2022-02-11-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

تقييم جاهزية القوات الأميركية ..
فرصة لمزيد من الإنفاق العسكري

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

لا يحتاج المرء، سواء من ذوي الاختصاص أو الاهتمام العام، إلى الغوص عميقاً في وثيقة رسمية أميركية بشأن “استراتيجية الأمن القومي” لسبر أغوار جاهزية القوات العسكرية الأميركية، وخصوصاً لما جاء في معرض استنتاجاتها بأن وضع القوات العسكرية الراهن لا يمكّنها من مجاراة الصين وروسيا ومواجهتهما والانتصار عليهما، ممهّدة بذلك المسوّغات السياسية لتخصيص مزيد من الأموال للبنتاغون، الذي أضحت ميزانياته التراكمية الهائلة من دون سقف محدد. وكذلك استعادة لأجواء الحرب الباردة بصورة أكثر وحشية واصطفافات متقابلة يفصل بينها الضغط على الزناد.

تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن المتكررة بشأن أولويات الاستراتيجية الكونية لبلاده تلامس جوهر أولويات المسألة بدقة، وتخفّف عبء التيقّن بصدقية الدراسة من عدمها ، إذ يحرص الرئيس على حصر الأولويات وفق معادلة ثنائية للصراع في قطبين: أنصار “الديموقراطية والاستبداد”، واستنساخ المواجهات القديمة، وما يواكبها من تبسيط مخلّ بالظروف الدولية ومتغيراتها في إرساء أفق سياسي أكثر عدالة للقوى الأخرى الصاعدة.

الوثيقة استجابت لمطالب صقور الحزبين، الديموقراطي والجمهوري، لما يرونه من إجراءات ضرورية وعاجلة لاستعادة “القيم والاستثنائية” الأميركية، تتحقق عبر “الردع المتكامل” للقدرات الأميركية العسكرية والاقتصادية، وتعزيز مبدأ “منافسة استراتيجية لتشكيل مستقبل النظام الدولي” في مواجهة ما يفرضه ظهور الصين وروسيا من تحديات لواشنطن، أوضحها مستشار الأمن القومي جيك سوليفان للصحافيين قائلاً: “من الأهمية بمكان تحديد التحديات التي تفرضها الصين قبل فوات الأوان، وإذا فقدنا الفرصة في هذا العقد الزمني فلن نكون قادرين على مواكبة ذلك”.

مفهوم “الردع المتكامل”يستند إلى تسخير مجموعة كبيرة من القدرات والإمكانيات، ليس للولايات المتحدة فحسب، بل بانضمام حلفائها وشركائها إلى جهودها في مروحة واسعة من المجالات: العسكرية، بما فيها الفضائية، والاقتصادية، التقنية والمعلوماتية، الاستخبارية والأمنية، وكذلك الحضور الديبلوماسي.

أشارت الوثيقة إلى إيران ، في سياق فقرة تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، كـ “قوة استبدادية أصغر، تطور برنامجاً نووياً يتجاوز أي حاجة مدنية ذات مصداقية”. وحافظت كوريا الشمالية على مكانتها في عداء الولايات المتحدة لها، نظراً إلى  “برامج الأسلحة الصاروخية والنووية غير المشروعة”.

في التفاصيل استندت الإدارة الأميركية إلى دراسة بحثية صادرة عن أحد أبرز مراكز الأبحاث ذات التوجه المتشدد في القضايا الدولية، مؤسسة “هاريتاج”، سارعت وسائل الإعلام المختلفة إلى التركير على أبرز نتائجها بأن أوضاع “القوات العسكرية الأميركية تواجه مخاطر متزايدة لناحية عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها للدفاع عن المصالح الحيوية الأميركية”.

واستطردت في انتقاد سلاح الجو الأميركي الذي “تميّز” بقدراته وعقيدته سابقا، والآن يصنّف بأنه “بالغ الضعف”. كما تعرّض سلاح البحرية للتصنيف الضعيف بعدما شهد أوجه في مراحل سابقة، وبسط سيطرته العالمية إذ “اضحت المحيطات والبحار بحيرات تجوبها القوات الأميركية”.

واستثنت الدراسة المطوّلة “سلاح مشاة البحرية – المارينز” من الانتقاد والتشديد على سلامته كقوة معتبرة لتحقيق مهمات الاستراتيجية الأميركية المطلوبة.

كما قفزت الدراسة، في صيغتها المعلنة، عن خطر داهم يهدد الأمن الوطني والسلم الأهلي يمثله “الإرهاب الداخلي”، وتزايد مضطرد أيضاً في حوادث إطلاق النار على مدنيين عزّل، وخصوصاً طلبة المدارس العمومية.

بالمقابل، استرشدت الدراسة بتصريحات صقور الحزبين اعتبار “داعش وتنظيم القاعدة” خطراً يهدد الأمن القومي الأميركي، ما يدلّ على نية لتوسيع رقعة الحضور العسكري الأميركي في “الشرق الأوسط”.

اللافت أيضاً ما دوّنه الرئيس الأميركي في مقدمة الوثيقة بالقفز عن متغيرات الظروف الدولية قائلاً: “في جميع أنحاء العالم، الحاجة إلى قيادة أمريكية كبيرة كما كانت في أي وقت مضى. نحن في خضم منافسة استراتيجية لتشكيل مستقبل النظام الدولي. لا توجد دولة في وضع أفضل لقيادة (العالم) بقوة وهدف من الولايات المتحدة الأمريكية “.

الإضافة الجديدة إلى جوهر وثيقة “استراتيجية الأمن القومي” هي استعادة خطاب “خوض أميركا حروب متزامنة” مع كل من الصين وروسيا، بكل ما تتطلبه من تحشيد للقدرات والإمكانيات والاستمرار في تنفيذ عمليات عسكرية طويلة الأجل. ذلك ما يخدم الصقور بين القيادات العسكرية والسياسية، والذين يعتبرون ما وصلت إليه القوات العسكرية من تراجع جاء نتيجة قرار ات الإدارات المتعاقبة لتخفيض معدلات الإنفاق العسكري، الأمر الذي “حدّ من جهود التحديث للآلة العسكرية” والنووية أيضاً، بحسب أدبياتهم وتصريحاتهم.

من بين “توصيات” الدراسة، التي يتبناها غالبية صناع القرار السياسي والعسكري والأمني، رفع عديد قوات سلاح المشاة إلى “50 لواءً” قتالياً لتنفيذ مهام “خوض حرب متزامنة على جبهتين”. وأشارت أيضاً إلى أن سلاح الجيش لديه “62% من القوات المطلوبة”، وتبلغ جاهزية ألويته نحو 25 لواء من مجموع 31.

أيضاً، تفيد الدراسة في الشق العسكري بأن أحد مكامن الضعف في القوات البرية هو انتقال عقيدتها القتالية وتدريباتها من خوض “عمليات صغيرة تكتيكية في الشرق الأوسط إلى عمليات قتالية كبيرة ومستدامة”، كما يجري في أوكرانيا، والخبرة العملياتية المكتسبة في الشرق الأوسط لا ترقى إلى المستوى المطلوب لتنفيذ مهمات متعددة تستدعي العمل الجاد تحت ضغوط الظروف الميدانية والعمل كفريق متناسق.

وضع سلاح البحرية، في نظر معدّي الدراسة، مقلق ويعاني من “ضعف شديد”، وينقصه توفر مزيد من السفن الحربية ما يتطلب فترات أطول في خدمة الطواقم الحالية لتعويض النقص. ما يحتاجه سلاح البحرية، بحسب الدراسة هو الحصول على أسطول مكون من “400 سفينة حربية، عوضاً عن 298 سفينة في ترسانته الحالية”.

وعليه، فإن الكونغرس أمام تحدي تخصيص مزيد من الإمكانيات المالية لبناء سفن جديدة  قبل حلول عام 2030 خشية تفاقم قصور الأداء العام. بالنظر إلى تواجد قطع الأسطول السادس في البحر الأبيض المتوسط، وما أفرزته الحقبة الراهنة من مخزون كبير للطاقة تحت سطح البحر يستدعي “إنشاء قوة جديدة من حاملات الطائرات”.

أما سلاح مشاة البحرية، المارينز، فقد حافظ على معدلات “رضى” معدّي الدراسة، ولديه نحو 30كتيبة تقتصر مهماتها على خوض معارك خفيفة للمشاة ولهجمات القوات البرمائية، تغطي معظم نقاط الاشتباك في العالم.

سلاح الجو لم يفلت من سهام الانتقاد، وفق تقييم الدراسة، وخصوصاً لما يعانيه من نقص في الكوادر المهنية لصيانة الطائرات، وكذلك في عدد المنتسبين إلى قيادة الطائرات بنحو 650 طياراً، ما أوجد وضعاً مقلقاً لناحية التجنيد والإبقاء على المهارات المطلوبة.

ربما يستطيع سلاح الجو في وضعه الراهن الانتصار في معركة إقليمية واحدة، بحسب الدراسة، وسيعاني من تحديات أمام أداء نظيريه الصيني أو الروسي. الاستنزاف الراهن في عديد المقاتلات وطواقم قياداتها سيعقّد إمكانية الفوز في مواجهة كبيرة في الإقليم. وتربط الدراسة مدى إنجاز مهمات “المارينز” المطلوبة باعتماده على توفير سلاح البحرية سفناً برمائية جديدة.

إذاً، القاسم المشترك في تقييم الدراسة المعتمدة رسمياً هو إعداد العامة لتقبل تخصيص مزيد من الميزانيات لشؤون فروع القوات المسلحة، وتجاهل مطلبات تحديث البنى التحتية المنهارة، على الرغم من الوعود الانتخابية بمعالجتها وإعادة ترميمها. وبررت ذلك بالقول إن الأوضاع الراهنة مقلقة نتيجة “الاستخدام المستمر للأسلحة، وتقليص الميزانيات المطلوبة، وعدم دقة تحديد الأولويات الدفاعية، والتحولات المتسارعة التي تطرأ على السياسات الأمنية، وغياب الصرامة والجدية في أركان مؤسسة الأمن الوطني”.

2022-20-09-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

لماذا تعاني أميركا في جاهزيتها
العسكرية لشن حروب جديدة؟

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

تتصاعد ميزانيات وزارة الدفاع الأميركية دورياً إلى أرقام فلكية، متجاوزة نسبة 10% من مجموع الدخل القومي، من دون أن ترافقها مخصصات موازية لقطاعات الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، وهي تذهب إلى الإنفاق السخي على انتشار واسع للقوات العسكرية الأميركية في نحو 800 قاعدة عسكرية في أكثر من 80 دولة حول العالم، قبل احتساب انتشار قوات عسكرية محدودة العدد، كما في الصومال وسوريا، لتصل رقعة الانتشار إلى 177 دولة، بحسب إحصائية أستاذ الانثربولوجيا في الجامعة الأميركية في واشنطن، ديفيد فاين.

انتشار عسكري وتمدد ثابت تغذيه ميزانيات تنمو سنوياً: 778 مليار دولار لعام 2022، وما لا يقل عن 813 مليار دولار للعام المقبل، يدرك الشعب الأميركي منه اليسير، والأغلب ينقصه استيعاب أبعاده وانعكاساته على المديين المنظور والمتوسط.

يتردد بين الآونة والأخرى الاعتقاد الذي كان سائداً لدى عسكريي حرب فيتنام بأن بوسع الولايات المتحدة دخول حرب على جبهتين متزامنتين: فيتنام وأوروبا. وانطلاقاً من ذلك، تدور التساؤلات عن تطور المسرح الآن شرقاً باستهداف روسيا والصين؛ الأولى في محيطها الجغرافي المباشر، والثانية في بحر الصين الجنوبي، وحرب أخرى تدور رحاها في الوطن العربي؛ سوريا والعراق واليمن وشبه الجزيرة العربية.

أفرزت الحرب في أوكرانيا جملة تحديات على قرارات البنتاغون، كنتيجة مباشرة لتوريد الأسلحة والذخائر المختلفة من مستودعات القوات الأميركية واستنزاف احتياطيها، إضافةً إلى تهالك بعض المعدات العسكرية وتوقيف أسطول المقاتلات المروحية من طراز “شينوك”، وقوامه نحو 400 طائرة.

تسارع استهلاك ذخيرة الأسلحة الأميركية، نتيجة توفيرها بكثافة إلى أوكرانيا، استدعى انتباه رئيس هيئة الأركان المشتركة، مارك ميللي، لإجراء مراجعة دورية شهرية للتيقن من عدم استنزاف الترسانة الأميركية إلى مستويات متدنية، واستبدال بعض الأسلحة المرسلة إلى كييف، كما جرى بتوفير مدافع من طراز هاوتزر-105 ملم عوضاً عن الأقوى (155 ملم)، التي تخشى القيادات العسكرية استنزافها “إلى مستويات غير مرحب بها”، بحسب بيانات البنتاغون.

وأوجز قادة عسكريون أميركيون التحديات الراهنة للترسانة الأميركية بالقول: “طلَب أوكرانيا من الذخائر  يتعاظم كما لو كانت أميركا في حرب مع ذاتها”، كما أنّ “مخزون الذخائر في المستودعات الأميركية يُستنزف بصورة مقلقة، وخصوصاً ذخائر المدفعية” (يومية “وول ستريت جورنال”، 29 آب /أغسطس 2022).

إضافة إلى ذ4استنزاف المستودعات الأميركية، تواجه المؤسسة العسكرية تحديات جديدة في آليات ونظم التوريد ودوران مصانع الأسلحة التي تتطلب زمناً ليس متوفراً الآن لإعادة تأهيل المعدات وتشغيلها، “في ظل تبدل المواصفات المطلوبة راهناً من البنتاغون” (المصدر أعلاه).

ويمضي القادة العسكريون في الإشارة إلى معضلة برزت مؤخراً في البحر الأيوني، جنوبي إيطاليا، حين اضطرت حاملة الطائرات “ترومان” إلى نقل بعض أسلحتها وذخائرها إلى متن حاملة الطائرات البديلة “يو أس أس بوش”، التي كانت ستتخذ مواقعها في تلك المياه.

من بين التحديات العسكرية أيضاً ما يخلّفه الاستهلاك المتواصل من تآكل المعدات والأسلحة،  بسبب ظروف الحرب والمناورات العسكرية. وأظهر تحقيق أجرته البنتاغون قبل عامين في حادثة غرق عربة برمائية وهلاك طاقمها في مياه مدينة سان دييغو أن السبب هو عدم الالتزام ببرنامج الصيانة المطلوبة، نظراً إلى طلب عسكري ملحّ لدخولها الخدمة.

للإضاءة على إفراط المؤسسة العسكرية في التمدد عبر العالم، تشير بيانات البنتاغون الخاصة بنشر حاملات الطائرات للمرابطة في مناطق معينة إلى معادلة 8:8:8، أي خلال خدمة مدتها سنتان، تحتاج الحاملة إلى 8 أشهر من العمل، و 8 أشهر لأعمال الصيانة وتحديث المعدات، و8 أشهر من برامج التدريب لطواقمها. وينطبق الأمر عينه على القوات والأسلحة البرمائية، ومنها التي تستضيف على متنها أحدث المقاتلات الأميركية من طراز “أف-35”.

إذاً، تصطدم الخطط العسكرية والسياسية الطموحة بقيود الواقع الميداني. مثلاً، مع غروب شهر آب/أغسطس الماضي، تم رصد مرابطة 3 حاملات طائرات أميركية في المياه الآسيوية قرب الصين: “يو أس أس ترومان” و “يو أس أس بوش” اللتان ترابطان ضمن مهام الأسطول السادس،  فيما  ترابط حاملة الطائرات “يو أس أس رونالد ريغان” قرب مياه اليابان. كما أنّ الحاملة “ترومان” في طريق عودتها إلى قاعدتها الأم لأعمال الصيانة والتحديث في مدينة نورفولك في ولاية فرجينيا، ولن تستطيع المشاركة لنحو عام كامل.

تنشر الولايات المتحدة مجموعتين من القوات والمعدات البرمائية في بحر الصين الجنوبي: “يو أس أس أميركا” و “يو أس أس تريبولي” اللتان تحمل كل منها نحو 20 مقاتلة حديثة من طراز “أف-35”.

وفي حال اشتعال ساحة حرب جديدة، في الشرق الأوسط أو الصين أو أوكرانيا، سيواجه سلاح البحرية الأميركي تحديات جديدة تقيّد قيامه بنشر حاملات نووية للطائرات في وقت متزامن في الساحات المشار إليها.

كما تواجه المؤسسة العسكرية الأميركية تحدياً في تجنيد منتسبين جدد إلى صفوفها، إذ عبّر نحو 9% من البالغين عن رغبتهم الانضمام للقوات المسلحة، وهي “أدنى نسبة منذ حرب فيتنام عام 1973″، فضلاً عن تأهل المنتسبين إلى برامج التدريب القاسية، والذين لا يزيدون عن نسبة 24% من مجموع العينة.

استعراض الخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة في حال نشوب حرب حقيقية تشارك فيها مباشرة يؤدي إلى جملة حقائق.

للمرة الأولى، تتراجع خطورة الحرب في الشرق الأوسط، بحسب أولويات البنتاغون، يعززها انتشار واسع لقوات أميركية في المنطقة، فضلاً عن توفر عدد كافٍ من القواعد والمطارات إن دعت الحاجة.

أما في حال نشوب مواجهة عسكرية مع إيران، فالأمر يتطلب إجراء تعديلات كبيرة في وضعية القوات الأميركية، أبرزها الأعداد المحدودة للقوات المتوفرة، وإعادة تموضع القوات والأسلحة البحرية في المنطقة، وضمان ملاحة السفن الحربية وحاملات الطائرات في قناة السويس، وما قد يترتب عليها من انعكاسات إقليمية، أو سحب بعض القوات البرمائية من المحيط الهادئ باتجاه بحر العرب.

ذروة التحديات بالنسبة للبنتاغون البنتاغون في هذا الصّدد تكمن في نشوب حرب مع الصين، والتي سيكون عنوانها الأبرز القطع البحرية المتوفرة والمنتشرة قرب بحر الصين الجنوبي، والاستعانة بقوات إضافية من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، استراليا واليابان، لمواجهة القوات الصينية في الجزر الاصطناعية المنتشرة في المنطقة، وإشغال الغواصات الصينية بمناورات معينة لحرمانها من استهداف حاملات الطائرات الأميركية بشكل خاص.

اتساع رقعة انتشار القوات والموارد العسكرية الأميركية كشف حدود القوة والتهديد بها، وخصوصاً عند الأخذ بعين الاعتبار وضعية القوات الأميركية المختلفة منذ نهاية حرب فيتنام، باعتمادها كلياً على نظام التطوع، وخشية القادة السياسيين من تفعيل نظام التجنيد الإجباري في أزمنة تستدعي رفع مستوى رفاهية الشعب الأميركي، وليس انخراطه في حروب لامتناهية.

هذا لا يعني، بالمقابل، الاستخفاف بالآلة العسكرية الضخمة وقدراتها التدميرية الهائلة، لكن القوة العسكرية الصرفة لا تحسم صراعاً أو اشتباكاً بمفردها، وخصوصاً في ظل تردد القادة الأميركيين، سياسيين وعسكريين، في نشر قوات برية بأعداد كافية في ساحات المواجهة المعنية، وفي الأذهان الانسحاب المذلّ للقوات الأميركية من أفغانستان.

2022-23-08-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

شكوك في نجاح
خطة بايدن لخفض التضخم

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

تمكّن الرئيس الأميركي، جو بايدن، من تسجيل انتصار سياسي داخلي يعوّل به على وقف تدهور شعبيته، وامتداداً حزبه الديموقراطي، قبل بضعة أسابيع على بدء جولة الانتخابات النصفية.

وأعانه الكونغرس “مرحلياً” على إقرار خطة اقتصادية تزيد قيمتها على 430 مليار دولار، منها 370 مليار دولار للبيئة و64 مليار دولار للصحة، عدّها  بايدن “انتصاراً للشعب الأميركي الذي سيرى انخفاضاً في أسعار الأدوية والرعاية الصحية وتكلفة الطاقة.”

نظرياً، تهدف خطة “قانون خفض التضخم” إلى الحد من معدلات العجز المتصاعد في الميزانية العامة، ورفد الخزينة الأميركية بنحو 258 مليار دولار سنوياً، “من خلال فرض ضريبة جديدة بنسبة 15%، كحد أدنى، على الشركات التي تتعدى أرباحها مليار دولار سنوياً”.

فضلاً عن منح إعفاءات ضريبية بمليارات الدولارات للشركات والصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة كوسيلة لضمان تصويت عضوين من الحزب الديموقراطي في مجلس الشيوخ إلى جانب المشروع، جو مانشين وكيرستين سينيما.

بيد أن الحلقة المركزية المفقودة تكمن في تراجع دور الدولة، أو عدم قدرتها على التحكم بموارد الطاقة وتقنين مشتقاتها ومن ثم السيطرة على تسعيرها، ما أدى دوماً إلى استفحال الأزمات البنيوية. فقد تراجعت أسعار النفط الخام من نحو 120 دولاراً للبرميل إلى حوالي 90 دولاراً، لكن لم يشهد المواطن (المستهلك بتعريف الشركات) تقليص أسعار  مشتقات الطاقة، أو تراجعها كحد أدنى.

زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، الذي امتنعت كتلته عن التصويت للمشروع، حمّل الرئيس بايدن وحزبه الديموقراطي مسؤولية ما آل إليه الاقتصاد الأميركي من “تضخم قياسي، والمشروع الموقّع، إذا أصبح قانوناً، يعني فرض ضرائب أعلى (لتمويله) وفواتير أكبر للطاقة”.

أزمات مركز النظام الرأسمالي من “تضخم يخرج عن السيطرة” ليست فريدة، بل مزمنة وبنيوية، تسعى كل الإدارات المتعاقبة على الترويج لبرامج وخطط من شأنها إبقاء جذوة الأمل مشتعلة عند المواطن العادي بأنها أزمة عابرة سرعان ما يتم التغلب عليها.

في حقبة “الكساد الكبير”، برزت أزمة نقص حاد في احتياطي الذهب، وأصدر الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت قانوناً رئاسياً يمنع بموجبه المصارف المالية من الدفع أو تصدير الذهب، آذار/مارس 1933، رافقه قانون سنّه الكونغرس، 5 حزيران 1933، يمنع بموجبه مطالبة أصحاب الديون استلام قيمتها بالذهب.

قانون المصرف المركزي، الاحتياطي الفيدرالي، آنذاك، اشترط تغطية احتياط العملة الأميركية بنحو 40% من قيمتها بالذهب. وأسفر الإجراء الرسمي عن رفد المركزي بكميات إضافية من الذهب بسعر 20.67 دولارا للأونصة آنذاك، سرعان ما رفعت الدولة سعره إلى 35 دولاراً للأونصة، وتضخم بذلك احتياطها منه بنسبة 69%.

لنقفز قليلاً في الزمن لعقد الستينيات والحرب الأميركية على فيتنام، التي تطلبت مبالغ هائلة للإنفاق الحكومي، وسعي المصرف المركزي إلى تطبيق سياسة “التضخم المصرفي” لتمويل ذلك، ما أسفر عن تراجع قيمة العملة الأميركية وزيادة طلب “الحكومات الأجنبية على استبدال ما لديها من الدولار الأميركي بالذهب”.

مع فشل الحلول المقترحة كافة للسيطرة على “التضخم المصرفي”، واستمرار نزيفٍ عرّض احتياطي العملة الأميركية نتيجة سياسات التصعيد للحروب والهيمنة الاقتصادية على موارد العالم، قام الرئيس ريتشارد نيكسون، 1971، بإصدر قرار بتحرير الدولار من تغطيته بالذهب. وذهب ابعد من ذلك اتساقاً مع تفاقم الأزمات الاقتصادية برفعه سقف الدين العام، والإقلاع الممنهج عن تبني السياسات الاقتصادية الكلاسيكية التي تعادل بين ما يرد إلى الخزينة العامة من موارد متعددة مع معدّلات الإنفاقات الحكومية، كوصفة دائمة للحد من تضخم الأسعار وازدياد العجز في ميزان التبادلات التجارية.

دشنت سياسات الرئيس نيكسون في 15 آب/أغسطس 1971، وبحسب الخبراء الاقتصاديين، فإن سماحه للمصرف المركزي تضخيم معدل الأوراق المالية المتداولة، من دون تغطية حقيقية، سبب بدء انحسار الطبقة الوسطى، مع دخول خفض قيمة العملة رسمياً، رافقه اتساع عميق للشرخ بين معدلات الدخل. تقلصت القيمة الشرائية للدولار منذئذ بنحو 85%، وبحسب خبراء الاقتصاد، فإن قيمته الحالية لا تتجاوز 15 سنتاً.

“قانون خفض التضخم” بنسخته الحالية يشكل حجر الأساس في ما أطلق عليه “النظرية المالية الحديثة”، التي تتبناها النخب السياسية والاقتصادية الأميركية على الرغم من  عدم اختبار فعاليتها، حتى نظرياً، وخصوصاً لتنافيها مع بديهيات علم الاقتصاد التي تعرف التضخم بفارق الهوة بين الطلب والعرض. لكنها توفّر مسوّغات اقتصادية لاستمرارية طبع الأوراق المالية وترفع سقف الديون العامة، وكلفتها المتراكمة أيضاً نتيجة ارتفاع معدلات الفائدة عليها، ما يضخ أموالاً هائلة دائمة في المصارف المالية الكبرى .

تخلّي أكبر اقتصاديات العالم عن معيار الذهب لدعم العملة الوطنية ، في محصلة الأمر، سمح للزعماء السياسيين بأطيافهم وميولهم الحزبية كافة تبنّي برامج ومشاريع عالية الكلفة لكسب تأييد قواعد انتخابية، ورفد المصارف الكبرى بأموال تغطيها الدولة في دوامة مستمرة يستهلك سداد الفائدة عليها موارد أساسية على حساب برامج تنموية حقيقية.

لنأخذ مثالاً من السياسات الراهنة، فقد بلغ معدل الدين العام على الحكومة الأميركية أكثر من 30 ألف مليار دولار، 30 تريليون ونيّفاٍ، من دون احتساب التزامات الدولة لبرنامج الرعاية الاجتماعية.

سياسات الحروب الدائمة، منذ فيتنام ومروراً بالحرب الأميركية على “الإرهاب” وامتداداً تمويل الحرب الأوكرانية ضد روسيا، كان لها نصيب الأسد في ميزانيات الإنفاق العام.

يحسب لإدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما رفعه معدل الدين العام، أي مستوى عجز الميزانية، إلى 8 آلاف مليون دولار، 8 تريليونات، بزيادة تعادل نحو 70% عن أسلافه. الرئيس السابق دونالد ترامب رفع السقف مرة أخرى إلى نحو 8 تريليون. أما الرئيس جو بايدن، وهو في منتصف ولايته الرئاسية زمنياً، فقد أضاف نحو 2 مليار دولار.

يعرب كبار الخبراء الاقتصاديين عن شكوكهم في قدرة وصفة الدولة الراهنة، لمزاوجة معدلات العرض بالطلب، بل يجادلون بأن سقف العرض لن يواكب سرعة ارتفاع معدلات التضخم للسيطرة عليه، أو الحد منه. معدلات نمو الاقتصاد الأميركية لسنوات طويلة من 1992 وإلى 2021 بلغت نحو 2.4%. في المرحلة المقبلة، سيتراجع معدل النمو إلى 1.7% لعام 2022 وإلى 2052، بحسب بيانات “مكتب موازنة الكونغرس” الرسمية.

لمقاربة المعضلة الاقتصادية، لن يستطيع الاقتصاد الأميركي بما يقدمه من موارد وخدمات مواكبة زيادة الطلب نتيجة ارتفاع معدلاته الناجمة عن الإنفاق الحكومي المتزايد، ونتيجة مباشرة لـ “النظرية المالية الحديثة”.

للدلالة على ما سبق من استنتاجات مؤلمة، أجرت كلية وارتون للأعمال، التابعة لجامعة بنسلفانيا المرموقة، دراسة مفصلة لقانون خفض التضخم أثناء فترة تداوله بين أعضاء الكونغرس، جاء في جزء منه أن “القانون سيرفع قليلاً معدلات التضخم لعام 2024، وتقديرنا أنه لن يترك أثراً (إيجابياً) على الناتج الداخلي العام”، بل ستتقلص مسوّغات العمل وحوافزه ما سيؤدي إلى انخفاض معدلات ساعات العمل وخفض حجم عرض الموارد المطلوبة (دراسة بعنوان “قانون خفض التضخم: تقديرات أولية لتاثيرات الميزانية والاقتصاد الشامل”، تموز/يوليو 2022، كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا).

معظم الخبراء ممن له مصلحة في كبح جماح عجلة التضخم في الشأن الأميركي يناشد صنّاع القرار باعتماد سياسة نقدية أكثر واقعية، واستخلاص الدروس القاسية من قرارات الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، والتي لا زالت مستمرة من دون إبطاء، ولجم معدلات الإنفاق وترشيد الأموال إلى اولويات التنمية.

بعبارة أخرى، يناشدونهم العودة إلى تغطية العملة الوطنية بالذهب ما من شأنه وضع حد لطباعة الأوراق المالية من دون تغطية حقيقية. ويحذرون من تنامي معدلات الدين العام التي بلغت  نحو 30 ألف مليون دولار (30 تريليوناً)، ما يعادل 130% من حجم الاقتصاد الأميركي برمته، بينما بالمقارنة بلغ معدل الدين العام في عام 1960 “أكثر بقليل من نصف الاقتصاد الأميركي”.

2022-15-08-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

مداهمة مقر ترامب:
دولة الأمن القومي تثأر لإهانتها


د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

سيقت جملة تكهنات رسمية لتبرير قيام جهاز “مكتب التحقيقات الفيدرالي”، أف بي آي، بدهم منتجع الرئيس السابق دونالد ترامب، مارا لاغو، في ولاية فلوريدا، “غير مسبوقة” في ظل التاريخ السياسي لأميركا، محورها اتهامه بالاحتفاظ بوثائق رسمية مصنفة “سرّية وبالغة السرّية”، وإتلاف سجلات رسمية أخرى، التي تستدعي محاكمته وتلقّيه عقوبة بشأنها.

تنبغي الإشارة إلى الظروف الخاصة المتعلقة بالرئيس ترامب قبيل مغادرته البيت الأبيض، بصرف النظر عن مزاعمه بتزوير خصومه للانتخابات الرئاسية، إذ أنه واجه حملة متواصلة من مساعي الإقصاء وجلستي محاكمه في الكونغرس، وحتى التلويح بتطبيق المادة 25 من لائحة التعديلات الدستورية، التي تفوّض نائب الرئيس إعلان عدم أهلية الرئيس مواصلة عمله، وتخوّل نائبه القيام بمهام الرئيس رسمياً، بدعم من أعضاء الحكومة الرسمية، أي إزاحة ترامب من موقعه بمستند دستوري.

من ضمن صلاحيات الرئيس الأميركي، بحسب الدستور، إصداره قرارات برفع تصنيف “السرّية” عن بعض الوثائق الرسمية التي يراها ضرورية، وهنا تكمن إحدى الثغرات القانونية التي يسعى كل فريق إلى استغلال ما تنطوي عليه من نصوص مبهمة لتدعيم وجة نظره الخاصة.

أصدر مركز الأبحاث الرسمي، “خدمة الكونغرس البحثية”، دراسة مفصّلة حول “قانون الوثائق الرئاسية”، جاء فيها أنه “يخلو من أي أدوات لتطبيقه، ولا يسمح للسلطات القضائية بمراجعته”، كما أن لجهاز الأرشيف “الصلاحية لتحديد القيود المفروضة على رئيس سابق بالتشاور معه للتوصل إلى فترة زمنية احتفاظه بتلك السجلات تتراوح بين 5 و 12 عاماً، بالتشاور معه، وفق المادة 44 الفقرة 2204 من قانون الجنايات الأميركي”. وأضاف أنه بعد انقضاء “12 عاماً تنتهي القيود المفروضة من قبل الهيئة” على تصنيفها سريّة. اللافت في نص الدراسة  أن القانون السالف الذكر لا يتضمن إنزال عقوبات جرمية بمن يزيل أو يتلف تلك الوثائق. (دراسة بعنوان “قانون الوثائق الرئاسية: مراجعة شاملة”، 17 كانون الأول/ديسمبر 2019)

الفريق المناوئ للرئيس ترامب تدحرج في توجيه اتهاماته، من “سوء استخدام الوثائق الرسمية”، إلى “إتلاف بيانات رسمية”، ثم إزاحته وثائق تتعلق بالأسلحة النووية، وصعوداً إلى تفعيل محاكمته بحسب قانون التجسس الذي يحظر على المحاكم، ومن ثم العامة، الاطّلاع على طبيعة الدلائل التي تستند إليها التهم الموجهة.

الرئيس الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية، مايكل هايدن، ألمح إلى “إعدام ترامب”، أسوة بالثنائي جوليوس وإيثيل روزنبيرغ، حزيران/يونيو 1953، بعد إدانتهما بتسليم وثائق نووية سرّية إلى موسكو، وذلك في تغريدة جوابية له للمؤرخ الأميركي الشهير، مايكل بيشلوس، في 12 آب/أغسطس 2022.

كما من صلاحيات الرئيس، أي رئيس، الاحتفاظ بوثائق رسمية بصفة خاصة لمدة 12 عاماً، باعتبارها “ملكية خاصة للرؤساء المعنيين”، تُودَع بعد ذلك في الأرشيف الوطني. القانون الناظم لتلك المسألة تم إقراره بحسب أختصاصيي القانون الدستوري عام 1955، والذي “”شجّع، لكنه لم يشترط قيام الرؤساء السابقين بإيداع تلك السجلات” في الأرشيف الوطني (مقال لديفيد ريفكين و لي كايس في صحيفة “وول ستريت جورنال”، 11 آب/أغسطس 2022).

بيد أن فضيحة ووترغيت عام 1974 استدعت استصدار قوانين جديدة للحدّ من قيام أي رئيس بإتلاف سجلات رسمية، التي كانت شرائط التسجيل آنذاك هي المقصودة. وصادق الرئيس الأسبق جيمي كارتر على قرار سجلات الرؤساء عام 1978، والذي يحيل بموجبه مسؤولية حفظ الوثائق الرسمية في عهدة هيئة الإرشبف الوطني، لكنه ينطوي أيضاً على عدد من الثغرات والنصوص المبهمة التي يستند إليها كل الرؤساء لتبرير تصرفاتهم وفق تلك النصوص.

واجهت المؤسسة الأميركية الحاكمة في التاريخ القريب بعض السلوكيات المماثلة بالتعامل مع الوثائق الرسمية من قبل مسؤولين سابقين وباتهامات مشابهة، لكن لم تتطور مسألة “العقاب” إلى قضاء المسؤول المتّهم فترة في السجن كما تنص القوانين السارية، وكما يُطالب بتطبيقه على الرئيس السابق.

من أبرز تلك الأمثلة، المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية، ديفيد بيترايوس، الذي اتُهم عام 2015 بـ “إساءة استخدام بيانات سرّية”، وعقد تسوية مع القضاء تفادى بها عقوبة السجن.

والمثال الآخر، قيام مستشار الأمن القومي الأسبق، صموئيل بيرغر، بـ “نزع وثائق رسمية تخصّ الإرهاب من مقر الأرشيف الوطني، والاحتفاظ بها”، عام 2005، والذي عقد “تسوية” مع القضاء أيضاً جنّبته عقوبة السجن.

قام الرئيس ترامب، بحسب وزارة العدل، بإزالة بنحو “15 صندوقاً” فيها وثائق رسمية والاحتفاظ بها، أرسلها إلى مقر إقامته في ولاية فلوريدا قبيل مغادرته البيت الأبيض، جرت تسوية مصير بعضها لاحقاً بتسليمه إلى هيئة الأرشيف الوطني، بعد عام من انتهاء ولايته الرسمية. حينها أخطرت الهيئة وزارة العدل الأميركية بأن المواد التي تسلّمتها تحتوي على وثائق سرّية.

عند هذا المفصل التسلسلي للأحداث برزت إشكالية: “هل قام الرئيس ترامب بنزع تصنيف السرّية عن تلك الوثائق قبل مغادرته” أم لا؟ وزارة العدل وذراعها التنفيذية مكتب التحقيقات الفيدرالي “يعتقدان” أن الوثائق التي تم تسلّمها من الرئيس ترامب “تنطوي على أدلّة محتملة لارتكابه جريمة”، نظراً إلى فرضية مواصلة احتفاظه بوثائق سرّية أخرى.

في حال استطاعت وزارة العدل إثبات شكوكها المتعلقة بتصنيف تلك الوثائق، وهو أمر من شأنه تعزيز فجوة الشرخ الأفقي والعمودي في المجتمع الأميركي، تستطيع بموجبه تطبيق المادة 2071 من قانون العقوبات، التي تنص جزئياً على أن “يفقد (المتهم) صلاحيات منصبه ويُمنع من تسلم مهام أي منصب يخضع لسلطة الولايات المتحدة”.

مؤيدو الرئيس ترامب، من ضمنهم بعض الأقطاب والقيادات في الحزب الجمهوري، يعتبرون أن ذلك هو المقصود بعينه، إي اغتياله سياسياً وحرمانه الترشح لجولة الانتخابات الرئاسية المقبلة، أقلّه إلقاء ظلالٍ من الشك حول أهليته ومصداقيته للتأثير على قواعده الانتخابية. يعتقدون أيضا أن التحقيق الجاري في مجلس النواب، بشأن اقتحام الكابيتول في 6 كانون الثاني/يناير 2021 من قبل أنصار الرئيس ترامب، هو من أجل التمهيد للحلقة التالية من إنهاء طموحاته السياسية، وحصر المسألة في تطبيق “قانون التجسّس” ضدّه، لمنع الإفصاح عن أي من الأدلة المحتملة أو تداولها.

من بين “الشكوك” التي يسوقها أنصار الرئيس ترامب أن وزارة العدل، في البداية، استندت إلى اتهامها بسوء استخدام الوثائق السرّية كحجة للحصول على قرار قضائي لإجراء مزيد من التفتيش والعبث بمحتويات مقار إقامته الخاصة، وتدبير ملف به بعض الأدلة الظنية، ربما لربط الرئيس ترامب مباشرة بالعناصر الذين دهموا مقر الكونغرس، بغية إرساء تهمة ارتكابه أو مساعدته لارتكاب جريمة ضد الدولة.

وسرَتْ مشاعر الإهانة بين أنصار الرئيس السابق، لاعتبارهم عملية الدهم تنافي نصوص الدستور لحماية حرية الفرد من “التفتيش ووضع اليد على ممتلكات خاصة”، وبذلك فإن عملية الدهم “غير قانونية”، بحسب معطياتها العملية ومسبباتها غير المعلنة إلا بعد إنجازها.

أما وقد استقرّ رأي المؤسّسة على استهداف الرئيس السابق، فقد تسارعت الاتهامات من قبل أنصاره بأن ما يجري هو “تسييس” الموسم الانتخابي المقبل، الانتخابات النصفية بعد شهرين والانتخابات الرئاسية بعد سنتين، وبأن وزارة العدل وأجهزتها ليست سوى “أدوات لجأ إليها الحزب الديموقراطي” لاستهداف المرشح الرئاسي المحتمل عن الحزب الجمهوري.

لوحظ أيضاً مدى الامتعاض الشعبي من تصرّفات مكتب الـ “أف بي آي” الأخيرة، وسجلّه الحافل بالتجسّس على الناشطين المناوئين للسياسات الرسمية، عبر حملة مكافحة التجسّس “كو إنتل برو”، واغتيال بعض قادتهم منذ عقد الستينيات الماضي. وجاءت نتائج استطلاعات للرأي أجراها معهد “غالوب” الرصين لتشهد على ذلك، بأن 66% من المواطنين فقدوا الثقة بالجهاز وبقدرته على استمرار الادّعاء بمساواة الجميع أمام القانون.

المؤرّخ والصحفي الأميركي فيكتور ديفيد هانسن أوضح بعضاً من سلوكيات مكتب التحقيقات الفيدرالي، وسوء استخدامه للصلاحيات الممنوحة له قائلاً بوضوح إن “كبار مديري الـ أف بي آي يخدعون الكونغرس دورياً، وقاموا بمسح أو تعديل الأدلّة المقدمة إلى المحاكم، ويسرّبون معلومات سرّية عمداً إلى الصحافة، وكذبوا أيضاً تحت القسم القانوني أمام المحققين الحكوميين” (صحيفة “واشنطن تايمز”، 11 آب/أغسطس 2022).

في المقابل، لا تزال استطلاعات الرأي المختلفة تفيد بتنامي شعبية الرئيس الأسبق دونالد ترامب بين جمهور الناخبين، مع فوز كبير لمناصريه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري التي جرت في بعض الولايات، ومنها ولايات حاسمة في الانتخابات الرئاسية. أما الرئيس جو بايدن، فيستمر مؤشّر شعبيته في السقوط، فضلاً عن أدائه في المناسبات العلنية التي دلّت على إصابته بمرض الشيخوخة، بحسب اختصاصيين.

أمام تفاصيل اللوحة الانتخابية بصورتها الراهنة، يبدو أن الحزب الديموقراطي مقبل على مرحلة شديدة القسوة في جولة الانتخابات الرئاسية المقبلة. نائبة الرئيس، كمالا هاريس، لا تحظى بدعم حاسم من قيادات الحزب، فضلاً عن تخبّط مواقفها بالنسبة إلى بقية الشعب. أما المرشح الرئاسي السابق ووزير النقل الحالي، بيت بوتيجيج، فهو حديث الحضور سياسياّ، ولا يتمتع بالدعم الكافي من مراكز القرار في واشنطن.

بعض المخضرمين في الحزب الديموقراطي يذهب إلى صوغ نتيجة مؤلمة بالنسبة إلى القيادات التقليدية، مفادها عدم توفر مرشح رئاسي مناسب للحزب في الجولة المقبلة، ولذا ينبغي إتاحة الفرصة للمرشح المقبل دونالد ترامب، إن استطاع البقاء سياسياً، على أن يجري البحث عن شخصية جذّابة وقوية لدخول الجولة المقبلة عام 2028.

من بين الدلائل الداعمة لمشاعر  استهداف الرئيس ترامب بدوافع سياسية علاقته المتوترة مع وزير العدل الحالي، ميرك غارلاند، الذي رشّحه الرئيس الأسبق باراك أوباما لمقعد في المحكمة العليا، واضطر إلى سحب ترشيحه نتيجة مناهضة قوية من الحزب الجمهوري.

الرئيس ترامب خاض حملته الانتخابية، عام 2016، واعداً جمهور ناخبيه بسحب ترشيح غارلاند من قائمة المرشحين للمحكمة العليا، والذي انتظر الرئيس جو بايدن ليعيّنه وزيراً للعدل.

كما تجنّب وزير العدل، غارلاند، الإجابة على أسئلة الصحافيين خلال مؤتمره الذي عقده يوم الخميس، 11 آب/أغسطس الحالي، معلناً مسؤوليته عن التوقيع على قرار موجّه إلى قاضي فيدرالي يطالب فيه بدهم مقر إقامة الرئيس ترامب. غارلاند لم يُرد الإجابة على سؤال أحد الصحفيين، طالباً تفسيره لعدم شروع وزارته في دهم مقر إقامة الرئيس الأسبق باراك أوباما بشأن حيازته لوثائق رسمية مفقودة، بل الأهم عدم متابعة وزارة العدل لوثائق الكترونية رسمية تخصّ وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، وآخرين أيضاً من طاقم الرئيس أوباما.

أحدى الأذرع الفكرية للحزب الجمهوري واليمين التقليدي، “ذي فيدراليست سوسيتي”، شنّت بدورها هجوماً لاذعاً على الأجهزة الأمنية الأميركية، مستعيدة ما سمّته “أكبر خديعة أمنية في التاريخ الأميركي المسمّاة فضيحة التجسس”، ضد الرئيس دونالد ترامب، باتهام “مسؤولي إدارة الرئيس باراك أوباما بالتآمر لشيطنة والقضاء على رئيس منافس قادم باستخدام أدلّة مصطنعة، والكذب أمام محاكم أمن سرّية، وعمليات بروباغندا إعلامية، وانتهاك عدد من القوانين”، كلها بهدف القضاء على المشاكس القادم إلى البيت الأبيض.

وحذّر قادة الحزب الجمهوري وجمهوره من تبعات عدم وضع حدّ لاتهامات باطلة بحق الرئيس السابق من قبل الأجهزة الأمنية، التي “ستصوّب سهامها ضدهم” إن سمحوا لها بالإفلات من المحاسبة (مقال بعنوان “مداهمة ترامب تؤكد تقرير (دولة) الأمن القومي لمن يُسمح للأميركيين التصويت له”، موقع “ذي فيدراليست سوسيتي”، 9 آب/أغسطس 2022).

واستندت الذراع الفكرية للحزب الجمهوري إلى “قيام القيادات العسكرية بالكذب المتعمّد على الرئيس دونالد ترامب بشأن أفغانستان، لثنيه عن سحب القوات الأميركية من هناك”. أما في عهد الرئيس جو بايدن، فقد “وجد مسؤولو (دولة) الأمن القومي فرصة مريحة برفض الانصياع لقرارات قائدهم الأعلى المفترض”، في إشارة واضحة لدور قائد هيئة الأركان المشتركة مارك ميللي معارضة القيادة السياسية، في أسطع مثال على “الانقلاب العسكري” غير المعلن.

في المحصّلة النهائية، أسهمت عملية دهم منتجع الرئيس السابق والاستيلاء على وثائق رسمية بحوزته في تبلور سلسلة من الانهيارات المجتمعية والسياسية، على السواء، ينذر بعضها بمواجهة قد تُفضي إلى عصيان مدني أو أكثر حدةً، وُجهتها الأذرع الأمنية للدولة، على خلفية انتهاكاتها للحرية الفردية، وما يشكله ذلك من صدمة قاسية في الوعي الأميركي العام.

2022-08-08-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

زيارة بيلوسي “المتهوّرة”
ستعزّز استعادة الصين لتايوان

 

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

منذ إعلان رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، جدول زيارتها لدول جنوب شرقي آسيا بضمنها جزيرة تايوان، تنادت تيارات المؤسسة الحاكمة الأبرز في الحزبين، والنخب السياسية والإعلامية إلى دعمها على قاعدة “الصين لا ترغب في حضورها، ولهذا عليها التشبّث بالذهاب لإغاظتها”.

أما الطرف الآخر من الطيف السياسي الواقعي، التقليدي، فقد شن حملة انتقادات محدودة في تأثيرها ومداها، وبرزت عناوين صحافية تصف الزيارة بـ “المتهورة والخطرة وغير الضرورية”. والتحذير من استغلال الزيارة كصاعق تفجير في مواجهة عسكرية مع الصين، عزّزه تحشيد البنتاغون قدرات حربية مميّزة ونوعية في آن واحد، إذ أرسل حاملة الطائرات النووية رونالد ريغان، وسفينتين برمائيتين إلى المياه القريبة من تايوان، فضلاً عن إرساله أسراباً من أحدث المقاتلات الحربية الأميركية للمرابطة في اليابان وكوريا الجنوبية.

استفزاز المؤسسة الحاكمة الأميركية للصين في هذا الظرف تحديداً، إضافة إلى ما شكله ذلك من انتقاد حاد للإدارة الأميركية على الإفراط في افتعال الأزمات، جاء في عميق إدراك أن “الخطوة” تشكل تراجعاً رسمياً عن سياسة “الغموض الاستراتيجي”، المتبعة منذ تدشين وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر سياسة الانفتاح على الصين، وزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بكين، والتزام الإدارات المتعاقبة بسياسة “الصين الواحدة”، أي إن تايوان ليست دولة معترفاً بها دولياً إلا من بعض الدول التابعة لسياسة واشنطن.

زيارة بيلوسي الرسمية، وهي ثاني أعلى مسؤول في الهرم السياسي الأميركي بعد نائبة الرئيس كمالا هاريس، وخصوصاً أن طاقمها الزائر تضمّن أعضاء من الحزبين الديموقراطي والجمهوري، أتت بعد 25 عاماً من زيارة مماثلة أجراها الرئيس الأسبق لمجلس النواب الأميركي عن الحزب الجمهوري، نوت غينغريتش، عام 1997، حينما كانت الصين تئن تحت وطأة تحدياتها الاقتصادية ومستقبلها على خريطة العالم، قياساً على وضعها الراهن كقطب عالمي في الاقتصاد والتنمية المتبادلة مع الدول والمجتمعات النامية.

اشتهرت بيلوسي بمواقفها السياسية المتشدّدة وتطرّفها في انتقاد سياسات الحكومة الصينية، وهي من أبرز صقور الساسة الأميركيين في إعلاء العداء التاريخي لكل من روسيا والصين واستثماره في كل الأزمنة والأوقات، وهي أرست أرضية تفاهم مشتركة مع التيارات المتشدّدة في الحزبين محورها “الدفاع عن حقوق الإنسان” وإدانة الصين عقب تظاهرات “ساحة تيانمن” عام 1989.

وفي إحدى زياراتها لجمهورية الصين الشعبية، عام 1991، أوقفتها أجهزة الشرطة الصينية بعد حملها يافطة “مؤيّدة لمن قضوا دفاعاً عن الديموقراطية في الصين” (مقال على موقع “شبكة إيه بي سي”، 2 آب/أغسطس 2022).

ولعل إحدى أهم المحطات المعادية للصين في مسيرة نانسي بيلوسي معارضتها دخول الصين في منظمة التجارة العالمية، على نقيض قادة كبار من حزبها الديموقراطي في التسعينيات من القرن الماضي، وعارضت بشدة أيضاً سياسات الرئيس الأسبق بيل كلينتون الهادفة إلى تعزيز العلاقات التجارية بين واشنطن وبكين.

البيت الأبيض، في سياق رد فعله على الزيارة، حافظ رسمياً على سياسة الغموض بإعلانه أنه يسعى لثني رئيسة مجلس النواب عن زيارة تايوان تحديداً، لكنّ تيقّن ذلك لم يرسُ على دليل، سواء “أكدت أم الإدارة نفت” قيامها بذلك، بل اكتفت بالإشارة إلى أن “الصين قد ترد اقتصادياً أو عسكرياً” على الزيارة.

هل استعجلت الإدارة الأميركية، في توقيت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، لجزيرة تايوان بتأجيجها وتائر التوتر مع الصين واللعب على حافة هاوية الاشتباك المباشر؟

لمراكز القوى في صنع القرار الأميركي توجهاتها “الثابتة” في السعي الدؤوب للحد من بروز منافسين للهيمنة الأميركية على المشهد العالمي، وترويج حصرية قيادة واشنطن للتطورات العالمية، ولا تجد هذه القوى غضاضة في افتعال الاشتباكات والحروب بالوكالة، كما نشهد حالياً ضد روسيا في أوكرانيا، واستفزازها الصين بشأن تايوان لتحافظ على سرديتها بأن تمدّدها العسكري في العالم هو من أجل “حفظ السلم والأمن الدوليين”.

يتردد باستمرار تقويم النخب السياسية على مستوى العالم بأن تمدّد الإمبراطورية الأميركية وهيمنة نفوذها هما في بداية أفول مسارها، ولا يختلف في ذلك عدد من النخب الأميركية نفسها، وما يجري راهناً ليس سوى صراع مستمرّ في مراكز قوى صنع القرار، طلباً لتأجيل مرحلة الأفول في أفضل الاحتمال.

وحذّر عدد من النخب الفكرية والسياسية الأميركية من المضي في مغامرات النزعات العدوانية، التي لم تلقَ آذاناً صاغية منذ بدء صراع الحرب الباردة والحروب الأميركية المتعدّدة على الشعوب النامية منذئذ.

الذراع الفكرية لوزارة الدفاع الأميركية، مؤسسة “راند”، أصدرت دراسة شاملة  بعنوان “التنافس الاستراتيجي الأميركي مع الصين”، رصدت فيها جملة قضايا محورها  “تآكل النفوذ الأمني الأميركي في منطقة آسيا والمحيط الهاديء، نتيجة للتطورات المتسارعة في قدرات جيش التحرير الوطني” الصيني، وأن سياسة “الولايات المتحدة فاقمت مديات التوتر بشأن مسائل خلافية مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي، حتى في ظل انحسار احتمال نشوب حرب” بينهما.

من بين إرشادات الدراسة التي شارك فيها “أكثر من 60 مختصاً بالشأن الصيني”، إقرارهم بـ “سوء فهم وإدراك” صنّاع القرار الأميركي لتداعيات التصعيد مع الصين ومخاطره، “وينبغي عليهم اجتراح تدابير خارج خيار الحرب لحماية المصالح الأميركية” (دراسة بعنوان “التنافس الاستراتيجي الأميركي مع الصين” مؤسسة “راند”، حزيران/يونيو 2021

كذلك وجّهت صحيفة “فورين بوليسي” خطاباً مباشراً إلى مراكز القوى قائلة: “إذا كان الهدف الأساسي (لأميركا) الحفاظ على تفوقها العالمي، فسيتعيّن عليها الانخراط في منافسة جيو-سياسية صفرية، حصيلتها صفر”، على خلفية بروز مؤشرات وثغَرٍ في بنية نظام القطب الأحادي.

أستاذ العلاقات الدولية المرموق في جامعة هارفارد، ستيفان والت، أشار مبكراً إلى أن “العالم سيشهد تسارعاً في انتقال مركز القوة والنفوذ من الغرب، إلى دول آسيوية، وخصوصاً الصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية” (مقال في صحيفة “فورين بوليسي:” 20 آذار/مارس 2020).

وفي السياق عينه، نرصد تنبّؤ  دانيال فنكلستاين، المستشار السياسي الأسبق لرئيس الوزراء البريطاني جون ميجور، متسائلاً “هل نشهد نهاية الحقبة الأميركية؟”، وهل “الدول الحرة (الغربية) اخطأت على مدى عقود في استنادها إلى فرضية تطابق مصالحها مع المصالح الأميركية” (صحيفة “تايمز” اللندنية، 8 نيسان/إبريل 2020).

وعادت النخب الأميركية بعد عام تقريباً للتحذير مجدداً من أن “الصين لا تشكل تهديداً وجودياً” للولايات المتحدة، لتدشّن نقاشاً جاداً حول مفهوم “التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة” على الصعيد العالمي (“فورين بوليسي”، 21 نيسان/إبريل 2021).

يشار إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن تبنّت سردية “خطر الصين” منذ أيامها الأولى، واعتمدها حجر زاوية في وثيقتها “إرشادات مرحلية للأمن القومي الاستراتيجي”، آذار/مارس 2021، التي أتى في جزء منها أن “الصين، على نحو خاص، تمضي بسرعة لتأكيد حضورها بحزم، فهي ليست سوى منافس قد تتوفر لديه القدرة على مزج عناصر قوته الاقتصادية والديبلوماسية والعسكرية والتقنية لتشكيل تحدٍ مستدام لنظام عالمي مستقر ومفتوح”.

واكب ذلك جهد شبه حاسم لدحض السردية الرسمية في تحديد طبيعة التهديد، للأستاذ في جامعة ديوك، بروس جنتلسن، قائلاً بصريح العبارة: “يجري تضخيم تهديد الصين بطرق شبيهة بالتهديد السوفياتي إبّان الحرب الباردة، وبالإرهاب في أعقاب 11 أيلول/سبتمبر (2001)، وتأتي كلها بنتائج عكسية لاستراتيجية السياسة الخارجية، وحرف الأنظار عن السياسات الداخلية بطرائق خطرة” (“فورين بوليسي”، 20 تموز/يوليو 2022).

أنصار السياسة الأميركية الواقعية، على المستوى الدولي، يقرّون بخطأ بوصلة السياسة الأميركية ضد الصين تحديداً، وما تطوّرات قدراتها العسكرية، التي أشارت إليها بعمق دراسة “راند” سالفة الذكر، إلا “استجابة للجهود الأميركية ببناء ترسانة ضخمة من النظم الهجومية والدفاعية. فالصين تتبع خطوات أميركا لا العكس” (نشرة “بوليتن لعلماء الذرة”، 4 آب/أغسطس 2022).

إجراءات الرد الصيني على استفزاز بيلوسي تبدو كمن يبلور الشروط الميدانية واللوجستية لتمرين استعادة تايوان الى الصين الموحّدة ، صحيح انها تكتفي حاليا بعقوبات إقتصادية جزئية ومناورات عسكرية بالذخيرة الحية وشبه الحصار التام، إلا أنّها تمارسه كتمرين على الغزو الشامل عندما تجد الوقت ملائماً. لا تزال القيادة في بكين تفضّل الوحدة مع تايوان بالوسائل السلمية، ولكنها تعلن بخطواتها للعالم أن هذا “الواجب التاريخي”سيتحقق عاجلاً أم آجلاً.

2022-28-07-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

شبكة الكهرباء الأميركية
ترهّل ومأزق متجدد

 

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

تصاعدت في الآونة الأخيرة، تحذيرات رسمية أميركية، ومن عديد الخبراء والمختصين، من نقصٍ في إمداد توزيع التيار الكهربائي، لا سيما في المدن الصناعية والمراكز الاقتصادية الكبرى، يفاقمه ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة في عموم القارة الأميركية، بشكل خاص، في ظل ازدياد الطلب على طاقة التبريد في فصل الصيف.

حال شبكة التوزيع على نطاق الأراضي الأميركي لا تبشر بالأمل، في المديين القصير والمتوسط، بل تعدّ الأزمة مركّبة تتحكم بها عدة عوامل: ذاتياً، يمكن تعريفها بالبنيوية ترتبط بسيطرة “القطاع الخاص” ومصالحه في مراكمة الأرباح وتراجع استثماراته في البنى التحتية التي تعود إلى ما ينوف عن 4 عقود زمنية؛ وموضوعياً، كوارث طبيعية ببروز تشققات هيكلية في أحدى أهم وأبرز منشأة لتخزين التيار الكهربائي وتوليده، “سد هوفر” في ولايات الغرب الأميركي، والذي أطلق عليه “سد المعجزة” في إبّان مرحلة تصميمه وإنشائه على نهر كولورادو على ضفتي ولايتي أريزونا ونيفادا، خلال مرحلة “الكساد الكبير” التي اجتاحت الولايات المتحدة بين عامي 1931 و  1936.

“سد المعجزة” شكّل تحدياً هندسياً آنذاك؛ نظراً إلى العوامل المعوّقة التي واجهها علماء الطبيعة، والجيولوجيا، وتنبؤاتهم بأنه “لن يصمد وستزيله قوى الطبيعة عاجلاً أم آجلاً” واعتماد تقنيات لم يتم التثبت من فعاليتها. جرى تصميمه باعتماد نظام السدود القوسية التي توزّع حجم قوة الضغط الناشئة من المنتصف إلى الصخور على جانبي السد، لتخفيف سرعة اندفاع المياه مع جسم السد، فضلاً عن طبيعة المناخ الصحراوي الذي تسببت حرارته المرتفعة في سرعة تصلّب طبقات الإسمنت وإسهامها في إضعاف متانة البناء الخراساني. وتم ابتكار حل هندسي يتيح تمديد أنابيب لضخ الماء البارد نسبياً بين المواقع المراد صب الخرسانة بها وتمكين التحام طبقات الإسمنت المختلفة بشكل متناسق (معلومات مستقاة من موقع “هيئة استصلاح الأراضي” الرسمية (Bureau of Reclamation)، المشرفة على مشاريع ضخمة متعددة في 17 ولاية في الغرب الأميركي).

اندلع حريق بعد انفجار هائل في محوّل كهربائي لـ “سد هوفر”، يوم 20 تموز/يوليو الجاري، وشوهدت أعمدة الدخان الكثيفة تتصاعد من منشأة السد الذي توفّر مولّداته الطاقة الكهربائية لمحطات تغذية في ولايات نيفادا وأريزونا وكاليفورنيا، ويعدّ أيضاَ أكبر خزان مياه لتوليد الطاقة والري في البلاد (بيان “هيئة استصلاح الأراضي” الأميركية).

تعطّل ايصال التيار الكهربائي إلى المنازل والمؤسسات العامة، نتيجة انفجار السد، لم يكن المشهد الأول في انكشاف تشققات شبكة التوزيع الضخمة في الأراضي الأميركية وترهّل أدائها، إذ تتكرر حوادث انقطاع التوصيل بصور مطابقة لما سبقها ويسبقها من تجارب، من دون معالجة وافية وملموسة لتحديث البنى التحتية، إلا في حالات استثنائية.

في مثل هذه الأيام من صيف العام الماضي، رصدت يومية “واشنطن بوست” انقطاعاً متواصلاً للتيار الكهربائي في ولايات أقصى الشمال الغربي، واشنطن وآيداهو وأوريغون، إضافة إلى كاليفورنيا ونيفادا ومشيغان في أواسط البلاد، ما دفعها إلى القول عن الانقطاع المستمر بأن يشكل “ناقوساً للحال المهترئة لشبكة توزيع التيار الكهربائي الأميركية، والتي تمضي في مسارها العملي دائماً وهي على حافة” الهاوية (“واشنطن بوست”، 29 حزيران/يونيو 2021).

وأضافت الصحيفة أن درجة حرارة الصيف العالية، بما تشكله من ضغوط إضافية على استخدام التيار الكهربائي، لم تكن هي مصدر انقطاع التيار في ولاية تكساس في شهر شباط/فبراير من شتاء العام عينه، مثلاً، بل سبقتها ولاية كاليفورنيا في انقطاع شبه شامل للطاقة الكهربائية في عام 2020.

وفنّدت الصحيفة مزاعم حاكم ولاية تكساس عن الحزب الجمهوري، غريغ آبوت، في 8 حزيران/يونيو 2021، بأن إدارته “صادقت على تنفيذ وإنجاز كل الإجراءات المطلوب اتخاذها لمعالجة قصور أداء شبكة الكهرباء في تكساس”، بأن ذلك لم يكن دقيقاً، ولم يصمد تطمين الحاكم أكثر من أسبوع، ليتبيّن أن شيئاً من ذلك القبيل لم يتحقق.

يشار إلى أن أحدث البيانات المناخية تشير إلى ارتفاع درجة الحرارة في ولاية اكساس لنحو 115 درجة فهرنهايت (46 درجة مئوية)، وتسببت في انقطاع متزايد للتيار الكهربائي (وكالة “رويترز”، 22 تموز/يوليو 2022).

أقرّت الناطقة باسم “هيئة استصلاح الأراضي”، باتي آرون، بجسامة المعضلة الناجمة عن تراجع منسوب مياه السد نتيجة الجفاف العام الذي “نشهد استمراره لنحو 23 عاماً في حوض نهر كولورادو وبحيرة ميد، والتي انخفض منسوب مياهها بنحو 28%”. وبلغ معدّل انحسار ارتفاع المياه نحو 140 قدماً منذ عام 2000، أي ما يعادل ارتفاع ثمثال الحرية في نيويورك، بحسب تقرير وكالة “رويترز”.

من خيارات معالجتها لأزمة الجفاف، افادت “هيئة استصلاح الأراضي” بضرورة تقليص حجم استهلاك الفرد للمياه في المناطق الحضرية المكتظة، مثل جنوبي ولاية كاليفورنيا ومدينتي لاس فيغاس وفينكس، فضلاً عن خفض حجم المياه المخصصة لري الأراضي والمحاصيل الزراعية، وما ينطوي عليه من تفاقم أزمة في نقص المواد الغذائية المعروضة ويواكبه ارتفاع ملحوظ في الأسعار.

في جانب المعلومات، شبكتي كهرباء الولايات المتحدة وكندا مترابطتان، وما تتأثر به أحداهما تتأثر به الأخرى وإن بنسب متفاوتة، بيد أن قطاع الكهرباء الأميركي مملوك بالكامل لعدد ضئيل لا يتجاوز 10 من الشركات الخاصة، والتي “تعمل باستقلالية عالية عن بعضها بعضاً”، وتشرف عليها بشكل محدود وزارة الطاقة الفدرالية، توّلد بمجموعها 4.12 تريليون كيلو وات، بنسبة 61% من مصادر أحفورية و19% من الطاقة النووية، و 20% من مصادر متجددة كالرياح والطاقة الشمسية تتصدرها ولاية كاليفورنيا (“هيئة معلومات الطاقة الأميركية”، لعام 2021).

تتضمن شبكات التوزيع الأميركية “أكثر من 7000 مفاعل لتوليد الطاقة، ومئات الآلاف من الأميال الناقلة لخطوط كهربائية عالية التوتر ونحو 55،000 محطة ناقلة” (أسبوعية “يو أس نيوز آند وورلد ريبورت”، 23 أيلول/سبتمبر 2016).

تم تصميم شبكة التوزيع الأميركية لمدة لا تتجاوز 50 عاما، بحسب الخبراء، قبل إدخال تحديثات وإنشاء محطات بديلة موازية لاستيعاب تزايد الطلب على توفير التيار الكهربائي، بل هناك أجزاء منها يفوق عمره 100 سنة، وفق بيانات “المجمّع الأميركي للهندسة المعمارية” وتقييمه، تعززها بيانات صادرة عن “وزارة الطاقة الأميركية” التي رصدت ارتفاعاً ملحوظاً بنسبة 124% في منسوب انقطاع تام للتيار الكهربائي في عموم الولايات المتحدة التي تستهدف نحو 500،000 مشترك على الأقل. واضاف المجمّع العلمي أن تراكم تلك الحالة المأساوية هو نتيجة مباشرة لتقدم عمر شبكات التوزيع وانحسار إجراءات تحديثها.

عند احتساب تراجع نسبة “مخزون الطاقة” للاحتياجات الطارئة لدى الشركات المعنية التي تبلغ نحو 2.3% في ولايات الشمال الأوسط مقابل تنامي الطلب بنسبة 1.7%، وتبنى عليه نماذج موازية في مناطق الكثافة السكانية الأخرى، يقترب المرء من عمق حجم التحدي الذي وصل إلى “مستوى متقدم من المخاطرة” للقسم الغربي من الأراضي الأميركية (تقرير “شركة اعتماد كهرباء أميركا الشمالية”، بتاريخ أيار 2022).

وعبّرت يومية “وول ستريت جورنال” عن الحالة المأساوية لشبكة توليد الكهرباء بعنوان صادم “شبكة توليد الكهرباء الأميركية لا يعوّل عليها تصاعدياً”، فقد ارتفع معدل انقطاع التيار إلى نحو 180 حالة في عام 2020، في حين سجّل أقل من 10 حوادث في عام 2000 (“وول ستريت جورنال”، 18 شباط/فبراير 2022).

المجلة الأميركية المتخصصة بالعلوم الطبيعية اصدرت حكماً أقسى من يومية المال والأعمال بعنوان مباشر “تكرار حوادث انقطاع التيار في أميركا هي أكثر من أي دولة متطورة”، استناداً إلى بحث علمي قدمه مهندس كمبيوتر وكهرباء في جامعة مينيسوتا، تموز/يوليو 2014 (مجلة “بوبيولار ساينس”، 17 آب/أغسطس 2020).

وأوضح تقرير المجلة أعلاه أن إنشاء معظم خطوط الشبكة الراهنة تم في عقد الخمسينيات من القرن الماضي بعمر افتراضي لنحو 50 عاماً، لم يواكب متطلبات التمدد وزيادة الطلب على الطاقة، واكتفى المشرفون عليها بإضافة ما يحتاجونه من مولدات ومعدات أخرى قديمة.

تصطدم سبل معالجة انقطاع التيار الكهربائي المزمنة مع الأولويات السياسية الراهنة، ليس لأجندة الرئيس جو بايدن فحسب، بل لعموم المؤسسة الحاكمة بتركيز أولوياتها على محاربة روسيا لاستنزافها في أوكرانيا، والصين أيضاً. وتراجعت، حكماً، وعود الرئيس الأميركي بإيلاء مسألة مكافحة تلوث البيئة أهمية الصدارة، وتجديد العمل باتفاقيات باريس للمناخ، التي انسحب منها سلفه الرئيس دونالد ترامب.

في السياق عينه، تتقلّص أيضاً طموحات حملة الرئيس بايدن الانتخابية في الاستثمار بالسيارات الكهربائية والتراجع التدريجي عن الاعتماد على مصادر طاقة ملوّثة، وفي ظل ارتفاع مطّرد لكلفة مصادر الطاقة، حال أقرّ بها وزير الطاقة الأميركي، بيت بوتيجيج، بأن طاقة شبكة الكهرباء الراهنة لن تتحمل مزيداً من ضغط مطالب تزويد السيارات الكهربائية بالطاقة.

من الخيارات “المرّة”، التي وضعت المؤسسة الحاكمة نفسها أمامها، إعادة التجديد لشركات التنقيب والحفر عن النفط والغاز، وصرف الأنظار عن التعهدات المتتالية للمسؤولين بالاستثمار في مصادر “طاقة نظيفة”، وذلك أسوة بما يجري لحلفاء واشنطن في دول الناتو التي أضحت على مفترق طرق مؤلم لتوفير الغاز قبل حلول فصل الشتاء، وندوب خيارات البحث عن بدائل طاقة وفيرة ورخيصة لمصادر الطاقة الروسية.

2022-21-07-التقرير الأسبوعي

ينشر بالتعاون مع “الميادين”

أميركا: أزمة رئاسية متراكمة
تُجدّد دور العسكر في القرار

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

تدهور الحال الذهنية للرئيس الأميركي جو بايدن وتبعاتها المستمرة على المستويين الذاتي والعام، والعالمي أيضاً، أضحت مادة إعلامية ثابتة ومصدر قلق دائم للمؤسسة الحاكمة الأميركية ومخطّطاتها الاستراتيجية، وكذلك على “حلفاء وشركاء” واشنطن في العالم قاطبة.

البعد غير المرئي في تدهور مكانة الولايات المتحدة هو تعاظم دور القيادات العسكرية في صنع القرار السياسي، على الرغم من دورها المرسوم  بمسؤوليتها أما الرئيس، القائد الأعلى للقوات المسلحة.

ويمكن القول إن “سيطرة” المدنيين على قرار المؤسسة العسكرية تراجع “بصمت، لكن بوتيرة ثابتة” منذ 3 عقود تزامناً مع نهاية حقبة الحرب الباردة، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، واكبها تنامٍ مطرد في نفوذ القيادات العسكرية، ودورها المحوري في تصميم الحروب المتتالية وشنها منذ تلك الآونة، وإطلاق مصطلح “الحرب على الإرهاب” كعنوان فضفاض يتيح للمؤسّسة التمدد والتدخل و”إدارة الحروب” على نطاق الكون كله.

بيد أن الحصيلة العامة لتلك المعادلة لا تكمن في تعريفها الثنائي للقرار، أي إما العسكر، وإما السياسيون، بل حافظ الطرفان على علاقة توازن بينهما استطاع العسكريون التحكم بطبيعة المعلومات المراد تعميمها وممارسة سيطرة غير مرئية أحياناً على آليات صنع القرار السياسي، في السلطتين التنفيذية والتشريعية على السواء.

مناسبة هذه المقدّمة الضرورية فرضتها جولة الرئيس جو بايدن الأخيرة في “الشرق الأوسط”، وما رافقها من توقعات محلية مفرطة أحياناً  لناحية الضغط الذي ينوي الرئيس الأميركي ممارسته على بعض دول المنطقة، وخصوصاً المنتجة للنفط.

ودرجت العادة  على دعم القوى السياسية كافة، بتوافق الحزبين، أفراداً ومؤسسات الرئيس في جولاته الخارجية، والعزوف عن توجيه أي انتقاد له، مهما كانت، لإتاحة له فرصة الظهور أقوى أمام محاوريه.

وجاء استثناء تلك القاعدة أو العرف على لسان طبيب البيت الأبيض في ولاية الرئيس أوباما، روني جاكسون، الذي انتقد الحالة الذهنية للرئيس جو بايدن، قائلاً: “كلنا يدرك أن بايدن لا يصلح لمنصب الرئيس. قدراته العقلية تجاوزت حدود المعقول”، كلامه هذا استدعى من الرئيس الأسبق أوباما توجيه توبيخ شديد اللهجة إلى طبيبه الخاص السابق، معرباً عن “خيبة أمله” من انتقاده أهلية الرئيس بايدن علناً (شبكة “سي أن أن”، 13 تموز/يوليو 2022).

التدهور المتسارع في أداء الرئيس بايدن وزلاّته المستمرة أوقعت فريقه الاستشاري ومساعديه في حال من الحرج لكثرة المبذول من الجهود لتطويق تبعاتها. أقربها ما جرى الإعداد له قبيل زيارته السعودية والتركيز على “مصافحة القبضة” مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لكن بايدن “نسي” ارشادات فريقه وشوهد يصافح باليد عدداً من المسؤولين في “جدة وتل أبيب”. فضلاً عن وقوفه “مذهولا” لا يلوي على شيء في عدد من المواقف، ما لم يشكّل مادة تندّر إعلامية وحسب، بل أكّد شكوك عدد من قادة دول العالم في عجز الرئيس بايدن، وعدم أهليته لاتخاذ أي قرار، وهو أفضل تعبير عن مكانته كواجهة لآخرين يصنعون القرار.

ترجمة تلك الظواهر، بل العوارض، التي لم يعد بالإمكان إضفاء مساحيق الإخراج السينمائي عليها، في بعد السياسة الخارجية الأميركية، تجدّد الاعتبار لتعاظم دور القادة العسكريين في رسم معالم السياسة الخارجية، وما يعزّز ذلك جملة من الشكاوى التي عاناها الرئيس الأسبق باراك أوباما باتهام ضباط البنتاغون بمحاصرته عبر “تقليص الخيارات” المتاحة وخصوصاً في “اضطراره” إلى قبول زيادة عديد القوات العسكرية في أفغانستان، عام 2015، موحياً بأنه لم يكن يشاطر قادته تلك الرؤية. وسارع إلى الأخذ بالثأر عبر إقالته قائد القوات العسكرية الأميركية في أفغانستان، الجنرال ستانلي ماكريستال، على خلفية تصريحات مناوئة للبيت الأبيض أدلى بها الأخير إلى أحد الصحافيين.

عند مراجعة الجدل الرتيب المرافق عادة لإقرار ميزانية وزارة الدفاع السنوية، لوحظ في السنوات القليلة الأخيرة “رضوخ” كلتا السلطتين، التنفيذية والتشريعية، لاستيعاب الضغوط العالية الممارسة عليهما لإقرار سقف ميزانيات أعلى مما طلبه قادة البنتاغون، قيمته 37 مليار دولا زيادة للسنة المالية المقبلة، وهزيمة اقتراح عضو في مجلس النواب اقتطاع “100 مليار دولار” من ميزانية البنتاغون للإنفاق على مواجهة التحديات الاجتماعية المتمثلة في شح فرص السكن وتنامي ظاهرة المشردين.

ونظرة أشمل على حضور مكثف للعسكر في القرار السياسي تقود المرء إلى الاستدلال على تآكل “السيطرة المدنية”، أو تراجعها على أقل تقدير، خارج أسوار البنتاغون، وتحشيدها قادة موثوق بهم لشغل مناصب بالغة الحساسية في دوائر صنع القرار المحيطة بالبيت الأبيض. لعل أبرزهم، في الآونة الأخيرة، وزير الدفاع جيمس ماتيس مخالفاً لتقليد تسليم المهمة إلى شخصية مدنية، ورئيس موظفي البيت الأبيض ومستشار الأمن القومي لترامب، أتش آر ماكماستر.

أما التجسيد الأبرز لدور العسكر فيعيدنا إلى الصراع داخل المؤسسة الحاكمة عقب الانتخابات الرئاسية الماضية، 2020، حينما وجّه اثنان من القادة العسكريين الكبار خطاباً مفتوحاً إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة، مارك ميللي، طالبان فيه بـ “خلع” الرئيس ترامب إذا رفض مغادرة منصبه بعد خسارته الجولة الانتخابية.

تجدر الإشارة إلى “رضوخ” السلطة التشريعية، الكونغرس بمجلسيه، لضغوط البنتاغون لتعيين وزير للدفاع من بين قادته بخلاف الشرط المسبق الذي اتبعه الكونغرس بوجوب تقاعد الضباط لمدة 7 سنوات على الأقل، قبل الموافقة على تسلمهم مناصب رفيعة المستوى في وزارة الدفاع، عملاً بإجراءات إصلاحية أقرّت عام 1947 بالخصوص نفسه.

والمؤسسة الأمنية، بجميع تشعباتها ووكالاتها المختلفة، تسير على قدم وساق مع المؤسسة العسكرية، يكمل كل منهما الآخر، ما تؤكّده آليات صرف الميزانيات السنوية الضخمة لتلك الأجهزة، والتي قلما تواجه بعض المساءلة الشكلية للحفاظ على صورة النظام الديموقراطي لدى الجمهور.

تنتظم جهود أفرع المؤسسات الاستخباراتية الأميركية في نحو 17 جهازا، تتوزّع على جملة اختصاصات منها: وكالات استخبارية لأفرع القوات المسلحة، ووكالات حكومية أخرى، تعمل بمجموعها لدعم السياسة الخارجية الأميركية. وبلغت ميزانياتها الإجمالية لعام 2022 نحو “86 مليار دولار”، لكنّها لا تشمل “وزارة الأمن الداخلي” التي أنشئت عام 2002 بميزانية بلغت 40 مليار دولار، ارتفعت إلى 1.1 تريليون دولار عام 2017، وتزداد تباعاً (ميزانيات الأجهزة الاستخبارية مدرجة في تقرير “خدمة أبحاث الكونغرس”، 12 كانون الأول/ديسمبر 2021).

تتعاظم أدوار الأجهزة الاستخباراتية المختلفة طرداً مع منسوب التحديات التي تواجهها السياسة الخارجية الأميركية، واعتمادها بصورة متصاعدة على نفوذها الدولي، الذي يترجم نفوذاً موازياً في دوائر صنع القرار، أسوة بدور المؤسسة العسكرية.

دشّن الرئيس المنتخب جو بايدن ولايته الرئاسية باتهام سلفه الرئيس دونالد ترامب بتقويض المؤسسة الاستخبارية وتعريضها “لأضرار كبيرة”، عدّها البعض بوليصة تأمين لتحالف سلس منشود بين البيت الأبيض والمؤسسة الاستخبارية الشاملة، سرعان ما تبدد عقب صراع بين وعود الرئيس الانتخابية بالانسحاب من أفغانستان ورؤى المؤسسة النافذة في صنع القرار لتقنين الانسحاب، وتبنّي اجندتها الخاصة في الاستثمار بتقنية أمن المعلومات وتحصين سلامة الشبكات الأميركية الهائلة، والأهم مواكبة رؤيتها في استهداف الصين وروسيا، بصورة رئيسة، وعدم التساهل مع كل من إيران وكوريا الشمالية.

تلك العناصر أضحت بديهيات لسياسة البيت الأبيض الخارجية، مع استمرار منسوب العداء للنظم الوطنية المستقلة في أميركا الوسطى والجنوبية، وتشديد التعامل “الخشن” وتنشيط سياسة نشوب “الثورات الملونة” في مناطق متعددة من العالم، خصوصاً في باكستان وسيريلانكا اللتين تعرّضتا لانقلاب على السلطة بعد أيام وجيزة من انتهاج قيادتهما سياسة تقارب وتفاهم مع روسيا الاتحادية.

2022-30-05-التقرير الأسبوعي

(ملاحظة: سيحتجب التقرير الأسبوعي عن الصدور لشهر حزيران/تموز المقبل، على أن يستأنف صدوره كالمعتاد)

أميركا: مرض ثقافة العنف
وعجز المشرّعين

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

مجزرة مروعة أخرى ذهب ضحيتها طلبة مدرسة ابتدائية، في ولاية تكساس، استثارت ردود أفعال بليغة كلامياً، كما هو متوقّع، وتكرارَ دعوات سابقة بضرورة تشديد قيود اقتناء السلاح، لم تُجْدِ نفعاً حتى الآن، وتصريحاً للرئيس بايدن بالكاد لامس عمق المسألة، قائلا: “أتوجّه بطلب إلى الأمة بالصلاة من أجل أرواح الضحايا، وقد شهدتُ أكثر من 900 حادثة إطلاق نار على طلبة المدارس منذ 10 سنوات خلت”؛ أي خلال فترة خدمته الرسمية نائباً لرئيس للولايات المتحدة، مشيراً إلى فشل الهيئات الحكومية الأميركية “احتواء” تداعيات انتشار السلاح الناري، ناهيك بإيجاد حلول مُرضية (بيان البيت الأبيض، 24 ايار/مايو الحالي).

تتباين التحليلات الرسمية والعلمية الأميركية في سبر أغوار ظاهرة تفشي العنف المسلّح، وخصوصاً في العقد الأخير من القرن الحالي. ودوافع اقتناء الأسلحة النارية، بصورة عامة، هي نتيجة معالجة الفرد لمصادر “الخوف والكبت والحقد” بسبب الفوارق الاجتماعية والاقتصادية. وفضلت التركيز على محور معالجتها التقليدي، الذي يستعيد مطلب “سن قوانين متشددة” لتراخيص اقتناء السلاح، من دون المساس بالنص والروح لـ”مادة التعديل الدستورية الثانية”، التي تجيز حمل السلاح، وكذلك ظاهرة ارتفاع معدلات العنف الأسري ليشمل أغلبية القطاعات الاجتماعية.

في المجمل، تتفادى هذه التحليلات الولوج إلى عمق البنى السياسية والثقافية في النظام الرأسمالي الأميركي، إذ شكّل العنف المسلح ركيزة نشأته وضمان استمراريته، وخصوصاً بشأن ما يؤمن به قطاع واسع من الشعب حول”فرادته”، وبلوغه مرحلة “إزدهار الحلم الأميركي”، وحصرية امتيازاته ومزاياه الاقتصادية في شريحة ضيقة من السلم الاجتماعي، أو معالجة ظاهرة العنصرية المزمنة في بنى الكيان السياسي منذ تأسيسه.

استعادت مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، المرئية والمقروءة والمسموعة، بيانات توضّح ما آلت إليه ظاهرة تفشي إطلاق النار داخل مباني المدارس، وخصوصاً الابتدائية، وإثارة “بعض” التساؤلات المشروعة بشأن تباين المخصصات المالية الضخمة لأجهزة الشرطة ومردود سوء أدائها، بل الإفراط في قسوتها، في كل مرة.

وفي التفاصيل، جاءت المجزرة الأخيرة في المرتبة “137 ضد المدارس للعام الجاري، بينما شهد العام الماضي 249 حادثة إطلاق نار في المدارس، ما شكّل أسوأ عام على الإطلاق” (تحقيق أجرته شبكة “البث العام – بي بي أس”، 25 أيار/مايو 2022).

البيانات الرسمية الصادمة أفرج عنها “مكتب التحقيقات الفيدرالي – أف بي آي” عام 2020، مشيراً إلى ارتفاع معدلات شراء السلاح إلى “40 مليون قطعة من جانب مواطنين أميركيين، منها نحو 40% لمستخدمين جدد”؛ أي ما يعادل أكثر من 5 ملايين مواطن. وأضاف المكتب أن “نحو 33% من المشترين هم من النساء، وعادت بعضهن إلى شراء قطعة سلاح أخرى في عام 2021 بنسبة 23%، إذ بلغت حصتهن من مجمل حَمَلة السلاح أكثر من 42%”.

وأوضحت دراسة حديثة أن نحو “70% من حوادث إطلاق النار في عموم الولايات المتحدة تعود جذورها إلى العنف الأسَري”، مشيرة إلى أن الشابّ في مجزرة المدرسة الابتدائية أطلق النار على جدته قبل توجهه إلى مبنى المدرسة في مدينة يوفالدي في ولاية تكساس (دراسة صادرة عن جامعة “جونز هوبكينز”، 27 أيار/مايو 2022).

واستطردت الدراسة أن “نحو نصف حوادث العنف الأسري لا يتم إبلاغ أجهزة الشرطة بشأنه”، وأوضحت بعض دوافعها لاحقاً، ومردها أن الضحايا لا يثقون بجدّية الأجهزة الأمنية، وخصوصاً حينما تتعلق المسألة بالمرأة، وهو ما يشير أيضاً إلى استشراء ظاهرة  “كراهية النساء”. ودلّت بيانات الأجهزة الرسمية، هيئة إحصاءات العدالة، على انخفاض معدل حوادث العنف الأسَري المبلّغ بشأنها “في عام 2019 مقارنة بحوادث عام 2010” (بيانات الهيئة Bureau of Justice Statistics””، 5 تشرين الأول/اكتوبر 2021).

مع كل ما تقدّم، أضاف تحقيق لصحيفة “نيويورك تايمز” بُعداً خطيراً في مظاهر إطلاق النار، ألا وهو “ارتفاع حوادث غضب سائقي السيارات في الطرقات العامة، التي لا تتوفر عليها كاميرات مراقبة، منها الإبلاغ عن عشرات حوادث إطلاق النار في ولاية تكساس وحدها خلال فترة زيادة شراء الأسلحة، واكبها تصاعد معدلات توتر بين قطاعات الشعب” من المستقبل.

وأضافت أن جهاز شرطة مدينة دالاس، في ولاية تكساس، سجّل “مقتل 11 شخصاً، وجرح 45 آخرين، في العام الماضي، بينما سجّلت شرطة مدينة أوستن 160 حالة إشهار سلاح أو إطلاق النار من جانب سائقي السيارات”. وبلغ نصيب ولاية تكساس من حوادث إطلاق النار على الطرقات العامة “نحو 25% من المجموع العام في عام 2021، على نحو أسفر عن مقتل 33 فرداً” (يومية “نيويورك تايمز”، 12 نيسان/إبريل 2022).

 

سبل المعالجة

أدّى تعدد دوافع حوادث الأسلحة النارية إلى شبه إجماع على تَناوُل المؤسسات لطرائق التصدي لإطلاق النار وسبل معالجتها، أبرزها ما أقدمت عليه يومية “نيويورك تايمز”، بتاريخ 21 نيسان/ابريل 2022، استناداً إلى مروحة واسعة من مساهمة أختصاصيين وعلماء نفس وعلماء اجتماع، وفحواه أن “تفسير” الظاهرة يكمن في 3 نواحً، ليبني عليها الطاقم السياسي حلولاً موازية.

الأولى، مناخ اضطراب الحياة اليومية في المجتمع نتيجة الإغلاق المتواصل لمواجهة جائحة “كورونا”، من ضمنها برامج الخدمات الاجتماعية “التي في استطاعتها “ترويض الجريمة والعنف”، وما أسفرت عنه من ارتفاع معدلات شراء الأسلحة النارية.

الثانية، فقدان شرائح المجتمع الثقة بالمؤسسات الرسمية، وواكبه اتساع الهوّتين الاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى التعبير “العنفي أحياناً” عن منسوب الغضب المكبوت.

الثالثة، عسكرة أجهزة الشرطة في مختلف المقاطعات الأميركية، والتي يبلغ تعدادها أكثر من 2000 جهاز، والإفراط في قسوة تعاملها مع حوادث “عادية” لا تستدعي استخدام السلاح كخيار أول، فضلاً عن زيادة ملحوظة في الاعتقالات الجماعية، واقتياد أعداد كبيرة من الشبّان إلى السجون والمعتقلات، التي أضحت مصدراً للرزق لفئة ضيقة من أرباب الأعمال “بتواطؤ بيّن من سلك القضاء”.

عند النظر في عامل نفوذ شركات صناعات الأسلحة على صنّاع القرار، في المستويين المحلي والفيدرالي، والأخذ في الاعتبار المردود المالي عليها، يقترب المرء من ملامسة ما تنطوي عليه سياسة “الباب الدوّار”، لمصالح متبادلة، بين السياسيين ورأس المال، عبر آلية “اللوبيات”، وخصوصاً لوبي الأسلحة النارية ممثلاً في “مجموعة البنادق الوطنية – NRA”.

بلغ حجم صادرات الأسلحة الأميركية 138 مليار دولار، في عام 2021. تلقّى الساسة الأميركيون نحو 172 مليون دولار، لعقدين من الزمن، من أجل المصادقة على تشريعات وقوانين لمصلحة تلك الشركات، ووفّرت أيضاً نحو 155 مليوناً في العقد الماضي لدعم “مرشحّين بعينهم” في حملات انتخابية متعددة (بحسب بيانات منظمة “أوبن سيكريتس Open Secrets”).

من ناحية أخرى، في محاولة لسبر أغوار العنف المسلح، أشارت دراسة لمعهد “بروكينغز” إلى ارتفاع أعداد “المجموعات اليمينية المسلحة، والتي تشكل تهديداً كبيراً للنظام الديموقراطي الأميركي وأحكام القانون أكثر من أي مجموعة للجريمة المنظمة”، عمادها “العنصريون البيض المعادون للهجرة” (معهد “بروكينغز”، 21 كانون الثاني/يناير 2021).

يستطيع المرء الاستنتاج من دون عناء، بعد عرض عدد من الدراسات والأبحاث السالفة الذكر، أن المجتمع الأميركي اليوم أضحى عاجزاً عن “قبول الآخرين”، اتساقاً مع ارتفاع معدلات الهجرة وتقلص الفرص الاقتصادية وتدني برامج الرعاية الاجتماعية والصحية، وتفشي ظاهرة العصابات المسلحة والمنظمة، تحت سمع الأجهزة الأمنية الرسمية وبصرها.

ذريعة “مادة التعديل الثانية”، التي يتسلح بها أنصار حمل الأسلحة النارية، لم تعد ذات قيمة في العصر الحديث. وتجدر الإشارة إلى تعليق رئيس المحكة العليا الفيدرالية، ووران بيرغر، قبل نحو 31 عاماً، قائلاً إن الزعم بشأن تخويل المادة الثانية الحرية الفردية لحمل السلاح هي “إحدى أكبر منصات الاحتيال”.

وتراجعت المحكمة العليا عن قراراتها وتوجهاتها السابقة، عقب تعديل موازين القوى لمصلحة التيار اليميني المتشدد، مجددة تفسيرها السابق لـ “حق الفرد في اقتناء السلاح”، في قضية حازت أهتماماً كبيراً  في عام 2008، واستندت إليه مجالس الولايات المحلية للسماح بحمل السلاح في الأماكن العامة، من دون التقيد بالحصول على ترخيص مسبّق بذلك.

حوادث إطلاق النار على المدنيين العزّل ظاهرة منبعها ثقافة مجتمع أميركي يحابي الظواهر العسكرية، ويتم ترويجها عبر منتجات هوليوود المتعددة الأهداف والشرائح الاجتماعية، وتُعلي مكانة الخدمة العسكرية في الأجهزة الأمنية، بحيث يصبح العنف المسلّح لازمة ضرورية لسياسات تطبّق في كل مناحي الحياة اليومية.

أمّا المعالجة الجادة واستباط الحلول، من جانب الحزبين الرئيسيين، الديموقراطي والجمهوري، فسرعان ما يتراجع زخمها بتواطؤ مدروس من المنظومة الإعلامية المتكاملة، المقروءة والمرئية، لتعود الحياة اليومية إلى سابق عهدها، وخصوصاً في دوامة إشغال الشعب، في كل قطاعاته، بانتخابات تتجدد مرة كل سنتين، بحيث لا تتوافر فرصة حقيقية لبناء رأي عام ضاغط ومؤثّر في صنّاع القرار.

2022-27-05-التقرير الأسبوعي

(ينشر بالتعاون مع موقع “الميادين” اونلاين)

هل ينجح إردوغان بابتزاز “الناتو”
ويحقق أطماعه في الشمال السوري؟

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

أثار عزم كل من السويد وفنلندا انضمامهما إلى حلف “الناتو” تحفّظ تركيا، أوجزه الرئيس التركي، رجب طيّب إردوغان، بأن بلاده “لا تريد (تكرار) خطأ حلف الأطلسي بقبوله عضوية اليونان، فالدول الاسكندنافية تعدّ دار ضيافة لمنظمات إرهابية” (21 أيار/مايو 2022).

“خطأ الأطلسي”، بحسب الرئيس التركي، جاء على خلفية الاشتباك المسلح في جزيرة قبرص وإرسال أنقرة قواتها إلى الجزيرة عام 1974، وانسحاب اليونان من الحلف احتجاجاً على عدم تدخل أعضائه ضد “الغزو التركي”. وعادت اليونان إلى عضوية الحلف، تشرين الأول/اكتوبر 1980، بموافقة أنقرة، التي شهدت انقلاباً عسكرياً بقيادة الجنرال كنعان إفرين. اليونان وقبرص عضوان في “الناتو” ما يمنحهما نفوذا ديبلوماسياً واسعاً.

علاقات أنقرة بعواصم الدول الاسكندنافية ليست على ما يرام، إذ شهدت توتراً ديبلوماسياً في الآونة الأخيرة على خلفية مشاركة وزير الدفاع السويدي، بيتر هولتكفيست، مع “قوات سوريا الديموقراطية”، في لقاء عبر الفيديو العام الماضي، ومرة أخرى عقب استقبال وزيرة الخارجية آن ليند وفداً من حزب الاتحاد الديموقراطي، رسمياً في السويد.

“تحفّظ” تركيا على توسيع عضوية الناتو، لضم السويد وفنلندا، له جملة أبعاد وخلفيات تعتبرها أنقرة تهديداً لأمنها القومي، نشير هنا إلى أبرز أسبابها: الأول، خشية تركيا من توتر جديد مع موسكو وارتداداته عليها بعد انفراج وتقارب بينهما في السنوات الأخيرة. الثاني، قلق أنقرة من إرباك حساباتها ومصالحها الإقليمية في منطقة القوقاز، وفي الواجهة انتقاد ثابت لتركيا من قبل السويد وفنلندا على خلفية انتهاكاتها لحقوق الإنسان، والأزمة التي أدت إلى نية أنقرة طرد 10 ديبلوماسيين غربيين سرعان ما تراجعت عنها، في تشرين الأول/اكتوبر 2021، بعد إدانة اعتقالها للناشط التركي عثمان كافالا، ولخشيتها أيضاً من تحشيد الدولتين أعضاء الحلف ضدها، أسوة بما فعلته اليونان.

تركيا استغلت الفرصة لابتزاز خصومها في “الناتو” بمطالبتها كلاً من السويد وفنلندا برفع حظر بيع الأسلحة المفروض عليها منذ عام 2019، عقب هجومها العسكري على القوات الكردية في شمال شرق سوريا، وتسليمها العشرات من المناوئين لسياساتها المقيمين في تلك الدول.

وفي أحدث اتهامات أنقرة ضد ستوكهولم، زعمت “القوى الأمنية التركية” أنها عثرت على أسلحة مضادة للدروع “سويدية المنشأ” مع قوات حزب العمال الكردستاني، خلال مداهمتها كهوفاً لمقاتليه شمالي العراق، الأمر الذي من شأنه تعزيز أوراق الضغط التركية ضد عضوية السويد وفنلندا. اللافت في توقيت الاتهام أنه أتى عشية وصول وفدي البلدين إلى أنقرة للتباحث في “المخاوف التركية” (اسبوعية “نيوزويك”، 25 أيار/مايو 2022).

تتمتع السويد بصناعات عسكرية متطورة، أهمها “مجموعة صاب”، التي تنتج مروحة واسعة من الأسلحة المضادة للدروع الخفيفة والمتوسطة، كارل غوستاف،  وعدداً من نظم الدفاع الجوي والصواريخ الموجهة. كما ساهمت السويد في رفد أوكرانيا بأسلحة متطورة تحت رعاية الولايات المتحدة.

لتركيا مخاوف “أمنية” مع كل من روسيا والولايات المتحدة. وقد شهدت حروباً متواصلة مع روسيا منذ القرن ال15 بلغت “16 حرباً، وسنخوضها مرة أخرى”، كما صرّح بذلك مستشار الرئيس التركي والاستاذ في جامعة “يدي تبه” في اسطنبول، مسعود حقي كاسين، بتاريخ 16 شباط/فبراير 2022. وأضاف أن هناك “25 مليوناً من المسلمين يقطنون روسيا”، تلميحاً إلى إثارة تركيا قلاقل داخلية لروسيا.

كما أن سيطرة تركيا على مضائق البحر الأسود يثير قلقاً مزمناً لروسيا، إذ أغلقت أنقرة العبور من وإلى البحر منذ بدايات العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، فضلاً عن إغلاقها مجالها الجوي أمام حركتي الطيران المدني والعسكري الروسيين المتجهة إلى سوريا. بالإضافة إلى ذلك، تستنهض أنقرة النزعة الطورانية في دول الاتحاد السوفياتي السابق، أذربيجان نموذجاً، وإقليم شينجيانغ غربي الصين، لبسط سيطرتها وزعزعة استقرار الدولتين.

أما خلافاتها مع الولايات المتحدة، كدولة وظيفية في حلف “الناتو”، فهي موسمية “لا تلبث أن تخبو”، خصوصاً عند الأخذ بعين الاعتبار محاولات التأثير من قبل “اللوبي التركي” في واشنطن على أعضاء الكونغرس ومراكز الأبحاث المؤثرة في صناعة القرار السياسي.

لعبت تركيا دوراً محورياً بارزاً في الاستراتيجية الأميركية بشأن سوريا تحديداً، منذ ما قبل بدء العدوان الكوني عليها في شهر آذار/مارس 2011. ونشرت واشنطن بطاريات باتريوت للدفاع الجوي بالقرب من الحدود المشتركة مع سوريا، وتم سحبها في أعقاب التدخل العسكري الروسي المباشر عام 2015، ما أثار حفيظة الرئيس التركي إردوغان وقدم طلباً لشراء منظومة دفاع جوي خاص بتركيا، رفضته واشنطن.

توجه إردوغان إلى التفاهم مع الرئيس الروسي من أجل شراء منظومة أس-400 الروسية للدفاع الجوي، سرعان ما غضبت واشنطن واتخذت بعض الإجراءات العقابية ضده، منها استبعاد تركيا من برنامج مقاتلات “الشبح” الأميركية، من طراز أف-35، وتعليق طلبها لتحديث مقاتلاتها الحربية من طراز أف-16، وتدهور قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأميركي، 17.57 ليرة، فضلاً عن ارتفاع معدلات التضخم إلى نحو 60%، بحسب بيانات حديثة للبنك المركزي التركي.

مصير صفقة طائرات “الشبح” أضحى بيد الكونغرس الذي يعارض بقوة انفتاح أنقرة على موسكو، ويطالب أعضاؤه تركيا بتخليها عن المنظومة الروسية “لدواعٍ أمنية”، وإلا ستبقى الإجراءات العقابية سارية المفعول. أما دعم تركيا لأوكرانيا بطائرات “الدرون” ومعدات عسكرية أخرى فلم يشفع لها بتخفيف أو إلغاء العقوبات عليها.

كما أن محاولة الانقلاب على الرئيس إردوغان في نهاية عام 2016 أسفرت عن طلب عدد من كبار الضباط المفرزين للعمل في مقر حلف “الناتو” في بروكسيل اللجوء السياسي لخشيتهم من انتقام الرئيس التركي. بيد أن التنسيق العسكري بين الطرفين في عموم الإقليم لم يشهد تصدعاً، بل دعماً وتأييداً للتدخل التركي في ليبيا وسوريا وأذربيجان. وكذلك لمحاولة توسط تركيا بين روسيا وأوكرانيا.

الشائع في الأوساط الأميركية أن الرئيس التركي بارع في “ابتزاز” الآخرين، خصوصاً دول الاتحاد الأوروبي، وهي علاقة أشبه بـ “الغرام والكراهية” المتبادلة، ويتمتع بقراءة جيو-سياسية أقرب إلى الواقعية، ما يقود إلى الاستنتاج أن مراهناته الأخيرة تدلّ على “اعتقاده بأن المستقبل هو لتعدد القطبية إذ تأخذ كل من روسيا والصين دوريهما” (شبكة مايكروسوفت “أم أس أن”، 24 أيار/مايو 2022).

تجدر الإشارة إلى حقيقة الموقف الأميركي من “تمدد حلف الناتو”، بدءاً بأوكرانيا ومروراً بالدول الاسكندنافية، أن جوهر المسألة هو “إدارة الأزمة” وليس حلها، كما أوجز هنري كيسنجر الاستراتيجية الأميركية، ومشاغلة روسيا ومن ثم الصين. وعليه، تلجأ واشنطن إلى إشعال توترات في ساحات متعددة لإبقاء جذوة الصراع مشتعلة.

سواء وافق حلف الناتو بكامل أعضائه على عضوية فنلندا والسويد، أم تأجل القرار الجماعي بسبب تحفظ تركيا، فمن المستبعد أن يتم تجاوز عقبة تركيا “ثاني أكبر قوة عسكرية في الحلف” في المرحلة المقبلة، كما تدلّ عليه اسهامات وتعليقات كبار الكفاءات السياسية الأميركية، ومحورها أن “الأفضلية لعواصم الحلف، خصوصاً واشنطن، هي عقد احتفال تنصيب العضوين الجديدين عوضاً عن إجراء نقاش موسّع لتحديد الكلفة والمكاسب التي ستنجم عن انضمامهما”.

بداية، لوحظ تراجع رئيس حلف الناتو، ينس شتولتنبرغ، مخاطباً الصحفيين “نتعامل مع المخاوف التي أعربت عنها تركيا، والجلوس معها إلى طاولة مفاوضات وإيجاد أرضية مشتركة”، مقارنة مع تقرير لوكالة “بلومبيرغ” الأميركية، 22 أيار/مايو الحالي، بأن تهديدات إردوغان “تثير الشكوك بشأن الاعتماد على أنقرة كعضو في الحلف، وتقوّض الأمن الجماعي لحلف الأطلسي”.

في السياق عينه، توجه الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الكونغرس طالباً موافقته على بيع تركيا أسلحة ومعدات لتحديث اسطولها من مقاتلات إف-16. كما أن لوائح حلف الناتو الداخلية لا تجيز “طرد” أحد أعضائه، كإشارة إلى أولئك الغاضبين من “ابتزاز” الرئيس إردوغان.

وعند سؤال الرئيس بايدن، مطلع الأسبوع الحالي، عن المخاوف التي تثيرها تركيا مقابل قبولها توسيع عضوية الحلف، أجاب “لن أذهب إلى تركيا، لكنني أعتقد أن الأمر سيكون على ما يرام”.

وحذرت مجلة “ناشيونال إنترست” من تضييق الغرب الخناق على تركيا التي إن “تضرّرت يمكنها إضعاف الحلف من الداخل لعقود قادمة”، خصوصاً وأن الإجراء “الأشد خطورة هو في الحد من مشاركة تركيا في التدريبات المشتركة لحلف الناتو والتخطيط للعمليات المشتركة” (“ذي ناشيونال إنترست”، 22 أيار/مايو 2022).

وخصّت المجلة المذكورة انضمام فنلندا المزمع لحلف الناتو بمزيد من الشكوك والطلب من “واشنطن سحب تأييدها، نظراً لأنها تتمتع بعلاقات ودّية متبادلة معها، من دون الحاجة إلى التهديد بإبادة الشعب الروسي نووياً”.

أما مخاوف فنلندا من “غزو روسي” لأراضيها، بحسب المجلة، فإنها لا تشكل “سوى احتمال بعيد في الأزمنة العادية. سياسة فنلندا الحيادية الطويلة الأمد أثبتت نجاحاً أمنيا باهراً” وينبغي  التعويل على تجديدها.

بموازاة التصعيد الأميركي مجدداً في سوريا، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وعبر القصف “الإسرائيلي” المتواصل داخل العمق السوري، أعلن الرئيس التركي نيته شنّ عمية عسكرية واسعة في الشمال السوري تؤدي إلى إنشاء “منطقة آمنة بعمق 30 كيلو متراً” داخل الأراضي السورية، بذريعة أنها ستكون قادرة على استيعاب نحو مليون لاجيء سوري. الحكومة السورية أبلغت هيئات الأمم المتحدة أنها تعتبر الإعلان التركي “عدوانا يرمي إلى إنشاء بؤرةمتفجرة داخل سوريا”، واحتلالاً سيشهد مقاومة.

الاحتلال التركي المزمع لقضم مزيد من الأراضي السورية من شأنه خدمة عدد من الأطراف الدولية المعادية، خصوصاً وأن حلف “الناتو” وافق على إنشاء “منطقة آمنة” في شمال سوريا، في عام 2019، وتخدم بشكل أدق المجموعات الإرهابية الخاضعة لسيطرتها والتي ما فتئت تطالب بإنشاء “مناطق عازلة” و”فرض حظر جوي” على مناطق معينة.

أميركا “تمنعت” برفض الطلب التركي بعد مماطلة طويلة، وبذلت جهوداً مضاعفة لبسط سيطرتها على درة الأراضي السورية الغنية، شرق الفرات، التي تمثل أهمية استراتيجية بالنسبة إليها ولعملائها من تنظيمات إرهابية وقوى إقليمية.

بيد أنه يجب عدم النظر إلى الموقف الأميركي “الجديد” على أنه سيصطدم حتماً بالموقف التركي، بل نابع من انشغال واشنطن بملفات أشد تعقيداً على المستوى الكوني في تصديها لروسيا والصين. تركيا أحسنت استغلال الظرف السياسي الراهن لتحسين شروط ابتزازها، ومنها تخفيض عدد القوات الروسية في سوريا، كما يجري تداوله، لتعلن حضورها بقوة وجاهزيتها لاستكمال المخطط التفتيتي الأميركي، في سوريا والعراق، لقاء ثمن مناسب تقايض فيه مسألة انضمام الدولتين الاسكندنافيتين إلى حلف “الناتو”.

2022-18-05-التقرير الأسبوعي

(ينشر بالتعاون مع موقع “الميادين” اونلاين)

 

تمدّد “الناتو” إلى اسكندنافيا
تدفع الحرب إلى حافة النووي

د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

          جوهر الأزمة الأوكرانية هو صراع جيو-سياسي بين روسيا، من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، من الناحية الأخرى، قد ينزلق إلى مواجهة أوسع شمولية تطال الكون بأكمله.

          من الثوابت الأميركية، في هذا السياق، لجوء دوائر صنع القرار إلى توسيع ساحات الصراع من أجل تخفيف الضغط الروسي عن أوكرانيا، بدءاً بالترحيب بانضمام “دولتين محايدتين سابقا”، فنلندا والسويد، إلى مظلة حلف “الناتو”، الأمر الذي  يُدخل عنصر تحدٍّ جديداً لروسيا واضطرارها إلى نشر قواتها لتغطية مساحة إضافية من الحدود المشتركة مع فنلندا، بطول 1،300 كلم.

          أيضاً، نشطت الاستراتيجية الأميركية في مياه المحيط الهاديء لتطويق كل من روسيا والصين، الأولى عبر تجديد صراعات تاريخية إقليمية مع اليابان، والثانية عبر حشد دول جنوبي شرقي آسيا، مجموعة “آسيان”، ودفعها إلى الانضمام إلى التوجهات الأميركية إلى محاصرة الصين وقطع الطريق عليها لضم جزيرة تايوان، وتزويد الأخيرة بأسلحة أشد فتكاً من قدرتها على استيعابه.

          بيد أن انضمام الدولتين الاسكندنافياتين، السويد وفنلندا، إلى “الناتو”، تعترضه جملة معوّقات، على الرغم من الضخ الإعلامي المكثف بشأن حتمية موافقة كل أعضاء دول الحلف على الطلب المقدّم، أبرزها سريان مفعول معاهدة ثنائية بعدم الاعتداء بين روسيا وفنلندا، عقب الحرب العالمية الثانية في عام 1947 في باريس، تضمن وضعاً حيادياً لفنلندا في الصراعات الدولية، مدتها “أبدية perpetuity“، كما جاء في النص الأصلي للمعاهدة.

          يُشار إلى أن الصراع الروسي مع فنلندا له جذور تاريخية تمتد منذ القرن الثاني عشر، ولاحقاً انضمت فنلندا إلى ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية وفتحت أراضيها ومياهها لجحافل الغزو في اتجاه أراضي الاتحاد السوفيتي، بحيث جرى استغلال قِصَر المسافة التي تفصل مدينة “ستالينغراد”، أي سان بطرسبورغ، 400 كلم، عن الشواطيء الفنلندية.

أدى حصار “ستالينغراد” الشهير إلى هلاك ما لا يقل عن مليوني إنسان، بعد استشراء الأوبئة والمجاعة، نتيجةً للعدوان النازي القادم من الأراضي الفنلدية والبولندية. وأبرمت معاهدة الحياد  المذكورة بين موسكو وهلسنكي نتيجة هزيمة النازية، ودخول القوات السوفياتية عرين هتلر في برلين.

يشكّل طلب فنلندا عضوية حلف “الناتو” انتهاكاً صارخاً لنصوص المعاهدة السارية، بحسب القانون والعلاقات الدولية، نظراً إلى عدم إقدام أحد طرفيها على نقضها أو إنهاء العمل بها رسمياً. ما جرى، باختصار شديد، هو موافقة فنلندا على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وليس “الناتو” في عام 1995، وحافظت على وضعها الحيادي الدولي منذئذ، كما نصت المعاهدة إلى “الأبد”.

أنصار معسكر الحرب في الولايات المتحدة يشيرون إلى مسألة “إجرائية” الطابع لتبرير تمدد “الناتو” عبر بوابة فنلندا، مفادها أن المعاهدة أُبرمت مع “الاتحاد السوفياتي”، الذي لم يعد له وجود، ولذا تسقط المعاهدة. حسم تلك القضية الإجرائية، استناداً إلى ضوابط العلاقات الدولية، هي برسم مجلس الأمن الدولي حصراً. كما أن فنلندا جددت توقيعها على معاهدة الحياد مع الاتحاد السوفياتي تباعاً لغاية 1983، ومع الاتحاد الروسي في عام  1992، وتعّهدت بموجبها الدولتان “تسوية النزاعات فيما بينهما بالوسائل السلمية”، تأكيداً لسياسة عدم الانحياز العسكري منذ ذلك الوقت.

الانضمام إلى حلف “الناتو” يعني، ببساطة، إعلان فنلندا حرباً على روسيا، والذي استدعى إطلاق روسيا رسائل سياسية قاسية، مفادها أنها “ستُضطر إلى اتخاذ خطوات انتقامية عسكرية – تقنية ونماذج أخرى، وتوسيع الأطلسي لا يجعل قارتنا أكثر استقراراً وأمناً”.

يضم حلف “الناتو” 30 دولة، ويجب أن يحظى أي قرار فيه بالإجماع. من الناحيتين الشكلية والإجرائية، هناك عدد من الاعضاء لديهم تحفظات بشأن توسيع الحلف، وخصوصاً بعد تجربة أوكرانيا التي أنهكت الاقتصاديات الغربية. سنعرض أبرزها للدلالة على العقبات المرئية:

تركيا: لا تزال حية في الذاكرة التركية معارضة كل من فنلندا والسويد عضويةَ تركيا في الاتحاد الأوروبي، وهو ما يفسّر جوهر تصريح منسوب إلى الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في 13 من ايار/مايو الحالي، ومفاده أن بلاده قد تستخدم حق النقض، كعضو في حلف “الناتو”، ضد مساعي قبول البلدين، كونهما بالذات “يدعمان حزب العمال الكردستاني”.

في أحدث التطورات، أوضحت تركيا أنها قدّمت طلباً رسمياً إلى كل من السويد وفنلندا، يقضي بتسليم أنقرة عناصر مقيمة بالبلدين على خلفية علاقات تقيمها بحزب العمال الكردستاني، وتم رفض الطلب الذي يطالب بتسليم  12 عنصراً في فنلندا و21 عنصراً في السويد (وكالة الأنباء التركية، 16 أيار/مايو 2022).

من المرجّح إقدام الدولتين، فنلندا والسويد، على تشديد القيود السابقة على المهاجرين إلى اراضيهما، نتيجة اعتبارات داخلية، أهمها مواجهة ارتفاع موجة العنف والجريمة، ومن أجل  التساوق مع توجه الاتحاد الأوروبي إلى وقف سيل الهجرة، الأمر الذي سيخدم تركيا في المحصّلة النهائية، نظراً إلى تواجد أعداد كبيرة من الكرد في الدول الاسكندنافية.

المجر: شهدت رئاسة فنلندا للاتحاد الأوروبي، في شهر تموز/يوليو 2019، شنّ موجة من التوترات الإقليمية ضد المجر، الأمر الذي استدعى هجوماً مضاداً تناولته بعض الصحف الأوروبية بعنوان: “فنلندا، العدو الجديد للمجر”. رئيس الوزراء المنتخب للمرة الرابعة، فيكتور أوربان، لا يكنّ وداً لرئاسة الاتحاد الاوروبي، ويعدّ أن هدف تدخله في الشؤون الداخلية لبلاده هو “تقليص سيادة دول الاتحاد”. واتهمه مجدداً، في احتفالات أداء القسم، 16 أيار/مايو الجاري، بـ”سوء استخدام سلطته بصورة يومية، وأنه يريد أن يفرض علينا أجندته التي نرفضها”. ولا تزال المجر على موقفها الرافض عضوية فنلندا.

ألمانيا وفرنسا: تسعى الدولتان للوصول إلى تسوية مع روسيا، ولا ترغبان في التصعيد معها، كما يُفهم من تصريحات سابقة للرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، مفادها أن “انضمام أوكرانيا إلى الناتو قد يستغرق 10 أعوام”، وهو ما يؤشر على استبعاد نجاح انضمام فنلندا والسويد.

في ضوء ما تقدّم من اعتراضات محتملة، استغل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، لقاءَه وزراءَ خارجية حلف “الناتو” في برلين، 15 ايار/مايو الجاري، للإعراب عن ثقته بمحاولة الانضمام قائلا: “ستدعم الولايات المتحدة بقوّة طلب كلّ من السويد وفنلندا الانضمام  في حال ترشّحهما رسمياً لعضوية الحلف، واثق بشدة بالتوصل إلى إجماع على ذلك”.

الموقف الأميركي لا يعوّل كثيرا على “رفض” تركيا عضوية الدولتين، فنلندا والسويد، كونه يأخذ بفي الحسبان التوازنات الجيو-سياسية في الإقليم، وخصوصاً أن تمدّد حلف الناتو من شأنه “إضعاف روسيا”، الخصم التقليدي لتركيا، وسيعزّز موقف تركيا داخل حلف “الناتو”، بعد سلسلة توترات مع أعضائه منذ تولي الرئيس إردوغان مهمّاته الرسمية. يُضاف إلى ذلك موقف تركيا المؤيّد لأوكرانيا، وتزويدها بطائرات “درون” تركية الصنع خلال الأزمة الراهنة. أيضاً، سيفرض توسّع رقعة الناتو على روسيا نَشْرَ قوات في جبهة جديدة بعيداً عن حدودها مع تركيا، وربما تقليص وجودها العسكري في سوريا، بحسب القراءة الأميركية.

السؤال المحوري هو: هل هناك مبرّر لبسط “الناتو” مظلة حمايته على كل من فنلندا والسويد، اللتين تعايشتا مع “الوضع الحيادي الراهن” منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ بعض عناوين الإجابة الموضوعية نجدها بين طيّات مراكز الأبحاث الأميركية، على الرغم من قلة عددها، والتي تعدّ المحاولة بمنزلة “دق إسفين في نعش استقلالية أوروبا”، وتبعيتها التامة لواشنطن في صراعاتها الكونية، وهي التي تنظر بازدراء إلى دول الاتحاد الأوروبي، كما فعلت نائبة وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند، عبر قولها: فليذهبْ الاتحاد الأوروبي إلى الجحيم.

السؤال الاخر هو: ماذا ستقدم الدولتان من إضافات نوعية إلى حلف “الناتو”؟ الإجابة، بحسب هؤلاء، “لا شيء، وعضوية الناتو ليست ضرورية لحفظ أمنهما”. كما أن فنلندا بالذات ستضحي بمنزلتها المفضّلة كوسيط بين روسيا والدول الغربية، وتُنعش عقلية الحرب الباردة.

في المدى المنظور، ماذا سيحلّ بتلك الدول وترتيباتها المستعجلة عند تسلّم دونالد ترامب مهمّات ولاية رئاسية ثانية، أو أي مرشّح آخر غيرة، ذي مواصفات موازية؟ بل، هل سيعزز الرئيس المقبل أوهام الناتو بأن “روسيا أضحت دباً من ورق”، وينبغي المضي في الصراع معها إلى النهاية؟ أي استعادة المعادلة الصفرية لدى مراكز القوى التقليدية الأميركية.

مجدداً، لا يعني توسيع ساحات الاشتباك بالضرورة نجاح المراهنة عليها، بقدر ما هو محاولة لصرف الانظار عن تطورات الساحة الرئيسية، الا وهي اوكرانيا، التي بات المواطن الغربي يئنّ من وطأتها الاقتصادية، بصورة مباشرة.

هذا لا يعني تخلّي واشنطن عن توتير الجغرافيا المحيطة بروسيا، في أي وقت قريب، بقدر ما يؤدي ذلك الجهد والاشتباك اإلى تسوية تلك المسائل على طاولة المفاوضات، مهما طال أمد انعقادها، كما هي نهاية كل الصراعات الدولية.