزّزت قوات أخرى قوامها “2،500 عنصر من قوات الحرس الوطني ونحو 19 ألف ضابط من جهاز حرس الحدود” في مهام مراقبة واعتراض سيل المهاجرين، مكمّلة بعضها بعضاً.

درج السياسيّون الأميركيون من الحزبين على المبالغة في أعداد المهاجرين واللاجئين من أميركا الوسطى والجنوبية، كلّ لتحفيز مناصريه ضد الآخر، وتكاد لا تخلو أجندة المرشحين لمناصب سياسية مهمة من لهجة التحذير من “خطورة الهجرة غير المشروعة على الداخل الأميركي”، وتحميلها مسؤولية آفات المجتمع من تصاعد موجات الجريمة المنظمة وتفشي المخدرات والاتجار بها.

جوهر المسألة أن قوننة تلك القضية يبقى من صلاحيات الكونغرس لاستصدار تشريعات موازية وقوانين فعّالة، لكنه بمجلسيه لم يُقدم على “تنظيم” موجات العمّال الموسميين الآتين عبر الحدود الجنوبية، نظراً إلى الاستفادة القصوى لرؤوس الأموال من تلك اليد العاملة والرخيصة، وكذلك لنفوذ الشركات الكبرى الطاغي في واشنطن.

لا يحظى أولئك العمّال بأي رعاية أو حماية قانونية من سطوة أصحاب المؤسسات المشغّلة، علماً أن أجورهم المتدنّية ترفد الخزانة الأميركية باقتطاع الضرائب المستحقة منهم، وتشكّل حافزاً لأرباب العمل للإبقاء على تدني الأجور في قطاعات عدة من النشاطات الاقتصادية. على سبيل المثال، يشكّل مبلغ 15 دولاراً في الساعة الحد الأدنى للأجور “رسمياً”، لكن ذلك ينطبق على معدلات المعيشة لأكثر من 40 عاماً، بحسب الخبراء.

من بين الإجراءات المرجّح إقدام الإدارة الأميركية عليها “للحد من موجات الهجرة” يبرز  خيار إنشائها “مراكز جديدة لبت طلبات اللاجئين في كل من غواتيمالا وكولومبيا واستقبالهم”، مما يتيح لطالبي اللجوء السياسي “تقديم طلباتهم هناك قبل عبور الحدود الجنوبية” بحسب شبكة “أن بي سي”، بتاريخ 5 أيار/مايو الحالي.

البيانات الرسمية الأميركية تشير إلى اكتظاظ نحو 40 ألف مهاجر “يخيّمون على الحدود شمالي المكسيك” بانتظار انتهاء مفعول قانون الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي سُمح للسلطات المحلية بموجبه بإعادة المهاجرين قبيل اجتيازهم الحدود الأميركية كـ “جزء من إجراءات احترازية لمواجهة جائحة كورونا”، كما جاء في النص الأصلي للمادة 42.

البيانات الرسمية الأميركية لأعداد المهاجرين ترسم صورة مقلقة لجانبي الحدود الأميركية. وزير الأمن الداخلي السابق، جيه جونسون، قدّر المهاجرين شمالاً بنحو ألف شخص يومياً آنذاك، ليرتفع إلى ما بين 8 إلى 14 ألف في الفترة الحالية.

ووصلت معدلات الهجرة إلى الشمال نحو 13 ألفاً شهرياً عام 2019، لتصل إلى أكثر من 50 ألفاً شهرياً العام الماضي، بلغت نسبة ترحيل الأفراد أكثر من 91%، ونحو 65% للعائلات، بحسب دراسة أعدها “معهد كاتو” للأبحاث نشرها بتاريخ 20 كانون الأول/ديسمبر 2022.

المواجهات والإجراءات القاسية التي تعتمدها السلطات والهيئات الأميركية المتعددة لمنع تدفق المهاجرين، زادت وتيرتها في المرحلة الحالية بإعلان وزير الدفاع الأميركي ومسؤولين آخرين في إدارة الرئيس جو بايدن تعزيز “قوات الحماية” المحلية بقوات من الجيش النظامي الذين “سيكلّفون بمهام إدارية، ولن يشاركوا بشكل مباشر في جهود إنفاذ القانون”، بحسب الناطق الرسمي باسم البنتاغون، باتريك رايدر، بتاريخ 5 أيار/ماية الحالي.

اللافت في هذا الشأن وعود الرئيس بايدن خلال حملته الانتخابية، وتعهّده بمعالجة جوانب الهجرة المتعددة، منها “استصدار تشريع يؤدّي إلى تجنيس نحو 11 مليون مهاجر يقيمون بشكل غير قانوني” في الولايات المتحدة، لكنه لم يصدره.

ويتبادل الحزبان الاتهامات لتبرير عدم اتفاقهما على معايير واضحة بشأن مسألة الهجرة، لكن المرء يجد توافقاً  وشبه إجماع بين مختلف التوجهات السياسية في الحزبين على إبقاء باب المهاجرين مفتوحاً “لمعالجة نقص معدّلات العمالة” الأميركية في نشاطات اقتصادية متعددة.

أجرت منظمة “أطباء بلا حدود” دراسة عام 2017 استغرق إعدادها نحو سنتين، للتوقف على دوافع موجات الهجرة إلى الشمال، جوهرها تفشي عنف العصابات وارتكابها “جرائم القتل وأعمال الاختطاف والابتزاز والعنف الجنسي” لمواطني أميركا الوسطى، وخصوصاً غواتيمالا وهندوراس والسلفادور، أو ما يطلق عليها “دول المثلث الشمالي” لأميركا الوسطى.

وأضافت دراسة المنظمة أن الولايات المتحدة والمكسيك، قبل تولي رئيسها الحالي منصبه في عام 2018، تعاملان “مهاجري المثلث الشمالي كمهاجرين اقتصاديين يجب اعتقالهم وترحيلهم بدلاً من توفير الحماية” والفرص البديلة لهم. وقد طالبت المنظمة حكومات البلدين بوقف إجراءات ترحيل المهاجرين إلى مناطق خطرة فرّوا منها أصلاً.

يشار في هذا الصدد إلى زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن المكسيك، في 20 كانون الثاني/يناير 2021، للمشاركة في قمة جمعت رؤساء أميركا والمكسيك وكندا، لمعالجة سلسلة من القضايا، أبرزها بالنسبة إلى واشنطن كانت “الهجرة غير الشرعية على الحدود الجنوبية، والاتجار بالمخدرات والأسلحة على الحدود الأميركية، ومخاطر انضمام المهاجرين إلى تنظيمات الجريمة المنظمة، ومناقشة العلاقات الصينية مع أميركا اللاتينية”.

صراع مكتوم يجري الآن بين الولايات الجنوبية الحدودية والحكومة الفيدرالية، طمعاً في توفير الأخيرة المزيد من الموارد والخدمات لمعالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية الناجمة عن “استيعاب الآلاف” في النسيج الاجتماعي والصحي والتربوي.

وهدّد حاكم ولاية تكساس غريغ آبوت بتسيير قوافل عربات محملّة بالمهاجرين من هناك لترحيلهم إلى مدن الشمال الصناعية، منها شيكاغو ونيويورك، مطالباً عمداءها بالضغط على “إدارة الرئيس بايدن لتحمّل مسؤولياتها” للحد من تدفق موجات الهجرة وتخصيص المزيد من ميزانيات الطوارئ الفيدرالية لذلك.

لا يبدو في الأفق أي نية حقيقية لدى صنّاع القرار للتوصل إلى إجراءات وتدابير تنظّم موجات الهجرة، أو إنشاء حوافز اقتصادية في البلدان المعنية للنهوض الاقتصادي هناك، وهي مسألة تصب في صلب النظام الرأسمالي الساعي وراء تكديس الأرباح وتقليص الأجور في كافة النشاطات الاقتصادية.

ما يمكن تلمّسه من خيارات أميركية متاحة هو إعادة إنتاج تدابير سابقة عنوانها نسج “اتفاقيات تعاون” بين واشنطن وبلدان أميركا الوسطى والجنوبية، وتحميل الجزء الأكبر من تداعيات هجرة الأيدي العاملة للحكومات المحلية، ورفدها بمكاسب شكلية مثل “مساعدة حكومة كولومبيا في استيعاب المهاجرين من فنزويلا، في مقابل توفير الأدوات التقنية والموارد البشرية الأميركية لها من أجل تشديد إجراءات المراقبة الحدودية”، وخصوصاً في ممرّ “داريان غاب” المحفوف بالمخاطر بين البلدين.

2023-03-05-التقرير الأسبوعي

بايدن يترشّح لولاية رئاسية ثانية
ولكن المسار محفوف بالمفاجآت

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن عن نيّته الترشح لولاية رئاسية ثانية، عام 2024، لم يأتِ بجديد في سياق التكهّنات التقليدية. الأمر الثابت في تاريخ الرئاسات الأميركية هو عزم الرؤساء على إعادة ترشّحهم “وبالمجمل يكسبون الجولة”، خصوصاً في ظل أجواء حروب قائمة تنخرط فيها القوات العسكرية الأميركية.

راهناَ، يواجه الرئيس بايدن جملة تحديات على صعيد الانجازات الداخلية، تتعاظم إخفاقاتها مع الوقت، أبرزها تراجع حالته الذهنية وتقدّمه في السن، بلوغه الـ 80 عاماً، وفتور دعم مؤسّسات الحزب الديموقراطي له في الجولة الانتخابية المقبلة، فضلاً عن تدنّي الأحوال الاقتصادية والارتفاع المستمرّ لتكاليف الحياة اليومية للمواطن، وتصدّع البنى التحتية.

تزخر وسائل الإعلام الأميركية المختلفة بردود أفعال قاسية لإعلان الرئيس بايدن، يميناً ويساراً، وإجماعها على “عدم توفّر أو بروز مرشّح بديل عنه”، يواكبها تراجع ملحوظ في نسبة التأييد الشعبي لأدائه. إذ حاز على نسبة 53% من التأييد في بداية ولايته الرئاسية الحالية، تقلصت إلى 38% وشهدت ارتفاعاً طفيفاً بنسبة 42% في أفضل الأحوال.

استمرّ منسوب التراجع الحاد منذ “الانسحاب المذلّ للقوات الأميركية من أفغانستان”، وإخفاقات الرئيس بايدن في ترجمة أجندته الانتخابية خصوصاً تراجعه عن وعوده لإعفاء الطلبة من ديونهم، التي لا زالت مسألة معلّقة بانتظار قرار البت بها من قبل المحكمة العليا.

في المستوى الشعبي العام، هناك تراجع كبير في معدلات تأييد إعادة انتخابه، أوجزته إحدى كبريات الصحف بأن “عدداً كبيراً من الديموقراطيين لا يؤيدون ترشحه” مرة أخرى، بنسبة 73% من الناخبين، وبمعدلات تأييد متدنية، 52%، من الناخبين الديموقراطيين، بحسب أحدث استطلاع أجرته وكالة “أسوشيتدبرس” للأنباء؛ مقابل 55% من الناخبين الجمهوريين يؤيدون ترشّح الرئيس السابق دونالد ترامب (صحيفة “وول ستريت جورنال”، 1 أيار/مايو 2023).

في مؤشّر مقلق للحزب الديموقراطي، أعلن السيناتور جو مانشين عن نيته “القفز من قارب الحزب” وتخلّيه عن دعم أجندته في مجلس الشيوخ، “ربما قبل بدء جولة الانتخابات الرئاسية” العام المقبل، وهو العضو “المشاكس” لحزبه في المجلس. الأمر الذي سيفرض تداعيات جديدة “غير محبّبة” على قيادة الحزب وبرامجه الموعودة، خصوصاً وأن مجلس النواب أضحى تحت سيطرة الخصم الجمهوري، وأي تعديل ولو طفيف في توازن الحزب في مجلس الشيوخ سيفضي إلى خسارته اغلبيته الحرجة الراهنة (مقابلة أجراها مانشين مع شبكة “فوكس نيوز”، 2 ايار/مايو 2023).

في البحث عن الدوافع الحقيقية لإعلان الرئيس بايدن إعاد ترشّحه، بالزعم أن “التصويت له هو تصويت للديموقراطية”، كما جاء في متن الإعلان، يجب عدم إغفال آخر التطورات السياسية الناجمة عن مضمون الوثائق التي سلّمتها وزارة الخارجية الأميركية إلى اللجنة القضائية في مجلس النواب بطلب منها، في سياق سعيها للتوقّف عند بعض ملابسات جولة الانتخابات الرئاسية الماضية.

ما سُمِح بنشره حتى اللحظة هو ثبوت تورّط وزير الخارجية، آنتوني بلينكن، عبر الضغط على إدارة وكالة الاستخبارات المركزية، سي آي إيه، للموافقة على عريضة تُعلن براءة نجل الرئيس بايدن من الاتهامات بشأن جهاز حاسوبه الخاص، إذ زعم “نحو 50 ضابطاً متقدماً ورؤساء سابقون في المؤسسة الأمنية” أن اتهامات الرئيس السابق دونالد ترامب لنجل بايدن هي مجرد “دعاية روسية” لا أكثر.

تصرّف بلينكن آنئذٍ ثبُتَ بأنه كان بطلب مباشر من المرشح الرئاسي جو بايدن، والذي كان يستعد لمواجهة خصمه الجمهوري في مناظرة عامة تُبثّ على الهواء، وتسلُّحه بتلك الوثيقة أمام كاميرات التلفزيون لتفنيد “اتهامات” خصمه. والنتيجة العامة كانت بإعلان المؤسسة الحاكمة فوز المرشح بايدن.

من المرجّح عودة تلك المسألة إلى التداول العام مرة أخرى، في أعقاب توفّر دلائل حسيّة على مدى تلاعب الحزب الديموقراطي ببوصلة الانتخابات الرئاسية ونتائجها، والتي على أثرها ارتفعت أصوات سياسية مطالبة بإقالة وزير الخارجية، توطئة لنزع حصانته الراهنة وربما الإدعاء عليه لاحقاً.

المسألة برمّتها مرهونة ببقاء الرئيس السابق ترامب كمرشّح عن الحزب الجمهوري، خصوصاً أن قادة الحزب التقليديين، بزعامة ميتش ماكونيل، يكنّون عداءً شديداً للرئيس السابق، ولديهم القابلية للمساومة على صيغة تتجاوز طرح تلك المسألة على الشأن العام.

 

مرشحو الحزب الديموقراطي

سبق ترشيح الرئيس بايدن نفسه مرشحان آخران عن لائحة الحزب الديموقراطي، ومن المبكر إطلاق أحكام عليهما لدواعٍ زمنية، مع استعراض سريع لمرشحين محتملين للمنصب.

المرشحة الأولى هي الكاتبة ماريان ويليامسون، وكانت قد أعلنت ترشيحها في الجولة السابقة “واضطرت” للانسحاب أمام أجندة متقاربة مثّلها المرشح السابق بيرني ساندرز. حظوظها الراهنة لا تبدو أنها ستشهد تعديلاً جوهرياً عن الجولة السابقة.

المرشح الثاني، وربما الأهم، هو نجل السيناتور السابق روبرت كنيدي، ويحمل الإسم ذاته. مهنته المحاماة واشتهر بتصديه للمؤسسة الحاكمة لإسرافها المالي على شركات العقاقير والأدوية إبّان وباء كورونا، الأمر الذي أحاله إلى خانة “المغضوب عليهم”، ونال نحو 19% من تأييد الناخبين الديموقراطيين، بحسب استطلاع أجرته شبكة “فوكس نيوز” حديثاً.

أيضاً، يواجه روبرت الإبن مقاومة من داخل أسرة كنيدي نفسها لجملة أسباب منها تفرّده بإعلان براءة سرحان سرحان عن اغتيال والده، عام 1968، وتحديه كذلك للسرديات الرسمية بشأن والده والرئيس الأسبق جون كنيدي.

في يوم إعلانه ترشّحه بمدينة بوسطن، في 19 نيسان/إبريل الماضي، لم يلحظ وجود أي “فرد مميّز من عائلة كنيدي” من بين الحضور، أو حتى من رموز الحزب الديموقر اطي في المدينة، بل طغى طابع التمثيل الأوسع لشرائح المجتمع على الحضور من مؤيديه “مستقلين ومحافظين” سياسياً، أتى بعضهم بالطائرة من أماكن متفرقة من أميركا.

نائبة الرئيس كمالا هاريس، رغم تدنّي معدلات تأييدها إلى مستويات أقل من الرئيس بايدن نفسه، إلا أنها دخلت حلبة السباق الرئاسي كامتداد للرئيس بايدن لتبقى مرشّحة كنائب له. أما شعبيتها داخل أوساط الحزب الديموقراطي فهي متواضعة في أفضل الأحوال، وسبق أن طالب بعضهم الرئيس بايدن بإقالتها واستبدالها نتيجة تخبطها في ملفات سياسية رئيسية، منها إخفاقها في التعامل مع مسألة المهاجرين على الحدود الجنوبية مع المكسيك.

من بين الأسماء المتداولة، وإن كانت غير ناضجة بعد، تبرز عقيلة الرئيس الأسبق ميشيل أوباما، التي تتمتع بمعدلات احترام وتأييد واسعة، لكنها أعلنت عدم رغبتها دخول السباق الرئاسي، حتى اللحظة.

كذلك وزير النقل الحالي بيت بوتيجيج، بحسب وجهة نظر صحيفة “واشنطن بوست”، بتاريخ 19 شباط/فبراير 2023، والمؤيدة للبيت الأبيض، وذلك لأدائه المتقدّم في الجولة الرئاسية السابقة وفوزه بعدد أكبر من مندوبي ولاية أيوا خلال الانتخابات التمهيدية آنذاك. وسرعان ما بدّد جزءاً كبيراً من شعبيته وتأييد قيادات حزبه له نتيجة سلسلة إخفاقات ارتكبها، أشهرها بطؤه في معالجة خروج قطار عن سكته في مدينة باليستين بولاية أوهايو، وما نجم عنه من انبعاث غازات سامة نتيجة حريق.

 

مرشحو الحزب الجمهوري

لا يزال السباق وباب الترشيح في بداياته الأولى، لكن الرئيس ترامب يتصدر القائمة حتى اللحظة، وكذلك أكبر نسبة من تأييد جمهور الناخبين الجمهوريين له، بمعدل 44%، “برغم سلسلة من الفضائح التي يواجهها، منها الاعتداء على الكابيتول” في 6 كانون الثاني/يناير 2021. أما نسبة تأييده بين جمهور محافظي الحزب الجمهوري فتقارب 70% (استطلاع أجراه موقع “فايف ثيرتي إيت”، 1 أيار/مايو 2023).

حاكم ولاية فلوريدا، رون دي سانتيس، يأتي في المرتبة الثانية بعد الرئيس ترامب، لكن بنسبة بعيدة جدا، 20%. يلقى دعماً ملحوظاً من قيادات الحزب التقليدية، نظراً لخلافاتهم مع الرئيس ترامب، لكنه لم يستطع القفز بمعدلات تأييد أعلى من السابق. حظي دي سانتيس بنسبة تأييد 28 % من الجمهوريين مقابل 52% للرئيس ترامب، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز”، بتاريخ 17 آذار/2023. لكنّ أركان المؤسسة الإعلامية الكبرى تركّز هذه الأيام على مدى ارتفاع نسبة تأييده بين ناخبي ولاية فلوريدا، كما يحظى الرئيس ترامب بدعم نسبة لا يستهان بها هناك.

يتمثّل جوهر مأزق دي سانتيس الأول في مدى قابليته الذهاب لانتقاد الرئيس ترامب أمام الناخب الجمهوري، بما يتضمّنه ذلك من مخاطر عداء قسم لا بأس به، وفي الوقت نفسه المحافظة على سمعته بأهلية ترشّحه بديلاً عن الرئيس السابق.

أعلنت حاكمة ولاية ساوث كارولينا السابقة نيكي هيلي عن ترشّحها عن الحزب الجمهوري، لكن معدلات تأييد الناخبين لها بقيت أقل من 10%. الأمر الذي يشير إلى تنامي عقبات جدية أمامها مقابل الرئيس السابق ترامب ورون دي سانتيس. وربما تهيّء نفسها لمنصب “نائبة الرئيس” عن الحزب الجمهوري، كما يعتقد بعض المراقبين.

كما أعلن رجل الأعمال ذو الأصول الهندية، فيفك راماسوامي، عن ترشّحه أيضاً، مستغلاً ثغرة العداء بين رون دي سانتيس وشركة ديزني للترفيه، ومقرها ولاية فلوريدا، مستهدفاً حاكم الولاية لقفزه عن القوانين الناظمة للضرائب ومنحه الشركة إعفاءات ضريبية من قانون “قام بالمصادقة عليه نفسه”.

ينحدر فيفك من ولاية أوهايو بالغة المكانة الحسّاسة للفوز في جولة الانتخابات الرئاسية، ومن شأنه تسخير نفوذه وثروته البالغة نحو 600 مليون دولار لدعم أجندة تروق له.

وهناك بعض المرشحين الآخرين الذين تتفاوت حظوظهم بين الانسحاب مبكّراً  أو  لاحقاً لعدم تأهّلهم في الانتخابات التمهيدية للحزب، أو قبلها، منهم: حاكم ولاية آركنسا الأسبق آسا هتشيسون والمذيع لاري إلدر الآتي من ولاية كاليفورنيا إذ حاز على نسبة معتبرة من التأييد في انتخابات الولاية الاستثنائية الرامية لإقصاء حاكمها، غافين نوسم، والذي استطاع الفوز والاحتفاظ بمنصبه الراهن.

أما حظوظ الرئيس جو بايدن، عند هذا المفصل الجوهري، فيرى بعض المراقبين أن الدافع الحقيقي لإعلانه إعادة ترشحه هو من أجل الإفلات من ملاحقات قضائية، له ولنجله وبعض أفراد عائلته، مع استمرار توسّع دائرة الاتهامات له بالفساد والمحسوبية، متسلّحاً بحصانة منصبه الرئاسي من الملاحقة، ولقناعته أيضاً أن المناخ السياسي العام لا يشجّع على إعادة تجربة “مقاضاة وإقصاء” الرئيس، كما جرى مع سلفه.

الجزم بمستقبل الرئيس بايدن ليس مرئياً بعد، أو ما سيتمخض على قادة الحزب الديموقراطي لاحقاً من تصرّف حيال حالته الذهنية المقلقة، والوقوف عند مرشّح أقوى نسبياً.

أما وإن جرت الانتخابات الرئاسية وفق المعطيات الراهنة، فإن “الرئيس ترامب سيفوز إن صوّت الناخبون بناء على وضعهم المعيشي” ممثلاً بتراجع كبير في الازدهار الاجتماعي والسلم الأهلي، بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”، بتاريخ 1 أيار/مايو الحالي.

2023-26-04-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

الصراع على السودان:
محاور دولية بأدوات محلية

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

قرار بدء الحرب وقرار “الوقف المؤقت” لإطلاق النار أُعلنا من واشنطن، في سابقة فريدة من نوعها: اليمن في الحالة الأولى عبر وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في 26 آذار/مارس 2015، والسودان في الحالة الثانية بلسان وزير الخارجية الأميركيتوني بلينكن في 24 نيسان / إبريل الحالي.

ثمة عوامل مشتركة تجمع قراري الحربين، لكن من المفيد الإشارة إلى أنّ “مرتزقة” عسكريين من السودان شكلوا أكبر جسم قتالي لراعِيَي الحرب في اليمن، السعودية والإمارات، بدلالة أعداد الأسرى والجرحى منهم لدى الحكومة اليمنية، واكتساب عناصرهم خبرات ميدانية سيتم توظيفها في ميادين أخرى لاحقاً.

أولئك “المرتزقة” يتبعون قيادة الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، الملقب بـ “حميدتي”، والتي تشكّلت عام 2013. ويمكن القول إنّ “دوراً إقليمياً ما” كان يُعدّ لتلك القوات، ليس من مموّلي حرب اليمن، السعودية والإمارات، فحسب، بل من أركان الاستراتيجية الأميركية أيضاً، للسيطرة على ممرات البحر الأحمر في الدرجة الأولى وإخضاع اليمن للهيمنة الأميركية.

في الحربين، برز أيضاً الدور الفاعل “للكيان الإسرائيلي” تصاعدياً بإنشاء قاعدة عسكرية في جزيرة سقطرى التي تسيطر عليها الإمارت. وفي الصراع الجاري في السودان، عرضت “تل أبيب وساطتها” باستضافة قيادة فريقي الصراع في فلسطين المحتلة (نشرة “آكسيوس” الأميركية، 24 نيسان / إبريل 2023).

وأضافت النشرة المذكورة أنّ تفاصيل الحراك “الإسرائيلي” بشأن التوسط لدى طرفي القتال في السودان تمت بتنسيق تام مع كل من إدارة الرئيس بايدن ودولة الإمارات.

من دون الخوض في تفاصيل القتال وأسباب اندلاعه بين الفريقين رغم أهميتها، يجب فحص وتحديد الطرف أو الأطراف المستفيدة مما يحدق بالسودان بعد اقتطاع جنوبه وحرمانه من ثروته النفطية، وما يتداول من جدل واهتمام دولي بشأن مستقبل إقليم دارفور في غرب السودان، نظراً إلى ثرواته المعدنية، وأبرزها الذهب، وتحديد الأطراف الإقليمية المساعدة في تفكيك السودان.

سنستثني لبرهة الدور  المنتظر من مصر وتأييدها المعلن للقوات المركزية السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان، وكذلك انشغالها بترتيبات جارية لاقتسام مياه النيل العابر لكل أراضي السودان، والتركيز على سمات الاستراتيجية الأميركية، وخصوصاً عقب تأهيل “القيادة الأميركية لأفريقيا – أفريكوم” لإدارة الأزمات في القارة السمراء، من أجل سبر أغوار إعلان وزير الخارجية الأميركية عن “وقف مؤقّت لإطلاق النار لمدة 72 ساعة”، بحسب توقيت واشنطن، وليس لاعتبارات تحفظ حرمة عيد الفطر.

لماذا السودان؟

لا تخفي مراكز القوة الفعلية وصناعة القرار في الولايات المتحدة، وامتداداً في عموم الغرب، أطماعها للفوز بثروات السودان الطبيعية والباطنية، والعين دائماً على استهداف مصر دوراً وموقعاً وحضارة ونفوذاً إقليمياً.

يشكّل السودان “موقعاً استراتيجياً غنيّاً بالموارد الطبيعية”، هذا التوصيف يوجز رؤية صنّاع القرار في واشنطن والعواصم الغربية الأخرى التي “تطمع كلها للفوز بقطعة منه، لأنه مرشّح للاستحواذ” والسيطرة عليه (صحيفة “نيويورك تايمز”، 22 نيسان / إبريل 2023).

هذا هو هدف الغرب المعلن باختصار شديد. أما توقيت اندلاع الصراع على السيطرة بين قادة الطرفين المواليين لأجندة واشنطن، فله بعد دولي يدخل في صلب الصراع الكوني بين الولايات المتحدة ومنافسيها في روسيا والصين، وجوهره موافقة السودان، منذ عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، وتباعاً من البرهان وحميدتي، على إنشاء قاعدة بحرية روسية.

في هذا السياق الواسع لرقعة الصراع، نجد لاعبين آخرين من دول النفط العربية نيابة عن واشنطن، الإمارات والسعودية وقطر، قدموا، وما زالوا يقدمون، إمدادات عسكرية في الدرجة الأولى لقطبيي الصراع الحالي، البرهان وحميدتي.

أيضا، لا يجوز إغفال العامل “الإسرائيلي” في تأجيج الصراع والدخول على خط “فرض وقف إطلاق نار”. وفي الجوهر، تفكيك كيان السودان الحالي، بعد نجاح الغرب وأدواته المحلية في فسخ جنوب السودان عن باقي أراضيه.

في اللحظة الحالية، يجري تسليط الضوء في دول الغرب على “دور دولة الإمارات العربية المتحدة التي توسّع نفوذها بقوة في منطقة القرن الإفريقي”. وقد رمت أبو ظبي مبكراً إلى استغلال مساحة أراضي السودان الشاسعه “لتلبية احتياجاتها الغذائية واستمرار سبل توريدها”، أبرزها صفقة شراء أراضٍ شاسعة لحساب “الشيخ طحنون بن زايد تبلغ مساحتها 100  ألف هكتار (ما يعادل أكثر من 400 ألف دونم) وقيمتها 225 مليون دولار” (صحيفة “نيويورك تايمز”، 22 نيسان / إبريل 2023).

وفي السياق ذاته، ينبغي رؤية دخول قطر على خطّ تأجيج أزمات السودان، وخصوصاً بعد نشوب خلافات بينها وبين كل من السعودية والإمارات، وفي الخلفية إحجام الخرطوم والرئيس عمر البشير عن الاصطفاف معها ضد جيرانها. وليس من باب المصادفة تحرك السعودية والإمارات مباشرةً بعد إطاحة الرئيس البشير وإعلانهما تقديم مساعدة مالية للسودان “الجديد” قيمتها 3 مليارات دولار .

وترى أوساط النخب السياسية الأميركية أنّ الجنرال حميدتي، كما يسمّى، كدّس ثروة هائلة جراء دوره في “التنقيب عن الذهب والاتجار به وتصديره إلى أسواق دبي” في الإمارات. وقد ارتكز على ما جناه من إيداعاته في المصارف الإماراتية لإنشاء قوات شبه نظامية “تتفوق في تسليحها على الجيش السوداني الرسمي”، وتم نشر أعداد كبيرة منها في اليمن لحساب الإمارات والسعودية في قتال اليمنيين.

عند استعراض “السيناريوهات” المستقبلية للصراع الجاري، من وجهة النظر الأميركية في الدرجة الأولى، نجد أن جوهرها يصب في خانة استمرار وتيرة الصراع بين الطرفين، وضمان استمرار توريد الأسلحة المختلفة، والحيلولة دون انتصار فريق على آخر بشكل حاسم.

بعض الأختصاصيين أشاروا إلى “توريد بقايا داعش والقاعدة” من ليبيا وسوريا وبلدان أخرى باتجاه المسرح السوداني، فضلاً عن نضوج مناخات تجنيد جماعات طائفية وعرقية سودانية وتسليحها.

في المقابل، تنشط “الجهود الديبلوماسية” الغربية المطالبة بتمديد وقف إطلاق النار، والنفخ في بوق إجلاء الرعايا الأجانب، فيما يستمر التستّر على بقاء فرق “القوات الخاصة والخبراء العسكريين والأمنيين” في السودان لإدارة المعركة، والمهمة الموكلة إليهم عنوانها قطع دابر روسيا وتمدد الصين في عموم القرن الإفريقي.

نستطيع القول إنّ هدف الغرب الآني، إلى جانب تفسيخ السودان، هو السعي لمحاصرة مصر وتعطيل دورها الإقليمي، وإبقائها أسيرة أزماتها المعيشية، وحرمانها من ترجمة ثقلها ونفوذها الطبيعي في عموم المنطقة.

وفي تفاصيل مخطّط استهداف مصر، تستعرض الأوساط المالية الدولية “مصادر تمويل بناء سد كهرومائي ضخم على مجرى نهر النيل الأبيض” في دولة ما يُسمى جنوب السودان، الأمر الذي سيقلص حصة مصر من مياه النيل، وخصوصاً بعد تداعيات “سد النهضة” في إثيوبيا وحجبه كمية وفيرة من المياه.

من نافل القول أنّ ظاهر الاستراتيجية الأميركية، فيما يخص مصادر المياه، هو “تسليعها وبيعها”، بحيث تأخذ إبعاداً سياسية واقتصادية وبيئية أيضاً، نجد ترجمتها في تقليص رقعة الأراضي الزراعية في مصر تحديداً، وتقليص نصيب المواطن المصري من مياه الشرب.

بموازاة ما تقدم من التحكم في مصادر المياه، بإشراف غربي مباشر أو غير مباشر، تبرز تركيا أيضاً التي أنشأت عددا من السدود المائية، والتي تخطط لإنشاء سدود أخرى، بغية التحكم في القرار السياسي لكل من سوريا والعراق.

للأسباب المذكورة أعلاه، يبقى احتمال استمرار الصراع المسلح في السودان، وإن تباينت وتيرته بين آونة وأخرى، هو المرجّح في أولويات الاستراتيجية الأميركية، لبسط هيمنتها إقليمياً وسد الطريق أمام خصومها الدوليين، روسيا والصين، إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً.

2023-18-04-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

وثائق البنتاغون المسرّبة تكشف
عمليات التجسّس والتضليل الأميركية

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

لم يحسم الجدل الداخلي الأميركي بشأن وثائق البنتاغون المسرّبة حديثاً أياً من التكهنات السياسية أو تداعياتها، وانحصر اهتمام المؤسسة الحاكمة في “قدرتها” الفائقة على إلقاء القبض على مشتبه به بسرعة ملحوظة.

وأقرّ كبار مسؤولي الأجهزة الأمنية بأن العملية “قد” تكون منظّمة لتسريب المعلومات السرّية التي من شأنها إلحاق الضرر بجهود الأجهزة الأميركية “وربما إعاقة التخطيط العسكري في أوكرانيا” لحلف الناتو بمجموعه.

ورجّحت كبرى المؤسسات الإعلامية الأميركية مسؤولية الأمر إلى قيادة هيئة الأركان المشتركة، برئاسة مارك ميللي، خصوصاً أن “عدداً من الوثائق حمل أختاماً تشير إلى مصدرها الأولي هو دائرة الاستخبارات التابعة لهيئة الأركان، وتبدو كأنها وثائق إحاطة” لمسؤولين كباراً (شبكة “سي أن أن”، 10 نيسان/إبريل 2023).

لعل الوثائق الأهم هي تلك المتعلقة بالكيان “الإسرائيلي”، والتي كشفت عنها يومية “نيويورك تايمز” وتتعلّق بوثيقة صادرة عن البنتاغون بعنوان “إسرائيل: مسارات تزويد أسلحة فتّاكة لأوكرانيا”، قالت إنها كانت بتاريخ 28 شباط/فبراير الماضي، وتتضمن جملة خيارات مقترحة لصنّاع القرار من أجل الحصول على “موافقة إسرائيل لتزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية ودفاعية ومعدات أخرى ” بينها “بطاريات (باراك8) للدفاع الجوي وصواريخ (سبايك) موجهة ضد المدرعات” (صحيفة “نيويورك تايمز”، 9 نيسان/إبريل 2023).

واستطردت الصحيفة أن الوثيقة هي عبارة عن “تحليل استكشافي” قام به البنتاغون للتوقف عند محطات الضغط الأميركي التي ستلبي فيها “إسرائيل” طلبها شريطة حصولها على “تأييد أميركي صارم” لدعم عملياتها داخل إيران، وستوفر تلك الأسلحة عبر طرف ثالث، ربما تركيا.

صدقية محتويات الوثائق “بالغة السرّية”، كما وُصفت، لا تزال محط تكهنات من قبل المختصين بالشأن العسكري، ومنهم أطقم البنتاغون الذين أعلنوا بعد بضعة أيام بأنها “تبدو حقيقية”، إذ ساهم الناطق باسم البنتاغون في تعريفها كـ “خطر كبير جداً على الأمن القومي” (البنتاغون”، 10 نيسان/إبريل 2023).

تسريبات بيانات ذات أهمية ظاهرية تتضمن في العادة بعض الحقائق تغلّف الشأن الخاص، وتحميلها معلومات إما غير دقيقة أو كاذبة، بالإضافة إلى جهود التضليل لعدد من الخصوم، أبرزهم روسيا والصين وإيران. عند هذا المفصل، نشطت وسائل الإعلام الرئيسية في الترويج لتقييم مضمون الوثائق لتثبيت صدقيتها، أو بعضها.

على سبيل المثال، وصفت يومية “وول ستريت جورنال” بتاريخ 7 نيسان / إبريل الحالي بأن التسريب يشمل “أكثر من 100 صورة طبق الأصل لوثائق سرّية نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي”. وفي اليوم التالي، شددت صحيفة “نيويورك تايمز” على مضامين “الكنز الدفين”، كما سمّته، بأنها “أوضحت مدى قدرة الولايات المتحدة على تحذير أوكرانيا قبل بدء الغارات الروسية”، وأن “القوات العسكرية الروسية تجهد في تنفيذ مهام الحرب، وكذلك لتبيّن الثغرات العميقة في منظومتها العسكرية”.

بينما تبرّعت صحيفة “واشنطن بوست، بتاريخ 7 نيسان / إبريل الحالي، بوصف مضامين الوثائق المسرّبة بأنها تشمل “إحاطات استخبارية في عموم العالم وصولاً إلى مستوى تحديثات التكتيك الميداني، وتقييم قدرات أوكرانيا الدفاعية”. وأضافت استناداً إلى قراءتها ومصادرها الاستخبارية الخاصة بأن الوثائق “تضمّنت تقييمات أميركية بالغة السرّية حول الصين ودول أخرى”.

وعادت الصحيفة في اليوم التالي، 8 نيسان/إبريل الحالي، إلى إضفاء مزيد من لهجة التأكيد بصدقية مضامين الوثائق لتخبر قراءها بأن “الذعر ينتاب القيادات العليا” في البنتاغون، وبعضهم عبّر عن “ذهوله وغضبه الشديد” جراء الاختراق الأمني.

بعض الأختصاصيين في مجال البيانات السرّية أكدوا  أنه “من المعتاد إقدام الحكومة (الأميركية) على المبالغة في مدى الضرر المزعوم الناجم عن رؤية وثائق سرّية في متناول العامة”، مشيرين إلى تفاعلات 3 حوادث تسريب سابقة لوثائق عسكرية سرّية: الأولى في عام 1971 فيما عُرف لاحقا بـ “وثائق البنتاغون” عن الحرب الأميركية على فيتنام؛ والثانية لنشر المتعاقد مع وكالة الأمن القومي، إدوارد سنودن، وثائق تبيّن مدى انخراط الأجهزة الأمنية في التجسّس على المواطنين الأميركيين؛ والثالثة لما قدمته المجندة في استخبارات سلاح الجيش، تشيلسي مانينغ، في مقاطع فيديو بيّنت ارتكاب القوات الأميركية مجزرة بحق صحافيين ومدنيين عراقيين في بغداد عن سبق إصرار وترصّد.

وخلصوا بالاستشهاد بتقييم وزير الدفاع الأميركي الأسبق، روبرت غيتس، للسردية الرسمية للحكومة الأميركية بهذا الشأن بأنها “مُتعبة إلى حد كبير” (نشرة “ذي انترسيبت”، 13 نيسان / إبريل 2023).

وقد أجمعت كبرى وسائل الإعلام المقروء والمصوّر على تقييم الوثائق الصادر عن “مسؤولين أميركيين” بأنها “أصلية” تتضمّن بيانات حسّاسة عن الصين وميادين المواجهة العسكرية المقبلة معها في المحيطين الهندي والهادئ والشرق الأوسط وجهود مكافحة الإرهاب.

وتكشف أيضاً مدى تجسّس الولايات المتحدة على حلفاء رئيسيين، منهم “كوريا الجنوبية وإسرائيل وأوكرانيا”، وتداعياتها على مجمل السياسة الخارجية للولايات المتحدة (شبكة “سي أن أن”، 10 نيسان / إبريل 2023).

زعمت الولايات المتحدة أنها لم ترسل قوات عسكرية أميركية إلى أوكرانيا، بل اقتصرت مهام أطقمها المختصة على تقديم المشورة والإشراف على جهود التدريبات العسكرية المختلفة، لتضليل الرأي العام الأميركي بدرجة أولى. وما لبثت أن أشارت الوثائق عينها إلى أن لدى واشنطن وحلفائها نحو 100 عنصر من القوات الخاصة في أرض الميدان، فضلاً عن أعداد أخرى من “قوات المتعاقدين” الأميركيين الذين لا تشملهم السجلات الرسمية.

وفيما يتعلق بحجم الخسائر البشرية لقوات الجانبين، روسيا وأوكرانيا، أعلن القائد الأعلى للقوات الأوكرانية المسلحة، فاليري زالوجني، أن بلاده خسرت ما لا يقل عن 257 ألف عنصر، خلال زيارته لواشنطن ولقائه وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة في 16 كانون الثاني/يناير 2023.

يضاف إلى ذلك معدل الخسائر البشرية بين صفوف القوات الأوكرانية الذي يبلغ نحو 800 عنصر يومياً، أي بنسبة 7 إلى 1 من القوات الروسية، والذي يضيف 72 ألف قتيل أوكراني، على الأقل، منذ ذلك التاريخ.

أما خسائر الجانب الروسي، وفق المصادر الأميركية، فقد بلغت 181 ألفاً، بينهم 40 إلى 70 ألف قتيل (شبكة “أم أس أن”، 15 نيسان / إبريل 2023).

المتتبع للسردية الرسمية الأميركية، وعند مقارنتها ببعض تفاصيل الوثائق المسرّبة يجد كم هو الفارق بين المزاعم الرسمية والوقائع على الأرض.

فمثلاً، حافظت الرواية الأميركية على وصف الحرب الأوكرانية بأنها ليست حرباً بالوكالة، بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي سرعان ما بددتها وثائقها المسرّبة عن عمد أو للتضليل.

كما شددت واشنطن الرسمية وأخطبوط وسائلها الإعلامية أنه لا وجود للقوات الأميركية في ميدان المعارك، لتسارع قياداتها بالإقرار بأن لديها “100 عنصر” من القوات الخاصة.

وما فتئت وسائل الإعلام كافة ترديد مزاعم أن روسيا تنهزم أمام صلابة القوات الأوكرانية التي ستستعيد أراضيها في إقليم الدونباس وشبه جزيرة القرم، فيما تبيّن وثائقها الخاصة مدى التضليل الذي تسير وفق أيقاعاته من أجل استدراج روسيا إلى حرب مع “حلف الناتو” أو أميركا مباشرة.

في ظل تلك اللوحة من التناقضات الأميركية، وتجسّسها على حلفائها قبل أعدائها، يستعد عدد من كبار مسؤوليها للسفر إلى ألمانيا الأسبوع المقبل للمشاركة في لقاء يشمل نحو 50 دولة “لتنسيق جهود توريد الأسلحة والدعم إلى أوكرانيا”، وستواجه فيه مجموعة حلفاء قلقين من الوثوق بها.

في المقابل، تسعى واشنطن إلى توجيه البوصلة بشأن تزويد كييف بأسلحة متطورة، بما فيها منظومات للدفاع الجوي، خصوصاً في هذا الظرف الذي تعاني فيه أوكرانيا من نزيف بشري كبير وتواضع أعداد التجنيد الإلزامي بسبب خسائرها البشرية العالية.

2023-11-04-التقرير الأسبوعي

فنلندا تنضم إلى الناتو
وفرنسا
تعلن التمرّد على واشنطن

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

بينما كانت واشنطن لا تزال تحتفي بانضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، تلقت ما يشبه الصدمة  من عضو  أساسي في الحلف، إذ أعلن الرئيس الفرنسي  ماكرون  بعد زيارته الصين تمرّد فرنسا  على إنصياع الدول الأوروبية المعتاد  لأوامر واشنطن.

ويبدو أن موقفه لن يكون منفرداً في ظل اجواء التململ و الحنق التي تسود  المسرح الأوروبي من سطوة واشنطن  ومواقفها التي تنعكس سلباً على الإقتصاد الأوروبي .

جوهر تصريح ماكرون، وخصوصاً أنه لا يجب على أوروبا أن تتبع الموقف الأميركي في ملف تايوان، هو استعادة الدور الفرنسي السابق إبّان حقبة الرئيس الأسبق شارل ديغول، من أجل انتهاج سياسة “مستقلة” عن مصالح واشنطن، ومن دون الخروج رسمياً من حلف شمال الأطلسي. وقد أتبعه لاحقاً بدعوة أووبا إلى “تقليل” اعتمادها على الدولار الأميركي.

تعتقد أوساط النخب السياسية الأميركية أنّ واشنطن كانت مستاءة من تداعيات موقف فرنسا، خصوصاً في أعقاب خسارتها صفقة غواصات نووية تعمل بالطاقة النووية أبرمت مع أستراليا لمصلحة الولايات المتحدة، ولم تشأ الدخول في مواجهة مباشرة مع الرئيس الفرنسي، وآثرت “فرض” رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسيلا فون دير لاين، المقربة من واشنطن، على جدول زيارته للصين، لعلها تكبح اندفاعته، سواء ببعدها الذاتي باسم فرنسا أو بالنيابة عن دول أوروبا الأخرى.

وتشير تلك الأوساط أيضاً إلى تصرّف الصين الفوري بشأن فون دير لاين وعدم معاملتها وفق موقعها الرسمي، بل كأي زائر عادي، وهو ما علّقت عليه يومية “بوليتيكو” بأن مراسم استقبالها “اتسمت بالبرود الشديد، فيما أستُقبل الرئيس الفرنسي بحفاوة”.

في تفاصيل مراسيم الاستقبال، استقبلت وزيرة البيئة في الصين فون دير لاين، الأمر الذي لا يتناسب مع موقعها الرسمي، وذلك”نظراً إلى خطابها المعادي للصين”.

يُشار إلى أنّ رئيسة المفوضية الأوروبية قالت في كلمة ألقتها في بروكسل قبيل موعد الزيارة إن “أي خطّة سلام من شأنها تثبيت عمليات الضم الروسية هي ببساطة ليست خطة قابلة للتطبيق”، وأضافت أنّ “الأسلوب الذي ستواصل الصين التعامل به مع حرب بوتين سيكون عاملاً حاسماً في مستقبل العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين”.

وزعمت أورسيلا فون دير لاين، في تصريحات لاحقة للصحافيين، أنها “حثت الرئيس شي على التواصل مع الرئيس (الأوكراني) زيلينسكي. وقد أعرب عن استعداده للتحدث إليه عندما تكون الظروف والأزمان مؤاتية” (شبكة “سي أن بي سي” الكندية، 6 نيسان/أيار 2023).

في المقابل، تجب الإشارة إلى توجهات الرئيس الفرنسي وتصريحاته قبل الزيارة، وترديده أن العصر الحالي يستدعي “إعادة إنتاج نظام دولي عماده السلام والاستقرار”، الأمر الذي فسّرته مراكز القوى في واشنطن بأنه يتساوق مع السياسة الصينية التي اعتبرت أن “المتغيرات الدولية الحالية لم تحدث منذ 100 عام”.

واعتبرت يومية “نيويورك تايمز”، نيابة عن النخب السياسية والإعلامية، أن زيارة ماكرون للصين “حميمة”، لكونها عُقدت في المقر الرسمي لوالد الرئيس الصيني، وأن “تفاوض الرئيسين دلّ على صداقة حميمة استثنائية” (“نيويورك تايمز”، 8 نيسان/أبريل 2023).

و وجّهت شبكة “فوكس نيوز” سهام انتقاداتها إلى ” ماكرون لرفضه السير وفق الإيقاع الأميركي” بشأن تايوان، وطموحه إلى رفع مكانة بلاده على حساب أميركا عقب تصريحه لفريق من الصحافيين بأنه يتطلع إلى رؤية فرنسا “قطباً ثالثاً” على المستوى الدولي، بموازاة قطبي الولايات اللمتحدة والصين (شبكة “فوكس نيوز”، 10 نيسان/إبريل 2023).

أحد أبرز أبواق اليمين الأميركي المتشدد والمحافظين الجدد على السواء، إيبوك تايمز، حذرت حلفاءها الأوروبيين من الابتعاد عن السياسة الأميركية التي لن تسمح بنشوء “طريق ثالث لأوروبا”، في إشارة إلى نزعات فرنسا “المثالية” للسير بمسافة بعيدة عن الولايات المتحدة (صحيفة “ذي إيبوك تايمز”، The Epoch Times 7 نيسان/إبريل 2023).

ما يرجح فرضية إقحام واشنطن لفون دير لاين  في زيارة بكين كقطب مستقل عن ماكرون هو  الإشادة الأميركية بتصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية بزعم “تحذيرها بكين مباشرة من توفير الدعم لروسيا في الحرب الأوكرانية”، واستبعادها أيضاً انفصام أوروبا عن الصين تجارياً.

لعلّ كلمة السّر في تقييم النخب الأميركية، كما أوردته صحيفة “نيويورك تايمز”، لمضمون البيان المشترك لرئيسي البلدين، هي طموحهما إلى نسج “شراكة استراتيجية عالمية” وترحيبهما بـ “عالم متعدد الأقطاب”، في ظل “جمود العلاقات الأميركية الصينية”.

فنلندا تتخلّى عن حيادها

لم يكن مفاجئاً إعلان فنلندا انضمامها رسمياً إلى حلف الناتو واقلاعها طوعياً عن سياسة الحياد، إضافة إلى جارتها السويد، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نتيجة ضغوط علنية ومباشرة من واشنطن في سياق استراتيجيتها الكبرى لمحاصرة روسيا.

لم تُخفِ واشنطن أهدافها الكونية، وخصوصاً في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق، ولاحقاً روسيا الاتحادية، باعتمادها مبدأ ضرب الخصم في خاصرته الضعيفة، وإدامة استنزافه طمعاً في تشكيل منصة انطلاق إلى داخل أراضيه والعمل على تفتيت لحمة أواصره وقيمه.

وقامت الولايات المتحدة بدور نشط في دعم مجموعات محلية وتأييدها وتسليحها، بدءا من الشيشان في الزمن الغابر، مروراً بأوكرانيا، وليس انتهاءً بأذربيجان، بغرض تعطيل عجلة التطور المحلية والبناء الذاتي والنهوض الاقتصادي، والأهم دقّ إسفين في مدماك البنيان السياسي للدولة.

تدخّل واشنطن في الشؤون الداخلية لكافة بلدان المعمورة تجاوز التكهنات والتحليلات، وقطع الشك باليقين، نظراً إلى مكانتها العضوية في سياساتها الخارجية على مر العصور، ومنذ تشكل أركان الكيان السياسي الأميركي.

وارتأت مفاصل مراكز القوى السياسية والعسكرية والأمنيةالأميركية الاعتماد شبه الكلي على حروب تشن “بالوكالة” رغبةً منها في تفادي إخفاقاتها المكلفة السابقة في فيتنام وأفغانستان والعراق، من دون التخلي عن تعديل رقعة وجودها العسكري في أي منطقة مرغوبة بـ “قوات خاصة” أو ما شابه.

ووجدت نخب واشنطن ضالّتها في ارتهان شرائح واسعة في البلدان المستهدفة لتوجهاتها في مقابل “إثراء شخصي” على حساب المصالح العامة. واعتبرت رضوخ فنلندا لسياساتها وعضويتها في حلف الناتو  إضافة نوعية لمحاصرة روسيا، وامتداداً الصين، بمضاعفة مدى الحدود المشتركة، نحو 800 ميل، التي كانت يوماً مصدر استقرار، والقول إن “بحر البلطيق كان بحيرة روسية، يتحكم الناتو الآن في خاصرته الشمالية”، (يومية “فورين بوليسي”، 6 نيسان/إبريل 2023).

سياسات فنلندا الأمنية السابقة كانت موصوفة بالبراغماتية بين القطبين الدوليين، من مثل اعتمادها على نظام التجنيد الإلزامي، وقوامه نحو 22 ألفاً، وحفاظها على قوة أكبر من الاحتياط يصل تعدادها إلى 280 ألف عنصر، وتواضع انفاقها السابق على المسائل العسكرية بنسبة 1.6% من الناتج القومي إبّان الحرب الباردة، وبلوغه نحو 2% من ميزانيتها العامة، وهي النسبة التي حددتها واشنطن كحد أدنى لدول الحلف.

وعام 1992 أبرمت اتفاقية مع الولايات المتحدة لشراء “64 مقاتلة من طراز أف-18 أس” شكّلت اللبنة الأولى للانخراط العملي مع القوات الأميركية عبر تدريبات مشتركة ومناورات بحرية في مياهها، فضلاً عن تواصل شرائها معدات عسكرية أميركية صاروخية ومدرعات ومدافع ثقيلة وسفن حربية، وصولاً إلى إبرامها صفقة حديثة (2021) لشراء مقاتلات أميركية متطورة من طراز أف-35.

أمام هذا “الانتصار” الأميركي المرحلي بالوكالة، تجدر الإشارة إلى مشاركة قوات فنلندا العسكرية مباشرة في عدد من المغامرات الأميركية في العالم “منذ عقد الخمسينيات”، نذكر منها لبنان وكوسوفو والعراق ومالي والصومال وعموم الشرق الأوسط ومياه البحر المتوسط، وقريباً في أوكرانيا.

وقد استجابت لطلب واشنطن في شباط/فبراير 2022 للمشاركة في تدريبات مشتركة مع حلف الناتو، عملية “التجاوب القارص”، في النرويج، وبلغ عدد أفراد قواتها نحو 680 عنصراً، من بينهم 470 من سجلات الخدمة الإلزامية، ما أثار مجدداً الجدل الداخلي بشأن عضوية حلف الناتو.

وتشير البيانات الفنلدنية الرسمية إلى تأييد الغالبية العظمى من كبار السن، 70%، الانضمام إلى حلف الناتو ي مقابل معارضة معتبرة من جيل الشباب (صحيفة “هيلسينكي تايمز”، 28 نيسان/إبريل 2022).

تمدد قوات فنلندا العسكرية وتعدّد مهامها إلى جانب القوات الأميركية وفّر لها اكتساب خبرة ميدانية متواصلة، وجاهزيتها للانتشار في مناطق يحددها حلف الناتو، بقيادة واشنطن زادت، بيد إن الرهان على ممارسة فنلندا دوراً حاسماً في استهداف خاصرة روسيا على طول الحدود المشتركة لا يندرج في حُكم المسلّم به.

وحسمت صحيفة “نيويورك تايمز” بتاريخ 8 نيسان/إبريل 2023 جدل اشتباك قوات أوروبية أخرى مع القوات الروسية بالدلالة على متانة تحالف موسكو وبكين، إذ تعتبر “الصّين أولويتها الاستراتيجية مع روسيا في عدائهما المشترك” للاستراتيجية الأميركية التي تراهن على عدم تطور نتائج زيارة الرئيس الفرنسي لبكين كنموذج لفصل ارتباط أوروبا بالولايات المتحدة.

2023-30-03-التقرير الأسبوعي

القمة الروسية – الصينية تؤسّس
لحقبة جديدة بغياب واشنطن وقلقها

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

تستمر واشنطن الرسمية في الإعراب عن هواجسها من القمة الروسية – الصينية، 20 آذار/مارس 2023، وقلقها من تقاربهما، أحدثها جاء على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، فيدانت باتيل في 27 آذار/مارس الجاري، مفاده أن تقارب روسيا والصين وإيران يجب أن يقلق عدداً من الدول. وكذلك لإدراكها العميق تراجع مكانة الولايات المتحدة وهيبتها في العالم، مقابل “الشرق يتقدم والغرب يتراجع”، وهي مقولة أرساها الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ (1957)، ويكررها رئيسها الحالي شي جين بينغ.

لعل المخفي في “هواجس” واشنطن هو خطة الصين المطروحة لإرساء السلام في أوكرانيا، والمكوّنة من 12 بنداً، وما قد تسفر عنه ترتيبات ثنائية بين بكين وموسكو للمضي قدماً في تجاوز العنصر الأميركي المعوّق لإنهاء الحرب، إضافة إلى عرض الرئيس الصيني إمكانية اتصاله المباشر بالرئيس الأوكراني زيلينسكي في هذا الشأن.

محور خطة الصين المعلن هو التوصل إلى وقف إطلاق نار بين موسكو وكييف، وعدم التطرق إلى الانسحاب الروسي من “الأراضي الأوكرانية المحتلة”، بحسب توصيف واشنطن وحلفائها الغربيين. وسارع وزير الخارجية الأميركية، توني بلينكن، إلى “تحذير العالم” من “الانخداع بأي خطوة تكتيكية من روسيا، بدعم من الصين، لتجميد الحرب وفق شروطها هي” (20 آذار/مارس 2023).

وما يعزز قلق العواصم الغربية كافة، بحسب المراقبين في واشنطن، نجاح الصين في التوسط بين عدوي الأمس، السعودية وإيران، والذي أثمر استئناف علاقاتهما الدبلوماسية المقطوعة، أتبعاها بتصريحات مسؤوليهما بفتح صفحة تعاون جديدة بينهما بدأت ترجمتها إيجابياً في اليمن، وربما قد تمتد إلى لبنان، مروراً باستئناف علاقات الرياض مع دمشق.

كل المسار الصيني الأخير جاء بمعزل عن حجر الرحى الأميركي السابق في إدارة الأزمات الإقليمية، وإن لم يكن غائباً تماماً عن الترتيبات الإقليمية التي اقتضتها مصالح حلفاء واشنطن قبل غيرها. وبحسب أحد أركان النخب الأكاديمية الأميركية فإن “الصين، وبعد نجاحها في تهميش دور الولايات المتحدة (في الإقليم)، وجّهت بوصلة اهتماماتها نحو أوكرانيا” (استاذ التاريخ في جامعة مشيغان، رونالد سوني، 24 آذار/مارس 2023).

كما ركزت تلك النخب على أبرز ما جاء في كلمة الرئيس الصيني التي وجّهها إلى شعوب الاتحاد الروسي، في 20 آذار/مارس الحالي، مكرّساً موقع بلاده في المشهد الدولي، إذ قال: “اتفق المجتمع الدولي على عدم  وجود دولة تتفوّق على نظيراتها، وعلى عدم توفّر نظام حكم دولي شامل، وليس باستطاعة دولة بمفردها إملاء رؤيتها الخاصة بشأن النظام الدولي”. وفي توصيفه لمتانة علاقته مع نظيره الروسي قال: “ثقتنا السياسية المتبادلة تتعمّق” ما شكّل قلقاً متزايداً للأوساط السياسية الأميركية (يومية “وول ستريت جورنال”، 21 آذار/مارس 2023).

في المدى الأبعد والأشد ضغطاً على مستقبل المصالح الغربية، في حيثيات القمة الروسية-الصينية، أبرزها تنامي سعي البَلَدين لإرساء معايير تبادل تجارية عالمية بعيدة عن الدولار الأميركي، والذي وجد صدىً مباشراً في البرازيل، أحد أركان “بريكس”، بتعيين رئيسة البلاد السابقة، ديلما روسيف، رئيسة لبنك البريكس الذي أنشيء عام 2015، برأسمال يتجاوز 30 مليار دولار أميركي de BRICS) (Banco. كما أقرّت البرازيل، قبل بضعة أيام، تسديد قيمة صادراتها باليوان الصيني، خصوصاً أن الصين شكّلت ولا تزال الشريك التجاري الأول للبرازيل، إذ بلغ حجم التبادل بينهما 170 مليار دولار العام الماضي.

وتدرك مفاصل صنع القرار السياسي، خصوصاً بين النخب السياسية والفكرية الأميركية، أبعاد “تنامي التوافق الاستراتيجي” بين روسيا والصين بهدف “إسقاط النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة لمصلحة عالم متعدد الأقطاب” (“مجلس العلاقات الخارجية” – Council on Foreign Relations، 24 آذار/مارس 2023).

وأوضح “مجلس العلاقات الخارجية” أن قيام الرئيس الصيني بزيارة رسمية لموسكو “استغلّها للتشديد على عزم الصين المضي لتحقيق مصالحها الوطنية في تحدٍ سافرٍ لتزايد الضغوط الاقتصادية والديبلوماسية الأميركية، ومشدّدا على أن الصين لن تتخلى عن شريكها الاستراتيجي في تصديهما لمزاعم قيادة الولايات المتحدة للعالم”، والتي لاقت صدىً في “مجتمعات الجنوب التي يعاني فيها النظام الليبرالي بقيادة أميركا من الإعياء”.

وتناغمت لهجة وسائل الإعلام الأميركية الكبرى مع هواجس القلق الرسمية من صعود الصين، خصوصاً للعب رئيسها دور  “صانع للسلام وبوسعه التشدد في مطالبه في حال رفضت أوكرانيا دعوته لوقف إطلاق النار، وباستطاعته آنذاك حشد دعم دول عالم الجنوب مثل الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل لممارسة ضغوطاً على أوكرانيا لإنهاء القتال. أنه مسار مشين (للصين)، لكنه مسار ديبلوماسي ذكي” (“واشنطن بوست”، 21 آذار/مارس 2023).

 

هل الحرب مع الصين حتمية؟

بداية، لا بد من الإشارة إلى “النصائح” التي يسديها باستمرار وزير الخارجية الأسبق، هنري كيسنجر، إلى مفاصل صنع القرار السياسي في واشنطن، من سياسيين وعسكريين، أهمها ما جاء في مستهلّ أطروحته الشهيرة لشهادة الدكتوراه حول أهمية توازن القوى في السياسة الدولية، وبضرورة إرساء القوى المسيطرة/المهيمنة على العالم “نظام دولي متوازن” يأخذ في الاعتبار مصالح الدول المتعددة، بما فيها تلك التي هُزمت في الحروب، وسادت نصائحه المشهد الاستراتيجي الأميركي لعدة عقود.

أما بشأن الصين ولقاء القمة في موسكو، فقد أعرب عدد من “خبراء” السياسة الخارجية الأميركية عن دهشتهم من سرعة اللقاء، من ناحية، وما تمخض عنه من لهجة سياسية موحّدة لإرساء نظام عالمي متعدد الأقطاب، يطيح هيمنة القطب الأوحد عقب التحولات الاستراتيجية الدولية.

وقد أوجز مساعد وزير الدفاع الأميركي الأسبق، غراهام أليسون، قمة موسكو بأن “التحالف غير المعلن الذي أرساه (الرئيس) شي مع (الرئيس) بوتين أضحى أشد أهمية من معظم التحالفات الرسمية الأميركية اليوم؛ كما تحدى (الرئيس) شي التوقعات (الأميركية) كافة ومضى بمهارة لبناء علاقة وثيقة مع (الرئيس) بوتين تُهِمّ الطرفين” (مقال نشرته يومية “فورين بوليسي”، 23 آذار/مارس 2023).

وحذّر أليسون صنّاع القرار من تجاهل نصائح مستشار الأمن القومي الأسبق، زبغنيو بريجينسكي، بتعويمهم قاعدة التصدي المتزامن لكل من روسيا والصين، الأمر الذي دفع بهما إلى تشكيل “حلف المتضررين”، وأصبحتا في علاقة وثيقة أقرب من مجرد تحالف بينهما، بحيث أضحى لزاماً على واشنطن “الإقرار بأنها تواجه تحالفاً غير معلن وذا شأن عظيم على المستوى العالمي”.

أمّا بشأن المناورات العسكرية المشتركة بينهما، فأفاد أليسون بأن “الصين تشترك دورياً في تدريبات عسكرية مشتركة مع روسيا،

والتي  تقزّم في حجمها مثيلاتها التي تجريها الولايات المتحدة مع شريكتها الاستراتيجية”، أي الهند. بل إن “قادة الأركان الروس والصينيين يتشاركون في محادثات صريحة ومفصّلة حول التهديد الآتي من تحديث الولايات المتحددة لنظمها النووية وصواريخها الدفاعية وما تمثله من تحدٍ لاستراتيجية الردع لكليهما”.

ازدادت في الآونة الأخيرة وتيرة التكهن في واشنطن بموعد حرب “وشيكة” بين الصين والولايات المتحدة، تداولتها معظم وسائل الإعلام الرئيسية، معربة عن نشوب الحرب بين عامي 2025-2027، استندت في مجملها على بعض ما جاء في وثيقة صادرة عن وزارة الدفاع الأميركية، نهاية عام 2021، تحت عنوان “التطورات العسكرية والأمنية الخاصة بجمهورية الصين الشعبية”؛ والبعض الآخر من التكهنات جاء بوحي من قيادات عسكرية أميركية رفيعة المستوى، حددت عام 2035 في البداية كموعد للحرب، وهو العام الذي أعلن فيه الرئيس الصيني شي جين بينغ عن إنجاز بلاده خطة تحديث قواتها العسكرية وطواقم دفاعاتها الوطنية.

وثيقة “البنتاغون”، المشار إليها أعلاه، أخذت في الاعتبار “التطورات الرئيسية التي طرأت على التخطيط الاستراتيجي في الصين” واستنتجت أنها ستصبح جاهزة في عام 2027 قائلة: ” سيوفّر عام 2027 لبكين هدف الإنجاز الجديد لتحديث خيارات عسكرية أشد مصداقية في حالة الطوارئ بشأن تايوان”.

استغّل معسكر الحرب في الحزبين الأميركيين تكهنات البنتاغون، بحسب الوثيقة أعلاه، من أجل “دق ناقوس الخطر وتحشيد الدعم في مجلسي الكونغرس للموافقة على صرف ميزانيات إضافية لنماذج أسلحة وذخائر لاستخدامها في الحرب المقبلة مع الصين” (مايكل كلير، زميل زائر في “مجمّع الحد من الأسلحة” وخبير بشؤون الصين،  26 آذار/مارس 2023).

وبحسب كلير فإن قادة البنتاغون عدّلوا موعد نشوب الحرب مع الصين مطلع العام الجاري  إلى عام 2025، كما جاء على لسان قائد عمليات سلاح الجو الأميركي، مايكل مينيهان، الذي يشرف على نحو 50،000 عنصر تحت إمرته.

وأوضح مينيهان في خطاب رسمي لقوات سلاح الجو أن تحديده الموعد الجديد لبدء الحرب، عام 2025، جاء بناء على قراءته للتطورات في داخل الصين، ابرزها إعادة انتخاب الرئيس شي لفترة رئاسية ثالثة، إضافة إلى ترؤسه “مجلس الحرب” منذ شهر تشرين الأول/اكتوبر 2022، وكذلك موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في تايوان، عام 2024، والتي ستوفر فرصة أخرى سانحة للرئيس شي لبسط نفوذه فيما تركّز  واشنطن على تلك الانتخابات.

على الرغم من الضخ الإعلامي اليومي الهادف إلى شيطنة الصين وإطلاق جملة مواعيد “لبدء حربها ضد تايوان”، وما سيترتب عليها أميركياً، فإن الأمر الغائب عن الجدل اليومي والتداول الإعلامي هو إبراز الأدلّة والوثائق التي تؤيد تلك الفرضية. ويعيد إلى الأذهان الذرائع الواهية الأخرى التي أطلقتها واشنطن وحليفتها لندن في شن الحروب المتتالية في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا، في ظل غياب تام لمساءلة حقيقية من “ممثلي” الشعب في مجلسي الكونغرس.

2023-10-03-التقرير الأسبوعي

مؤتمر انتخابي تمهيدي لتيار اليمين المحافظ
يكرّس انقسام الحزب الجمهوري

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

التأم تجمع تيار المحافظين في الحزب الجمهوري في مؤتمره السنوي قبل بضعة أيام، معلناً بدء السباق الرئاسي إلى منصب رئيس الولايات المتحدة في العام المقبل، ومؤشّراً على مستقبل الحزب بين التشظي والتماسك في بنيته، وحظوظ مرشحيه المحتملين، وأبرزهم الرئيس السابق دونالد ترامب.

يعرف التيار بمجموعة “العمل السياسي للحركة المحافظة”، وحضور مندوبيه يُعَدّ بالغ الأهمية نظراً إلى تمثيلهم القاعدة الشعبية. وهم أيضاً الناشطون الذين يعوّل على تأييدهم كلُّ من رغب في ترشيح نفسه لدخول السباق الرئاسي.

قوبل حضور الرئيس السابق دونالد ترامب بحفاوة ملحوظة عند اعتلائه المنبر لمخاطبة الحضور الذي ضاقت به القاعة، بحسب المراقبين، على الرغم من الغياب أو المقاطعة لعدد من قادة الحزب البارزين: نائب الرئيس السابق مايك بينس وزعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل.

درجت العادة أن يعقد المؤتمر السنوي للمحافظين منذ تأسيسه عام  1973في ولاية ماريلاند القريبة من العاصمة واشنطن، بحضور نحو “10 آلاف عضو”. وعُقدت الدورة الحالية  أيضاً في منتجع بالقرب من واشنطن وحضره نحو 3،500 شخص، كدليل على مدى نفوذ ترامب، وربما هيمنته على مفاصل القرار في الحزب الجمهوري.

في استطلاع للرأي أجراه المؤتمر، الذي هو أقرب إلى مهرجان انتخابي، حصل الرئيس السابق ترامب على 62% من الأصوات، بخلاف توقعات، بل مراهنة مراكز القوى في الحزبين داخل المؤسسة الحاكمة على تهميشه واقصائه عن المشهد السياسي. وقالت كبرى وسائل الإعلام إن ترامب “ألقى بعضاً من أكبر خطاباته المخادعة، مرصّعة بمزاعم بعيدة كل البعد عن الدقة خلال ولايته الرئاسية” (موقع شبكة “سي أن أن”، 5 آذار/مارس 2023).

أمر لافت أيضاً كان رفض نائب الرئيس السابق، مايك بينس، دعوة المؤتمر، وإحجام منظميه عن تخصيص فقرات لقادة آخرين “أكثر اعتدالاً” في الحزب لمخاطبة الحضور. أمّا رئيس مجلس النواب، كيفين مكارثي، فرحّب بمشاركة ترامب في المؤتمر، ولا يزال يؤكد على ولائه للرئيس السابق. ومن بين الحضور النائبة السابقة عن الحزب الديموقراطي، تولسي غابارد، التي آثرت طرح رؤيتها المسقبلية لـ “سياسة خارجية مبنية على الحقائق” بالتساوق مع طروحات ترامب، وكذلك حثّت الحضور على العمل على إنهاء الدعم المالي الأميركي لأوكرانيا.

نجم المؤتمر، بلا منازع، كان الرئيس السابق ترامب، “الذي خاطب الحضور في ليلة الختام، مقدِّماً ربما دفعة إثارة يتيمة” إلى جمهور التيار اليميني (صحيفة “نيويورك تايمز”، 6 آذار/مارس 2023).

وأوضحت كُبرى وسائل الإعلام المرئي والمسموع مبرّر عزوف عدد لا بأس به عن الحضور، وأن مؤتمر المحافظين “يعاني انعدام اهتمام وانعدام حماسة لدى المشاركين، بدليل تراجع مبيعات التذاكر مقارنة بالأعوام السابقة” (موقع “شبكة الراديو العام”، 5 آذار/مارس 2023).

غابت شبكة “فوكس نيوز” اليمينية عن تغطية مؤتمر المحافظين، في ظل اعتراف صاحبها روبرت ميردوخ بأن الشبكة ارتكبت خطأً في تبنيها سردية الرئيس ترامب بشأن حدوث تزوير في سجلات الناخبين. سِجلّ الشبكة في استضافتها الطامحين إلى دخول السباق الرئاسي كان يُعدّ أحد أكبر المؤشرات على شعبية ضيوفها في الأعوام السابقة. وتراجع أيضاً السجال السياسي المعتاد بين أقطاب الحزب، مثل راند بول، علاوة على “غياب” أبرز مراكز الفكر والابحاث اليمينية “مؤسسة هاريتاج” عن المشاركة (صحيفة “واشنطن إيكزامينار” اليمينية، 3 آذار/مارس 2023).

تعهّد ترامب في خطابه الذي استمر نحو 90 دقيقة، جملة قضايا، أبرزها، على الإطلاق، نيته مواجهة أركان “الدولة العميقة، بل طمسها”، وانهاء الحرب في أوكرانيا. وكعادته، طرح وعوداً برّاقة وكبيرة لما ينوي تحقيقه في حال انتخابه رئيساً للبلاد، أي “الرئيس 47” في ترتيب التناوب الرئاسي للكيان السياسي الأميركي.

ووعد ترامب جمهوره بالسعي لإغلاق وزارة التربية والتعليم الفيدرالية، والتي ما برحت هدفاً دائماً في أجندة الحزب الجمهوري منذ تأسيسها خلال ولاية الرئيس الأسبق جيمي كارتر. ومضى ترامب في دغدغة عواطف المحافظين في هذا الصدد، عبر تعهّده “تغيير أسماء المدارس والشوارع من رموز الشيوعيين، وإطلاق أسماء الوطنيين الأميركيين العظام”، بدلاً من ذلك، على الرغم من إدراكه استحالة تحقيق وعده، وازدحام الأجندات السياسية المختلفة بقضايا أكثر جوهرية لعموم الناخبين.

قرّر بعض المناوئين السياسيين للرئيس السابق حضور لقاء آخر يتزامن مع انعقاد مؤتمر المحافظين، تحت رعاية منظمة تعنى بالشأن الاقتصادي للمحافظين أيضاً، هي “نادي للتنمية”، ولم يُدعً إليه الرئيس ترامب. في جولة الانتخابات الرئاسية السابقة، أيدت المنظمة الاقتصادية ترشيح الرئيس ترامب، وتباينت رؤاها مع طموحاته خلال الانتخابات النصفية العام الماضي، على خلفية تعارض تأييد كل منهما لمرشحين يمينيين.

انشقاق المجموعة الاقتصادية، وما تمثله من ثقل سياسي وثقل انتخابي، يؤشران على شرخ عميق في بنية الحزب الجمهوري وتوجُّهه ، في ظلّ حضور الرئيس ترامب مرشحاً منافساً للرئيس جو بايدن، وترويج البعض دخول حاكم ولاية فلوريدا والمؤيد السابق للرئيس ترامب، رون دي سانتيس، السباق الرئاسي على الرغم من تواضع تأييده، في المرتبة الثانية بنسبة 20%، في استطلاع مؤتمر المحافظين.

بالعودة إلى استطلاع الرأي المذكور، وكسب ترامب دعم أغلبية معتبرة من قواعد الحزب بنسبة 62%، والهوة الشاسعة التي تفصله عن منافسه في المرتبة الثانية، بفوزه بنسبة 20%، فإن نتائجه تعزّز موقع الرئيس ترامب في قيادة دفّة الحزب المنقسم حالياً، وتنذر بتعميق الهوّة الحالية بين قياداته التقليدية “المؤسساتية” وتيار ترامب الشعبوي، والأعلى حضوراً وتأييداً.

في المحصلة العامة، أثبت الرئيس السابق ترامب فشل مساعي خصومه ومناوئية لإقصائه عن المشهد السياسي، على رغم الجراح التي تلقاها في هزيمة بعض مرشحيه في الانتخابات النصفية. كما أن نسبة تأييده العالية حافظت على تماسكها السابق مع بعض الاختراقات البسيطة، الأمر الذي يقود إلى استنتاج أوساط واسعة من المراقبين أن يحقق مفاجأة فوزه على الرئيس جو بايدن في الجولة المقبلة، كما تدل المعطيات الميدانية والتحولات الديموغرافية وتراجع هيبة الدولة الفيدرالية، نظراً إلى فشلها في معالجة أبسط القضايا المصيرية، كحادثة انزلاق قطار محمّل بمواد كيميائية نفثت سموم احتراقها في مدينة “إيست بالستين” في ولاية أوهايو.

كما شدّ الرئيس السابق ترامب الرحال إلى المدينة المنكوبة لمعاينة الأضرار، في مقابل تغيّب الرئيس بايدن عنها، وانعدام أي نيّات مركزية جادّة في تعويض المتضررين واحتواء الأزمة البيئية الناجمة.

2023-02-03-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

عام على حرب أوكرانيا:
تقدّم المسار النووي وتوسّع نطاق الحرب

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

حلّت الذكرى الأولى للحرب في أوكرانيا بنظرة أميركية مشبّعة بالتشاؤم، واكبتها رؤى أشد قسوة وسوداوية بين حلفائها الأوروبيين على مستقبلهم، تميّزت بتصعيد مطّرد لتوسيع رقعة الحرب ورفدها بسيل متواصل من المعدّات العسكرية، فضلاً عن تخصيص عدة مليارات من الدولارات الإضافية لتعويض كلفة الحرب ودفع رواتب الطواقم العسكرية الأميركية التي يزداد تعدادها بالقرب من الحدود الروسية.

التشاؤم المقصود من آفاق المرحلة المقبلة أوضحته نشرة “أتلانتيك” الأميركية المقربة إلى قيادة حلف الأطلسي، جراء استفتاء أراء مكثّف أجرته بين النخب الفكرية والسياسية الأميركية، شملت ” كبار المؤرخين، وأختصاصيي العلوم السياسية والخبراء في التطورات الجيوسياسية والمسؤلين السابقين”، إعداداً لدخول الحرب عامها الثاني. وقد أجمعوا فيه على قتامة المستقبل المنظور والإعداد لحرب طويلة الأجل “ربما تستمر لعقد أو أكثر من الزمن” (نشرة “أتلانتيك”، 23 شباط/فبراير 2023).

تجدُد الجدل، بل صراع النخب، حول الاستراتيجية الأميركية في المرحلة الراهنة يأتي على خلفية تراجع الخيارات السابقة المتاحة  أمام صنّاع القرار في انفتاح أكبر على المجتمعات الدولية، تليه هزائم متواصلة لمغامرات الحروب الأميركية في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا والصومال، ناهيك بتعثر مفاوضات الملف النووي الإيراني، وصعود من ينادي بينهم بأنّ العالم اليوم “لم يعد يتقبّل الإملاءات الأميركية”، وما أنتجته من تحوّلات داخلية تحابي توجهات أقل تشدداً في العلاقات الدولية.

الثابت أنّ ذلك “الصراع” الفكري بين النخب الأميركية بين تياري التشدد والانفتاح لم يعمّر طويلاً مع اندلاع الحرب الأوكرانية. وسرعان ما انضمت غالبية الفريق المطالب بأخذ العبرة من المغامرات الحربية الأميركية في الخارج إلى النسق العام لدعم “المغامرة” الجديدة في أوكرانيا، مع بعض الاستثناءات المهمة، يتصدرهم أستاذ العلوم الاقتصادية والسياسة العامة في جامعة كولومبيا جيفري ساكس، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو جون ميرشايمر، والأستاذ الجامعي في التاريخ آندرو باسيفيتش.

يسجّل للبروفيسور جيفري ساكس اتهامه المباشر لحكومة الولايات المتحدة بتفجير خط أنابيب الغاز  الروسية إلى ألمانيا “وربما تورط بولندا معها”. واستطرد في انتقاده الثابت لتوجهات واشنطن بأن آراءه “تسير بعكس بوصلة السردية الرسمية، ولا يجوز للمرء التلفظ بتلك الاتهامات في الغرب عموماً، لكن مراسلي كبار الصحف الأميركية، الذين تواصلت معهم، أكّدوا مسؤولية الولايات المتحدة عن التفجير، بيد أن تقاريرهم الموضوعية تغيب عن التغطية الإعلامية” (مقابلة مع شبكة “بلومبيرغ”، 22 شباط/فبراير 2023).

في الشق المقابل من تحولات النخب الأميركية بشأن مواصلة تأييد أوكرانيا، يمكن تسجيل بعض الاحتجاجات داخل قيادات التيار اليميني في الحزبين، وبشكل أكثر صرامة داخل الحزب الجمهوري الذي يعرب قادته عن قلقهم من “تراجع أولويات الأجندة الأميركية أمام نزعة التصعيد العسكري ضد روسيا” (“معهد كوينسي” الليبرالي، 28 شباط/فبراير 2023).

من أبرز “الاحتجاجات” المرصودة جهود تصدّرها عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري، التيار الليبرتاري المحافظ، راند بول الذي استطاع “تعطيل” موافقة المجلس على صرف “حزمة مساعدات لأوكرانيا” (إلى حين)، تبلغ قيمتها 40 مليار دولار، في شهر أيار/مايو من العام الماضي، وانضم إليه 10 أعضاء من الحزب نفسه.

وعلّل بول اعتراضه على الحزمة الضخمة بأنها “تهدّد أمننا القومي”. وقد جرى نقاشها في مجلس الشيوخ على خلفية مشهد نقص إمداد حليب الأطفال وتوفره في الأسواق الأميركية.

ووصف أحد أبرز المحللين السياسيين في شؤون أوروبا الشرقية، داليبور روهاك، الذي يتبع لفريق المحافظين الجدد، ظاهرة “بدء التصدع” في تماسك قيادة الحزب الجمهوري بأن “انشطار الحزب الجمهوري على خلفية توجهات السياسة الخارجية الأميركية كان جلياً أمام الجميع” منذئذ. وقد جسّده تصويت الكونغرس على “مساعدة” أوكرانيا بمبلغ “113 مليار دولار” العام الماضي.

تتبّع إرهاصات تيارات الحزب الجمهوري وفّر فرصة فريدة، وربما غير مسبوقة، للمهتمين بالتوقف عند خلافات حقيقية بشأن تحديد سلّم الأولويات التي ينبغي معالجتها في الحقبة الحالية، وكذلك على المدى المتوسط. بعض الرموز المعروفة تعارض من موقع “أيديولوجي” كحافز أول، مثل راند بول، ومن ثم تتبلور المعارضة على خلفية الرؤى السياسية المتعددة (“معهد كوينسي”، واشنطن، 23 شباط/فبراير 2023).

وهنا تجدر الإشارة مرة أخرى إلى جسارة بعض ممثلي الحزب في مجلسي الكونغرس في التصدي للتيار التقليدي “المتشدد”، كما يطلق عليه، وخصوصاً من قبل مجموعة ممثلين مؤيّدين للرئيس السابق دونالد ترامب وتسجيل بعض النجاحات الملموسة.

ولا يجوز التغاضي عن أهمية الجدل السياسي الحاد إبّان انتخاب رئيس مجلس النواب عن الحزب الجمهوري، كيفين مكارثي، وما قدّمه من تنازلات قاسية لكسب تأييد تلك المجموعة محدودة العدد، وما قد يرافقها من مواجهات مقبلة بين تيّارات المؤسسة الحاكمة عند طرح “حزم مساعدات جديدة لأوكرانيا” للتصويت، والتنازلات التي قد تضطر تلك القيادات العليا تقديمها إلى أقلية أثبتت حضورها وثقلها السياسي بشكل أكبر من حجمها العددي.

علاوة على ذلك، لوحظ “تبدّل” فكري في توجه أحد أبرز مراكز اليمين السياسي الفكري في الآونة الأخيرة، ممثلاً بـ “مؤسسة هاريتاج”، التي أرست معالم توجهات المستقبل، مطالبة بـ “عدم تقديم شيك مفتوح” لأوكرانيا، ومحذرة من نزعة صنّاع القرار في الحزبين إلى “تهميش مصلحة أميركا” لمصلحة أوكرانيا (بيان صحافي، “مؤسسة هاريتاج”، 10 أيار/مايو 2022).

تجدر الإشارة أيضاً إلى تراجع في حماسة المزاج الشعبي العام لتقديم دعم متواصل لأوكرانيا، يقابله انكشاف اهتراء البنى التحتية في الصمود أمام حوادث “شبه عادية” مثل اصطدام قطارات وتسببها بانبعاث غازات سامة ناجمة عن حادثة بلدة “إيست باليستاين” في ولاية أوهايو حديثاً، أودت بالثروة الحيوانية ولوّثت مياه الشرب، مع تحذير الهيئات الصحية من انتشار أمراض سرطان متعددة بين سكان المنطقة.

بالتزامن مع الذكرى الأولى للحرب في أوكرانيا، قام الرئيس الأميركي جو بايدن بزيارة “مفاجئة” إلى كييف، في سياق استراتيجية واشنطن الثابتة بـ “إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا”، وُصفت بتصرف رئاسي “متهوّر”، مهّدت لها نشرة مختصة بالشؤون الدولية بأن ” الأوان آن للإعداد (التخطيط) لانهيار روسيا” (نشرة “فورين بوليسي”، 7 كانون الثاني/يناير 2023).

رحلة بايدن رُتّبت على عجل، وكانت خارج سياق التواصل والتسلسل الإعلامي المعهود، وهي “المرة الأولى في التاريخ الحديث التي يزور فيها رئيس أميركي منطقة اشتباك مسلّح خارج تغطية حماية عسكرية أميركية”، ما دفع بعض وسائل الإعلام الرئيسية إلى وصفها بأنها “تسلّل من واشنطن إلى كييف تحت جنح الظلام من دون ملاحظة أحد” (موقع “أم أس أن” الإلكتروني، وشبكة “إيه بي سي” للتلفزة، وموقع “ميليتاري تايمز”،  20 شباط/فبراير 2023).

زيارة عاجلة “تمت بترتيب مسبق مع السلطات الروسية”، حرصاً على سلامة شخص الرئيس، بحسب ما تسرّب من تقارير تباعاً، كانت ترمي إلى “تجسيد التزام الغرب” بدعم أوكرانيا، في ظل “تبخّر وعود المساعدة الغربية في مؤتمر ميونيخ للأمن” (نشرة “ديفينس نيوز”، 23 شباط/فبراير 2023).

المساعدات المالية والعسكرية الموعودة لأوكرانيا، اصطدمت بجدار صلب من عدم اليقين داخل أروقة مؤتمر ميونيخ، وخصوصاً بين “طواقم الأمن القومي المتعدد الجنسيات، والصحافيين أيضاً”، بحسب نشرة “ديفينس وان”، على الرغم من كلمة متلفزة وجهتها نائب الرئيس الأميركي كمالا هاريس، أعلنت فيها تعهّد بلادها “دعم أوكرانيا مهما طال الأمر”.

وازداد المطالبون بتحديد دقيق للسياسة الأميركية بشأن أوكرانيا، وخصوصاً من قيادات عسكرية معتبرة ونخب سياسية مرموقة، من بينهم رئيس هيئة الأركان الأميركية مارك ميللي، اشاروا بالمجمل إلى حالة من الجمود العسكري يرافقه تقدّم ميداني حثيث للقوات الروسية، ما يحتّم على الغرب مواجهة مباشرة للحقائق المتجددة.

وقالت النشرة العسكرية، “ديفينس وان”، نيابةً عن حضور مؤتمر ميونيخ للأمن، أن على زعماء الدول المختلفة “مخاطبة الجمهور بشأن إجماع الرؤى للمرحلة الحالية وما تواجهه أوكرانيا من حقيقة استنزاف متواصلة. وليس هناك من خيار أمام الغرب إلا دخول المعركة مباشرة ضد روسيا انطلاقاً من أوكرانيا، وتوفيره أسلحة ومعدات متطورة مدعومة بأسلحة الجو المختلفة لتلك المهمة”.

ومضت محذرة قادة حلف الناتو من حالة “التردّد اتخاذ القرار المناسب الذي ستنجم عنه إطالة أمد الحرب وازدياد ضحاياها”، وأعربت عن قناعة المجمّع العسكري والاستخباري بهزيمة أوكرانيا،  على الرغم من طمأنة رئيس هيئة الأركان، مارك ميللي، أقرانه إلى البدء بهجوم شامل في الربيع المقبل.

ووجّه الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، ديفيد بيترايوس، خطاب استغاثة إلى الغرب بالتحرك الفوري لتبني “تدريب طواقم طيارين على مقاتلات أف-16 أس”، كدليل على استنتاجه وآخرين بأن “الحرب لن تنتهي مع حلول فصل الصيف المقبل”.

وخلصت النشرة  بالقول أن ذلك السيناريو المرئي “سيخدم الرئيس بوتين حصراً، الذي باستطاعته إنهاء الحرب” اتساقاً مع اهدافه المعلنة.

لا يخفي خبراء الشؤون العسكرية أبعاد التصعيد الخطابي والعسكري الأميركي، ويقولون أنّ أحد أهدافه هو استدراج روسيا إلى استخدام سلاح نووي منخفض القدرة الإشعاعية في المعركة الدائرة، وما يترتب على ذلك من تدخل مباشر لواشنطن وحلفائها لتسديد المزيد من الضربات داخل الأراضي الروسية.

عند هذا المنعطف الخطر، أعلنت روسيا تجميد التزامها باتفاقية الحد من الأسلحة النووية مع الولايات المتحدة، فيما أعربت واشنطن عن خيبة أملها من القرار الروسي، معلنة استعدادها للتفاوض مجدداً بهذا الشأن.

التكهن بدخول السلاح النووي من عدمه، في الحرب الأوكرانية ليس مسألة هيّنة، وأركانها غير متوفّرة، باستثناء الخطاب التصعيدي من واشنطن سياسياً وعسكرياً، وهي التي تتخذ من أوكرانيا والأراضي البولندية منصة انطلاق لإدامة أمد الحرب، لكن باستطاعة المرء الاستنتاج بأن البشرية برمتها مقبلة على سباق تسلح نووي يخلو من الضوابط والقيود السابقة، تواكبه سيادة فريق الحرب في صنع القرار الأميركي والتحكّم في مستقبل العالم أجمع.

2023-15-02-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

تفجير واشنطن لخط السيل الشمالي
يعزّز خيارات الرد الروسي بالمثل

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

لم تنعم المؤسسة الأميركية الحاكمة، بدوائرها المتعددة، السياسية والأمنية والاستخبارية والعسكرية، بهدوء من الانتقادات الشعبية، بعد سلسة تساؤلات حول أهليتها في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، بشأن تداعيات المنطاد الهوائي الصيني، حتى حاصرتها اتهامات “شبه موثّقة” بارتكابها “جريمة” تفجير خطي السيل الشمالي ناقلي الغاز الروسي إلى موانيء ألمانيا، العام الماضي، والتي عالجتها بأسلوبها الروتيني المعهود: النفي ثم النفي حتى يقدّم الطرف الآخر دلائل دامغة، تصدر عقبها “بعض” الاعتراف مغلّفاً بادعاء البراءة.

في سياق التفاصيل، نشر الصحافي الاستقصائي الشهير، سيمور هيرش، بتاريخ 8 شباط/فبراير الجاري، تقريراً مفصلاً أرفقه بوقائع وحيثيات وتفاصيل وأسماء صنّاع القرار في غرف مغلقة، ويحدّد مسؤولية اتخاذ قرار التفجير بالرئيس جو بايدن، وتأييد فريقه الأمني المصغّر برئاسة مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان؛ ومسؤولين في قيادة الأركان المشتركة؛ ومندوبين عن وكالة الاستخبارات المركزية ووزارتي الخارجية والخزانة.

قوبل التقرير بعنوان “كيف أخرجت أميركا أنبوب السيل الشمالي من الخدمة” بتجاهل منسّق من قبل وسائل الإعلام الرسمية، المقروءة والمرئية. وانفرد عدد ضئيل من بين إعلامييها في سرد الخبر والتركيز على “الطرف الآخر” الرسمي ونفيه بشدة تلك الاتهامات، على الرغم من ذكر التقرير بدقة عالية “التسلسل التاريخي والزمني وآليات التنفيذ والوحدات العسكرية” التي نفذت الهجوم.

بينما تناولت هيئة تحرير صحيفة “واشنطن تايمز”، اليمينية، النبأ باقتطاف وبالتعليق على بعض ما جاء في التقرير، وكذلك نفي البيت الأبيض بأنه “كذبة مفبركة وخرافة كاملة”، قائلة: “في ظل هذا الزمن الذي يتميّز بعدم الثقة في الحكومة، فإن تفاصيل تقرير السيد هيرش تبدو أكثر صدقاً من النفي” الرسمي (صحيفة “واشنطن تايمز”، 13 شباط/فبراير 2023).

من بين المسائل الأساسية التي أبرزها تقرير هيرش تورط القوات العسكرية النرويجية مع القوات الأميركية في “زرع وتفجير العبوات الناسفة”، بالقرب من شواطئ جزيرة برونهولم الدانماركية، واسفر عن تدمير الأنبوبين في عرض البحر، وجاء متّسقاً مع الأهداف الأميركية المعلنة متمثلة بـ “قطع علاقة ألمانيا مع روسيا وإنهاء اعتمادها اقتصادياً على توريد الغاز الروسي الرخيص”.

هذه الجزئية “البسيطة” تؤدي بالجهود الساعية لتحديد هوية الجهات الفاعلة إلى التقرّب من السؤال الكلاسيكي: من المستفيد أو المستفيدين من تلك الفعلة، برد الاعتبار لعامل الربح المادي.

وعليه، تشير البيانات الاقتصادية للفترة الزمنية المباشرة بعد التفجير إلى ارتفاع معدلات المداخيل والأرباح لصادرات الطاقة لكل من النرويج والولايات المتحدة. واستطاعت النرويج الحلول محل المورد الروسي في تصدير الغاز بنحو 40 مليار دولار سنوياً. أما الولايات المتحدة فقد ضاعفت صادراتها من الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية، خصوصاً بعد افتتاح ألمانيا محطتي استقبال الغاز المسال، قبل نحو شهرين، وتصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بأن واشنطن تبيع غازها لأوروبا بنحو 5 أضعاف السعر العالمي السابق.

تصنيف عملية التفجير، قانونياً وقضائياً، وبحسب المصادر الأمريكية، دفعت بعض النخب الأميركية إلى القول إنه “ينبغي على الشعب الأميركي مطالبة (الحكومة) تقديم أدلة بشأن ارتكاب الرئيس بايدن مغامرة في أعماق البحار ما يستدعي تفسير دولة نووية (روسيا) أن الفعل بمثابة إعلان حرب” (“واشنطن تايمز”، 13 شباط/فبراير 2023).

في الجانب الرسمي من المسؤولين الأميركيين انفرد عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري، مايك لي، بانتقاد عملية التفجير، نافياً علمه وبعض زملائه بتلك الخطة. وأوضح بأنه “قلق لأنني لا أستطيع اسثناء فورياً لاحتمال قيام الولايات المتحدة بتفجير أنبوب السيل الشمالي”. وأردف قائلاً: “إن ثبت صحة (تقرير هيرش)، فنحن على أبواب معضلة كبيرة” (تعليق السيناتور على “تويتر”، 8 شباط/فبراير 2023).

ما قصده السيناتور مايك لي أن الإدارة الأميركية أخلّت بعرف التعامل السائد بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية، في مسائل بالغة الحساسية، والذي يقضي بإبلاغ “مجموعة الثمانية” في الكونغرس بالخطط السرّية، والمكوّنة من: زعيمي الحزبين في كلا مجلسي الكونغرس، ورؤساء لجان الاستخبارات في المجلسين ونوابهم.

في هذا الصدد، تنبغي الإشارة إلى دراسة أعدتها “مؤسسة راند” لصالح البنتاغون ركزت فيها على استهداف روسيا عبر اتباع أفضل السبل لاستغلال مواطن ضعف “اقتصادها، وكذلك الثغرات السياسية والعسكرية”، في سياق المواجهة مع موسكو، وناشدت الإدارة الأميركية اتخاذ تدابير عاجلة من أجل “تقليص حجم صادرات (روسيا) من الغاز وإعاقة جهود توسيع طاقة الأنابيب” الناقلة له (دراسة بعنوان “توسّع روسيا: التنافس على أرضية مواتية”، أيلول/سبتمبر 2022).

أيضاً، نلفت النظر إلى “معرفة” مسبّقة للحكومة الألمانية بموعد التفجير وهوية الفاعل. إذ نشرت كبرى الصحف الألمانية “دير شبيغل” تقريراً في اليوم التالي للتفجير، 22 أيلول/سبتمبر 2022، يشير إلى تلقي الحكومة الألمانية “تحذيراً (خطياً) من وكالة الاستخبارات المركزية (الأميركية) من وقوع هجوم محتمل يستهدف أنبوب الغاز”، ونقلت الصحيفة كذلك على لسان “مسؤول رفيع” في الحكومة الألمانية يعرب فيه عن “الحنق الشديد” الذي تملّك مسؤوليها “لاستثناء مشاركتهم في تلك المعلومات”.

تفجير انبوبي الغاز يعد بمثابة “جريمة حرب” في العلاقات الدولية ونصوص القانون الدولي. القاضي اليميني الشهير والمعلق السابق في شبكة “فوكس نيوز”، أندرو بوليتانو، كان شديد الوضوح في توصيف العملية، بالقول: “من المنظار القانوني الصرف (فالعملية) تندرج تحت بند إعلان حرب ضد روسيا وضد ألمانيا. مهما تكن هوية الفاعل، وربما الاحتمال الأوحد هو الرئيس الأميركي نفسه، فقد تسبب في إلحاق الضرر بعشرات ملايين المواطنين الألمان والتسبب في ستمرار معاناتهم خلال فصل الشتاء”.

وأردف “إنه إعلان حرب لم يصادق عليه الكونغرس، وهي عملية عديمة الأخلاق بالكامل، وغير دستورية بكل ما للكلمة من معنى. وربما عملية إجرامية” (مقابلة أجراها بوليتانو مع شبكة “ذي بوست ميلينيا – The Post Millenia” الكندية، 13 شباط/فبراير 2023).

نسوق ذلك للتمهيد إلى استنتاجات توصلت إليها هيئة تحرير صحيفة “واشنطن تايمز”، في مقالها المنشور، تسلط فيه الضوء على قرار البيت الأبيض بالتخطيط لعملية التفجير وتنفيذها بسريّة عالية، من بينها: “ازدياد مداخيل الطاقة لروسيا بنسبة 28% في عام 2022، بالرغم من خسارتها لصادراتها الأوروبية”. ودقت هيئة التحرير ناقوس الخطر لدى صنّاع القرار في واشنطن بأن استهدافهم لروسيا دفعها إلى التوجّه شرقاً وتشكيلها حلف أوراسي، ما “ينذر  بتهديد هيمنة الغرب على الوضع الجيوسياسي العالمي”. واردفت “كيف يمكن اعتبار ذلك في مصلحة الولايات المتحدة؟”

وأضافت الصحيفة اليمينية أن “تحقيقاً أجرته ألمانيا لم يتوصل إلى أي دليل يثبت تورط روسيا في الكارثة”، تواكبه تصريحات الرئيس جو بايدن العلنية بأنه “إن أقدمت روسيا على تنفيذ الغزو (لأوكرانيا) لن يكون هناك خط سيل -2 الشمالي بعد الآن. وسنقوم نحن بالقضاء عليه” (صحيفة “واشنطن تايمز”، 13 شباط/فبراير 2023).

إذن، ما هي طبيعة الرد الروسي وفق الحسابات الأميركية على عملية تفجير سرّية، استمرت من 26 إلى 29 أيلول/سبتمبر 2022، من دون ترك إي دليل يحدد هوية الفاعل: معادلة عمل تخريبي تقابله أعمال تخريبية ضد أهداف أميركية منها بناها التحتية، أيضاً من دون ترك أدّلة ميدانية. ولن تسلم منشآت مصافي النفط والغاز الأميركية من رد الفعل المنظور.

كما باستطاعة روسيا إعاقة سيل الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا وتدميرها لمنع وصولها إلى الميدان. وربما، بحسب البعض، تقدم موسكو على اختراق إلكتروني لشبكات النقل الأوروبية للتأثير على جهود إيصال معدات حلف الناتو العسكرية براً إلى كييف.

أشدّ ما تخشاه واشنطن، وامتداداً حلف الناتو، تراجع صدقية سرديتها بأنها تخوض “حرباً عادلة ضد خصم أو خصوم يريدون بها السوء”، وتزعزع قناعة جمهورها بأن عليه “التمسك” بالسردية الرسمية ورفض كل ما يصدر عن الطرف الآخر.

لعل تقرير سيمور هيرش يضع لبنة سنمّار الأولى في جدار الهيمنة الغربية، والأميركية تحديداً، على وسائل الإعلام والتوعية الجماهيرية، خصوصاً في ظل توفرّ بدائل أخرى متواضعة بالمقارنة.

2023-12-02-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

منطاد صيني تقليدي “متجوّل”
يكشف ثغرات التقنية الأميركية

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

            أزمة صامتة تشكّلت بين أقطاب المؤسسة الحاكمة الأميركية، ببُعديها التقني/الاستخباري والسياسي، على خلفية تحليق منطاد هوائي للصين في عمق الأجواء الأميركية وبعض المواقع في كندا، أتاحت الفرصة لتجدد توجيه اتهامات إلى الرئيس بايدن بـ “التقصير في أداء الواجب”، والمزايدات الحزبية.

قرار الرئيس بايدن بإسقاط المنطاد الهوائي بصاروخ “سايدويندر”، يوم 4 شباط/فبراير الحالي، والذي تبلغ كلفته وحده 380،000 دولار، لم يشفِ غليل النخب السياسية والفكرية أو النبض الشعبي، بشكل عام، للتوقف عند ملابسات المنطاد. بدأت الاتهامات تأخذ منحى أعمق تدريجياً، خصوصاً بعد إقرار “رئيس قيادة القوات الشمالية – نورث كوم”، الجنرال في سلاح الجو، غلين فان هيرك، بأن المؤسسة العسكرية “فشلت في التحرّي والكشف عن منطاد تجسسي من الصين” (يومية “ميليتاري تايمز”، 7 شباط/فبراير 2023).

نظراً إلى الطبيعة السرّية للبيانات التقنية الخاصة بنظم الدفاع الجوّي الأميركي، لكن المتوفّر منها، وهو شذر ضئيل، يتيح للمرء الاطلاع على أفاقه المحدودة، إذ تنشر الولايات المتحدة نظام “الاعتراض من الأرض”، يغطي أراضيها الشاسعة، ويتكوّن من وحدتين قادرتين على تصويب 44 صاروخاً: الأولى منشورة في قاعدة “غريلي” بولاية ألاسكا، والثانية في قاعدة “فاندنبيرغ” الجوية بولاية كاليفورنيا. ويشير بعض الخبراء العسكريين إلى قصور بنيوي في ذاك النظام كونه “لا يعمل على نحو موثوق، وهناك مخططات لترميمه في المستقبل” (تقرير لمعهد الدراسات الدولية والاستراتيجية بعنوان “نظام اعتراض من الأرض”، 26 تموز/يوليو 2021).

يعزز نظام الاعتراض من الأرض سلاح “ثاد – وهي منظومة دفاع جوي صاروخي، أرض – جو”، نطاق فعاليته يبلغ نحو 125 ميلاً، 200 كلم، ينتشر في  3 مواقع: قاعدة فورت بليس بولاية تكساس، هاوايي وجزيرة غوام. كما نشرت واشنطن تلك المنظومة في كل من كوريا الجنوبية والسعودية والإمارات. ويضيف الخبراء بالشؤون العسكرية أن “ثاد غير صالح كمنظومة دفاعية للأراضي الأميركية”، لكن باستطاعته توفير الحماية المطلوبة لمنشآت حيوية استراتيجية مثل “العاصمة الأميركية”.

أما في الأبعاد السياسية، فتزدحم التكهنات بمواكبة دخول أطياف سياسية متعددة للإدلاء بدلوها. ما يهمنا بالدرجة الأولى هو سبر أغوار الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة، والمتضمّنة في ثنايا تقارير وزارة الدفاع الدورية والسنوية، أبرزها “المراجعة الرباعية للدفاع”، التي تنجز كل 4 سنوات، تسلط فيها الجهود على مواجهة “متعددة الأوجه والأبعاد” مع روسيا والصين.

في مراجعة سريعة لأرضية التقارير “الرباعية”، بشّر البنتاغون العالم بنيّة الولايات المتحدة شن “حرب طويلة مع شركائها وحلفائها بالتزامن وفي مناطق متعددة”، ضد ما أسمته “الإرهاب الدولي”، لعام 2006. ثم “تطورت” إلى “تنافس القوى العظمى، وليس الحرب على الإرهاب”، بحسب تقرير مفصّل صدر عن المحاسب العام للبنتاغون، ديفيد نوركويست، بتاريخ 12 شباط/فبراير 2018، ممهّداً الوعي العام لتقبل تخصيص ميزانيات عالية للبنتاغون من شأنها “عكس سنوات من مسار تدهور القوات العسكرية”.

“المنافسة” الأميركية مع الصين تحديداً اتّسمت بخط بياني في اتجاهين: تحقيق الصين اختراقات أمنية متعددة، أبرزها “القبض على طائرة تجسس إلكترونية بكامل معداتها تابعة لسلاح البحرية الأميركية من طراز EP-3، تعمل لمصلحة وكالة الأمن القومي”، 1 نيسان/إبريل 2001؛ وقرصنة قاعدة بيانات “مكتب إدارة الموارد البشرية”، وسيطرتها على نحو 22 مليون سجّل تضمنت “معلومات حديثة لعدد هائل من المسؤولين الحاليين والسابقين في الأجهزة الأميركية المتعددة، وربما بيانات تخص ضباط الاستخبارات” (نشرة “تاسك آند بيربوس” – Task and Purpose المتخصصة في الشؤون العسكرية، 6 شباط/فبراير 2023).

الغموض يكتنف النشاطات التجسّسية الأميركية ضد الصين، خصوصاً في وسائل الإعلام المتعددة، لكن الثابت أنها بمجملها تستند إلى التقنية المتطورة والحرب الإلكترونية. منذ تسلم الرئيس جو بايدن مهام منصبه، مطلع عام 2021، أطلق موجه من التدابير ضد الصين، بعضها لتحييد بعض معارضيه في الحزب الجمهوري، وبعضها الآخر يصب في عمق العلاقات التجارية المعقّدة بين واشنطن وبكين.

وأطلقت الإدارة الأميركية مشروع “مراجعة الأمن”، على خلفية الجدل الواسع بشأن منصة “تيك توك” للتواصل الاجتماعي، والمملوكة للصين، وتراجع سلفه الرئيس ترامب عن اتخاذ إجراءات عقابية ضدها  في أوج حملة الانتخابات الرئاسية خشية خسارة تأييد قطاعات واسعة من الجيل الناشئ دائم الاستخدام للمنصّة. وعلّقت صحيفة  أميركية نافذة على مشروع  المراجعة الأمنية بأن “نتائجه ما زالت غير منشورة” (“واشنطن بوست”، 30 تشرين الثاني/اكتوبر 2022).

وفي هذه الأثناء تتوارد بعض التفاصيل الكاشفة عن قصور الأجهزة والمعدات الأميركية، نورد منها: رئيس “نورث كوم” المشرفة على مراقبة الأجواء الأميركية وحمايتها، غلين فان هيرك “لم نستطع الكشف عن تلك التهديدات، وذلك ثغرة معرفية في المنظومة (الحالية). وأبلغتنا الأجهزة الاستخبارية بالأمر بعد فوات الأوان”. واضاف “حلّق المنطاد على علوّ 60،000 قدم، بلغ طوله 200 قدم، وعلى متنه أجهزة استشعار ومعدات أخرى تقدّر أنها بحجم  طائرة نقل (متوسطة) زنتها تفوق 2000 رطل” (يومية “مليتاري تايمز”، 6 شباط/فبراير 2023).

مؤسسات إعلامية نافذة نقلت عن “مسؤولين أميركيين بأن منطاد الصين التجسّسي كان يحلق بمحركات لمساعدته على تقويم مساره” (“واشنطن بوست”، 4 شباط/فراير 2023).

وفي غياب المعلومات الدقيقة حول مكوّنات المنطاد، باستثناء ما يتلفظ به “مسؤولون” لم تحدد هويتهم، لم يستطع أحد كبار الخبراء، استاذ علوم الهندسة والطيران في جامعة كولورادو، إيان بويد، تأكيد تلك التصريحات، مكتفياً بالقول: “أن تم التأكد من ذلك (التحليق بمحركات)، فمعناه وجود مشغّل بشري لديه قدرة سيطرة كبيرة على مسار التحليق” (نشرة “نيكد كابتاليزم – Naked Capitalism” الإلكترونية، 5 شباط/فبراير 2023).

بعض خبراء الشأن الصيني في مراكز الأبحاث سعى للإضاءة على زاوية مختلفة من “التنافس” الصيني الأميركي، بالقول “لا تعتمد الصين على نموذج معيّن من سبل التجسّس، وهو ما يفسّر لماذا أرسلت منطاداً للتجسّس فوق الأجواء الأميركية، وفي الوقت نفسه تسخّر اساليب تجسّس أخرى ضد الحكومة الأميركية، ضمنها أقمار اصطناعية خاصة بالتجسّس” (نقلاً عن “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية”، مقابلة مع دين شينغ، مستشار كبير لمشروع الصين في “المعهد الأميركي للسلام”، 3 شباط/فبراير 2023).

التساؤل العام “لماذا لجأت الصين إلى التجسّس عبر منطاد هوائي” يبقى مفتوحاً، بالرغم من تأكيد بكين بأنه منطاد لدراسة الأحوال الجوية خرج عن مساره بفعل الدفع الهوائي القوي في ذلك العلوّ. ويرجّح بقوّة أن بكين رمت “إطلاق رسالة سياسية” معينة من وراء ذلك “لدغدغة” الأوساط الأميركية، وامتداداً الكندية أيضاً، بتأكيدها على قدرتها التقنية على التحكم في مسار تحليق يثبت عند نقطة معينة، ويتيح لها التقاط معلومات مفصّلة لا تستطيع الأقمار الاصطناعية القيام بها من حيث الدقة والشمولية، خصوصاً سيره فوق قاعدة “مالمستروم” الجوية في ولاية مونتانا، والتي تستضيف الفصيل الدفاعي الأميركي، الجناح 341 الصاروخي، المكلّف بتفعيل الصواريخ النووية الباليستية العابرة للقارّات.

وجاء تصريح رئيس “نورث كوم”، غلين فان هيرك، صادماً لعموم المؤسسة العسكرية والسياسية الأميركية بالقول: “تنصبّْ جهود الحكومة (الرسمية) الآن على ما يمكنها تعلّمه من قدرات هذا المنطاد التجسّسي”، بمواكبة تصريحات غاضبة لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، بأن الصين أرادت “مراقبة مواقع استراتيجية في عموم الأراضي الأميركية”.

 

هل من رد صيني محتمل؟

نددت الصين بإسقاط المنطاد وطالبت واشنطن بأن تعيد الحطام بوصفه ملكية صينية، ويعتقد بعض المحللين أنه بمقدورها الرد بأشكال مختلفة، إن رغبت بالتصعيد، انتظاراً للحظة المناسبة . ومروحة الردود الصينية متعددة، من امكانية اسقاط قمر تجسّسي أميركي، عنما يحلّق فوق الفضاء الصيني، أو الإستيلاء المسلح على سفينة للبحرية الأميركية، عندما تدخل مياه بحر الصين الجنوبي، أو إرغام أي طائرة أميركية على الهبوط حين تدخل ما تعدّه اجواءها فوق بحر الصين أيضا.