2023-30-03-التقرير الأسبوعي

القمة الروسية – الصينية تؤسّس
لحقبة جديدة بغياب واشنطن وقلقها

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

تستمر واشنطن الرسمية في الإعراب عن هواجسها من القمة الروسية – الصينية، 20 آذار/مارس 2023، وقلقها من تقاربهما، أحدثها جاء على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، فيدانت باتيل في 27 آذار/مارس الجاري، مفاده أن تقارب روسيا والصين وإيران يجب أن يقلق عدداً من الدول. وكذلك لإدراكها العميق تراجع مكانة الولايات المتحدة وهيبتها في العالم، مقابل “الشرق يتقدم والغرب يتراجع”، وهي مقولة أرساها الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ (1957)، ويكررها رئيسها الحالي شي جين بينغ.

لعل المخفي في “هواجس” واشنطن هو خطة الصين المطروحة لإرساء السلام في أوكرانيا، والمكوّنة من 12 بنداً، وما قد تسفر عنه ترتيبات ثنائية بين بكين وموسكو للمضي قدماً في تجاوز العنصر الأميركي المعوّق لإنهاء الحرب، إضافة إلى عرض الرئيس الصيني إمكانية اتصاله المباشر بالرئيس الأوكراني زيلينسكي في هذا الشأن.

محور خطة الصين المعلن هو التوصل إلى وقف إطلاق نار بين موسكو وكييف، وعدم التطرق إلى الانسحاب الروسي من “الأراضي الأوكرانية المحتلة”، بحسب توصيف واشنطن وحلفائها الغربيين. وسارع وزير الخارجية الأميركية، توني بلينكن، إلى “تحذير العالم” من “الانخداع بأي خطوة تكتيكية من روسيا، بدعم من الصين، لتجميد الحرب وفق شروطها هي” (20 آذار/مارس 2023).

وما يعزز قلق العواصم الغربية كافة، بحسب المراقبين في واشنطن، نجاح الصين في التوسط بين عدوي الأمس، السعودية وإيران، والذي أثمر استئناف علاقاتهما الدبلوماسية المقطوعة، أتبعاها بتصريحات مسؤوليهما بفتح صفحة تعاون جديدة بينهما بدأت ترجمتها إيجابياً في اليمن، وربما قد تمتد إلى لبنان، مروراً باستئناف علاقات الرياض مع دمشق.

كل المسار الصيني الأخير جاء بمعزل عن حجر الرحى الأميركي السابق في إدارة الأزمات الإقليمية، وإن لم يكن غائباً تماماً عن الترتيبات الإقليمية التي اقتضتها مصالح حلفاء واشنطن قبل غيرها. وبحسب أحد أركان النخب الأكاديمية الأميركية فإن “الصين، وبعد نجاحها في تهميش دور الولايات المتحدة (في الإقليم)، وجّهت بوصلة اهتماماتها نحو أوكرانيا” (استاذ التاريخ في جامعة مشيغان، رونالد سوني، 24 آذار/مارس 2023).

كما ركزت تلك النخب على أبرز ما جاء في كلمة الرئيس الصيني التي وجّهها إلى شعوب الاتحاد الروسي، في 20 آذار/مارس الحالي، مكرّساً موقع بلاده في المشهد الدولي، إذ قال: “اتفق المجتمع الدولي على عدم  وجود دولة تتفوّق على نظيراتها، وعلى عدم توفّر نظام حكم دولي شامل، وليس باستطاعة دولة بمفردها إملاء رؤيتها الخاصة بشأن النظام الدولي”. وفي توصيفه لمتانة علاقته مع نظيره الروسي قال: “ثقتنا السياسية المتبادلة تتعمّق” ما شكّل قلقاً متزايداً للأوساط السياسية الأميركية (يومية “وول ستريت جورنال”، 21 آذار/مارس 2023).

في المدى الأبعد والأشد ضغطاً على مستقبل المصالح الغربية، في حيثيات القمة الروسية-الصينية، أبرزها تنامي سعي البَلَدين لإرساء معايير تبادل تجارية عالمية بعيدة عن الدولار الأميركي، والذي وجد صدىً مباشراً في البرازيل، أحد أركان “بريكس”، بتعيين رئيسة البلاد السابقة، ديلما روسيف، رئيسة لبنك البريكس الذي أنشيء عام 2015، برأسمال يتجاوز 30 مليار دولار أميركي de BRICS) (Banco. كما أقرّت البرازيل، قبل بضعة أيام، تسديد قيمة صادراتها باليوان الصيني، خصوصاً أن الصين شكّلت ولا تزال الشريك التجاري الأول للبرازيل، إذ بلغ حجم التبادل بينهما 170 مليار دولار العام الماضي.

وتدرك مفاصل صنع القرار السياسي، خصوصاً بين النخب السياسية والفكرية الأميركية، أبعاد “تنامي التوافق الاستراتيجي” بين روسيا والصين بهدف “إسقاط النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة لمصلحة عالم متعدد الأقطاب” (“مجلس العلاقات الخارجية” – Council on Foreign Relations، 24 آذار/مارس 2023).

وأوضح “مجلس العلاقات الخارجية” أن قيام الرئيس الصيني بزيارة رسمية لموسكو “استغلّها للتشديد على عزم الصين المضي لتحقيق مصالحها الوطنية في تحدٍ سافرٍ لتزايد الضغوط الاقتصادية والديبلوماسية الأميركية، ومشدّدا على أن الصين لن تتخلى عن شريكها الاستراتيجي في تصديهما لمزاعم قيادة الولايات المتحدة للعالم”، والتي لاقت صدىً في “مجتمعات الجنوب التي يعاني فيها النظام الليبرالي بقيادة أميركا من الإعياء”.

وتناغمت لهجة وسائل الإعلام الأميركية الكبرى مع هواجس القلق الرسمية من صعود الصين، خصوصاً للعب رئيسها دور  “صانع للسلام وبوسعه التشدد في مطالبه في حال رفضت أوكرانيا دعوته لوقف إطلاق النار، وباستطاعته آنذاك حشد دعم دول عالم الجنوب مثل الهند وجنوب إفريقيا والبرازيل لممارسة ضغوطاً على أوكرانيا لإنهاء القتال. أنه مسار مشين (للصين)، لكنه مسار ديبلوماسي ذكي” (“واشنطن بوست”، 21 آذار/مارس 2023).

 

هل الحرب مع الصين حتمية؟

بداية، لا بد من الإشارة إلى “النصائح” التي يسديها باستمرار وزير الخارجية الأسبق، هنري كيسنجر، إلى مفاصل صنع القرار السياسي في واشنطن، من سياسيين وعسكريين، أهمها ما جاء في مستهلّ أطروحته الشهيرة لشهادة الدكتوراه حول أهمية توازن القوى في السياسة الدولية، وبضرورة إرساء القوى المسيطرة/المهيمنة على العالم “نظام دولي متوازن” يأخذ في الاعتبار مصالح الدول المتعددة، بما فيها تلك التي هُزمت في الحروب، وسادت نصائحه المشهد الاستراتيجي الأميركي لعدة عقود.

أما بشأن الصين ولقاء القمة في موسكو، فقد أعرب عدد من “خبراء” السياسة الخارجية الأميركية عن دهشتهم من سرعة اللقاء، من ناحية، وما تمخض عنه من لهجة سياسية موحّدة لإرساء نظام عالمي متعدد الأقطاب، يطيح هيمنة القطب الأوحد عقب التحولات الاستراتيجية الدولية.

وقد أوجز مساعد وزير الدفاع الأميركي الأسبق، غراهام أليسون، قمة موسكو بأن “التحالف غير المعلن الذي أرساه (الرئيس) شي مع (الرئيس) بوتين أضحى أشد أهمية من معظم التحالفات الرسمية الأميركية اليوم؛ كما تحدى (الرئيس) شي التوقعات (الأميركية) كافة ومضى بمهارة لبناء علاقة وثيقة مع (الرئيس) بوتين تُهِمّ الطرفين” (مقال نشرته يومية “فورين بوليسي”، 23 آذار/مارس 2023).

وحذّر أليسون صنّاع القرار من تجاهل نصائح مستشار الأمن القومي الأسبق، زبغنيو بريجينسكي، بتعويمهم قاعدة التصدي المتزامن لكل من روسيا والصين، الأمر الذي دفع بهما إلى تشكيل “حلف المتضررين”، وأصبحتا في علاقة وثيقة أقرب من مجرد تحالف بينهما، بحيث أضحى لزاماً على واشنطن “الإقرار بأنها تواجه تحالفاً غير معلن وذا شأن عظيم على المستوى العالمي”.

أمّا بشأن المناورات العسكرية المشتركة بينهما، فأفاد أليسون بأن “الصين تشترك دورياً في تدريبات عسكرية مشتركة مع روسيا،

والتي  تقزّم في حجمها مثيلاتها التي تجريها الولايات المتحدة مع شريكتها الاستراتيجية”، أي الهند. بل إن “قادة الأركان الروس والصينيين يتشاركون في محادثات صريحة ومفصّلة حول التهديد الآتي من تحديث الولايات المتحددة لنظمها النووية وصواريخها الدفاعية وما تمثله من تحدٍ لاستراتيجية الردع لكليهما”.

ازدادت في الآونة الأخيرة وتيرة التكهن في واشنطن بموعد حرب “وشيكة” بين الصين والولايات المتحدة، تداولتها معظم وسائل الإعلام الرئيسية، معربة عن نشوب الحرب بين عامي 2025-2027، استندت في مجملها على بعض ما جاء في وثيقة صادرة عن وزارة الدفاع الأميركية، نهاية عام 2021، تحت عنوان “التطورات العسكرية والأمنية الخاصة بجمهورية الصين الشعبية”؛ والبعض الآخر من التكهنات جاء بوحي من قيادات عسكرية أميركية رفيعة المستوى، حددت عام 2035 في البداية كموعد للحرب، وهو العام الذي أعلن فيه الرئيس الصيني شي جين بينغ عن إنجاز بلاده خطة تحديث قواتها العسكرية وطواقم دفاعاتها الوطنية.

وثيقة “البنتاغون”، المشار إليها أعلاه، أخذت في الاعتبار “التطورات الرئيسية التي طرأت على التخطيط الاستراتيجي في الصين” واستنتجت أنها ستصبح جاهزة في عام 2027 قائلة: ” سيوفّر عام 2027 لبكين هدف الإنجاز الجديد لتحديث خيارات عسكرية أشد مصداقية في حالة الطوارئ بشأن تايوان”.

استغّل معسكر الحرب في الحزبين الأميركيين تكهنات البنتاغون، بحسب الوثيقة أعلاه، من أجل “دق ناقوس الخطر وتحشيد الدعم في مجلسي الكونغرس للموافقة على صرف ميزانيات إضافية لنماذج أسلحة وذخائر لاستخدامها في الحرب المقبلة مع الصين” (مايكل كلير، زميل زائر في “مجمّع الحد من الأسلحة” وخبير بشؤون الصين،  26 آذار/مارس 2023).

وبحسب كلير فإن قادة البنتاغون عدّلوا موعد نشوب الحرب مع الصين مطلع العام الجاري  إلى عام 2025، كما جاء على لسان قائد عمليات سلاح الجو الأميركي، مايكل مينيهان، الذي يشرف على نحو 50،000 عنصر تحت إمرته.

وأوضح مينيهان في خطاب رسمي لقوات سلاح الجو أن تحديده الموعد الجديد لبدء الحرب، عام 2025، جاء بناء على قراءته للتطورات في داخل الصين، ابرزها إعادة انتخاب الرئيس شي لفترة رئاسية ثالثة، إضافة إلى ترؤسه “مجلس الحرب” منذ شهر تشرين الأول/اكتوبر 2022، وكذلك موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في تايوان، عام 2024، والتي ستوفر فرصة أخرى سانحة للرئيس شي لبسط نفوذه فيما تركّز  واشنطن على تلك الانتخابات.

على الرغم من الضخ الإعلامي اليومي الهادف إلى شيطنة الصين وإطلاق جملة مواعيد “لبدء حربها ضد تايوان”، وما سيترتب عليها أميركياً، فإن الأمر الغائب عن الجدل اليومي والتداول الإعلامي هو إبراز الأدلّة والوثائق التي تؤيد تلك الفرضية. ويعيد إلى الأذهان الذرائع الواهية الأخرى التي أطلقتها واشنطن وحليفتها لندن في شن الحروب المتتالية في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا، في ظل غياب تام لمساءلة حقيقية من “ممثلي” الشعب في مجلسي الكونغرس.

2023-10-03-التقرير الأسبوعي

مؤتمر انتخابي تمهيدي لتيار اليمين المحافظ
يكرّس انقسام الحزب الجمهوري

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

التأم تجمع تيار المحافظين في الحزب الجمهوري في مؤتمره السنوي قبل بضعة أيام، معلناً بدء السباق الرئاسي إلى منصب رئيس الولايات المتحدة في العام المقبل، ومؤشّراً على مستقبل الحزب بين التشظي والتماسك في بنيته، وحظوظ مرشحيه المحتملين، وأبرزهم الرئيس السابق دونالد ترامب.

يعرف التيار بمجموعة “العمل السياسي للحركة المحافظة”، وحضور مندوبيه يُعَدّ بالغ الأهمية نظراً إلى تمثيلهم القاعدة الشعبية. وهم أيضاً الناشطون الذين يعوّل على تأييدهم كلُّ من رغب في ترشيح نفسه لدخول السباق الرئاسي.

قوبل حضور الرئيس السابق دونالد ترامب بحفاوة ملحوظة عند اعتلائه المنبر لمخاطبة الحضور الذي ضاقت به القاعة، بحسب المراقبين، على الرغم من الغياب أو المقاطعة لعدد من قادة الحزب البارزين: نائب الرئيس السابق مايك بينس وزعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل.

درجت العادة أن يعقد المؤتمر السنوي للمحافظين منذ تأسيسه عام  1973في ولاية ماريلاند القريبة من العاصمة واشنطن، بحضور نحو “10 آلاف عضو”. وعُقدت الدورة الحالية  أيضاً في منتجع بالقرب من واشنطن وحضره نحو 3،500 شخص، كدليل على مدى نفوذ ترامب، وربما هيمنته على مفاصل القرار في الحزب الجمهوري.

في استطلاع للرأي أجراه المؤتمر، الذي هو أقرب إلى مهرجان انتخابي، حصل الرئيس السابق ترامب على 62% من الأصوات، بخلاف توقعات، بل مراهنة مراكز القوى في الحزبين داخل المؤسسة الحاكمة على تهميشه واقصائه عن المشهد السياسي. وقالت كبرى وسائل الإعلام إن ترامب “ألقى بعضاً من أكبر خطاباته المخادعة، مرصّعة بمزاعم بعيدة كل البعد عن الدقة خلال ولايته الرئاسية” (موقع شبكة “سي أن أن”، 5 آذار/مارس 2023).

أمر لافت أيضاً كان رفض نائب الرئيس السابق، مايك بينس، دعوة المؤتمر، وإحجام منظميه عن تخصيص فقرات لقادة آخرين “أكثر اعتدالاً” في الحزب لمخاطبة الحضور. أمّا رئيس مجلس النواب، كيفين مكارثي، فرحّب بمشاركة ترامب في المؤتمر، ولا يزال يؤكد على ولائه للرئيس السابق. ومن بين الحضور النائبة السابقة عن الحزب الديموقراطي، تولسي غابارد، التي آثرت طرح رؤيتها المسقبلية لـ “سياسة خارجية مبنية على الحقائق” بالتساوق مع طروحات ترامب، وكذلك حثّت الحضور على العمل على إنهاء الدعم المالي الأميركي لأوكرانيا.

نجم المؤتمر، بلا منازع، كان الرئيس السابق ترامب، “الذي خاطب الحضور في ليلة الختام، مقدِّماً ربما دفعة إثارة يتيمة” إلى جمهور التيار اليميني (صحيفة “نيويورك تايمز”، 6 آذار/مارس 2023).

وأوضحت كُبرى وسائل الإعلام المرئي والمسموع مبرّر عزوف عدد لا بأس به عن الحضور، وأن مؤتمر المحافظين “يعاني انعدام اهتمام وانعدام حماسة لدى المشاركين، بدليل تراجع مبيعات التذاكر مقارنة بالأعوام السابقة” (موقع “شبكة الراديو العام”، 5 آذار/مارس 2023).

غابت شبكة “فوكس نيوز” اليمينية عن تغطية مؤتمر المحافظين، في ظل اعتراف صاحبها روبرت ميردوخ بأن الشبكة ارتكبت خطأً في تبنيها سردية الرئيس ترامب بشأن حدوث تزوير في سجلات الناخبين. سِجلّ الشبكة في استضافتها الطامحين إلى دخول السباق الرئاسي كان يُعدّ أحد أكبر المؤشرات على شعبية ضيوفها في الأعوام السابقة. وتراجع أيضاً السجال السياسي المعتاد بين أقطاب الحزب، مثل راند بول، علاوة على “غياب” أبرز مراكز الفكر والابحاث اليمينية “مؤسسة هاريتاج” عن المشاركة (صحيفة “واشنطن إيكزامينار” اليمينية، 3 آذار/مارس 2023).

تعهّد ترامب في خطابه الذي استمر نحو 90 دقيقة، جملة قضايا، أبرزها، على الإطلاق، نيته مواجهة أركان “الدولة العميقة، بل طمسها”، وانهاء الحرب في أوكرانيا. وكعادته، طرح وعوداً برّاقة وكبيرة لما ينوي تحقيقه في حال انتخابه رئيساً للبلاد، أي “الرئيس 47” في ترتيب التناوب الرئاسي للكيان السياسي الأميركي.

ووعد ترامب جمهوره بالسعي لإغلاق وزارة التربية والتعليم الفيدرالية، والتي ما برحت هدفاً دائماً في أجندة الحزب الجمهوري منذ تأسيسها خلال ولاية الرئيس الأسبق جيمي كارتر. ومضى ترامب في دغدغة عواطف المحافظين في هذا الصدد، عبر تعهّده “تغيير أسماء المدارس والشوارع من رموز الشيوعيين، وإطلاق أسماء الوطنيين الأميركيين العظام”، بدلاً من ذلك، على الرغم من إدراكه استحالة تحقيق وعده، وازدحام الأجندات السياسية المختلفة بقضايا أكثر جوهرية لعموم الناخبين.

قرّر بعض المناوئين السياسيين للرئيس السابق حضور لقاء آخر يتزامن مع انعقاد مؤتمر المحافظين، تحت رعاية منظمة تعنى بالشأن الاقتصادي للمحافظين أيضاً، هي “نادي للتنمية”، ولم يُدعً إليه الرئيس ترامب. في جولة الانتخابات الرئاسية السابقة، أيدت المنظمة الاقتصادية ترشيح الرئيس ترامب، وتباينت رؤاها مع طموحاته خلال الانتخابات النصفية العام الماضي، على خلفية تعارض تأييد كل منهما لمرشحين يمينيين.

انشقاق المجموعة الاقتصادية، وما تمثله من ثقل سياسي وثقل انتخابي، يؤشران على شرخ عميق في بنية الحزب الجمهوري وتوجُّهه ، في ظلّ حضور الرئيس ترامب مرشحاً منافساً للرئيس جو بايدن، وترويج البعض دخول حاكم ولاية فلوريدا والمؤيد السابق للرئيس ترامب، رون دي سانتيس، السباق الرئاسي على الرغم من تواضع تأييده، في المرتبة الثانية بنسبة 20%، في استطلاع مؤتمر المحافظين.

بالعودة إلى استطلاع الرأي المذكور، وكسب ترامب دعم أغلبية معتبرة من قواعد الحزب بنسبة 62%، والهوة الشاسعة التي تفصله عن منافسه في المرتبة الثانية، بفوزه بنسبة 20%، فإن نتائجه تعزّز موقع الرئيس ترامب في قيادة دفّة الحزب المنقسم حالياً، وتنذر بتعميق الهوّة الحالية بين قياداته التقليدية “المؤسساتية” وتيار ترامب الشعبوي، والأعلى حضوراً وتأييداً.

في المحصلة العامة، أثبت الرئيس السابق ترامب فشل مساعي خصومه ومناوئية لإقصائه عن المشهد السياسي، على رغم الجراح التي تلقاها في هزيمة بعض مرشحيه في الانتخابات النصفية. كما أن نسبة تأييده العالية حافظت على تماسكها السابق مع بعض الاختراقات البسيطة، الأمر الذي يقود إلى استنتاج أوساط واسعة من المراقبين أن يحقق مفاجأة فوزه على الرئيس جو بايدن في الجولة المقبلة، كما تدل المعطيات الميدانية والتحولات الديموغرافية وتراجع هيبة الدولة الفيدرالية، نظراً إلى فشلها في معالجة أبسط القضايا المصيرية، كحادثة انزلاق قطار محمّل بمواد كيميائية نفثت سموم احتراقها في مدينة “إيست بالستين” في ولاية أوهايو.

كما شدّ الرئيس السابق ترامب الرحال إلى المدينة المنكوبة لمعاينة الأضرار، في مقابل تغيّب الرئيس بايدن عنها، وانعدام أي نيّات مركزية جادّة في تعويض المتضررين واحتواء الأزمة البيئية الناجمة.

2023-02-03-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

عام على حرب أوكرانيا:
تقدّم المسار النووي وتوسّع نطاق الحرب

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

حلّت الذكرى الأولى للحرب في أوكرانيا بنظرة أميركية مشبّعة بالتشاؤم، واكبتها رؤى أشد قسوة وسوداوية بين حلفائها الأوروبيين على مستقبلهم، تميّزت بتصعيد مطّرد لتوسيع رقعة الحرب ورفدها بسيل متواصل من المعدّات العسكرية، فضلاً عن تخصيص عدة مليارات من الدولارات الإضافية لتعويض كلفة الحرب ودفع رواتب الطواقم العسكرية الأميركية التي يزداد تعدادها بالقرب من الحدود الروسية.

التشاؤم المقصود من آفاق المرحلة المقبلة أوضحته نشرة “أتلانتيك” الأميركية المقربة إلى قيادة حلف الأطلسي، جراء استفتاء أراء مكثّف أجرته بين النخب الفكرية والسياسية الأميركية، شملت ” كبار المؤرخين، وأختصاصيي العلوم السياسية والخبراء في التطورات الجيوسياسية والمسؤلين السابقين”، إعداداً لدخول الحرب عامها الثاني. وقد أجمعوا فيه على قتامة المستقبل المنظور والإعداد لحرب طويلة الأجل “ربما تستمر لعقد أو أكثر من الزمن” (نشرة “أتلانتيك”، 23 شباط/فبراير 2023).

تجدُد الجدل، بل صراع النخب، حول الاستراتيجية الأميركية في المرحلة الراهنة يأتي على خلفية تراجع الخيارات السابقة المتاحة  أمام صنّاع القرار في انفتاح أكبر على المجتمعات الدولية، تليه هزائم متواصلة لمغامرات الحروب الأميركية في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا والصومال، ناهيك بتعثر مفاوضات الملف النووي الإيراني، وصعود من ينادي بينهم بأنّ العالم اليوم “لم يعد يتقبّل الإملاءات الأميركية”، وما أنتجته من تحوّلات داخلية تحابي توجهات أقل تشدداً في العلاقات الدولية.

الثابت أنّ ذلك “الصراع” الفكري بين النخب الأميركية بين تياري التشدد والانفتاح لم يعمّر طويلاً مع اندلاع الحرب الأوكرانية. وسرعان ما انضمت غالبية الفريق المطالب بأخذ العبرة من المغامرات الحربية الأميركية في الخارج إلى النسق العام لدعم “المغامرة” الجديدة في أوكرانيا، مع بعض الاستثناءات المهمة، يتصدرهم أستاذ العلوم الاقتصادية والسياسة العامة في جامعة كولومبيا جيفري ساكس، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو جون ميرشايمر، والأستاذ الجامعي في التاريخ آندرو باسيفيتش.

يسجّل للبروفيسور جيفري ساكس اتهامه المباشر لحكومة الولايات المتحدة بتفجير خط أنابيب الغاز  الروسية إلى ألمانيا “وربما تورط بولندا معها”. واستطرد في انتقاده الثابت لتوجهات واشنطن بأن آراءه “تسير بعكس بوصلة السردية الرسمية، ولا يجوز للمرء التلفظ بتلك الاتهامات في الغرب عموماً، لكن مراسلي كبار الصحف الأميركية، الذين تواصلت معهم، أكّدوا مسؤولية الولايات المتحدة عن التفجير، بيد أن تقاريرهم الموضوعية تغيب عن التغطية الإعلامية” (مقابلة مع شبكة “بلومبيرغ”، 22 شباط/فبراير 2023).

في الشق المقابل من تحولات النخب الأميركية بشأن مواصلة تأييد أوكرانيا، يمكن تسجيل بعض الاحتجاجات داخل قيادات التيار اليميني في الحزبين، وبشكل أكثر صرامة داخل الحزب الجمهوري الذي يعرب قادته عن قلقهم من “تراجع أولويات الأجندة الأميركية أمام نزعة التصعيد العسكري ضد روسيا” (“معهد كوينسي” الليبرالي، 28 شباط/فبراير 2023).

من أبرز “الاحتجاجات” المرصودة جهود تصدّرها عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري، التيار الليبرتاري المحافظ، راند بول الذي استطاع “تعطيل” موافقة المجلس على صرف “حزمة مساعدات لأوكرانيا” (إلى حين)، تبلغ قيمتها 40 مليار دولار، في شهر أيار/مايو من العام الماضي، وانضم إليه 10 أعضاء من الحزب نفسه.

وعلّل بول اعتراضه على الحزمة الضخمة بأنها “تهدّد أمننا القومي”. وقد جرى نقاشها في مجلس الشيوخ على خلفية مشهد نقص إمداد حليب الأطفال وتوفره في الأسواق الأميركية.

ووصف أحد أبرز المحللين السياسيين في شؤون أوروبا الشرقية، داليبور روهاك، الذي يتبع لفريق المحافظين الجدد، ظاهرة “بدء التصدع” في تماسك قيادة الحزب الجمهوري بأن “انشطار الحزب الجمهوري على خلفية توجهات السياسة الخارجية الأميركية كان جلياً أمام الجميع” منذئذ. وقد جسّده تصويت الكونغرس على “مساعدة” أوكرانيا بمبلغ “113 مليار دولار” العام الماضي.

تتبّع إرهاصات تيارات الحزب الجمهوري وفّر فرصة فريدة، وربما غير مسبوقة، للمهتمين بالتوقف عند خلافات حقيقية بشأن تحديد سلّم الأولويات التي ينبغي معالجتها في الحقبة الحالية، وكذلك على المدى المتوسط. بعض الرموز المعروفة تعارض من موقع “أيديولوجي” كحافز أول، مثل راند بول، ومن ثم تتبلور المعارضة على خلفية الرؤى السياسية المتعددة (“معهد كوينسي”، واشنطن، 23 شباط/فبراير 2023).

وهنا تجدر الإشارة مرة أخرى إلى جسارة بعض ممثلي الحزب في مجلسي الكونغرس في التصدي للتيار التقليدي “المتشدد”، كما يطلق عليه، وخصوصاً من قبل مجموعة ممثلين مؤيّدين للرئيس السابق دونالد ترامب وتسجيل بعض النجاحات الملموسة.

ولا يجوز التغاضي عن أهمية الجدل السياسي الحاد إبّان انتخاب رئيس مجلس النواب عن الحزب الجمهوري، كيفين مكارثي، وما قدّمه من تنازلات قاسية لكسب تأييد تلك المجموعة محدودة العدد، وما قد يرافقها من مواجهات مقبلة بين تيّارات المؤسسة الحاكمة عند طرح “حزم مساعدات جديدة لأوكرانيا” للتصويت، والتنازلات التي قد تضطر تلك القيادات العليا تقديمها إلى أقلية أثبتت حضورها وثقلها السياسي بشكل أكبر من حجمها العددي.

علاوة على ذلك، لوحظ “تبدّل” فكري في توجه أحد أبرز مراكز اليمين السياسي الفكري في الآونة الأخيرة، ممثلاً بـ “مؤسسة هاريتاج”، التي أرست معالم توجهات المستقبل، مطالبة بـ “عدم تقديم شيك مفتوح” لأوكرانيا، ومحذرة من نزعة صنّاع القرار في الحزبين إلى “تهميش مصلحة أميركا” لمصلحة أوكرانيا (بيان صحافي، “مؤسسة هاريتاج”، 10 أيار/مايو 2022).

تجدر الإشارة أيضاً إلى تراجع في حماسة المزاج الشعبي العام لتقديم دعم متواصل لأوكرانيا، يقابله انكشاف اهتراء البنى التحتية في الصمود أمام حوادث “شبه عادية” مثل اصطدام قطارات وتسببها بانبعاث غازات سامة ناجمة عن حادثة بلدة “إيست باليستاين” في ولاية أوهايو حديثاً، أودت بالثروة الحيوانية ولوّثت مياه الشرب، مع تحذير الهيئات الصحية من انتشار أمراض سرطان متعددة بين سكان المنطقة.

بالتزامن مع الذكرى الأولى للحرب في أوكرانيا، قام الرئيس الأميركي جو بايدن بزيارة “مفاجئة” إلى كييف، في سياق استراتيجية واشنطن الثابتة بـ “إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا”، وُصفت بتصرف رئاسي “متهوّر”، مهّدت لها نشرة مختصة بالشؤون الدولية بأن ” الأوان آن للإعداد (التخطيط) لانهيار روسيا” (نشرة “فورين بوليسي”، 7 كانون الثاني/يناير 2023).

رحلة بايدن رُتّبت على عجل، وكانت خارج سياق التواصل والتسلسل الإعلامي المعهود، وهي “المرة الأولى في التاريخ الحديث التي يزور فيها رئيس أميركي منطقة اشتباك مسلّح خارج تغطية حماية عسكرية أميركية”، ما دفع بعض وسائل الإعلام الرئيسية إلى وصفها بأنها “تسلّل من واشنطن إلى كييف تحت جنح الظلام من دون ملاحظة أحد” (موقع “أم أس أن” الإلكتروني، وشبكة “إيه بي سي” للتلفزة، وموقع “ميليتاري تايمز”،  20 شباط/فبراير 2023).

زيارة عاجلة “تمت بترتيب مسبق مع السلطات الروسية”، حرصاً على سلامة شخص الرئيس، بحسب ما تسرّب من تقارير تباعاً، كانت ترمي إلى “تجسيد التزام الغرب” بدعم أوكرانيا، في ظل “تبخّر وعود المساعدة الغربية في مؤتمر ميونيخ للأمن” (نشرة “ديفينس نيوز”، 23 شباط/فبراير 2023).

المساعدات المالية والعسكرية الموعودة لأوكرانيا، اصطدمت بجدار صلب من عدم اليقين داخل أروقة مؤتمر ميونيخ، وخصوصاً بين “طواقم الأمن القومي المتعدد الجنسيات، والصحافيين أيضاً”، بحسب نشرة “ديفينس وان”، على الرغم من كلمة متلفزة وجهتها نائب الرئيس الأميركي كمالا هاريس، أعلنت فيها تعهّد بلادها “دعم أوكرانيا مهما طال الأمر”.

وازداد المطالبون بتحديد دقيق للسياسة الأميركية بشأن أوكرانيا، وخصوصاً من قيادات عسكرية معتبرة ونخب سياسية مرموقة، من بينهم رئيس هيئة الأركان الأميركية مارك ميللي، اشاروا بالمجمل إلى حالة من الجمود العسكري يرافقه تقدّم ميداني حثيث للقوات الروسية، ما يحتّم على الغرب مواجهة مباشرة للحقائق المتجددة.

وقالت النشرة العسكرية، “ديفينس وان”، نيابةً عن حضور مؤتمر ميونيخ للأمن، أن على زعماء الدول المختلفة “مخاطبة الجمهور بشأن إجماع الرؤى للمرحلة الحالية وما تواجهه أوكرانيا من حقيقة استنزاف متواصلة. وليس هناك من خيار أمام الغرب إلا دخول المعركة مباشرة ضد روسيا انطلاقاً من أوكرانيا، وتوفيره أسلحة ومعدات متطورة مدعومة بأسلحة الجو المختلفة لتلك المهمة”.

ومضت محذرة قادة حلف الناتو من حالة “التردّد اتخاذ القرار المناسب الذي ستنجم عنه إطالة أمد الحرب وازدياد ضحاياها”، وأعربت عن قناعة المجمّع العسكري والاستخباري بهزيمة أوكرانيا،  على الرغم من طمأنة رئيس هيئة الأركان، مارك ميللي، أقرانه إلى البدء بهجوم شامل في الربيع المقبل.

ووجّه الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية، ديفيد بيترايوس، خطاب استغاثة إلى الغرب بالتحرك الفوري لتبني “تدريب طواقم طيارين على مقاتلات أف-16 أس”، كدليل على استنتاجه وآخرين بأن “الحرب لن تنتهي مع حلول فصل الصيف المقبل”.

وخلصت النشرة  بالقول أن ذلك السيناريو المرئي “سيخدم الرئيس بوتين حصراً، الذي باستطاعته إنهاء الحرب” اتساقاً مع اهدافه المعلنة.

لا يخفي خبراء الشؤون العسكرية أبعاد التصعيد الخطابي والعسكري الأميركي، ويقولون أنّ أحد أهدافه هو استدراج روسيا إلى استخدام سلاح نووي منخفض القدرة الإشعاعية في المعركة الدائرة، وما يترتب على ذلك من تدخل مباشر لواشنطن وحلفائها لتسديد المزيد من الضربات داخل الأراضي الروسية.

عند هذا المنعطف الخطر، أعلنت روسيا تجميد التزامها باتفاقية الحد من الأسلحة النووية مع الولايات المتحدة، فيما أعربت واشنطن عن خيبة أملها من القرار الروسي، معلنة استعدادها للتفاوض مجدداً بهذا الشأن.

التكهن بدخول السلاح النووي من عدمه، في الحرب الأوكرانية ليس مسألة هيّنة، وأركانها غير متوفّرة، باستثناء الخطاب التصعيدي من واشنطن سياسياً وعسكرياً، وهي التي تتخذ من أوكرانيا والأراضي البولندية منصة انطلاق لإدامة أمد الحرب، لكن باستطاعة المرء الاستنتاج بأن البشرية برمتها مقبلة على سباق تسلح نووي يخلو من الضوابط والقيود السابقة، تواكبه سيادة فريق الحرب في صنع القرار الأميركي والتحكّم في مستقبل العالم أجمع.

2023-15-02-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

تفجير واشنطن لخط السيل الشمالي
يعزّز خيارات الرد الروسي بالمثل

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

لم تنعم المؤسسة الأميركية الحاكمة، بدوائرها المتعددة، السياسية والأمنية والاستخبارية والعسكرية، بهدوء من الانتقادات الشعبية، بعد سلسة تساؤلات حول أهليتها في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، بشأن تداعيات المنطاد الهوائي الصيني، حتى حاصرتها اتهامات “شبه موثّقة” بارتكابها “جريمة” تفجير خطي السيل الشمالي ناقلي الغاز الروسي إلى موانيء ألمانيا، العام الماضي، والتي عالجتها بأسلوبها الروتيني المعهود: النفي ثم النفي حتى يقدّم الطرف الآخر دلائل دامغة، تصدر عقبها “بعض” الاعتراف مغلّفاً بادعاء البراءة.

في سياق التفاصيل، نشر الصحافي الاستقصائي الشهير، سيمور هيرش، بتاريخ 8 شباط/فبراير الجاري، تقريراً مفصلاً أرفقه بوقائع وحيثيات وتفاصيل وأسماء صنّاع القرار في غرف مغلقة، ويحدّد مسؤولية اتخاذ قرار التفجير بالرئيس جو بايدن، وتأييد فريقه الأمني المصغّر برئاسة مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان؛ ومسؤولين في قيادة الأركان المشتركة؛ ومندوبين عن وكالة الاستخبارات المركزية ووزارتي الخارجية والخزانة.

قوبل التقرير بعنوان “كيف أخرجت أميركا أنبوب السيل الشمالي من الخدمة” بتجاهل منسّق من قبل وسائل الإعلام الرسمية، المقروءة والمرئية. وانفرد عدد ضئيل من بين إعلامييها في سرد الخبر والتركيز على “الطرف الآخر” الرسمي ونفيه بشدة تلك الاتهامات، على الرغم من ذكر التقرير بدقة عالية “التسلسل التاريخي والزمني وآليات التنفيذ والوحدات العسكرية” التي نفذت الهجوم.

بينما تناولت هيئة تحرير صحيفة “واشنطن تايمز”، اليمينية، النبأ باقتطاف وبالتعليق على بعض ما جاء في التقرير، وكذلك نفي البيت الأبيض بأنه “كذبة مفبركة وخرافة كاملة”، قائلة: “في ظل هذا الزمن الذي يتميّز بعدم الثقة في الحكومة، فإن تفاصيل تقرير السيد هيرش تبدو أكثر صدقاً من النفي” الرسمي (صحيفة “واشنطن تايمز”، 13 شباط/فبراير 2023).

من بين المسائل الأساسية التي أبرزها تقرير هيرش تورط القوات العسكرية النرويجية مع القوات الأميركية في “زرع وتفجير العبوات الناسفة”، بالقرب من شواطئ جزيرة برونهولم الدانماركية، واسفر عن تدمير الأنبوبين في عرض البحر، وجاء متّسقاً مع الأهداف الأميركية المعلنة متمثلة بـ “قطع علاقة ألمانيا مع روسيا وإنهاء اعتمادها اقتصادياً على توريد الغاز الروسي الرخيص”.

هذه الجزئية “البسيطة” تؤدي بالجهود الساعية لتحديد هوية الجهات الفاعلة إلى التقرّب من السؤال الكلاسيكي: من المستفيد أو المستفيدين من تلك الفعلة، برد الاعتبار لعامل الربح المادي.

وعليه، تشير البيانات الاقتصادية للفترة الزمنية المباشرة بعد التفجير إلى ارتفاع معدلات المداخيل والأرباح لصادرات الطاقة لكل من النرويج والولايات المتحدة. واستطاعت النرويج الحلول محل المورد الروسي في تصدير الغاز بنحو 40 مليار دولار سنوياً. أما الولايات المتحدة فقد ضاعفت صادراتها من الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية، خصوصاً بعد افتتاح ألمانيا محطتي استقبال الغاز المسال، قبل نحو شهرين، وتصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بأن واشنطن تبيع غازها لأوروبا بنحو 5 أضعاف السعر العالمي السابق.

تصنيف عملية التفجير، قانونياً وقضائياً، وبحسب المصادر الأمريكية، دفعت بعض النخب الأميركية إلى القول إنه “ينبغي على الشعب الأميركي مطالبة (الحكومة) تقديم أدلة بشأن ارتكاب الرئيس بايدن مغامرة في أعماق البحار ما يستدعي تفسير دولة نووية (روسيا) أن الفعل بمثابة إعلان حرب” (“واشنطن تايمز”، 13 شباط/فبراير 2023).

في الجانب الرسمي من المسؤولين الأميركيين انفرد عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري، مايك لي، بانتقاد عملية التفجير، نافياً علمه وبعض زملائه بتلك الخطة. وأوضح بأنه “قلق لأنني لا أستطيع اسثناء فورياً لاحتمال قيام الولايات المتحدة بتفجير أنبوب السيل الشمالي”. وأردف قائلاً: “إن ثبت صحة (تقرير هيرش)، فنحن على أبواب معضلة كبيرة” (تعليق السيناتور على “تويتر”، 8 شباط/فبراير 2023).

ما قصده السيناتور مايك لي أن الإدارة الأميركية أخلّت بعرف التعامل السائد بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية، في مسائل بالغة الحساسية، والذي يقضي بإبلاغ “مجموعة الثمانية” في الكونغرس بالخطط السرّية، والمكوّنة من: زعيمي الحزبين في كلا مجلسي الكونغرس، ورؤساء لجان الاستخبارات في المجلسين ونوابهم.

في هذا الصدد، تنبغي الإشارة إلى دراسة أعدتها “مؤسسة راند” لصالح البنتاغون ركزت فيها على استهداف روسيا عبر اتباع أفضل السبل لاستغلال مواطن ضعف “اقتصادها، وكذلك الثغرات السياسية والعسكرية”، في سياق المواجهة مع موسكو، وناشدت الإدارة الأميركية اتخاذ تدابير عاجلة من أجل “تقليص حجم صادرات (روسيا) من الغاز وإعاقة جهود توسيع طاقة الأنابيب” الناقلة له (دراسة بعنوان “توسّع روسيا: التنافس على أرضية مواتية”، أيلول/سبتمبر 2022).

أيضاً، نلفت النظر إلى “معرفة” مسبّقة للحكومة الألمانية بموعد التفجير وهوية الفاعل. إذ نشرت كبرى الصحف الألمانية “دير شبيغل” تقريراً في اليوم التالي للتفجير، 22 أيلول/سبتمبر 2022، يشير إلى تلقي الحكومة الألمانية “تحذيراً (خطياً) من وكالة الاستخبارات المركزية (الأميركية) من وقوع هجوم محتمل يستهدف أنبوب الغاز”، ونقلت الصحيفة كذلك على لسان “مسؤول رفيع” في الحكومة الألمانية يعرب فيه عن “الحنق الشديد” الذي تملّك مسؤوليها “لاستثناء مشاركتهم في تلك المعلومات”.

تفجير انبوبي الغاز يعد بمثابة “جريمة حرب” في العلاقات الدولية ونصوص القانون الدولي. القاضي اليميني الشهير والمعلق السابق في شبكة “فوكس نيوز”، أندرو بوليتانو، كان شديد الوضوح في توصيف العملية، بالقول: “من المنظار القانوني الصرف (فالعملية) تندرج تحت بند إعلان حرب ضد روسيا وضد ألمانيا. مهما تكن هوية الفاعل، وربما الاحتمال الأوحد هو الرئيس الأميركي نفسه، فقد تسبب في إلحاق الضرر بعشرات ملايين المواطنين الألمان والتسبب في ستمرار معاناتهم خلال فصل الشتاء”.

وأردف “إنه إعلان حرب لم يصادق عليه الكونغرس، وهي عملية عديمة الأخلاق بالكامل، وغير دستورية بكل ما للكلمة من معنى. وربما عملية إجرامية” (مقابلة أجراها بوليتانو مع شبكة “ذي بوست ميلينيا – The Post Millenia” الكندية، 13 شباط/فبراير 2023).

نسوق ذلك للتمهيد إلى استنتاجات توصلت إليها هيئة تحرير صحيفة “واشنطن تايمز”، في مقالها المنشور، تسلط فيه الضوء على قرار البيت الأبيض بالتخطيط لعملية التفجير وتنفيذها بسريّة عالية، من بينها: “ازدياد مداخيل الطاقة لروسيا بنسبة 28% في عام 2022، بالرغم من خسارتها لصادراتها الأوروبية”. ودقت هيئة التحرير ناقوس الخطر لدى صنّاع القرار في واشنطن بأن استهدافهم لروسيا دفعها إلى التوجّه شرقاً وتشكيلها حلف أوراسي، ما “ينذر  بتهديد هيمنة الغرب على الوضع الجيوسياسي العالمي”. واردفت “كيف يمكن اعتبار ذلك في مصلحة الولايات المتحدة؟”

وأضافت الصحيفة اليمينية أن “تحقيقاً أجرته ألمانيا لم يتوصل إلى أي دليل يثبت تورط روسيا في الكارثة”، تواكبه تصريحات الرئيس جو بايدن العلنية بأنه “إن أقدمت روسيا على تنفيذ الغزو (لأوكرانيا) لن يكون هناك خط سيل -2 الشمالي بعد الآن. وسنقوم نحن بالقضاء عليه” (صحيفة “واشنطن تايمز”، 13 شباط/فبراير 2023).

إذن، ما هي طبيعة الرد الروسي وفق الحسابات الأميركية على عملية تفجير سرّية، استمرت من 26 إلى 29 أيلول/سبتمبر 2022، من دون ترك إي دليل يحدد هوية الفاعل: معادلة عمل تخريبي تقابله أعمال تخريبية ضد أهداف أميركية منها بناها التحتية، أيضاً من دون ترك أدّلة ميدانية. ولن تسلم منشآت مصافي النفط والغاز الأميركية من رد الفعل المنظور.

كما باستطاعة روسيا إعاقة سيل الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا وتدميرها لمنع وصولها إلى الميدان. وربما، بحسب البعض، تقدم موسكو على اختراق إلكتروني لشبكات النقل الأوروبية للتأثير على جهود إيصال معدات حلف الناتو العسكرية براً إلى كييف.

أشدّ ما تخشاه واشنطن، وامتداداً حلف الناتو، تراجع صدقية سرديتها بأنها تخوض “حرباً عادلة ضد خصم أو خصوم يريدون بها السوء”، وتزعزع قناعة جمهورها بأن عليه “التمسك” بالسردية الرسمية ورفض كل ما يصدر عن الطرف الآخر.

لعل تقرير سيمور هيرش يضع لبنة سنمّار الأولى في جدار الهيمنة الغربية، والأميركية تحديداً، على وسائل الإعلام والتوعية الجماهيرية، خصوصاً في ظل توفرّ بدائل أخرى متواضعة بالمقارنة.

2023-12-02-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

منطاد صيني تقليدي “متجوّل”
يكشف ثغرات التقنية الأميركية

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

            أزمة صامتة تشكّلت بين أقطاب المؤسسة الحاكمة الأميركية، ببُعديها التقني/الاستخباري والسياسي، على خلفية تحليق منطاد هوائي للصين في عمق الأجواء الأميركية وبعض المواقع في كندا، أتاحت الفرصة لتجدد توجيه اتهامات إلى الرئيس بايدن بـ “التقصير في أداء الواجب”، والمزايدات الحزبية.

قرار الرئيس بايدن بإسقاط المنطاد الهوائي بصاروخ “سايدويندر”، يوم 4 شباط/فبراير الحالي، والذي تبلغ كلفته وحده 380،000 دولار، لم يشفِ غليل النخب السياسية والفكرية أو النبض الشعبي، بشكل عام، للتوقف عند ملابسات المنطاد. بدأت الاتهامات تأخذ منحى أعمق تدريجياً، خصوصاً بعد إقرار “رئيس قيادة القوات الشمالية – نورث كوم”، الجنرال في سلاح الجو، غلين فان هيرك، بأن المؤسسة العسكرية “فشلت في التحرّي والكشف عن منطاد تجسسي من الصين” (يومية “ميليتاري تايمز”، 7 شباط/فبراير 2023).

نظراً إلى الطبيعة السرّية للبيانات التقنية الخاصة بنظم الدفاع الجوّي الأميركي، لكن المتوفّر منها، وهو شذر ضئيل، يتيح للمرء الاطلاع على أفاقه المحدودة، إذ تنشر الولايات المتحدة نظام “الاعتراض من الأرض”، يغطي أراضيها الشاسعة، ويتكوّن من وحدتين قادرتين على تصويب 44 صاروخاً: الأولى منشورة في قاعدة “غريلي” بولاية ألاسكا، والثانية في قاعدة “فاندنبيرغ” الجوية بولاية كاليفورنيا. ويشير بعض الخبراء العسكريين إلى قصور بنيوي في ذاك النظام كونه “لا يعمل على نحو موثوق، وهناك مخططات لترميمه في المستقبل” (تقرير لمعهد الدراسات الدولية والاستراتيجية بعنوان “نظام اعتراض من الأرض”، 26 تموز/يوليو 2021).

يعزز نظام الاعتراض من الأرض سلاح “ثاد – وهي منظومة دفاع جوي صاروخي، أرض – جو”، نطاق فعاليته يبلغ نحو 125 ميلاً، 200 كلم، ينتشر في  3 مواقع: قاعدة فورت بليس بولاية تكساس، هاوايي وجزيرة غوام. كما نشرت واشنطن تلك المنظومة في كل من كوريا الجنوبية والسعودية والإمارات. ويضيف الخبراء بالشؤون العسكرية أن “ثاد غير صالح كمنظومة دفاعية للأراضي الأميركية”، لكن باستطاعته توفير الحماية المطلوبة لمنشآت حيوية استراتيجية مثل “العاصمة الأميركية”.

أما في الأبعاد السياسية، فتزدحم التكهنات بمواكبة دخول أطياف سياسية متعددة للإدلاء بدلوها. ما يهمنا بالدرجة الأولى هو سبر أغوار الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة، والمتضمّنة في ثنايا تقارير وزارة الدفاع الدورية والسنوية، أبرزها “المراجعة الرباعية للدفاع”، التي تنجز كل 4 سنوات، تسلط فيها الجهود على مواجهة “متعددة الأوجه والأبعاد” مع روسيا والصين.

في مراجعة سريعة لأرضية التقارير “الرباعية”، بشّر البنتاغون العالم بنيّة الولايات المتحدة شن “حرب طويلة مع شركائها وحلفائها بالتزامن وفي مناطق متعددة”، ضد ما أسمته “الإرهاب الدولي”، لعام 2006. ثم “تطورت” إلى “تنافس القوى العظمى، وليس الحرب على الإرهاب”، بحسب تقرير مفصّل صدر عن المحاسب العام للبنتاغون، ديفيد نوركويست، بتاريخ 12 شباط/فبراير 2018، ممهّداً الوعي العام لتقبل تخصيص ميزانيات عالية للبنتاغون من شأنها “عكس سنوات من مسار تدهور القوات العسكرية”.

“المنافسة” الأميركية مع الصين تحديداً اتّسمت بخط بياني في اتجاهين: تحقيق الصين اختراقات أمنية متعددة، أبرزها “القبض على طائرة تجسس إلكترونية بكامل معداتها تابعة لسلاح البحرية الأميركية من طراز EP-3، تعمل لمصلحة وكالة الأمن القومي”، 1 نيسان/إبريل 2001؛ وقرصنة قاعدة بيانات “مكتب إدارة الموارد البشرية”، وسيطرتها على نحو 22 مليون سجّل تضمنت “معلومات حديثة لعدد هائل من المسؤولين الحاليين والسابقين في الأجهزة الأميركية المتعددة، وربما بيانات تخص ضباط الاستخبارات” (نشرة “تاسك آند بيربوس” – Task and Purpose المتخصصة في الشؤون العسكرية، 6 شباط/فبراير 2023).

الغموض يكتنف النشاطات التجسّسية الأميركية ضد الصين، خصوصاً في وسائل الإعلام المتعددة، لكن الثابت أنها بمجملها تستند إلى التقنية المتطورة والحرب الإلكترونية. منذ تسلم الرئيس جو بايدن مهام منصبه، مطلع عام 2021، أطلق موجه من التدابير ضد الصين، بعضها لتحييد بعض معارضيه في الحزب الجمهوري، وبعضها الآخر يصب في عمق العلاقات التجارية المعقّدة بين واشنطن وبكين.

وأطلقت الإدارة الأميركية مشروع “مراجعة الأمن”، على خلفية الجدل الواسع بشأن منصة “تيك توك” للتواصل الاجتماعي، والمملوكة للصين، وتراجع سلفه الرئيس ترامب عن اتخاذ إجراءات عقابية ضدها  في أوج حملة الانتخابات الرئاسية خشية خسارة تأييد قطاعات واسعة من الجيل الناشئ دائم الاستخدام للمنصّة. وعلّقت صحيفة  أميركية نافذة على مشروع  المراجعة الأمنية بأن “نتائجه ما زالت غير منشورة” (“واشنطن بوست”، 30 تشرين الثاني/اكتوبر 2022).

وفي هذه الأثناء تتوارد بعض التفاصيل الكاشفة عن قصور الأجهزة والمعدات الأميركية، نورد منها: رئيس “نورث كوم” المشرفة على مراقبة الأجواء الأميركية وحمايتها، غلين فان هيرك “لم نستطع الكشف عن تلك التهديدات، وذلك ثغرة معرفية في المنظومة (الحالية). وأبلغتنا الأجهزة الاستخبارية بالأمر بعد فوات الأوان”. واضاف “حلّق المنطاد على علوّ 60،000 قدم، بلغ طوله 200 قدم، وعلى متنه أجهزة استشعار ومعدات أخرى تقدّر أنها بحجم  طائرة نقل (متوسطة) زنتها تفوق 2000 رطل” (يومية “مليتاري تايمز”، 6 شباط/فبراير 2023).

مؤسسات إعلامية نافذة نقلت عن “مسؤولين أميركيين بأن منطاد الصين التجسّسي كان يحلق بمحركات لمساعدته على تقويم مساره” (“واشنطن بوست”، 4 شباط/فراير 2023).

وفي غياب المعلومات الدقيقة حول مكوّنات المنطاد، باستثناء ما يتلفظ به “مسؤولون” لم تحدد هويتهم، لم يستطع أحد كبار الخبراء، استاذ علوم الهندسة والطيران في جامعة كولورادو، إيان بويد، تأكيد تلك التصريحات، مكتفياً بالقول: “أن تم التأكد من ذلك (التحليق بمحركات)، فمعناه وجود مشغّل بشري لديه قدرة سيطرة كبيرة على مسار التحليق” (نشرة “نيكد كابتاليزم – Naked Capitalism” الإلكترونية، 5 شباط/فبراير 2023).

بعض خبراء الشأن الصيني في مراكز الأبحاث سعى للإضاءة على زاوية مختلفة من “التنافس” الصيني الأميركي، بالقول “لا تعتمد الصين على نموذج معيّن من سبل التجسّس، وهو ما يفسّر لماذا أرسلت منطاداً للتجسّس فوق الأجواء الأميركية، وفي الوقت نفسه تسخّر اساليب تجسّس أخرى ضد الحكومة الأميركية، ضمنها أقمار اصطناعية خاصة بالتجسّس” (نقلاً عن “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية”، مقابلة مع دين شينغ، مستشار كبير لمشروع الصين في “المعهد الأميركي للسلام”، 3 شباط/فبراير 2023).

التساؤل العام “لماذا لجأت الصين إلى التجسّس عبر منطاد هوائي” يبقى مفتوحاً، بالرغم من تأكيد بكين بأنه منطاد لدراسة الأحوال الجوية خرج عن مساره بفعل الدفع الهوائي القوي في ذلك العلوّ. ويرجّح بقوّة أن بكين رمت “إطلاق رسالة سياسية” معينة من وراء ذلك “لدغدغة” الأوساط الأميركية، وامتداداً الكندية أيضاً، بتأكيدها على قدرتها التقنية على التحكم في مسار تحليق يثبت عند نقطة معينة، ويتيح لها التقاط معلومات مفصّلة لا تستطيع الأقمار الاصطناعية القيام بها من حيث الدقة والشمولية، خصوصاً سيره فوق قاعدة “مالمستروم” الجوية في ولاية مونتانا، والتي تستضيف الفصيل الدفاعي الأميركي، الجناح 341 الصاروخي، المكلّف بتفعيل الصواريخ النووية الباليستية العابرة للقارّات.

وجاء تصريح رئيس “نورث كوم”، غلين فان هيرك، صادماً لعموم المؤسسة العسكرية والسياسية الأميركية بالقول: “تنصبّْ جهود الحكومة (الرسمية) الآن على ما يمكنها تعلّمه من قدرات هذا المنطاد التجسّسي”، بمواكبة تصريحات غاضبة لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، بأن الصين أرادت “مراقبة مواقع استراتيجية في عموم الأراضي الأميركية”.

 

هل من رد صيني محتمل؟

نددت الصين بإسقاط المنطاد وطالبت واشنطن بأن تعيد الحطام بوصفه ملكية صينية، ويعتقد بعض المحللين أنه بمقدورها الرد بأشكال مختلفة، إن رغبت بالتصعيد، انتظاراً للحظة المناسبة . ومروحة الردود الصينية متعددة، من امكانية اسقاط قمر تجسّسي أميركي، عنما يحلّق فوق الفضاء الصيني، أو الإستيلاء المسلح على سفينة للبحرية الأميركية، عندما تدخل مياه بحر الصين الجنوبي، أو إرغام أي طائرة أميركية على الهبوط حين تدخل ما تعدّه اجواءها فوق بحر الصين أيضا.

2023-01-02-التقرير الأسبوعي

واشنطن: شكوك بفعالية
إمدادات الناتو بدبابات لأوكرانيا

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

اتقّاد حماسة القادة الأميركيين، من سياسيين وعسكريين، لإعلاء آلة القتل العسكرية في أوكرانيا، وتزويدها بمدرّعات حديثة وأسلحة فتاّكة أخرى، جوبه بتحذير من أبرز أذرع وزارة الدفاع الفكرية، مؤسسة “راند”، ومفاده أنه يتعيّن على صنّاع القرار في واشنطن تفادي الانخراط في حرب طويلة، وكأنها تعيد إلى الأذهان تدرّج واشنطن في حربها على فيتنام.

في أحدث دراسة صدرت عن المؤسّسة جاء بصريح العبارة إن “المصالح الأميركية تتحقّق بفضل الامتناع عن الدخول في صراع طويل الأجل”. وأضافت “راند” أن واشنطن “ليس في وسعها وحدها تقرير طول أمد الحرب، لكنها قادرة على اتخاذ إجراءات من شأنها إنهاء الحرب عبر مسار تفاوضي حتمي” (دراسة بعنوان “تجنّب حرب طويلة:السياسة الأميركية ووجهتها بشأن صراع روسيا وأوكرانيا”، كانون الثاني/يناير 2023).

منذ مطلع العام الماضي، تحشد واشنطن دعم “حلفائها” الغربيين لمواجهة روسيا، اتعاظاً بتأكيد وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أن الهدف هو “إضعاف روسيا، وأن يؤدي غزوها (لأوكرانيا) إلى فشل استراتيجي” (لويد أوستن، نيسان/إبريل 2022).

وأتت دراسة “راند”، غلى الرغم من موضوعية استنتاجاتها، لتسليط الضوء على أولويات الاستراتيجية الأميركية في اتجاه مواجهة الصين، بحسب الاستراتيجيين الأميركيين، انطلاقاً من خشيتهم انعكاسات الحرب الأوكرانية على “انشغال كبار القادة السياسيين وتشتيت جهودهم” في وجهة غير محسوبة بدقة.

قرار الإدارة الأميركية، ونجاح جهودها الضاغطة على حلف الناتو، من أجل إمداد كييف بمدرعات حديثة، وبأعداد متواضعة، لقيا صدىً وتأييداً من المؤسسات الإعلامية المتعددة، ومن سياسيّي واشنطن وعسكرييها على السواء.

عبّرت شبكة “سي أن أن” الإعلامية عن رضاها كونه “قراراً بالغ الأهمية، وهدف الدبابات  ضرب القوات الروسية بقوّة في هجوم برّي”. واستدركت بالقول إن إرسال 31 دبابة من طراز  “آبرامز” الأميركية هو أمر “رمزيّ بصورة كبيرة، ووفّر مظلّة دعم الناتو لهذه الخطوة بشأن خرق الخطوط الحمراء” (26 كانون الثاني/يناير 2023).

وأقرّت الشبكة لاحقاً بقصور نوعية الإمداد من دبابات “آبرامز” لأن “خدمتها وصيانتها، عبر المساحات الشاسعة لأوكرانيا، تُعَدّان تحدياً صارخاً”، على الرغم من أن وصولها “سيستغرق وقتاً، ربما شهوراً” (تصريحات الرئيس الأميركي، جو بايدن، 25 كانون الثاني/يناير 2023.

لا يسود إلإجماع بين القيادات العسكرية المتمرّسة بشأن “خرق الخطوط الحمراء”. فلقد أعرب الضابط المتقاعد في سلاح الجيش، دانيال ديفيس، عن اعتقاده أن التهويل هو “عملية إعلامية بحتة، ولن تُغيّر في الوضع الميداني الحقيقي”، فضلاً عن محدودية فعاليتها (موقع “بريتبارت”، 30 كانون الثاني/يناير 2023).

ربما الأهم في التصريحات العسكرية المتتالية ما جاء على لسان الفريق  المتقاعد من سلاح الجيش، مارك هيرتلينغ، و”المحلل العسكري” لدى شبكة “سي أن أن”، ومفاده أن تزويد كييف بمعدات عسكرية “فكرة خاطئة”.

وأوضح هيرتلينغ في وقت سابق أن القوات الأوكرانية ما زالت تقاتل وفق عقيدة سوفيتية وتسليح غربي، الأمر الذي يضاعف تعقيدات مساعي التدريب والاندماج الميداني بالسرعة المطلوبة.

أمّا ما يتعلق بتزويد أركان حلف الناتو، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وامتداداً بولندا، لكييف بعدد محدود من مدرّعاتها العسكرية فأضحى مثاراً للسخرية: بريطانيا، 14 دبابة تشالينجر “عقب مكالمة هاتفية بين (رئيس الوزراء) ريشي سوناك وزيلينسكي”؛ فرنسا، 10-12 دبابة لوكلير؛ ألمانيا، 14 دبابة من طراز ليوبارد؛ بولندا، 14 دبابة ليوبارد.

أمّا الدبابات الأميركية الموعودة، آبرامز، فسيتم نزع عدد من المواصفات التقنية، كالتدريع المتطور قبل دخولها الأراضي الأوكرانية، بينما أُحيلت دباباتها، من طراز “برادلي”، على التقاعد في الترسانة الأميركية، والتي مضى عليها نحو 40 عاماً من الخدمة الفعلية، وقد ترسل نحو 50 دبابة.

اللافت أيضا ما نقلته يومية “إندبندنت” البريطانية بشأن دبابات “تشالينجر”، ومفاده أن رئيس الوزراء السابق، بوريس جونسون، “أراد التخلص منها لاعتقاده أنها لم تعد مجدية في المعارك”، وأنه ألغى بند تمويلها خلال مراجعة لميزانية الدفاع البريطانية لعام 2021 (صحيفة “اندبندنت”، 18 كانون الثاني/يناير 2023).

الدعوات الأميركية “الخافتة” للبيت الأبيض إلى السعي لإنضاج مناخ حوار تفاوضي بين موسكو وكييف جاءت على لسان أعلى القيادات العسكرية مرتبة، رئيس هيئة الأركان المشتركة، مارك ميللي، يحث فيها على التفاوض، قائلاً إن “انتصار أوكرانيا قد لا يتحقق عسكرياً، وفصل الشتاء قد يوفّر فرصة (لها) من أجل بدء مفاوضات مع روسيا” (خطاب أمام “النادي الاقتصادي لنيويورك”، تشرين الثاني/نوفمبر 2022).

لعلّها من الفرص النادرة أن يشهد المرء تبايناً واضحاً يصل إلى حدود الانشقاق بين توجهات القيادات العسكرية الأميركية وصناّع القرار السياسي، لكنها تدلّ على حقيقة الشرخ بين الطرفين في الفترة الزمنية الراهنة، وأن مستشاري الرئيس بايدن من “ثلاثي” المحافظين الجدد لهم الأولوية، كما يتردد بقوة، وهم: مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ووزير الخاجية توني بلينكن، ونائبته فيكتوريا نولاند.

وأكدت نولاند، في مثولها أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، عزم الإدارة على استمرار دعمها أوكرانيا، التي “يجب الّا تبقى في قيد الحياة فحسب، بل أن تخرج من الحرب أشد بأساً وأكثر ديموقراطية ودولة أوروبية، وتخدم مصالحنا القومية” (نص شهادتها بتاريخ 7 كانون الأول/ديسمبر 2022).

وفي أحدث تصريح لها أمام تلك اللجنة في مجلس الشيوخ، أكدت نولاند مجدداً أن إدارة الرئيس جو بايدن تريد “ضمان حيازة أوكرانيا ما تحتاج إليه من معدات دفاعية، ليس بهدف تأكيد قدرتها على فرض انسحاب روسي فحسب، بل أيضاً من أجل ضمان عدم قدرة (الرئيس) بوتين على إعادة تشكيل قواته والتقدم مجدداً” (شهادة نولاند أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، 26 كانون الثاني/يناير 2023).

2023-25-01-التقرير الأسبوعي

إخفاء بايدن وثائق سرّية
قد ينهي ولايته بفضيحة جديد

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

تدرّج العثور على وثائق بالغة السرية بحيازة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تعيين محقق خاص من قبل وزارة العدل، أثار جدلاً داخل قادة الحزب الديموقراطي بشأن فرصة تجديد انتخابه لولاية رئاسية ثانية، بالتزامن أيضاً مع عزم قادة الحزب الجمهوري المضي في التدقيق بمسار الرئيس سمّوه بـ “قمة الفساد” وسوء استخدام منصبه السياسي لإثراء نجله هنتر.

ربما هي المرة الأولى في تاريخ الكيان السياسي الأميركي التي يخضع فيها رئيسان، سابق وحالي، لإجراءات تحقيق متزامنة بتُهم مشابهة، فساد وحيازة وثائق سرية بعد مغادرة البيت الأبيض، وميل الرئيس بايدن وقادة حزبه إلى القفز عن تداعيات حيازة الوثائق، بحسب التسريبات الأخيرة، حتى لو أدت ذلك إلى إنهاء ملاحقة خصمه الرئيس ترامب. كل ذلك يعد بخلط شديد لأوراق الحزبين في البحث عن مرشح رئاسي يحظى بالتأييد وحسن السيرة.

ما يميّز تهمة حيازة الوثائق السرية بين الرئيس السابق دونالد ترامب ونائب الرئيس آنذاك جو بايدن النصوص الدستورية التي تتيح لرئيس البلاد صلاحية تصنيف أو إزالة التصنيف السرّي عن وثائق الدولة، لكن نائب الرئيس لا يتمتع بصلاحية مشابهة. اما صلاحيته الدستورية فهي محصورة في ترؤسه جلسة مجلس الشيوخ، وتسلم مهام الرئيس في حال الوفاة. ويتيح الدستور لرئيس البلاد تسليم وثائق لنائبه، وتنتهي صلاحية هذا البند مع مغادرتهما البيت الأبيض، في 20 كانون الأول/يناير السنة التالية للانتخابات.

الكشف المتسلسل “بالقطّارة” عن وثائق سرّية بحوزة نائب الرئيس جو بايدن، آنذاك، القت ظلالاً من الريبة على صدقيته وبقائه إلى نهاية ولايته الرئاسية. المتاعب الناجمة عن ذلك أدخلت توصيف “تحديات سياسية غير مسبوقة” على مستقبله السياسي. يسود القلق أيضاً قادة الحزب الديموقراطي لما عدّوه حملات إعلامية للبيت الأبيض لـ “صرف انتباه غير مرحّب به” بالتزامن مع جهود فاشلة لاحتواء الضرر (نشرة “ذي هيل”، 16 كانون الثاني/يناير 2023).

وعد الرئيس بايدن بإعلان نيته خوض جولة الانتخابات الرئاسية المقبلة في شهر آذار/مارس المقبل. أما بعد ملاحقته في سلسلة من الفضائح والتحقيقات، وهبوط مؤشرات شعبيته إلى نحو 44% (بحسب موقع “فايف ثيرتي إيت FiveThirtyEight”، فقد يفسح المجال واسعاً لمرشحين آخرين، واستعداد التيار الليبرالي داخل الحزب الديموقراطي دخول السباق الرئاسي، كما أعرب السيناتور بيرني ساندرز والذي سيتخذ قراراً بشأن ذلك في الأسابيع المقبلة.

 

فرصة لدخول عناصر جديدة على السباق الانتخابي؟

حالة التردي لدى الحزبين وانعكاس فسادهما على عموم المسار السياسي قد يحفّزان عناصر “جديدة” على دخول السباق الرئاسي، وربما من خارج مراكز القوى في واشنطن، أسوة بالرئيس السابق دونالد ترامب. لعلّ الأهم من كل ذلك هو الفرصة التي يحتاجها الحزبان لتجديد أمل الكيان السياسي وضخ “دماء جديدة” بعد فترات متتالية من الترهّل وإعادة إنتاج السياسات السابقة ورموزها في آن واحد.

سيلقي الرئيس بايدن خطابه السنوي عن “حال الأمة” مطلع الشهر المقبل، وربما إعلان نيته للترشح للانتخابات الرئاسية، فيما الأجواء متلبّدة بمشاعر الشكوك، بالرغم من تأكيده أن الأزمة الناجمة “تافهة، والشعب الأميركي لا يدرك حقيقة ما يجري”، في حين أعربت غالبية لافتة من الشعب الأميركي، 60%، عن عدم ثقتها بتصرف الرئيس (يومية “يو أس إيه توداي”، 22 كانون الثاني/يناير 2023).

جوهر قلق قادة الحزب الديموقراطي يتمثّل في تخبط البيت الأبيض في ثنايا سعيه لاحتواء المسألة، إذ صدر بيان رسمي مطلع الشهر الجاري “يقرّ بوجود وثائق سرّية في مكتب خاص في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، لكنه تجاهل الكشف عن مجموعة ثانية من الوثائق كانت مخزّنة في منزل الرئيس الخاص” في ولاية ديلاوير، في نهاية شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، ومراهنة فريق الرئيس بايدن على أن “الإعلان التام لن يخفف من وطأة الغضب العام” (شبكة “سي أن أن”، 23 كانون الثاني/يناير 2023).

في خطوة تبدو هامشية بعض الشيء هي طريقة تعامل مكتب التحقيقات الفيدرالي، أف بي آي، مع كلا الرئيسين، ترامب وبايدن، وسريان شكوك الشعب الأميركي في وظيفة جهاز الأمن الداخلي بأنه يكرّس “وجود معادلتين للعدالة: الأولى للنخبة والثانية للعامة”.

في حالة الرئيس ترامب أقدم الجهاز على “دهم” منزله الخاص في فلوريدا، أما في الحالة الثانية فقد “وافق الرئيس على تفتيش منزله الخاص من قبل الـ أف بي آي”، بعد توصل فريق مستشاريه الضيّق إلى استنتاج أن دخول المكتب على الخط “أمر حتمي” (“سي أن أن”، 23 كانون الثاني/يناير 2023).

اللافت أيضاً تجدد اتهامات قادة الحزب الجمهوري لمكتب التحقيقات الفيدرالي بأنه “اليد الطولى للبيت الأبيض” ومحاباته سياسات الحزب الديموقراطي، وأنه يجب أن يخضع للمساءلة وربما مواجهة دعوات إلى حلّه، بالرغم من عدم توفر أفق نجاحها في الفترة الحالية.

توجهات قادة الحزب الجمهوري ستطال وزير العدل، ميريك غارلاند، على خلفية قراره “دهم” منزل الرئيس السابق ترامب، وتلكئه في ملاحقة نجل الرئيس هنتر بايدن، وإعادة فتح ملف فسادهما مجددا، بصرف النظر عن المدى الذي سيذهب فيه التحقيق ونتائجه المرتقبة. لكن الثابت أنها ستعمّق مآزق الرئيس بايدن، وتشديد الضغط على قادة الحزب الديموقراطي لتقديم مرشح رئاسي آخر.

وتم الكشف مؤخراً عن “تورط” وزير العدل في التغطية على وثائق الرئيس بايدن، وقد “أعدّ لتجاهل بعض تفاصيل التحقيقات الجارية”، خلال الإعلان الرسمي  واضطراره إلى الكشف عن الدفعة الثانية من الوثائق التي “تم العثور عليها قبل ذلك ببضعة أسابيع، وكان البيت الأبيض يعرف ذلك” (شبكة “سي أن أن”، 23 كانون الثاني/يناير 2023).

 

المرشحون المحتملون للحزب الديموقراطي

من بين المرشحين الديموقراطيين المحتملين في المدى القريب يبرز حاكم ولاية كاليفورنيا، غافين نيوسم، الذي يصنّف ضمن التيار الليبرالي لكنه يعدّ “يسارياً متشدداً”، وفق السردية الرسمية السائدة في المجتمع الأميركي.

المرشح الآخر “كان” وزير المواصلات بيت بوتيجيج، لكن تلكؤه في معالجة أزمة إلغاء شركة الطيران الداخلي، “ساوث ويست”، لمئات من رحلاتها ما تسبب في إلحاق الضرر بعدة آلاف من المسافرين خلال بضعة أيام، فضلاً عن إخفاق المناشدات الشعبية والحقوقية لتدخله العاجل في حثه على اتخاذ قرار بشأنها، ترك انطباعاً عاماً بتورطه أو خضوعه لخيار أولوية كبريات الشركات على حساب السلامة العامة.

لعل الحكمة السياسية تقتضي تريّث بروز أي مرشح محتمل في المدى القصير حتى تتضح جملة من المسائل، أهمها، ما سينطق به الرئيس بايدن خلال خطابه السنوي وإن كان سيتضمن إعلانه عن مستقبله السياسي، ترشيحاً أو انسحاباً، ووجهة التحقيقات المثارة من قبل قادة الحزب الجمهوري وما قد تسفر عنه من فتح ملفات بعضها يتعلق بالاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة، وخصوصاً سياسة إجماع الحزبين في مواجهة الصين، التي تم الكشف مؤخراً عن تلقّي جامعة بنسلفانيا، التي تحتضن مركز أبحاث بايدن تبرعات من شخصيات صينية، وصلت إلى 61 مليون دولار.

سلوكيات خاطئة ارتكبها رؤساء أميركيين تسببت في إطاحتهم. الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على خلفية الكشف عن تسجيلاته في فضيحة “ووترغيت” لمحادثاته الرسمية بخلاف صلاحياته الممنوحة، والرئيس جيمي كارتر لدعمه شاه إيران قبل سقوطه بفترة وجيزة وما نجم عنها من احتجاز الرهائن الأميركيين الديبلوماسيين.

“فضائح” الرئيس بايدن لا تشذ عن مصير اسلافه، خصوصاً عند الأخذ بعين الاعتبار إصرار قادة الحزب الجمهوري على تقديم نجله هنتر للمساءلة والتحقيق نتيجة “فساد” والده إبّان ولايته كنائب للرئيس الأميركي، والإثراء غير المشروع الناتج من علاقة الأخير مع الحكومة الأوكرانية، قضائياً ومالياً.

2023-17-01-التقرير الأسبوعي

أزمة الكيان السياسي الأميركي:
انتصار باهظ الكلفة لرئاسة مجلس النواب

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

أفرزت جولة انتخاب كيفين مكارثي رئيساً لمجلس النواب الأميركي انشقاقات وتداعيات في المؤسسة السياسية الأميركية، ظاهرها لدى الحزب الجمهوري وانقسامه بين تيار “الأقلية” الموالي للرئيس السابق دونالد ترامب، وتيار المؤسّسة التقليدية.

كما أنها عكست حالة الانقسام الحاد في المشهد السياسي الأميركي، وما رافقها من فوضى داخل أروقة الكونغرس، ما ينذر بمعارك سياسية حادة في الدورة الحالية التي تنتهي بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية المقبلة، 2024.

من ابرز نتائج جولات الانتخاب الـ15 نجاح الرئيس السابق دونالد ترامب في البقاء النشط في المشهد العام بعد خسارة بعض مرشحيه في جولة الانتخابات النصفية، وقدرته على تقييد هامش المناورة للتيار التقليدي الحاكم، وكذلك لقراره حسم المعركة في مقابل تنازلات رئيس المجلس الجديد، منها إقرار “مؤيديه الأربعة”، من كتلة تضم 20 نائباً، سقف الميزانيات المقبلة المخصصة لأوكرانيا، وإدخال تعديلات إلى اللوائح الداخلية تتيح الفرصة لأي عضو بمفرده الطعن برئيس المجلس وحجب الثقة عنه لإزاحته.

رئيس المجلس الجديد، كيفين مكارثي، أثنى على صديقه اللدود قائلاً: “أدى الرئيس السابق دوراً حاسماً في انتزاع آخر الأصوات اللازمة” لانتخابٍ سلس. في خطابه، بصفته رئيساً للمجلس، حدد الأولويات السياسية المدرجة على جدول أعمال الحزب الجمهوري، ولم يرد فيها أي ذكر لأوكرانيا، لكنه أوضح بعد جولة الانتخابات النصفية في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 أن الجمهوريين في مجلس النواب لن يسمحوا للحكومة الأميركية بتقديم مساعدات مالية غير محدودة لها.

ما جرى من عصيان بعض النواب المنتخبين لتوجهّات القيادة التقليدية عُدّ من المحرّمات. إذ رأى رئيس مجلس النواب الأسبق وأحد أركانه الفكرية، نيوت غينغريتش، أنّهم “يلعبون بالنار ويسعون لإغراق الحزب الجمهوري بأكمله”، وقال: “ما شهدته البلاد يعدّ أكبر خطر نواجهه كحزب منذ عام 1964” (يومية “ذي هيل”، 2 كانون الثاني/يناير 2023).

“استراتيجية” الحزب الجمهوري، داخلياً وخارجياً، أرسى معالمها نيوت غيغريتش إبان رئاسته مجلس النواب في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، 1995 – 1998، وسمّاها “المعادلة الصفرية” التي لازمته وحزبه منذئذ. معادلة غينغريتش الشهيرة وصفها خصومه في الحزب الديموقراطي الذين تعاملوا معه بأنها “أعطت الأولوية لأسلوب المواجهة والتعطيل عوضاً عن التعاون وتقديم التنازلات المتبادلة”.

توقفت كبريات الصحف الأميركية مثل “نيويورك تايمز” عند تلك المعادلة الصفرية لتعيد تسليط الضوء على جذور بروز تيار “اقصى اليمين” وتأثيره على مسار الحزب الحزب الجمهوري، وجاء في تقريرها أنّ الانتصار الباهر الذي حققه نيوت غينغريتش في عام 1994 “أرسى نقطة بدء معادلة السياسة الصفرية التي انتجت حركة حزب الشاي في عهد الرئيس ترامب” (يومية “نيويورك تايمز”، 7 كانون الثاني/يناير 2023).

كشفت معادلة غينغريتش عن حقيقة ما يجري في أروقة السياسة وفي الغرف المغلقة وما ينتج عنها من قرارات بعضها مصيري. أولى ضحاياها كان تراجع النقاش المعمّق، والمطوّل أحياناً، في ما يطرح في جدول الأعمال من قضايا، واختفاءه تدريجياً، وصولاً إلى ما حدث بتصويت الأعضاء على قرارات صاغها قادة مجلس النواب من دون عناء قراءتها، “لكثافتها وقصر المدة الزمنية المتاحة” لمراجعة بضعة آلاف الصفحات المقدمة.

وقد جرت العادة تضمين تلك الوثائق السميكة بقرارات وتعديلات لمصلحة مراكز القوى الكبرى، من شركات ومصالح اقتصادية ومالية، وحرمان الأغلبية الساحقة من الشعب من الإطلاع عليها أو استيعابها.

إجراءات وآليات التصويت “الملتوية” داخل أروقة مجلس النواب، وامتداداً مجلس الشيوخ أيضاً، أضحت من مقدسات قيادات المجلس، بصرف النظر عن الولاء الحزبي. اشتهرت رئيسة المجلس السابقة، نانسي بيلوسي، بازدرائها محاولات طرح المبادرات للنقاش، ومن ثم التصويت عليها، ومعاقبة كل من يخرج عن سياستها بالإقصاء من اللجان العاملة أو خفض مرتبته التسلسلية وحرمانه من التحدث مباشرة إليها.

وبناءً عليه، جاء نفر قليل من أعضاء الحزب الجمهوري ليمارس تحديه للسّلطة بصورة علنية كشفت بعض مهازل السياسة الأميركية، خصوصاً في أحد مطالب تلك المجموعة “البسيطة” بطرح سحب الثقة من رئيس/ة المجلس.

لقد حافظت بيلوسي بشدة على نصوص اللوائح الداخلية التي تضع شروطا “غير عملية” أمام أعضاء المجلس للتصويت على إقالة رئيسه/رئيسته، وما أسفرت عنه جولة المواجهة الأخيرة من إلغاء تلك المادة في شقها التطبيقي.

في ظاهرها، تبدو مادة اللائحة الداخلية أعلاه إجراء عادياً لا يعوّل عليه كثيراً، لكن الممارسة الأبعد تطال صلب بنود الميزانيات المقدمة لمجلس النواب لإقرارها، والتي كانت تطرح ويصوّت عليها تلقائيا بحسب “أهواء” رئاسة المجلس وموازين القوى التي فرضتها.

وثمة تغيير نادى به بعض “الليبراليين” منذ عقود، فيما يخص التصويت على الميزانيات المقدمة، ولكنه اصطدم بكل مراكز القوى الممثلة في الحزبين، وقد يؤدي إلى إدخال بعض التعديلات من خارج إرادة المؤسسة الحاكمة.

أبرز القضايا الجدلية التي أضحت تخضع للمساءلة هي رفع سقف الديون الفيدرالية بنحو تلقائي لتمويل خطط الحكومة الأميركية، داخلياً وخارجياً. وقد صوّت مجلس النواب، في تركيبته الجديدة، على نقض مشروع تمويل سابق لهيئة الضرائب قيمته 70 مليار دولار، كان يرمي إلى إضافة نحو 87،000 عنصر إلى  كادر الهيئة. وستواجه هذه القضية مقاومةً ورفضاً جديداً في مجلس الشيوخ عند طرحها، لكنها تدلّ على عمق الأزمة السياسية في عدة مجالات.

تبادل الحزبين مراكز صنع القرار في مجلس النواب حالياً ترافقه تطبيقات مماثلة لبعض القضايا الخلافية بينهما، خصوصاً تلك التي اعتمدها الحزب الديموقراطي في التحقيق بممارسات الرئيس السابق ترامب ومحاولة تقديمه للمحاكمة، بصرف النظر عن حقيقة تلك الاتهامات، إذ سيلجأ الحزب الجمهوري، كما وعد قادته، إلى استهداف الرئيس جو بايدن واخضاعه للمساءلة والتحقيق، بدءاً بحيازته ملفات أمنية بالغة السريّة، وهي التهمة عينها التي دهمت بموجبها طواقم مكتب التحقيقات الفيدرالي مقر إقامة الرئيس ترامب، وليس انتهاءً بتهم تورطه ونجله هنتر بمخالفات مالية وقضايا فساد متعددة الأوجه.

ومن المرجح أيضا طرح مجلس النواب الجديد السلطات والصلاحيات المتاحة لمكتب التحقيقات الفيدرالي للتدقيق بهدف تحديد سطوته الأمنية، وتعتقد نسبة معتبرة من الأميركيين أنه أحد أذرع البيت الأبيض، وأنه يُسخّر ضد خصومه، إذ حذّر عضو المجلس عن الحزب الجمهوري، توم كول، زملاءه من سطوة الأجهزة الأمنية.

وقال كول: “شهدنا في الأعوام السابقة انتهاكات لحريات المواطنين الأميركيين المدنية اقترفتها السلطة التنفيذية (البيت الأبيض)، غالباً لدواعٍ سياسية”، مضيفاً أن مكتب التحقيقات الفيدرالي “دفع 3 مليون دولار لشركة “تويتر” لمراقبة مواطنين أميركيين” (تصريحات النائب في 12 كانون الثاني/يناير 2023).

تماسك الحزب الجمهوري، والنظام السياسي بأكمله، هو الآن بأيدي قلّة “غاضبة وصفرية”. ولعل تاريخه السياسي القريب يؤشّر على موجة جديدة من الإرهاصات قد تطيح القوى الصاعدة حالياً.

يشار إلى أن الصعود الباهر لنيوت غينغريتش عام 1979، آتياً من استغلاله حالة السخط وتذمّر الناخبين الجمهوريين من مستقبل البلاد، الذين وصفهم الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون بـ “الغالبية الصامتة”، أطاحته مراكز القوى في حزبه عام 1998، على خلفية تساهله وموافقته على “صفقة تحديد الميزانية الفيدرالية” مع الرئيس بيل كلينتون.

ما ينبيء به المستقبل القريب هو تمادي حالة عدم اليقين والتشاؤم، ونشوء أرضية خصبة لبروز تيارات أكثر تشدداً في توجهاتها  الداخلية والخارجية، يعززها الاستقطاب الحاد في المجتمع الأميركي.

2022-30-12-التقرير الأسبوعي

زيلينسكي في أميركا:
نقطة تحوّل وسط تباين الرؤى

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

ارتفع منسوب التكهّن السياسي في واشنطن لسبر أغوار  زيارة الرئيس الأوكراني “العاجلة” لها، وما تُضمره من نيات لدى الطرفين وأهدافهما في المديين القريب والمتوسط، وخصوصاً أمام إعلان البيت الأبيض مسبقاً عن تقديمه “حُزم دعم مالية وعسكرية” لأوكرانيا، علاوة على تسريبات مباشرة من كبار القادة العسكريين، ورئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميللي، والسياسيين المخضرمين أمثال هنري كيسنجر، بأن وجهة الحرب ينبغي أن تفضي إلى “تفاوض” على حل سياسي.

لم ينتظر المرء طويلاً، إذ سارع زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، إلى حسم الجدل وعناء التمحيص بتأكيده أن هدف “الدعم” الأميركي للحرب في أوكرانيا يأتي في صلب استراتيجية الهيمنة الأميركية، وقوله: “دعمنا المتواصل لأوكرانيا ليس صحيحاً أخلاقياً فحسب، لكنه أبعد من ذلك. إنه استثمار مباشر لتعزيز المصالح الأميركية الحيوية (موقع ماكونيل الإلكتروني في مجلس الشيوخ، 21 كانون الأول/ديسمبر 2022).

ولكي لا تبقى تفسيرات الدعم الأميركي لأوكرانيا حبيسة التكهنات أو المزايدات السياسية التقليدية، فقد ارتفعت أسعار أسهم كبريات شركات صناعة الأسلحة الأميركية بنسب ملحوظة في الفترة الزمنية الراهنة، لتؤكد مرة أخرى أن “الحروب تشكل فرصة مثالية لتكديس الثروة”. مثلاً، ارتفعت قيمة أسهم شركات “بي أيه إي BAE 37%، نورثروب غرومان Northrop Grumman 39%، جنرال دايناميكس General Dynamics 15%”.

على الرغم من شبه إجماع أعضاء الحزبين، الديموقراطي والجمهوري، على معاداة روسيا واستنزافها عسكرياً، وتمهيد الرئيس بايدن وزعماء الكونغرس الأجواء بتقديم 45 مليار دولار مساعدة لأوكرانيا، فإن مشاعر القلق بدأت تتسرّب لدى البيت الأبيض من “إمكانية” معارضة بعض أعضاء الكونغرس تمويل كييف وآلية تمرير أموال الدعم المقصودة كجزء مدرج في الميزانية السنوية التي كانت بانتظار التصويت النهائي عليها قبل عطلة أعياد الميلاد، وغياب بعض أعضاء الحزب الجمهوري عن الجلسة المشتركة لدواعي العاصفة الثلجية القاسية.

وهنا، يشير المراقبون إلى استغلال رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، نفوذها بدعوة “عاجلة” للزائر الأوكراني إلى إلقاء خطاب في جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس، أسهمت بدورها في تقليص حجم “تحفظ” البعض عن إدراج بند الدعم ضمن الميزانية السنوية، تفادياً لما قد تفرزه موازين القوى في الدورة المقبلة لمجلس النواب بعد فوز الحزب الجمهوري برئاسته.

لم يكن مستبعداً تقاطع توجّهات البيت الأبيض مع مفردات الرئيس الزائر بشأن إثارة نزعة العداء لروسيا لدى الأميركيين، وإشارته في مؤتمر صحفي مشترك مع بايدن بأن الشعب الروسي “همجي ولا إنساني”، أتبعها بخطاب شبيه أمام الكونغرس بأن روسيا “دولة إرهابية”، لقي صدى عند بعض أعضاء الكونغرس بالهتاف: “المجد لأوكرانيا”، سواء أدركوا أم لم يدركوا بأنه شعار حلفاء النازية من “القوميين” الأوكرانيين.

ويرى بعض المراقبين ما هو أبعد مما تقدم من مبرّرات رسمية بأن الرئيس جو بايدن وجّه دعوة إلى زيلينسكي لزيارة واشنطن كإجراء ضروري لحشد التأييد الشعبي الأميركي في مواصلة الحرب “مهما طال بها الزمن”، بحسب تعبير بايدن، وأيضاً لاختبار قبول الأميركيين قراره بتصعيد “وتيرة المواجهة العسكرية ضد روسيا في أوكرانيا”، وتسويق الحرب محلياً بأنها “حرب مفيدة” وتمثّل امتداداً للحرب العالمية الثانية.

أشار الرئيس جو بايدن بشكل غير مباشر إلى طبيعة قلق المؤسسة الرسمية الأميركية من إطالة أمد الحربفي مؤتمره الصحفي المشترك مع زيلينسكي، لافتاً إلى محاذير تقديم أسلحة أميركية متطورة لأوكرانيا بأن أعضاء حلف الناتو “لا يتطلعون إلى حرب مع روسيا أو إلى نشوب حرب عالمية ثالثة” (صحيفة “واشنطن بوست”، في مقالة رأي بعنوان “تباين رؤى زيلينسكي وبايدن بشأن المسار المقبل لأوكرانيا”، 22 كانون الأول/ديسمبر 2022).

بعبارة أشد وضوحاَ، شملت الزيارة مراجعة معمّقة لتداعيات الحرب وآفاقها قادها الطرف الأميركي، استناداً إلى “التسريبات” الداخلية المقصودة بالبحث عن سبل بديلة للحرب، أبرزها مسار ديبلوماسي متجدد، كما أشار  بذلك مباشرة رئيس هيئة أركان القوات الأميركية المشتركة، مارك ميللي.

في الطرف المقابل، سعى معسكر الحرب في الحزبين لاستغلال أجواء الزيارة بإعلان الدعم الأميركي بمبلغ يصل إلى 45 مليار دولار  واستثمارها في تأجيج الحرب مع روسيا، إرضاءً لغرائز العداء المتجذر لها، وتعبير اً عن رفض زعزعة نفوذ “القطب الواحد” على المسرح العالمي، وربما الأهم ضمان سيرورة آلة انتاج أسلحة الحرب الأميركية.

ما يعزّز استنتاج التوجه الديبلوماسي المحتمل هو ما أسفرت عنه مطالب زيلينسكي بدعم عسكري أميركي “بأسلحة متطورة” وضرورة رفع مستوى أداء القوات الأوكرانية لشن هجمات كبيرة العام المقبل، كما يروّج، بيد أن الحصيلة الفعلية لحزمة أسلحة “عيدية الميلاد” جاءت بعكس توقعاته، إذ أعلنت الولايات المتحدة عدم موافقتها على تقديم مدرعات حديثة من طراز “أم 1 آبرامز”، تعدّ، بحسب تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” بالغة التعقيد كسلاح نوعي في المعركة الجارية، وأن “لدى أوكرانيا ما يكفي من المدرعات” (يومية “واشنطن بوست”، 21 كانون الأول/ديسمبر 2022).

“عيدية الميلاد” الأميركية، بالرغم من ضخامة المبالغ المقدمة (45 مليار دولار)، التي توازي مجموع الدعم الفيدرالي الأميركي لنحو “43 ولاية” مجتمعة، شملت بطارية “يتيمة” من نظام الدفاع الصاروخي “باتريوت”، معززة بـ 8 منصات إطلاق، ستستغرق برامج التدريب عليها نحو “6 أشهر على الأقل”.

أما حصة أوكرانيا من المبلغ الإجمالي، 45 مليار دولار، فقد أوضحت بعض جوانبه سفيرة كييف لدى واشنطن، أوكسانا ماركاروفا، وقالت إنه يمثّل مجموع الدعم الأميركي لعام 2023، يُقطتع نحو 7 مليارات دولار رواتب “للمستشارين” الأميركيين العاملين لمصلحة أوكرانيا، وتتسلّم كييف حصتها البالغة 13 مليار دولار، إما بصورة سيولة مصرفية أو بصيغة بضائع مختلفة. وبناء عليه، سيبلغ مجموع الأموال الأميركية المخصصة “لدعم أوكرانيا” ما يفوق 100 مليار دولار.

ثمة مسألة أخرى تتعلق بالميزانية السنوية للحكومة الأميركية التي أقرها مجلس النواب، والتي بلغت “1.7 تريليون دولار”، منها نحو  62% مخصصة للإنفاق على القوات المسلّحة وأجهزة الأمن المتعددة. وبما يخص المواطن العادي “دافع الضرائب”، فإن ما نسبته 65% من ضرائب الدخل الفيدرالية يذهب للإنفاق على الحروب الخارجية، والحرب على المخدرات، وكلفة الجدار الفاصل مع المكسيك (مرشح حزب الخضر  لمنصب سيناتور عن ولاية نورث كارولينا، ماثيو هو، 28 كانون الأول/ديسمبر 2022).

سرت مشاعر الرضى لدى معسكر الحرب في واشنطن عقب استهداف القوات الأوكرانية أهدافاً حسّاسة بعيدة داخل الأراضي الروسية في الآونة الأخيرة، كثمرة قرار تصعيد واشنطن للحرب، ونتيجة مباشرة لزيارة زيلينسكي، وترجمة أيضاً لتصريحات الطرفين بضرورة تنفيذ “هجمات وقائية”.

أضاءت كبرى الصحف الأميركية على الجسارة الأوكرانية بالقول: “أوكرانيا تقصف بجرأة في عمق الأراضي الروسية، استناداً إلى تقييمها بأن القوات العسكرية لموسكو تقاتل إلى أقصى حدود قدراتها التقليدية. وباستثناء الخيار النووي، فإن الأسلحة الروسية لم تعد مؤثرة” في البنى التحتية أكثر مما هي عليه الآن (يومية “نيويورك تايمز”، 26 كانون الأول/ديسمبر 2022).

والجدير بالذكر في سياق التصعيد المتبادل ما كشف عنه وزير الخارجية الروسي،في نفس اليوم الذي نشرت فيه الصحيفة الأميركية، 26 كانون الأول/ديسمبر، بأن موسكو لا تزال تضع مسألة “تغيير نظام كييف” في جدول الأعمال، مطالباً الحكومة الأوكرانية ضرورة تطبيق الشروط الروسية المتمثلة بنزع سلاحها وتطهير الأراضي التي تسيطر عليها كييف من النازية … أما سوى ذلك، “فالمسألة ستتكفّل بتحقيقها القوات الروسية”.

على الرغم من اشتداد نبرة الخطاب الإعلامي لدى كل من موسكو وكييف وواشنطن، فإن من المنتظر ارتفاع أسهم الدعوات الداخلية إلى “الخيار الديلوماسي” التفاوضي. وقد يطرح هذا الخيار نفسه بقوّة في الساحة الأميركية في الفترة المقبلة، يعزّزه انشغال الشعب الأميركي “مجدداً” بتأمين مقوّمات الحياة اليومية التي تتدهور معدلاتها بوتيرة ثابتة، بصرف النظر عن البيانات الرسمية المفرطة في تفاؤلها لأداء الاقتصاد الأميركي، التي تنفيها تزايد معدلات العاطلين من العمل، الذين أضحوا خارج حسابات البيانات الرسمية بسبب طول مدة الانقطاع، مع ارتفاع مستمر لأسعار المواد الأساسية.

2022-19-12-التقرير الأسبوعي

من يطفيء النور في أميركا؟
منظمات محلية تحت المراقبة

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

مخاطر جدّية تهدد البنى التحتية الأميركية في الأسابيع الأخيرة، ما دفع وزير الأمن الداخلي، أليخاندرو مايوركاس، إلى تحذّير مراكز القوى من استمرار هجمات وأعمال تخريبية ضد المنشآت الأميركية وشبكات توليد الطاقة تحديداً، التي تنامت بعد انتهاء الانتخابات النصفية،

وقال “تعرضت بعض البنى التحتية لهجوم، تشير الأدلّة الأوليّة أنه كان متعمداً. نحن نعمل مع شركات الطاقة والمجتمعات المحلية بشأن هذا الامر”، موضحاً أن البيانات المسجّلة لدى السلطات الأمنية المختلفة تشير إلى هوية الفاعل/ين بأنها “ليست فرداً متطرفاً أو مجموعة صغيرة، بل تهديداً يغطي عموم البلاد” (في خطاب له في “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية”، واشنطن، 5 كانون الأول/ديسمبر 2022).

يُشار إلى تعرّض منشآت توليد الطاقة إلى سلسلة هجمات “متعمّدة” في ولايات الساحل الغربي، ولايتي واشنطن وأوريغون، خلال عطلة “عيد الشكر” الشهر الماضي، استهدفت نحو 5 محطات توليد، بحسب بيانات مكتب التحقيقات الفيدرالي، “أف بي آي”. وأقرّت الأجهزة المختصة بأن أضرارها الناجمة “شبيهة بما تعرّضت له محطات توليد الطاقة في ولاية نورث كارولينا”، في 3 كانون الأول/ديسمبر الحالي، والتي أسفرت عن انقطاع مفاجيء للتيار الكهربائي عن نحو 40،000 مواطن، وحلول الظلام وإغلاق المدارس في اليوم التالي.

الهجوم الأخير في الساحل الشرقي من البلاد، بحسب المصادر الرسمية، تمّ بإطلاق أعيرة نارية على محطتين لتوليد الكهرباء، بالقرب من أكبر مدن ولاية نورث كارولينا، شارلوت. السلطات المحلية تتعامل معه كحادث جنائي عقب اكتشافها سرقة بعض المعدات الخاصة في الأماكن المستهدفة، وأن “الفاعل أو الفاعلين على بيّنة تامّة بما سيسفر عنه من نتائج”.

اللافت أن ما تتعرّض له منشآت البنى التحتية من أضرار  حالياً يأتي في سياق الانقسامات الاجتماعية الحادة للمجتمع الأميركي، وذلك على خلفيات سياسية واقتصادية وتهميش منظّم للشرائح الاجتماعية الأوسع.

فقد شهدت ولاية كاليفورنيا في عام 2013 “هجمة منظّمة” أضرّت بمحطات توزيع التيار الكهربائي لأهم منطقة تؤوي قطاعات التقنية المتطورة، “سيليكون فالي”، استخدمت فيها أسلحة نارية “عالية الطاقة” لتدمير محوّلات التوليد، إضافة إلى محطة تقاطع الألياف البصرية وتعطيل سبل الاتصالات.

يذكر أن شركة “بي جي آند إي”، PG&E، الموردّ للطاقة في “سيليكون فالي”، أنفقت نحو 100 مليون دولار لتحصين محطات التوليد من الهجمات المعادية. لكن الأجهزة الأمنية بالتضافر مع الشركة المذكورة لم تعلن عن اعتقال أي مشتبه به في تلك الهجمات.

وجاء على لسان الأجهزة الأمنية المختصّة، في شهر شباط/فبراير 2022، أنها ألقت القبض وأدانت 3 عناصر “من العنصريين البيض” لتورّطهم في التخطيط لشن هجمات تستهدف محطات توليد الطاقة تؤدي إلى توقّف تام في عموم الشبكات المنتشرة في البلاد، والتي لو نجحت الخطة لاستطاعت شلّ الشبكة لعدة أشهر، وربما التسبب باندلاع حرب أهلية، بحسب المصادر الرسمية.

وكشفت تلك الأجهزة عن سلسة أخرى من “الاقتحامات والتشويش المتعمّد” لمحطات فرعية لتوليد الطاقة، خصوصاً في ولاية فلوريدا، التي شهدت نحو 6 حوادث تعدٍّ على منشآتها مؤخراً، بحسب بيانات الشركة المورّدة، “دوك إنيرجي”.

تساوقت النخب الفكرية والسياسية الأميركية مع السردية الرسمية القائلة بأن “أميركا تتعرّض لسلسة هجمات غامضة تستهدف قطاع نوليد الطاقة اسفرت عن انقطاع متواصل للتيار الكهربائي لمئات الآلاف من المواطنين”،  وقعت في 4 ولايات على الأقل في الأشهر الثلاثة الماضية، ورافقها تسليطها الضوء على قرصنة بيانات حديثة طالت بيانات هيئة الضمان الاجتماعي وسجلاتها، وما يشكّل مخاطر  على عشرات الملايين من المواطنين المسجلين لديها.

على الرغم من إقرار وزير الأمن الداخلي المتأخر، والذي حمّل المسؤولية لمجموعات يمينية متطرفة أميركية، وجّهت وسائل الإعلام الكبرى الاتهام مباشرة إلى الصين. ونقلت شبكة “أن بي سي” للتلفزة عن جهاز “الشرطة السريّة” ما “يعتقد بأن مجموعة قراصنة تدعى “APT41″ استطاعت التسلّل واختلاس نحو 20 مليون دولار من الأموال المخصصة لإغاثة المتضرين الأميركيين من وباء كوفيد”. وأفاد مسؤول الجهاز المذكور بمتابعة “أكثر من 1،000” قضية تحقيق عنوانها تقصّي تعاملات لاختلاس الأموال العامّة يديرها محليون وأجانب (موقع شبكة “أن بي سي”، 5 كانون الأول/ديسمبر 2022).

في الوقت نفسه، كشف تقرير المفتش العام لوزارة العمل الأميركية عن “ضياع نحو 20% من ميزانية قدرها 873 مليار دولار” مخصّصة لتعويض من فقد عمله بسبب الجائحة. وأوضحت “مؤسسة هاريتاج” اليمينية في دراسة أصدرتها بأن 4 ولايات صرفت نحو 350 مليار دولار من ميزانياتها المخصصة لمكافحة البطالة أنفقتها بغير وجه حق. (المصدر أعلاه).

نظرة سريعة على تناقض السرديات الرسمية الأميركية مع ترويج النخب الإعلامية والسياسية لأجواء معادية للصين وروسيا، على قدم المساواة، تدلّ على غياب الدليل المادي الملموس لاتهامهما، وصرف الأنظار عن تقصير  المسؤولين الأميركيين في أداء واجباتهم على الصعُد المختلفة.

تتجاهل النخب المذكورة جهودها الإعلامية السابقة في تحميل الحكومة المركزية الأميركية مسؤولية إهمالها ثغرات البنى التحتية الهشّة ولعدم تحديث خطوط شبكات الكهرباء، خصوصاً في مطلع عام 2014، عند اجتياج موجة صقيع قارص للبلاد “كشفت عيوب” شركاتها الكهربائية، وأسفرت عن إعلان حالة الطواريء في بعض الولايات “وتعطلت أعمال بعض مصافي النفط الحيوية، وتضررت شبكة المواصلات البرية والسكك الحديدية والجوية، وأقفلت الهيئات الحكومية، ما أدى إلى تعطيل وتيرة حياة نحو 140 مليون مواطن أميركي، إضافة إلى زهاء 100 مليون يقطنون الشريط الجنوبي المأهول من كندا”.

ايضاً وخلال تلك الحوادث أعلاه، سارعت الأجهزة الأمنية الأميركية إلى توجيه التُهم إلى الصين، لاعتقادها بأنها “ألحقت الضرر بـ 5 شركات نفط وغاز أميركية عملاقة”.

كشف تقرير صادر عن “مكتب المحاسبة الحكومي” نذرٌ يسير عن هشاشة الشبكات الأميركية التي “تتضمن عدداً من الثغرات المتراكمة، يعزى بعضها إلى تنامي اعتماد أجهزتها على جهود التحكّم عن بُعد، ما يتيح  الفرصة لعناصر التهديد (الكامنة) الدخول إلى تلك النُظُم وتعطيل محتمل للعمليات الاعتيادية” (تقرير بعنوان “تأمين شبكة توزيع الكهرباء الأميركية من هجمات إلكترونية”، 12 تشرين الأول/أكتوبر 2022).

ورأت الدراسة الرصينة أن جهود وزارة الطاقة لبلورة “خطط عمل وإرشادات لتطبيق استراتيجية وطنية (شاملة) لحماية الشبكة من الهجمات” أهملت إدخال “ميّزات أساسية وفاعلة في الاستراتيجية الوطنية”، وتجنّبت الخوض في عملية تقييم شاملة لجميع المخاطر التي تهدد الشبكة، على سبيل المثال.

كما انتقدت الدراسة “الوكالة الفيدرالية لتنظيم الطاقة”، Federal Energy Regulatory Commission، المشرفة على تنظيم خطوط نقل الكهرباء عبر الولايات، لعدم قيامها “باتخاذ تدابير لضمان تطابق معاييرها النموذجية مع الإرشادات الفيدرالية الخاصة بحماية البنى التحتية الحيوية، كما أن معاييرها المعتمدة لا تشمل إجراءات تقييم شاملة لمخاطر الأمن الإلكتروني”، خصوصاً لناحية ثبات مواقع محطات التوليد الفرعية ما يسمح للمجموعات المتطرفة التعرّف إلى نقاط الضعف الكامنة واستغلالها لتحقيق مآربها.

الحلقة المركزية المفقودة لسبر أغوار “هشاشة الشبكة وتآكل بناها التحتية”، في ذاك الكم الهائل من الدراسات المختصة، هي مسؤولية سياسة “خصخصة المرافق العامة”، من كهرباء وماء، عن تفاقم صلاحية الشبكة، والتي دشّنها الرئيس الأسبق رونالد ريغان، أرفقها بتخفيف قيود الإشراف الفيدرالي على أعمالها المتعددة، إضافة إلى تقليص حجم الاستثمارات الحكومية لتطوير الشبكات وتحديثها وحصر تلك المهمّة بالشركات الخاصة المعنية.

ومنذ تلك الأيام الخوالي، ومع ازدياد الطلب على التيار الكهربائي، بفعل التكاثر السكاني والنموّ المضطرد لقطاع التقنية المتطوّرة، يستمر تقصير الشبكة وعدم قدرة أجهزتها تلبية الاحتياجات المتواصلة.

لم تسلم الحكومة الفيدرالية المركزية من انتقاد “مكتب المحاسبة”، المشار إليه، بأنها “لا تملك استيعاباً جيداً لمديات انعكاس الهجمات المحتملة على الشبكة”، مطالباً أجهزتها المركزية من “وزارة الطاقة وبالتنسيق مع وزارة الأمن الداخلي، والشركاء في القطاع الخاص” إنجاز دراسة معمّقة تحدد فيها الثغرات الكامنة في شبكات التوزيع.